الفصل الرابع عشر

تجربة واكتشاف

استجاب جاستون لجرس الاستدعاء.

وقال هانو: «هلَّا أرسلت فرانسين رولار إلى هنا من فضلك؟»

لكن جاستون ظل واقفًا في مكانه. ونظر إلى بيتي متجاوزًا هانو.

ثم قال باحترام: «إذا أمَرَتني الآنسة.»

ردَّت بيتي: «على الفور إذن يا جاستون» وجلست على كرسي.

بدا إقناع فرانسين رولار بالمجيء عسيرًا؛ فقد مضت دقائق طوال قبل أن تلج غرفة الكنوز أخيرًا، وحين حضرت، بدت عليها علائم الخوف والتردد. كانت فتاة بالكاد تجاوزت العشرين من عمرها، كانت أنيقة ومهندمة وجميلة، وأشبه بمخلوق بري خجول خرج للتو من الغابة. راحت فرانسين تقلب نظرها بعينين قلقتين وبملامح تنم عن الريبة في المجموعة التي كانت في انتظارها، لكن تلك الريبة كانت أشبه بريبة سكان البراري تجاه أهل الحضر.

قال هانو بلطف: «لقد استدعيتكِ آنسة رولار لأنني بحاجة إلى امرأة أخرى لمساعدتي في تمثيل مشهد صغير.»

ثم استدار نحو آن أبكوت.

وقال: «والآن يا آنسة، هلَّا كررتِ حركاتك بالضبط في الليلة التي تُوفيت فيها السيدة هارلو؟ دخلتِ الغرفة … هكذا. ووقفتِ إلى جانب مفتاح الكهرباء هناك. وشغَّلته، ولاحظتِ الوقت، ثم أطفأتِه سريعًا. ذلك لأن هذا الباب الواصل بين الحجرتين كان مفتوحًا على مصراعيه … هكذا! … وكان الضوء القوي يتدفق من غرفة نوم السيدة هارلو عبر المدخل.»

كان هانو منهمكًا؛ فكان يقف أولًا بجوار آن للتأكد من وقوفها تمامًا في الموضع المحدَّد، ثم يهرع عَبْر الغرفة ليفتح الباب على مصراعيه.

تابع هانو: «لقد رأيتِ الضوء ينعكس عن زخارف المحفَّة وألواحها، على الجانب الآخر من المدفأة عن يمينك. هكذا! وقفتِ هناك في الظلام يا آنسة، و…» هنا مطَّ هانو كلماته فسادت بينها فواصل ضئيلة: «سمعتِ صوت صراع في غرفة النوم والتقطت أذنكِ بضع كلمات مهموسة بوضوح.»

ارتجفت آن وأجابت: «نعم.» كان واضحًا أن أسلوب حديثه الرسمي والجاد قد بثَّ فيها الرهبة. فنظرت إليه بعينين مضطربتين.

وواصل: «قفي هناك مرة أخرى إذن، وعاودي الاستماع كما فعلتِ في تلك الليلة. أنا ممتن لكِ!» ثم التفت إلى بيتي وقال: «والآن يا آنسة بيتي، وأنتِ يا فرانسين رولار، من فضلكما تعاليا معي.»

ثم تحرك نحو الباب الواصل، لكن بيتي لم تحاول حتى النهوض من كرسيها.

وقالت وقد شحب وجهها وارتعش صوتها: «سيد هانو، يمكنني تخمين ما تنوي فعله، لكنه أمر فظيع وقاسٍ جدًّا علينا، ولا أرى كيف سيكون هذا مجديًا.»

فقاطعتها آن أبكوت قبل أن يتاح لهانو الرد. بدَت أشد اضطرابًا من بيتي، رغم يسر دورها بلا ريب.

فقالت: «لن يجدي بشيء على الإطلاق. لماذا يجب أن نمثِّل الآن هذا المشهد المروع الذي عِشنا تفاصيله من قبل؟»

فاستدار هانو وهو عند المدخل.

وقال: «سيداتي، أرجوكن أن تدعانني أفعل ما أريد بطريقتي. أعتقد أنكن ستدركن بأنفسكن عندما أنتهي أن تجربتي لم تكن بلا جدوى. أتفهم بالطبع أن هذه اللحظات تجلب معها الضيق والكرب. لكن — واعذروني على قولي هذا — أنا لديَّ أولويات أخرى» وكان في صوته هدوء وجدية جعلت كلماته لا تحمل أي إهانة رغم قسوتها. «كلا، أولويتي هي امرأة أكبر من أي منكما بضعفي العمر، انتهت حياتها التعيسة هنا ليلة السابع والعشرين من أبريل. أتذكر الآن صورتين أريتِنيهما هذا الصباح يا آنسة هارلو … وقد أثَّرا بي كثيرًا. نعم، هذه هي الحقيقة.»

وأغلق هانو عينيه كما لو كان يرى الصورتين ماثلتين أمامه. ثم صاح بصوت متأثر: «أنا نصيرها! أنا ناصر تلك المرأة المفجوعة! إذا كانت قد قُتلت، فإنني أنوي اكتشاف الجريمة وعقاب قاتلها!»

لم يسبق لفروبيشر أن ظن أن هانو يمكن أن يتحول بهذا الشكل، وأن يشعر أو يتحدث بهذه العاطفة الجياشة. وقف أمامهم منتصبًا ومتهيبًا، وقد تلاشت عنه كل جلافة، فصار كمن يحمل سيفًا متأججًا.

«أما أنتما يا سيدتيَّ، فأنتما بَعدُ شابتان. ماذا يعني قليل من الضيق لكما؟ أو بضع قشعريرات من الانزعاج؟ كم ستدوم؟ أرجو ألا تعرقلا عملي!»

نهضت بيتي من كرسيها دون كلمة أخرى. لكنها بذلت جهدًا لتنهض، وعندما وقفت أخيرًا، تمايلت قليلًا وكان وجهها أبيض كالطباشير.

وقالت كمَن يعاني من إعاقة في الكلام: «هلمي بنا فرانسين! يجب أن نُظهر للسيد هانو أننا لسنا جبناء كما يظننا.»

لكن فرانسين ظلت مترددة.

وقالت: «أنا لا أفهم أي شيء على الإطلاق. أنا مجرد فتاة فقيرة، وهذا الأمر يخيفني. الشرطة، كم هم ماكرون! إنهم ينصبون الفخاخ.»

فضحك هانو.

وقال: «وكم مرة يقع الأبرياء في فخاخهم؟ أخبريني آنسة فرانسين!»

ثم استدار بنظرة أقرب إلى الازدراء نحو غرفة السيدة هارلو. وتبعته بيتي وفرانسين مباشرة، ثم تبعهم الآخرون من خلفهم، وكان فروبيشر آخرهم. إذ كان مترددًا في مشاهدة تجربة هانو بقدر ما كانت الفتيات مترددات في المشاركة فيها. بدا له الأمر وكأنه مشهد مسرحي. وكأنه إعادة تمثيل متخيلة للمشهد الذي وصفته آن أبكوت، ولا شك أن اختبار صدقها كان غايته. سيكون اختبارًا للأعصاب بحق أكثر منه اختبارًا لبراءتها، ولذلك لم يكن الاختبار بالنسبة إليه موثوقًا ولا عادلًا. لكنه توقف عند المدخل ليهمس بكلمة تشجيع لآن، لكنها كانت تحدق مرة أخرى بتلك النظرة المليئة بالحيرة في الساعة المعلَّقة على الخزانة المطعمة.

فقال: «لا داعي للخوف يا آن» فحولت آن عينيها عن الساعة. الآن كانت عيناها تلمعان وهي تنظر إليه.

وقالت بابتسامة: «كنت أتساءل إن كنت سأسمعك تناديني باسمي يومًا ما. شكرًا لك يا جيم!» ثم ارتبكت للحظة فاحمر وجهها فجأة. وأضافت بصوت منخفض وضحكة صغيرة «سأخبرك، كنت أشعر بالقليل من الغيرة» كما لو كانت خجلة قليلًا من اعترافها.

ومن حسن حظ جيم أن ظهور هانو عند المدخل أعفاه من الرد.

قال هانو مبتسمًا: «أكره أن أقاطعك يا سيد فروبيشر، لكن من المهم جدًّا أن تستمع الآنسة دون أي شيء يشتت انتباهها.»

دخل جيم فروبيشر إلى غرفة النوم فأصابته الدهشة. كان المفوض وكاتبه ومعهما السيد بيكس يقفون في مجموعة منعزلة قرب إحدى النوافذ. وكانت بيتي هارلو ممددة على فراش السيدة هارلو، أما فرانسين رولار، فقد وقفت ملتصقة بالحائط بالقرب من الباب، وقد بدا عليها الذعر الشديد، وعيناها تجولان في الغرفة بتوتر وريبة كما لو كانت مخلوقًا بريًّا وقع في فخ. لكن لم يكُن هذا المشهد الغريب هو ما صدم جيم فروبيشر، بل شيء آخَر، شيء غريب، بل يكاد يكون مروعًا، في ملامح بيتي نفسها. كانت تتكئ على مرفقها وعيناها مثبتتان على الباب بنظرة شديدة الغموض والحدة، نظرة لم يرَ مثلها من قبل. كانت منفصلة تمامًا عن محيطها؛ فلم يكن للتجربة التي تهابها فرانسين أي دلالة لديها. فوثب إلى ذهن جيم التعبير القديم «كأنها ممسوسة» إذ كان وجهها جامدًا كقناع، قناع من مشاعر متجمدة مكبوتة. لكن هذا المشهد الغريب لم يستمر سوى لحظة واحدة. فسرعان ما تراخت ملامحها؛ فاستلقت على الفراش وعيناها تتابعان تحركات هانو وكأنها بانتظار تعليماته.

وجَّه هانو جيم بإشارة من إصبعه أن يأخذ مكانه مع المجموعة عند النافذة. ثم تموضع بنفسه على جانب الفراش وأومأ إلى فرانسين. اقتربت فرانسين ببطء نحو حافة الفراش. فأشار إليها بنفس الطريقة الصامتة لتأتي مقابله على الجانب الآخر من الفراش. رفضت فرانسين في بداية الأمر. إذ وقفت عند حافة الفراش تمامًا وهي تهز رأسها بعناد. كانت خائفة من أن تكون ضحية خدعة ما، وعندما تقدَّمت أخيرًا إلى الموضع الذي عُيِّن لها بعد إشارة من بيتي، كانت تتقدم بخطوات حذرة كما لو كانت تخشى أن تنفتح الأرض من تحتها فتبتلعها. أومأ إليها هانو مرة أخرى، فنظرت إلى قصاصة من الورق كتب عليها هانو بعض الكلمات. كان جليًّا أنها تلقَّت التعليمات، وحصلت على تلك القصاصة بينما كان جيم يتحدث مع آن أبكوت. كانت فرانسين تعرف ما ينبغي أن تفعل، لكن طبيعتها الريفية المتشككة كانت تعلن العصيان التام. ظلَّ هانو يحدق إليها بتركيز شديد، مسلطًا نظراته عليها حتى أجبرها أخيرًا على الامتثال، فانحنت رغمًا عنها إلى الأمام فوق جسد بيتي هارلو الممدد.

وهنا أومأ هانو، فهمست بصوت خفيض وواضح:

«هذا … سيفي … بالغرض.»

وما كادت تنطق بهذه الكلمات الثلاث التي قالت آن أبكوت أنها سمعتها ليلة موت السيدة هارلو حتى كررها هانو نفسه وبالنبرة الهامسة نفسها.

ثم هتف بصوته الطبيعي، موجِّهًا حديثه نحو الباب:

«هل سمعتِ يا آنسة؟ هل كان هذا هو الهمس الذي بلغ مسامعكِ في الليلة التي توفيت فيها السيدة هارلو؟»

حبس جميع من في الغرفة أنفاسهم بانتظار الإجابة. حتى فرانسين رولار نفسها، التي كان وجهها متشنجًا من الخوف والشك، ظلت تراقب هانو في قلق شديد. ثم جاء الرد.

«نعم، لكن من همس بهذه الكلمات أيًّا كانت هويته، فقد همس بها مرتين ظهر اليوم. لكن في الليلة التي نزلتُ فيها إلى غرفة الكنوز في الظلام، لم أسمع همسًا بهذه الكلمات سوى مرة واحدة.»

«هل كان الصوت الذي نطق بالكلمات اليوم هو الصوت نفسه الذي سمعتِه في تلك الليلة؟»

«أجل … أعتقد ذلك … لم ألحظ أي فرق … نعم.»

فرفع هانو ذراعيه بحركة مسرحية يائسة، ثم قال مخاطبًا من بالغرفة:

«الآن تفهمون تجربتي الصغيرة. صوت هامس! كيف يمكن تمييزه عن صوت هامس آخر؟ ليس ثمة نبرة، ولا عمق، ولا نعومة. بل حتى لا يمكن تحديد ما إذا كان صوت رجل أم امرأة. ليس لدينا أي دليل، كلا، ولا حتى أضعف خيط، لمعرفة هوية الشخص الذي همس. «هذا سيفي بالغرض» في الليلة التي توفيت فيها السيدة هارلو.» ثم لوَّح بيده نحو السيد بيكس. وقال: «سأكون ممتنًّا لو فتحت هذه الخزائن الآن، ولتخبرنا الآنسة هارلو، بقدر معرفتها، إن كان هناك شيء قد سُرق أو عُبِث به.»

عاد هانو إلى غرفة الكنوز، تاركًا السيد بيكس وبيتي يؤديان عملهما، تحت إشراف المفوض وسكرتيره. فلحق به جيم فروبيشر. لكنه كان بعيدًا كل البعد عن الاقتناع بأن هانو قد كشف عن الغرض الحقيقي من تجربته. استحالة التعرف على صوت هامس! هذا شيء لا بد أن هانو صادفه في مئات القضايا! كلا، هذا التفسير لا يفي بالغرض تمامًا. لا بد أن هناك سببًا حقيقيًّا آخر لهذا المشهد المسرحي الذي دبَّره. كان يتبع هانو أملًا في استجلاء السبب، فلما سمعه يتحدث بصوت خافت، توقف داخل غرفة الملابس عند الباب الواصل، حيث استطاع سماع كل كلمة خفية عنه.

كان هانو يخاطب آن أبكوت: «آنسة، هناك شيء ما بشأن هذه الساعة يثير انزعاجكِ.»

«نعم … بالطبع، هذا مجرد وهم … لا بد أنني مخطئة … فها هي الخزانة، وفوقها الساعة.»

استطاع جيم أن يحدد من صوتيهما أنهما كانا يقفان معًا بالقرب من الخزانة المزخرفة.

فعاجلها هانو: «نعم، صحيح. لكنكِ ما زلتِ منزعجة.»

ساد صمت وجيز. استحضر جيم في ذهنه صورة الفتاة وهي تنظر من الباب إلى الساعة، ثم تعود بنظرها مرة أخرى إلى الباب. لا شك أن ذلك المشهد الذي جرى في غرفة النوم كان يهدف إلى استدراج اعتراف من آن أبكوت بزيف قصتها. فهل ما يفعله هانو الآن بعدما أخفقت تجربته هو أن يلجأ إلى حيلة أخرى، هل ينصب فخًّا جديدًا؟

وألحَّ هانو يسألها: «أخبريني؟ ما الذي يزعجك؟»

أجابته آن بصوت يشوبه التردُّد: «يبدو لي أن الساعة الآن أقصر مما كانت عليه. بالطبع هذا غير ممكن … فقد لمحتُها لمحة سريعة وحسب … لكن ذكراها في غاية الوضوح — إذ كانت الغرفة كلها واضحة أمامي في لحظة من الإضاءة الساطعة، ثم اختفت في الظلام مرة أخرى … نعم، بدت لي الساعة وكأنها موضوعة في مستوى أعلى …» وفجأة، توقفت عن الكلام، وكأن يدًا خفية أمسكت بذراعها محذرةً إياها. هل ستتابع قولها؟ هكذا تساءل جيم في نفسه حين ظهر هانو أمامه في مدخل الباب فجأة وبصمت تام وكأنه وحش مباغِت.

قال هانو، بنبرة ارتياح غريبة في صوته: «نعم، سيد فروبيشر، سنضطر إلى تجنيدك في المباحث الجنائية قريبًا جدًّا. هذا واضح. تفضل بالدخول!»

وأخذ جيم من ذراعه وتقدَّم به إلى داخل الغرفة.

وتابع حديثه مع آن فقال: «أما بالنسبة لأمر هذه الساعة، واشتعال الضوء وانطفائه، فسيكون من المدهش للغاية إن أنتِ استطعتِ رؤية كل التفاصيل بدقة مطلقة أثناء تلك اللحظة الخاطفة. كلا، لا جدوى من هذا الأمر!» ثم ألقى بنفسه على كرسي وجلس صامتًا للحظة، في وضع يوحي بالإحباط العميق.

ثم قال مخاطبًا جيم: «لقد قلت لي هذا الصباح أيها السيد إنني ليس لديَّ شيء أستند إليه، وإنني أقذف بالظنون هنا وهناك، وأثير فتنًا قديمة كان من الأفضل تركها نائمة، وفي النهاية لا أحقق أي اكتشاف. لعمري إنك محق! تأمل تجربتي الصغيرة! أرأيت فشلًا أحطَّ من هذا؟»

ثم انتصب في جلسته متأهبًا.

وسأل: «ما الخطْب؟»

خطرت لجيم فروبيشر فكرة ألمعية فجأةً؛ فقد أنارت تعابير الإحباط الشديد على وجه هانو ذهنه. صحيح أن التجربة التي أجراها لم تنجح. لكنها كانت تستهدف فرانسين رولار. لقد استدعى فرانسين رولار فجأة، وأمرها على الفور بأداء مشهد، كلا، بل بلعب الدور الرئيسي فيه، على أمل أن يُحكم قبضته عليها فتنهار، مما يدفعها للاعتراف بشيء ما. وكانت شكوكه تحوم حول آن. إذَن، لا بد أن آن كان لديها شريك متواطئ. إذَن، كان الهدف الحقيقي من التجربة هو كشف هذا الشريك. لكن التجربة باءت بفشل مدوٍّ، وهذا ما اعترف به هانو. ولا شك في أن فرانسين نكصت فزعًا من هذه البليَّة، لكن سبب نكوصها كان جليًّا؛ وهو الخوف من الشرطة، وارتيابها من أن فخًّا يُنصب لها، وكذلك قصور يدها لجهلها. لم تسلِّم فرانسين نفسها لحبائل هانو. لكن جيم لم يفصح عن هذا التحليل لهانو. أما عن سؤاله عما به من خطْب، فقد أجاب ببساطة: «لا شيء.»

ضرب هانو براحتي يديه على ذراعي كرسيه بقوة.

وقال: «لا شيء، ها؟ لا شيء! هذه هي الإجابة الوحيدة التي نحصل عليها في هذه القضية! لكل سؤال نطرحه! لكل بحث نجريه! لا شيء، ثم المزيد والمزيد من اللاشيء» وبينما كان يختتم جملته وصوته يخفت، انطلقت صرخة مفاجئة من داخل غرفة النوم.

فهتفت آن: «بيتي!»

طرح هانو عنه إحباطه كما لو كان معطفًا يرتديه. وهُيِّئ لجيم للحظة أن هانو نهض من كرسيه واجتاز غرفة الملابس قبل أن تتلاشى الصرخة. ولا شك أن بيتي لم تكُن قد تحركت عندما جاءوها. كانت واقفة أمام منضدة الزينة، تنظر في صندوق مجوهرات كبير من الجلد المغربي ذي لون أزرق داكن، وكانت ترفع غطاءه وتعيد إغلاقه مرارًا بإنكار تام.

قال هانو: «آه، الصندوق غير مقفل! لدينا شيء ما، سيد فروبيشر! ها هو صندوق مجوهرات غير مقفل، وصناديق المجوهرات لا تفتح نفسها بنفسها. أكان هنا؟»

ثم ألقى نظرة نحو الخزانة الجدارية المفتوحة.

قالت بيتي: «نعم، فتحتُ الباب، وحملتُ الصندوق من مقبضيه الجانبيين، وعندما لمسته، انفتح الغطاء.»

«هلا فحصتِه من فضلك، تأكدي إن كان هناك شيء مفقود.»

في حين شرعت بيتي تراجع محتويات الصندوق، توجه هانو نحو فرانسين، التي كانت واقفة جانبًا. فأمسك بذراعها وقادها إلى الباب.

وقال لها: «أنا آسف إن كنتُ قد أخفتكِ يا فرانسين. لكننا — نحن الشرطة — لسنا مخيفين إلى هذا الحد في نهاية المطاف، حسنٌ؟ كلا لسنا كذلك، فطالما أن الخادمات المهذبات يحفظن ألسنتهن، يمكننا أن نكون أصدقاء طيبين. لكن، يا صغيرتي فرانسين، إن كثر الحديث وتفشَّت الشائعات، وجاء الغد بذلك الفتى الوسيم مساعد الخبَّاز، ناشرًا في أرجاء ديجون حكاية تجربة هانو الصغيرة، فسيدرك هانو أين يجد الثرثارات.»

فصاحت فرانسين: «لن أنبس ببنت شفة أيها السيد.»

فردَّ عليها هانو بنبرة ناعمة ورقيقة على نحو رهيب: «وكم سيكون هذا تصرُّفًا حكيمًا منكِ يا صغيرتي فرانسين! ذلك لأن العم هانو يمكن أن يكون أشرس الرجال على الإطلاق عندما يتعلَّق الأمر بالثرثارات الصغيرات. آه، آه، نعم! إذ يمسك بهن بإحكام — هكذا — وستمرُّ فترة طويلة جدًّا قبل أن يقول لهن «هذا سيفي بالغرض!».»

ثم أنهى تهديداته بضحكة ودودة ودفع فرانسين بلطف خارج الغرفة. ثم عاد إلى بيتي، التي كانت قد رفعت الغطاء العلوي للصندوق، وشرعت في فتح بعض العلب الصغيرة المرصوصة في قاعه. كانت الأضواء تتلألأ على العقود والأساور والخواتم، لكن بيتي ظلت تبحث.

فسألها هانو: «هل ثمة شيء مفقود، يا آنسة؟»

«نعم.»

فتابع هانو يقول: «كان ذلك أمرًا مؤكدًا. إذا ارتُكبت جريمة قتل، فلا بد أن هناك سببًا. بل سأتجرَّأ حتى على افتراض أن القطعة المفقودة ذات قيمة كبيرة.»

أقرَّت بيتي قائلة: «هي كذلك فعلًا. لكنني أظن أنها ربما تكون قد وُضعت في غير مكانها وحسب. لا شك أننا سنجدها في مكان ما، ربما في أحد الأدراج.» كانت تتحدث بهمَّة كبيرة وقد حمل صوتها نبرة رجاء أن يتوقف الأمر عند هذا الحد. ثم أضافت: «على أي حال، ما ضاع هو ملكي، أليس كذلك؟ ولن أتصرف مثل السيد بوريس، لن أقدم أي شكوى.»

هزَّ هانو رأسه.

وقال: «أنتِ في غاية الطيبة واللطف يا آنسة. لكن للأسف! لا يمكننا هنا أن نقول «هذا سيفي بالغرض».» وقد أثار دهشة جيم مدى إلحاحه في تكرار تلك الكلمات التي هُمس بها ليلة وفاة السيدة هارلو. «فنحن لا نتعامل مع قضية سرقة، بل مع قضية قتل. يجب أن نستمر بالإجراءات. ما هي القطعة المفقودة؟»

قالت بيتي على مضض: «عقد من اللؤلؤ.»

«أهو عقد كبير؟»

كان من اللافت للنظر أنه مع زيادة تردُّد بيتي، كان يزيد إصرار هانو وحدته.

«ليس كبيرًا جدًّا.»

«صِفِيه لي يا آنسة!»

ترددت بيتي قليلًا. وقفت تنظر نحو الحديقة بملامح مضطربة. ثم أذعنت بعد أن هزَّت كتفيها تسليمًا.

فقالت: «كان مكونًا من ٣٥ حبة لؤلؤ … لم تكُن كبيرة جدًّا، لكنها متطابقة تمامًا، وذات لون وردي رائع. لقد استغرق عمي سنوات وتكبَّد عناءً كبيرًا لجمعها. وقد أخبرتني السيدة بنفسها أن العقد كلفه قرابة ١٠٠ ألف جنيه. سيكون ثمنه الآن أكثر من ذلك بكثير.»

قال هانو بحماس: «إنه يمثِّل ثروة، إذن.»

لم يكن هناك أحد ممن في الغرفة يعتقد أن العقد قد وُضع في غير مكانه عن طريق الصدفة. كان الجميع متأكدين من أنه قد سُرق. وبهذا، بدأ هانو في بناء قضيته بثبات. ربما فشلت بعض تجاربه. لكن ما أهمية ذلك الآن؟ لقد ظهر دافع للقتل. وقد شعر جيم بإحساس داخلي يخبره أن لا شيء الآن سيمنع الوصول إلى الحقيقة؛ وسينير ضوء الحقيقة تلك البقعة المظلمة في النهاية، كشعاعٍ يجوب الملايين من السنين؛ حيث سيقف شخص ما عاجزًا ومذهولًا أمامه؛ ذلك الشخص هو الجاني.

وسألها هانو: «مَن غيركِ كان يعرف بأمر هذا العقد يا آنسة؟»

«كل من في المنزل يا سيدي. فقد كانت سيدتي هارلو ترتديه بشكل دائم تقريبًا.»

فسألها: «أكانت ترتديه إذَن يوم وفاتها؟»

شرعت بيتي تقول: «أجل، أنا …» ثم التفتت نحو آن طلبًا لتأكيدها، ثم أشاحت عنها مرة أخرى بسرعة. وقالت: «أعتقد ذلك.»

قالت آن بصوت ثابت «أنا متأكدة من ذلك»، الرغم من أن محياها قد شحب، وبدت عيناها حائرتين.

فسأل هانو بيتي: «منذ متى تعمل فرانسين رولار لديكِ؟»

أجابت بيتي بضحكة خفيفة: «منذ ثلاث سنوات. كلا، بل أكثر من ذلك بقليل. إنها الخادمة الوحيدة التي حظيت بها على الإطلاق.»

قال هانو بتدبُّر: «فهمت»؛ وقد بدا لجيم فروبيشر أن ما فهمه هانو قد فهمه أيضًا كل من كان بالغرفة. ذلك أن أحدًا لم ينظر إلى آن أبكوت. فالخدم القدامى لا يسرقون عقود اللؤلؤ الثمينة؛ وكان الوحيدون الذين انضموا حديثًا إلى منزل كرينيل هم آن أبكوت وجين بودان، الممرضة صاحبة الشخصية الحسنة والسلوك الطيب. كان هذا هو مجرى الجدل، حتى لو لم ينطق أحد بذلك.

ثم اقترب هانو من القفل الموجود على الخزانة وهز رأسه بعد فحصه. ثم تقدم نحو منضدة الزينة وصندوق المجوهرات المصنوع من الجلد المغربي.

وقال باهتمام مفعم بالحيوية: «آها! هذه مسألة مختلفة تمامًا»، ثم انحنى أكثر ليدقق النظر.

كان الصندوق لا يحتوي على قفل بمفتاح. بل كان مزودًا بثلاثة مقابض صغيرة مذهبة في واجهته، وكانت آلية الإغلاق تعتمد على عدد اللفات التي يُلفُّ بها كل مقبض. كان من الممكن بالطبع تغيير هذا النمط من الإغلاق في أي وقت، لكن يجب معرفة التوليفة الصحيحة لفتح الصندوق. إذَن كان للصندوق نظام حماية يعتمد على رمز سري.

قال هانو وهو ينهض: «لم يُستخدم العنف في فتحه.»

قالت بيتي: «من المحتمل بالطبع أن عمتي قد نسيت إغلاق الصندوق.»

وافقها هانو: «بالطبع، هذا احتمال وارد.»

وأضافت: «هذه الغرفة كانت متاحة أيضًا للجميع منذ جنازة عمتي وحتى صباح الأحد، عندما تم إغلاق الأبواب بالشمع.»

قال هانو: «طوال أسبوع تقريبًا … مع وجود بوريس وابرسكي في المنزل.»

قالت بيتي: «نعم … نعم. لكنني … أرجِّح بشدة أن العقد ضائعٌ في مكان ما، وسنتمكن من العثور عليه. انظر، كان السيد بوريس يتوقع الحصول على بعض المال من محاميَّ في لندن. لا شك أنه كان يخطط للتفاوض معي. لا يبدو الأمر كما لو أنه هو السارق. فلو كان قد أخذه، لما كان في حاجة إلى المطالبة بمبلغ ١٠٠٠ جنيه.»

كان جيم قد نسي أمر بوريس تمامًا في تكهناته. لكن عندما ذكره هانو، قفز الأمل في نفسه للحظة أن يُكشَف أمره فيكون هو السارق بالفعل. لكن سرعان ما تلاشى هذا الأمل أمام منطق بيتي البارد والمعارض إلى حد بعيد. ومع ذلك، إذا كان بوريس وآن متواطئين في الجريمة — لأن بوريس أراد ميراثه — فقد يكون العقد من نصيب آن. كانت كل الأدلة تشير نحو آن أبكوت بشكل جاد، بغض النظر عن الطريقة التي ينظر بها المرء إلى الأمر.

وقال هانو: «لا بأس، سنرى إن كان العقد قد وُضع في غير مكانه. لكن في هذه الأثناء يا آنسة، سيكون من الأفضل لكِ إغلاق الصندوق، وأخذ المجوهرات إلى المصرف في وقت ما بعد ظهر اليوم.»

أغلقت بيتي غطاء الصندوق وأدارت المقابض الثلاثة واحدًا تلو الآخر. فدوَّت في أرجاء الغرفة ثلاث نقرات سريعة ومتتابعة.

سألها هانو بحدة: «أرجو أنكِ لم تستخدمي التوليفة التي كانت تستخدمها السيدة هارلو.»

فقالت بيتي: «لم أعرف أبدًا التوليفة التي استخدمتها السيدة هارلو.» ثم رفعت الصندوق ووضعته داخل الخزانة الجدارية مرة أخرى؛ وبدأ البحث في الأدراج والخزائن الأخرى. لكنه كان بحثًا عقيمًا، تمامًا كما كان البحث في غرفة الكنوز عن السهم.

حتى قال هانو: «لا يمكننا فعل شيء آخر.»

«بل هناك شيء آخر.»

أتى التصحيح هادئًا من آن أبكوت. كانت واقفة بمفردها، وكانت شاحبة اللون ومتحدية. أدركت الآن أنها أصبحت موضع الشك. التجاهل المتعمد من جميع من في الغرفة لها لم يترك أمامها أي مجال للشك.

فنظر هانو في أرجاء الغرفة.

وسألها: «ما الذي يمكننا فعله بعد؟»

«يمكنك تفتيش غرفتي.»

صرخت بيتي بحدة: «كلا! لن أسمح بذلك!»

قالت آن: «من فضلك، إنه الشيء العادل الوحيد بالنسبة لي.»

أومأ سيد بيكس برأسه بقوة.

وقال: «هذا طلب صائب تمامًا من جانب الآنسة.»

ثم التفتت آن إلى هانو.

وقالت: «لن أذهب معكم. لا يوجد شيء مُغلَق في غرفتي باستثناء حقيبة جلدية صغيرة. ستجدون مفتاحها في الدرج الأيسر من منضدة الزينة الخاصة بي. سأنتظركم في المكتبة.»

انحنى هانو احترامًا لها، وقبل أن يتحرَّك من مكانه، قامت بيتي بفعل شيء جعل جيم يرغب في أن يعانقها فورًا أمام الجميع.إذ اقتربت من آن وأحاطت خصرها بذراعها.

وقالت: «سأنتظر معكِ يا آن. هذا الأمر كله سخيف»، ثم قادت آن خارج الغرفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥