الفصل الثاني عشر

نزع الأختام

بعد دقائق قليلة، أقرَّ جيم فروبيشر بتوفيق هانو البالغ في تخمينه، لكنه لم يعترف بأن الأمر كان يتجاوز مجرد التكهُّن. فقد يكون السيد هانو رجلًا ضليعًا وعليمًا بكل شيء؛ لكن لا يمكن لأي بصيرة، مهما كانت نافذة، أن تخبره بظرف عرضي كهذا. لكن الحقيقة كانت متجسدة أمامه. فقد وصل فروبيشر إلى منزل كرينيل قبل بيتي هارلو، مما تسبب له بعدم ارتياح شديد. كان قد تسكَّع مع هانو في المقهى فقط حتى لا يحدث هذا. كان عازفًا عن أن يكون وحيدًا مع آن أبكوت بعد أن صار يشتبه بها. وكان أفضل ما يمكنه فعله هو إخفاء سبب اضطرابه. أما اضطرابه من وجودها فلم يكُن بإمكانه إخفاؤه. ولعلَّها زادت من صعوبة حالته بتعبيرها المحزون عن التعاطف.

إذ قالت برقة: «أنت مضطرب. لكن بالتأكيد لم تعُد بحاجة إلى ذلك. ما قلته هذا الصباح كان صحيحًا. كانت الساعة العاشرة والنصف عندما تسلَّل ذلك الهمس المرعب إلى أذني. حينها، كانت بيتي متواجدة مع أصدقائها في قاعة الرقص، بعيدًا عن المكان. لا شيء يمكن أن يزعزع ذلك.»

هتف جيم: «ليس اضطرابي بسببها»، فنظرت إليه آن بعيون مذهولة.

اجتازت بيتي الفناء وانضمت إليهم في القاعة قبل أن تتمكن آن من طرح سؤال؛ وخلال الغداء، كان جيم يُجري محادثات حول مواضيع غير مهمة بسرعة، وإنْ كان دون استمتاع منه.

لحُسن الحظ، لم يكُن هناك مُتَّسَع من الوقت. إذ كانوا ما زالوا يدخنون سجائرهم بينما يتناولون القهوة عندما أخبرهم جاستون أن مفوض الشرطة وسكرتيره ينتظران في المكتبة.

قالت بيتي وهي تقدم جيم: «هذا هو السيد فروبيشر، محاميَّ في لندن.»

كان المفوض، واسمه السيد جيراردو، رجلًا بدينًا أصلع وفي منتصف العمر، يرتدي نظارة قابلة للطي على أنف بارز ممتلئ؛ بينما كان سكرتيره، واسمه موريس ثيفينيه، شابًّا طويل القامة حسن المظهر، مبتدئًا في إدارة الشرطة، يبدو متأنقًا بعض الشيء في مظهره، وقد يعتقد من يراه أنه يعتبر نفسه في تقديره الخاص فاتنًا بين النساء.

قال جيم: «لقد طلبت من السيد بيكس، كاتب العدل الخاص بالآنسة في ديجون، أن يكون حاضرًا.»

أجاب المفوض: «هذا أمر طبيعي تمامًا» وفي تلك اللحظة أُعلن عن وصول السيد بيكس. جاء في تمام الساعة الثالثة. كانت الساعة تدق عندما انحنى في مدخل الباب. كان كل شيء على ما يرام، والسيد بيكس سعيدًا.

فقال مبتسمًا: «بموافقة السيد المفوض، يمكننا الآن المضي قدمًا في المراسم النهائية لهذا الأمر.»

قال المفوض: «ننتظر السيد هانو.»

«هانو؟»

شرح المفوض: «هانو من المباحث الجنائية بباريس، دعاه قاضي التحقيق ليتولى هذه القضية.»

صاح بيكس في حيرة: «قضية؟ لكن لا توجد قضية ليتولى هانو أمرها» فجرته بيتي هارلو جانبًا قليلًا.

وريثما كانت تقدم للكاتب العدل ملخصًا سريعًا لأحداث الصباح، خرج جيم من الغرفة إلى القاعة بحثًا عن هانو. فرآه من فوره؛ لكنه فُوجئ عندما أتى هانو من آخر القاعة كما لو كان قد ولج المنزل من الحديقة.

فقال: «بحثت عنك في غرفة الطعام» مشيرًا إلى باب تلك الغرفة التي كانت بالتأكيد في مؤخر المنزل خلف المكتبة، والتي مدخلها خلف الدرج. «لننضم إلى الآخرين.»

ثم قُدِّم هانو إلى السيد بيكس.

سأل هانو وهو ينحني قليلًا تحية لثيفينيه: «وهذا السيد؟»

قال المفوض: «إنه سكرتيري، موريس ثيفينيه» ثم قال بصوت خفيض حاد: «إنه شاب ظريف، ويتمتَّع بذكاء مُدهِش. سيُحقِّق نجاحًا كبيرًا.»

نظر هانو إلى ثيفينيه باهتمام وود. بينما حدَّق الشاب المبتدئ في الرجل الضخم بعيون متقدة.

وقال بتواضُع رسمي: «هذه فرصة لي يا سيد هانو، فإن أنا ضيعتها، فإنني أثبت أنني بلا ذكاء على الإطلاق» وهو ما أثار إعجاب السيد بيكس.

قال: «هذا صحيح جدًّا.»

لم يكُن هانو أبدًا معارضًا للإطراء. فقد رمق جيم فروبيشر بنظرة؛ وصافح السكرتير بحرارة.

وأجاب: «إذَن لا تتردَّد في طرح الأسئلة عليَّ، يا صديقي الشاب. أنا هانو الآن، نعم. لكنني كنت ذات يوم مثل موريس ثيفينيه الشاب، لكن دون وسامته للأسف.»

فاحمرَّ موريس ثيفينيه بحياء غاية في الجاذبية.

وقال السيد بيكس: «هذا لطيف جدًّا.»

قال جيم فروبيشر في نفسه: «يبدو أن هذا الجمع يتحوَّل إلى حفل عائلي وودي صغير»، وقد رحَّب ببعض الهمهمات من جانب المفوض.

تحرك المفوَّض إلى وسط الغرفة.

وقال بفخر ومباهاة: «سنقوم نحن جيراردو، مفوض الشرطة، بنزع الأختام الآن.»

ثم تقدَّمهم في الطريق من المكتبة عَبْر القاعة وعلى طول الممر إلى الباب العريض لغرفة نوم السيدة هارلو. ثم نزع الأختام وأزال الأشرطة. بعدها أخذ مفتاحًا من يد سكرتيره وفتح الباب على غرفة مغلقة بالستائر. فتدفَّق الحشد الصغير إلى الداخل. لكن هانو بسط ذراعيه وقطع الطريق عليهم.

وقال آمرًا: «لحظة من فضلكم!» فألقى جيم فروبيشر من فوق كتفه نظرة على الغرفة جعلته يرتعش.

هذا الصباح في الحديقة، إثارة المطاردة جعلته للحظة متشوقًا أن يستمر هانو في التحقيق، وأن تتوالى التطورات حتى يقف المجرم مفضوحًا. لكن منذ الساعة التي قضاها على برج تيراس، أصبحت فكرة المطاردة تروعه، وكان ينتظر التطورات وجِلًا. بالنسبة له، كانت غرفة النوم هذه، الخافتة الإضاءة ببعض خيوط ضوء النهار التي اخترقت شقوق الستائر، والباردة والصامتة والغامضة، مليئة بالأشباح، أشباح لا يمكن لأحد رؤية وجوهها وهي تتشاجر شجارًا خافتًا في العتمة. اجتاز هانو والمفوض الغرفة نحو النوافذ المقابلة، ففتحوها وأزاحوا الستائر. وفي لحظة غمر الضياء الساطع كل زاوية فشعر جيم فروبيشر بالارتياح. كانت الغرفة نموذجًا للنظام والهدوء: كراسي مصفوفة بدقة أمام الحائط، وفراش مستوٍ يغطيه غطاء مطرز. لم توحِ بأي وجود بشري، بل بدت كغرفة فندقية فارغة تنتظر نزيلها.

قلَّب هانو ناظريه في الأرجاء.

ثم قال: «كانت هذه الغرفة مفتوحة مدة أسبوع بعد جنازة السيدة. ستكون معجزة إذا اكتشفنا أي شيء يمكن أن يساعدنا.»

توجَّه هانو إلى الفراش الذي يقف رأسه مواجهًا الحائط في منتصف المسافة بين الباب والنوافذ. وكان ثَم حامل مُسطَّح صغير به زر من المينا موضوع على الطاولة المستديرة بجانب الفراش، ومن الحامل كان ثَم حبل يمتد على طول ساق الطاولة ويختفي تحت السجادة.

فقال هانو وهو يلتفت نحو بيتي: «هذا هو الجرس الذي يؤدي إلى غرفة الخادمة على ما أظن.»

فأجابته: «نعم.»

انحنى هانو وفحص الحبل بدقة. لكن لم تكُن هناك أي علامة على أن أحدًا عبث به. فانتصب قائمًا مرة أخرى.

وقال: «آنستي، هلَّا أخذتِ السيد جيراردو إلى غرفة نوم جين بودان وأغلقتِ الباب. سأضغط على هذا الزر، وحينئذٍ تنظرون إن دقَّ الجرس، بينما سنتحقق هنا من مدى سماع الأصوات الصادرة من إحدى الغرف في الأخرى.»

قالت بيتي: «بالتأكيد.»

اصطحبت بيتي مفوض الشرطة بعيدًا، وبعد لحظات سمع من في غرفة السيدة هارلو إغلاق باب في الممر. وطلب هانو قائلًا: «هل يمكن إغلاق بابنا الآن، من فضلكم؟»

فأغلقه بيكس كاتب العدل.

قال هانو: «والآن، صمتًا من فضلكم!»

ثم ضغط على الزر فلم يُسمع أي صوت. ضغط عليه مرة أخرى ثم مرة أخرى لكن بنفس النتيجة. ثم عاد المفوض إلى غرفة النوم.

سأل هانو: «ماذا؟»

قال المفوض: «دقَّ الجرس مرتين.»

فهز هانو كتفيه وهو يضحك.

وهتف: «للجرس الكهربائي صوت حاد ونافذ. يا للسماء، كانوا يبنون منازل حصينة وقت بناء منزل كرينيل! هل الخزانات والأدراج مفتوحة؟»

ثم جرَّب خزانة منها فوجدها مُقفَلة. هنا تقدم السيد بيكس.

وقال: «كانت جميع الأدراج مقفلة صباح اكتشاف وفاة السيدة هارلو. لقد أقفلتها الآنسة هارلو بنفسها بحضوري وسلمت لي المفاتيح لغرض إجراء جرد. وقد كانت الآنسة مصيبة تمامًا في فعل ذلك. إذ لم يكُن مُمكِنًا الكشف عن شروط الوصية حتى بعد انتهاء الجنازة.»

قال هانو: «لكن بعد ذلك، لا بد أنكم فتحتموها عندما أجريتم الجرد.»

أجاب بيكس: «لم أبدأ الجرد بعد يا سيد هانو. إذ كانت هناك ترتيبات الجنازة، وقائمة بالممتلكات التي يجب تقييمها، ومزارع الكرم التي يجب إدارتها.»

قال هانو بتأهُّب: «أوه. إذَن ينبغي أن تحتوي هذه الخزانات والأدراج على نفس ما كانت تحتويه في ليلة السابع والعشرين من أبريل.» وراح يتجوَّل بسرعة في أرجاء الغرفة، يجرب بابًا هنا، ودرجًا هناك، ثم توقف بجانب خزانة مدمجة في الحائط. وأضاف: «المشكلة أن طفلًا بسلك معقود يمكنه فتح أي منها. هل تعرف ما الذي كانت السيدة هارلو تحتفظ به هنا يا سيد بيكس؟» وطرق هانو بيده على باب الخزانة.

أجاب بيكس: «كلا، ليس لديَّ أي فكرة. هل تريدني أن أفتحها؟» وأخرج مجموعة مفاتيح من جيبه.

فقال هانو: «أعتقد أنه ليس الآن.»

كان هانو يضيِّع الوقت على الأقفال والأدراج كما لو كان الوقت لا يعني له شيئًا على الإطلاق. وقد عاد الآن بهمَّة إلى وسط الغرفة، وكأنه يأخذ ملاحظات عن هيئتها، كما بدا لجيم فروبيشر. كان الباب الذي يُفتَح من الممر يواجه، على امتداد الأرضية، النافذتين الطويلتين المطلتين على الحديقة. فإذا وقف المرء في مدخل الباب مواجهًا إياهما، يكون الفراش عن يساره. وعلى جانب الفراش الذي به ممر، كان ثَم باب أصغر شبه مفتوح، يؤدي إلى حمام مبلَّط ببلاط أبيض. أما على جانب الفراش المطل على النافذة، كانت هناك خزانة مدمجة في الحائط، ترتفع قامة المرأة تقريبًا. وبين النافذتين انتصبت طاولة زينة، وعلى الحائط الأيمن كان ثَم مدفأة كبيرة، وفي ذلك الحائط نفسه وبالقرب من النافذة اليمنى، كان ثَم باب آخر. فتحرك هانو نحوه.

وسأل آن أبكوت: «هذا هو باب غرفة تبديل الملابس؟» ثم دفعه ففتحه دون انتظار إجابة.

ودخل السيد بيكس في أعقابه بينما تصدر مفاتيحه صوتًا. فقال: «كل شيء هنا كان مقفلًا أيضًا.»

لم يكُن هانو يعير أيًّا من ذلك أدنى اهتمام. ثم أزاح الستائر.

كانت غرفة ضيقة بدون أي مدفأة، ولها باب يقابل تمامًا الباب الذي دخل منه هانو. فذهب على الفور إليه.

وقال: «وينبغي بهذا أن يكون الباب الواصل الذي يؤدي إلى ما يُسمى بغرفة الكنوز» ثم توقف، ويده قابضة على المقبض، فيما تجولت عيناه بلمح البصر على وجوه الحاضرين.

قالت آن: «نعم.»

شعر جيم بإثارة غريبة. إذ تصوَّر فتح مقبرة فرعون حديثة الاكتشاف في وادي الملوك. طافت بهم مشاعر الترقب وهم ينتظرون، لكن هانو لم يتحرَّك. إذ وقف مكانه جامدًا بلا حراك كتمثالٍ حارسٍ على باب المقبرة. وقد شعر جيم أنه لن يتحرَّك أبدًا، فهتف به بانفعال:

«هل الباب مُوصَد؟»

أجابه هانو بنبرة هادئة لكن غريبة. لا شك أنه هو أيضًا شعر بذلك التيار الغريب من الأحاسيس والترقب، والذي أوقع جميع من بالغرفة تحت تعويذة سحرية، فأضفى للحظة على وجوههم المختلفة نوعًا من التشابه كالذي بين الأقارب.

فقال: «لا أعرف بعد إذا كان موصدًا أم لا. لكن بما أن هذه الغرفة باتت الآن صالة الآنسة هارلو الخاصة، أرى لزامًا علينا التريث حتى عودتها.»

وقد تسنى ما يكفي من وقت لأن يعلِّق السيد بيكس مبينًا موافقته بقوله «هذا مستصوب للغاية» قبل أن يأتي صوت بيتي واضحًا من مدخل الباب المؤدي إلى غرفة نوم السيدة هارلو قائلة:

«أنا هنا.»

أدار هانو مقبض الباب. لم يكُن الباب موصدًا. انفتح الباب بلمسة واحدة، متأرجحًا للداخل نحو الواقفين وللأعلى باتجاه الممر. كانت غرفة الكنوز أمامهم يلفها ضوء خافت، لكن كان ثَم شعاع ضوء يتلألأ هنا وهناك على الذهب ويبشِّر بالروائع. تقدَّم هانو بحذر نحو النوافذ وثبَّت الستائر على الحائط الخارجي. وقال بينما يتدفق الآخرون إلى الغرفة: «أرجو ألَّا تمسُّوا شيئًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥