العشَّاب جان كلاديل
في الساعة التاسعة من تلك الليلة، مشى جيم فروبيشر متجاوزًا مكتب أمانة الصندوق ودخل إلى قاعة فندق جراند تافيرن. كانت آلة العرض السينمائي تدور وتطقطق فوق رأسه على مستوى عالٍ، بينما قطع الظلام شعاع عريض من الضوء الفضي. وعند الطرف المقابل للقاعة، كانت الشاشة المربعة مغمورة بالضوء، وقد ذابت عليها الصور واحدة تلو الأخرى.
لبعض الوقت، لم يستطِع جيم رؤية أي شيء سوى تلك الشاشة. ثم بدأت القاعة تتكشَّف تدريجيًّا إلى عينيه. رأى رءوس الناس كالرصاصات الكبيرة، وممرًّا مركزيًّا أكثر وسعًا تتحرك فيه النادلات مرتديات مآزر بيضاء. مشى جيم في الممر وانعطف إلى اليسار بين الطاولات. عندما وصل إلى الحائط، تقدم مرة أخرى نحو أعلى القاعة. على يساره، كانت القاعة منحسرة، وفي تلك الزاوية كانت هناك مقصورتان كبيرتان تحتويان على طاولات بلياردو. وكان ثَم شاب يتكئ على جدار أولى هذه المقصورات، وعيناه مثبتتان على الشاشة. ظن جيم أنه يرى موريس ثيفينيه، فأومأ له وهو يمُرُّ. وغير بعيد عنه، كان ثَم رجل ضخم يرتدي قبعة ناعمة من الصوف وجالسًا بمفرده، مع شراب من جعة بوك أمامه؛ كان الرجل هو هانو. فاندس جيم في مقعد إلى جانبه.
هتف هانو باندهاش: «أنت؟»
أجاب جيم: «ولمَ لا؟ لقد أخبرتني أنك ستكون هنا في هذا الوقت.» وكانت هناك نبرة إحباط في صوته لفتت انتباه هانو.
فقال هانو: «لم أكُن أظن أن هاتين الشابتين ستتركانك تذهب.»
أجاب جيم بضحكة قصيرة: «على العكس، لم يكونوا يريدونني على الإطلاق.»
وأراد قول شيء آخر، لكنه أعاد التفكير في الأمر، ثم نادى على النادلة.
وقال: «كأسان من جعة بوك، من فضلك.» ثم قدم لهانو سيجارة.
وعندما أتى الشراب، قال هانو له:
«سيكون من الجيد أن ندفع الآن، حتى نتمكن من المغادرة بسرعة عندما نريد.»
سأل جيم: «وهل لدينا شيء نفعله الليلة؟»
«نعم.»
ولم يقل أكثر من ذلك إلى أن دفع جيم لقاء الشراب وقلبت النادلة الصحنين الصغيرين اللذين أحضرت عليهما الشراب رأسًا على عقب وذهبت. ثم انحنى نحو جيم وأخفض صوته.
فقال: «أنا سعيد أنك أتيت هنا. هذا لأن لديَّ أمل أننا سنعرف الحقيقة الليلة، ويجب أن تكون حاضرًا عندما نعرفها.»
أشعل جيم سيجارته.
وسأله: «من الذي تتطلع إلى أن تعرف الحقيقة منه؟»
أجاب هانو هامسًا: «جان كلاديل. لاحقًا، عندما تهدأ المدينة، سنُعرِّج على شارع جامبيتا.»
فقال جيم: «هل تعتقد أنه سيتحدث؟»
أومأ هانو برأسه.
وقال: «لا توجد تهمة ضد كلاديل في هذه القضية. صنع السم من تلك العجينة ليس بجريمة. وثمة الكثير مما يمكن أن يضره، لذا سيرغب في أن يكون في جانبنا إذا استطاع. نعم، لا شك أنه سيتحدث.»
إذَن، ستنتهي المسألة الليلة. شعر جيم فروبيشر بفرح لا يوصف. ستكون بيتي حرة في تنظيم حياتها كما تريد، وتوجيهها أينما تريد، كما ستعطي لشبابها المجال والمدى الذي يستحقه، سيتسنى لها نسيان رعب الأسابيع الأخيرة وما كان بها من فزع، كما ينسى المرء الأشياء القديمة خلف الأبواب الموصدة.
فقال بجدية لهانو: «أتمنى، وأعتقد، أنك ستكون مخطئًا، وأنه إذا كانت هناك جريمة قتل، فإن آن أبكوت ليس لها علاقة بها. نعم، أنا أومن بذلك.» ثم كرر جملته المؤكَّدة ليقنع نفسه بقدر ما كان يحاول إقناع هانو.
لمس هانو مرفقه.
وقال: «لا ترفع صوتك كثيرًا، يا صديقي. أعتقد أن هناك شخصًا عند الحائط يمنحنا اهتمامه.»
فهزَّ جيم رأسه.
وقال: «إنه موريس ثيفينيه، ليس إلَّا.»
أجاب هانو بنبرة ارتياح: «أوهو؟ هل هذا كل شيء؟ اعتراني القلق للحظة. بدا وكأن هناك حارسًا يقف على رقابنا.» ثم أضاف هامسًا: «أنا أيضًا أتمنى من كل قلبي أن أكون مخطئًا. ولكن ماذا عن رأس السهم في صينية الأقلام؟ ها؟ لا تنسَ ذلك!» ثم غرق في تفكير عميق.
وعاد يقول: «ماذا حدث في تلك الليلة في منزل كرينيل؟ لماذا كان الباب الواصل مفتوحًا؟ من الذي كانت تلك المرأة القاسية تقذعه وتهينه؟ من همس «هذا سيفي بالغرض»؟ هل آن أبكوت تقول الحقيقة، وهل كان هناك مشهد مروع يحدث قبل أن تدخل غرفة الكنوز بهذا الشكل المفاجئ … مشهد مروِّع انتهى بهذه الهمسة المرعبة؟ أم أنَّ آن أبكوت تكذب في كل شيء من البداية إلى النهاية؟ آهٍ يا صديقي، لقد كتبت بعض الأسئلة في مذكرتك هذا المساء. ولكن هذه هي الأسئلة التي أريد الإجابة عليها، وأنَّى لي أن أجد الإجابات؟»
لم يرَ جيم هانو بهذه الحالة من قبل. كانت يداه مقبوضتين، وعروقه بارزة على جبهته، ورغم أنه كان يهمس، فإن صوته كان يرتجف.
قال جيم: «قد نجد العون في جان كلاديل.»
أجاب هانو: «نعم، نعم، قد يخبرنا بشيء.»
ثم جلسا يشاهدان جزءًا من الفيلم، ورأيا الأضواء تضاء وتنطفئ مرة أخرى، ثم نظر هانو بلهفة إلى ساعته وأعادها إلى جيبه بإيماءة من الضيق.
وسأل جيم: «هل ما زال الوقت مبكرًا؟»
«نعم. كلاديل ليس لديه خادم ويتناول طعامه خارج المنزل. لم يعد بعد إلى المنزل.»
قبل العاشرة بقليل، دخل رجل وجلس عند طاولة خلف هانو، وكشط عود ثقاب مرتين على علبة ثقاب دون أن يشعله. فقال هانو لفروبيشر بهدوء ودون أن يتحرك:
«لقد عاد إلى المنزل الآن. سأغادر في غضون دقيقة. تمهَّل خمس دقائق ثم اتبعني.»
فأومأ جيم برأسه.
وسأل: «أين سنلتقي؟»
«امشِ مباشرة على طول شارع ليبتري، وسأتكفَّل أنا بالباقي.»
ثم أخرج هانو علبة سجائره من جيبه، فوضع واحدة بين شفتَيه، وتأنى في إشعالها. ثم نهض، لكنه استاء عندما تعرَّف عليه موريس ثيفينيه وتقدم نحوه.
قال ثيفينيه: «عندما سلم عليَّ السيد فروبيشر وانضم إليك، ظننت أنك أنت هو يا سيد هانو. لكنني لم أكن أجرؤ على أن أذكرك بنفسي.»
قال هانو بأدب: «جرأة! نحن نؤدي الخدمة نفسها يا سيدي، لكنك لديك ميزة الشباب.» ثم استدار.
فسأل ثيفينيه في عسر: «لكن، هل أنت مغادر يا سيد هانو؟ أنا متأسِّف. لقد قاطعت المحادثة على نحو أخرق.»
فأجاب هانو: «على الإطلاق.» كان صبر هانو واضحًا لفروبيشر كما وضحت له صفاقة موريس ثيفينيه. «كنا نتسكَّع بمشاهدة فيلم أعتقد أنه مُمِلٌّ نوعًا ما.»
قال ثيفينيه: «إذَن، بما أنك لست مشغولًا، أرجو أن تتحملني. اقضِ معي قليلًا من الوقت وحسب، هذا كل شيء. أودُّ كثيرًا لو أستطيع أن أقول لأصدقائي: «لقد جلست في السينما مع السيد هانو … نعم، أنا فعلت؛ وطلبت نصيحته».»
فجلس هانو مرة أخرى على كرسيه.
وسأل ضاحكًا: «وعن أي موضوع تريد نصيحتي؛ أنت يا مَن يتحدث عنه السيد جيراردو بإعجاب؟»
كان طموح القرويين الأزلي يعذِّب هذا الشاب المتحمس. الذهاب إلى باريس، هذا كل ما هنالك! هناك الثروة، والسمعة، والحياة المليئة بالألوان. كلمة من السيد هانو ستفتح له الطريق. وسيعمل هو ليل نهار ليفوز بتلك الكلمة.
قال هانو بحرارة: «سيدي، كل ما أستطيع أن أعدك به هو أنني سأتذكرك عندما يحين الوقت. أعدك بذلك الآن من كل قلبي.» ثم انحنى له وابتعد.
راح موريس ثيفينيه يرقبه وهو يغادر.
ثم قال بحماس: «يا له من رجل! لن أحاول أن أخفي أي أسرار عنه. لن أفعل أبدًا!» وكان جيم قد سمع مثل هذه العاطفة من قبل على شفاه أخرى وبشعور أكبر. «لم أفهم تمامًا ما كان يدور في ذهنه عندما دبَّر ذلك المشهد الصغير مع فرانسين رولار. لكن ثَم شيئًا ما يا سيد. أوه، يمكنك أن تكون متأكدًا من هذا. ثم شيء حكيم. وهذا التفتيش في غرفة الكنوز! كم كان سريعًا وشاملًا! لا شك أنه فتَّش غرفة جلوسها أثناء تفتيشنا لغرفة نوم الآنسة أبكوت بالسرعة والدقة نفسيهما. لكنه لم يجد شيئًا. لا شيء.»
انتظر ثيفينيه أن يؤيده جيم، لكن جيم قال فقط: «أوهو!»
لكن حماسة ثيفينيه لم تكن لتنطفئ.
فقال: «سأخبرك بما أثار إعجابي يا سيدي. إنه لم يكن يتبع أي شكوك؛ أليس كذلك؟ كان منفصلًا. كان يجمع كل تفصيلة صغيرة، على أمل أن تتلاءم كل واحدة مع أخرى وفي النهاية تتشكل صورة كاملة. إنه لفنان! كانت هناك رسالة، على سبيل المثال، سلمتها له الآنسة هارلو، واحدة من تلك الرسائل المؤسفة التي أثارت فضيحة هنا؛ أتذكر تلك الرسالة يا سيدي؟»
قال فروبيشر: «آها!» بأسلوب هانو تمامًا. «لكنني أرى أن الفيلم يقترب من نهايته السعيدة. لذا سأتمنى لك مساءً سعيدًا.»
انحنى فروبيشر وترك موريس ثيفينيه يحلم بالنجاح في باريس. مشى بين مجموعات المشاهدين إلى المدخل ومنه إلى الشارع. ثم سار حتى قوس بوابة غيوم وانعطف إلى شارع ليبرتي. تخلُد البلدات الصغيرة إلى النوم مبكرًا، والشارع الذي كان مزدحمًا طوال النهار أصبح كشارع في مدينة مهجورة. بعد بضع مئات من الأمتار، فوجئ بوجود هانو يمشي بجانبه وقد ظهر من العدم.
قال هانو: «شغلك المساعد إذَن يا صديقي الشاب، بعد أن غادرت؟»
قال جيم: «قد يكون موريس ثيفينيه شابًّا ذا ذكاء مُدهِش كما يقول المفوض، ولكن في الحقيقة، أجد أنه شخص متطفل جدًّا. أولًا، أراد أن يعرف إذا كنت قد اكتشفت أي شيء في غرفة جلوس آن أبكوت، ثم أراد معرفة موضوع رسالة الآنسة هارلو المجهولة.»
نظر هانو إلى جيم باهتمام.
وقال: «نعم، هذا الشاب متحمس للتعلم، جيراردو محق. سيحقق الكثير. وكيف أجبتَه؟»
قال جيم: «قلت أولًا «أوهو!» ثم قلت «آها!» تمامًا مثل صديق مزعج لي عندما أسأله سؤالًا بسيطًا لا ينوي الإجابة عنه.»
فضحك هانو كثيرًا وبحرارة.
وقال: «حسنًا فعلت. تعالَ، لننعطف إلى هذا الشارع الصغير على اليمين. سيأخذنا إلى وجهتنا.»
همس جيم بحماس: «مهلًا! لا تعبر الطريق. استمع للحظة!»
أطاعه هانو على الفور، ووقف الرجلان يستمعان في الشارع الفارغ.
وقال هانو: «لا صوت.»
همس جيم لافتًا انتباهه: «كلا! وهذا ما يقلقني! منذ دقيقة كان هناك صوت خطوات خلفنا. الآن وقد توقفنا، توقفت الخطوات أيضًا. دعنا نمضي مباشرة للحظة أو نحو ذلك.»
قال هانو: «بالتأكيد، يا صديقي.»
وأضاف جيم: «ودعنا لا نتحدث أيضًا.»
قال هانو: «ولا كلمة واحدة.»
راح الرجلان يتقدَّمان، وعاد صوت الخطوات من خلفهما على الرصيف.
فسأل جيم وهو يمسك بذراع هانو: «بماذا أخبرتك؟»
أجاب هانو: «بأننا كلانا لن نتحدث. وها أنت قد تحدثت!»
قال جيم بغضب: «ولماذا؟ لماذا تحدثت؟ كن جادًّا، سيدي. هناك من يتتبعنا.»
توقف هانو تمامًا ونظر بإعجاب إلى زميله الغِر.
وهمس: «أوه! هل اكتشفت ذلك؟ نعم، هذا صحيح. أحد رجالي يتتبعنا ليحرص على ألا يتتبعنا أحد.»
هز جيم ذراع هانو بغضب. ثم وقف متسمِّرًا. وحينها رأى فم هانو ينتفض، وفهم أنه كان يبدو «جديًّا».
فقال جيم ضاحكًا: «دعنا نذهب ونبحث عن جان كلاديل» ثم عبر الطريق. مرَّ الرجلان خلال شبكة من الشوارع الصغيرة والفقيرة. وكانت كلها خالية. كما كانت الظلمة تكتنف المنازل. فكان الصوت الوحيد الذي سمعوه هو صوت خطواتهم على الرصيف، والصوت الخافت للرجل الذي يتتبعهم. انعطف هانو إلى اليسار إلى ممر قصير وتوقف أمام منزل صغير بواجهة متجر مغلقة.
وقال بصوت منخفض: «هذا هو المكان» ثم ضغط على زر الجرس في عمود الباب. رن الجرس بأزيز حاد مدوٍّ خلف ألواح الباب.
وأضاف: «قد نضطر للانتظار قليلًا إذا كان قد خلد إلى الفراش، لأنه ليس لديه خادم في المنزل.»
مرت دقيقة أو دقيقتان. دقت الساعات معلنة مرور نصف الساعة. مال هانو بأذنه نحو ألواح الباب. لم يسمع أي صوت داخل المنزل. دق الجرس مرة أخرى؛ وبعد بضع ثوانٍ، فُتِح مصراعي نافذة في الطابق العلوي. ومن خلف النافذة، همس أحدهم يقول:
«مَن بالباب؟»
أجاب هانو: «الشرطة» ولم يسمع من عند النافذة إلا صمتًا.
فأضاف هانو رافعًا صوته بنبرة تنم عن نفاد الصبر: «لن يؤذيك أحد. نريد منك بعض المعلومات. هذا كل شيء.»
جاء الهمس من المكان نفسه: «حسنًا.» لكن الرجل الذي كان يقف في ظلمة الغرفة لم يكُن قد تحرك. «انتظر! سأرتدي بعض الملابس وأنزل.»
أُغلقت النافذة مرة أخرى. ثم تسربت بعض أشعة الضوء عبر الشقوق، فهمهم هانو علامة على رضاه.
ثم قال: «أخيرًا ستستيقظ تلك البهيمة. لا بد أن لديه عملاء غريبين بين أهل ديجون الطيبين إذا كان حريصًا على الرد عليهم بهذا الصوت الهامس.»
ثم التفت هانو وسار بضع خطوات على الرصيف، ثم عاودهم مرة أخرى، كأنه ربَّان نفد صبره. لم يرَه جيم فروبيشر بهذا القلق والاضطراب خلال اليومين الماضيين.
وقال هانو بصوت منخفض لجيم: «لا أستطيع تمالك نفسي. أفكِّر في أننا سنصل إلى حقيقة هذه القضية خلال خمس دقائق. سنعرف من أحضر السهم إليه من منزل كرينيل.»
فأضاف جيم فروبيشر: «إذا كان هناك من أحضر السهم إليه أصلًا.»
لكن هانو لم يكن في مزاج يسمح بالتفكير في الاحتمالات.
فقال وهو يهزُّ كتفيه مستهجنًا: «أوه، هذا!» ثم نقر على جبهته. وأضاف: «أنا مثل وابرسكي. يخالجني هنا شعور بأن شخصًا ما أحضر السهم إلى جان كلاديل.»
ثم شرع يذرع الرصيف ذهابًا وإيابًا مرة أخرى. لكنه هذه المرة كان يهرول ولم يكُن يمشي. وشعر جيم ببعض الانزعاج من تجاهل هانو لاقتراحه. كان لا يزال مقتنعًا بأن هانو قد اتخذ نقطة بداية خاطئة في تحقيقه. فقال بحدة:
«حسنًا، إنْ كان أحدهم قد أحضر إليه السهم، فسيكون هو الشخص نفسه الذي أعاد كتاب «اسبورانثوس» إلى رف الكتب.»
توقف هانو أمام جيم فروبيشر. ثم أطلق ضحكة خفيضة.
وقال: «أراهنك على كل المال في العالم أن هذا غير صحيح، وأضيف إليه عقد اللؤلؤ الخاص بالسيدة هارلو. والسبب في نهاية المطاف أنه لم أكُن أنا من أحضر السهم إلى جان كلاديل، في حين أنه لا شك في أنني كنت من أعاد الكتاب إلى الرف.»
تراجع جيم خطوة إلى الوراء. وأخذ يحدِّق إلى هانو فاغرًا فاهه من الدهشة.
وهتف متعجبًا: «أنت؟»
أجاب هانو وقد شبَّ على أطراف أصابعه: «أنا. فعلت ذلك بمفردي.»
ثم اختفى أسلوبه الهزلي. ونظر إلى النوافذ المغلقة في قلق مفاجئ.
وتمتم: «هذا الحيوان يأخذ وقتًا أطول مما يحتاج. في نهاية المطاف، نحن لا ندعوه إلى حفل راقص عند دوق بورجوندي.»
فدقَّ الجرس مرة أخرى بمزيد من الإلحاح. وكانت رنة الجرس حادة وكأنها تسخر منه.
قال هانو: «لا يروق لي ما يحدث.»
ثم أمسك بمقبض الباب وضغط بكتفه على الباب وحاول دفعه بثقله. لكن الباب كان قويًّا ولم يتحرك. وضع هانو أصابعه على فمه وأطلق صفيرًا خفيفًا. فسمعوا صوت رجل يركض بسرعة وبخفة من الاتجاه الذي أتوا منه. رأوه يمر تحت ضوء مصباح الشارع الوحيد عند الزاوية ويختفي مرة أخرى؛ ثم ظهر واقفًا بجانبهم. تعرف جيم على نيكولا مورو، العميل المتخفي الذي أرسله هانو هذا الصباح للتأكد من وجود جان كلاديل.
قال هانو: «نيكولا، أريدك أن تنتظر هنا. إذا فُتح الباب، صفِّر لنا وأبقِ عليه مفتوحًا.»
«حسنًا يا سيدي.»
ثم قال هانو لفروبيشر بصوت منخفض ومضطرب: «ثَم شيء هنا يقلقني.» ثُم غاص في زقاق ضيق بجانب المتجر.
فهمس جيم وهو يسرع ليلحق برفيقه: «لا شك أن وابرسكي قصد أن يجعلنا نصدق أنه اختبأ في هذا الزقاق صباح يوم ٧ مايو.»
أجاب هانو: «بلا شك.»
أفضى الزقاق إلى ممر صغير موازٍ لشارع جامبيتا. فانعطف هانو إليه. كان ثم جدار يحيط بالساحات الخلفية للمنازل بارتفاع خمس أقدام، تتخلله من مكان لآخر أبواب خشبية متداعية. توقف هانو أمام أول فتحة في الجدار. وشبَّ على أطراف أصابعه لينظر فوقه، فنظر أولًا إلى الأسفل نحو الساحة، ثم إلى الأعلى نحو الجزء الخلفي من المنزل. لم يكُن ثمة مصباح في الممر، ولا ضوء يظهر من أي نافذة. ورغم أن الليل كان صافيًا من الغيم، فإنه كان مظلمًا كالكهف في هذا الممر الضيق خلف المنازل. ورغم أن عيني جيم فروبيشر اعتادتا على الظلام، فقد كان يعلم أنه لن يستطيع رؤية رجل حتى لو كان يتحرك على بعد ١٠ ياردات فقط. ومع ذلك، ظل هانو واقفًا يحدِّق إلى الجزء الخلفي من المنزل متعلقًا بأطراف أصابعه على قمة الجدار. وأخيرًا لمس ذراع جيم.
وهمس له: «أعتقد أن النافذة الخلفية في الطابق الأول مفتوحة» وكان صوته أكثر اضطرابًا من أي وقت مضى. «سنذهب ونرى.»
ثم لمس الباب الخشبي فانفتح إلى الداخل وأصدرت مفصلاته صوت أنين.
فقال هانو: «إنه مفتوح. لا تصدر أي صوت.»
اجتاز الرجلان الساحة بصمت. كان الطابق الأرضي من المنزل منخفضًا. وعندما نظر جيم إلى الأعلى رأى أن النافذة التي فوق رأسيهما مفتوحة على مصراعيها.
فهمس في أذن هانو قائلًا: «أنت محق» وبلمسة طلب هانو الصمت.
كانت الغرفة خلف النافذة حالكة السواد. فوقف الرجلان أسفلها وتنصتا. لم يصدر منها أي شيء. فجذب هانو جيم إلى جدار المنزل. في نهاية الجدار، كان ثَم باب يفضي إلى داخل المنزل. حاول هانو فتح الباب، فحاول تحريك المقبض أولًا، ثم ضغط برفق بكتفه على لوح الباب.
وهمس قائلًا: «إنه مقفل، لكن ليس بالمزلاج مثل الباب الأمامي. يمكنني تدبُّر أمره.»
سمع جيم فروبيشر أصواتًا خفيفة جدًّا لمجموعة من المفاتيح فيما كان هانو يسحبها من جيبه، ثم لم يسمع أي صوت بينما كان هانو منحنيًا فوق القفل. ومع ذلك، وفي أقل من نصف دقيقة، فتح الباب ببطء. انفتح الباب على ممر قاتم بشدة كالغرفة التي بالأعلى. دخل هانو إلى الممر دون أي صوت. وتبعه جيم فروبيشر بقلب يخفق بقوة من الإثارة. ما الذي حدث في تلك الغرفة المضاءة في الطابق العلوي وفي الغرفة المظلمة خلفها؟ لماذا لم ينزل جان كلاديل ليفتح الباب على شارع جامبيتا؟ لماذا لم يسمعا صفير نيكولا مورو الخفيف أو صوت همسه؟ عاد هانو إلى الوراء متجاوزًا جيم فروبيشر وأغلق الباب خلفهم وأقفله مرة أخرى.
ثم همس يقول: «طبعًا ليس معك مصباح كهربائي؟»
أجاب جيم: «كلا.»
«ولا أنا. ولا أريد أن أشعل عود ثقاب. ثَم شيء في الطابق العلوي يقلقني.»
بالكاد تمكن جيم من سماع الكلمات. كان هانو ينطق بها كما لو أن مجرد اهتزاز الهواء أمام فمه سيبعث بإنذار إلى الغرف في الأعلى.
وقال هانو: «سنتحرَّك بحذر شديد. أبقِ يدك على معطفي» ثم تقدم. وبعد أن سار بضع خطوات، توقف.
وهمس قائلًا من فوق كتفه: «هذا سلم هنا على يميني. وانعطافه حاد. احذر من أن تصطدم قدمك بالدرجة الأولى» وبعد لحظة، مد يده وأمسك بذراع جيم الأيمن ووضع يده على حاجز السلم. فرفع جيم قدمه، وبحث عن الدرجة الأولى وارتقى خلف هانو. ثم توقفا عند درجة صغيرة فوق الباب الذي دخلا منه إلى المنزل.
بدأت الظلمة تخف أمامهم، فصارت الرؤية غبشاء عوضًا عن أن تكون كعصابة سوداء على أعينهم لا سبيل للرؤية من خلالها. وعرف جيم أن أمامه باب مفتوح وأن الضوء الخافت يأتي من تلك النافذة المفتوحة على يسارهم خلف الباب.
دلف هانو إلى الغرفة من الباب. تبعه جيم وكان عند عتبته حين تعثر هانو وأطلق صرخة. لا شك أن صرخته كانت منخفضة، ولكن بما أنها جاءت فجأة بعد صمتهم الطويل، فقد أفزعت فروبيشر كأنها طلقة مسدس. بدا أنها ستتردد في أرجاء ديجون كدقات الساعة.
لكن لم يتبعها شيء. لم يتحرك أحد، ولم يصرخ أحد بسؤال. عاد الصمت يلف المنزل مرة أخرى، صمت مطبق، كغطاء من الظلمة على الحواس. كان جيم يرغب في أن ينادي ويهتف بصوت عالٍ، سينادي بأي شيء مهما كان طفوليًّا، حتى يسمع صوتًا ينطق بكلمات، حتى ولو كان صوته هو. وأخيرًا جاءت الكلمات، كانت من هانو ومصدرها الجزء الداخلي للغرفة، ولكنها بنبرة لم يتعرف عليها جيم.
قال هانو: «لا تتحرك! … ثَم شيء … لقد أخبرتك أنني أخشى شيئًا … أوه!» واختفى صوته في تنهيدة.
سمعه جيم يتحرك بحذر شديد. ثم كاد يطلق صرخة عالية. ذلك لأن مصراعي النافذة أُغلقا ببطء وعادت الغرفة إلى الظلام الدامس.
همس جيم بعنف: «مَن هناك؟» وأجابه هانو:
«إنه أنا وحسب — هانو. لا أريد للأضواء أن تظهر هنا بعد، مع فتح تلك النافذة. الله وحده يعلم ما الشيء الرهيب الذي حدث هنا. تعالَ إلى داخل الغرفة وأغلق الباب خلفك.»
أطاعه جيم، وبعد أن غير موقعه، استطاع أن يرى في الطرف الآخر من الغرفة على الأرض خطًّا أصفر من الضوء، مستقيمًا ودقيقًا كأنه مرسوم بقلم. كان ثَم باب هناك، باب يؤدي إلى الغرفة الأمامية حيث رأيا الضوء يصدر من شارع جامبيتا.
بالكاد أدرك جيم فروبيشر ذلك قبل أن يرتطم أحدهم بالباب ويفتحه. وقد ظهرت هيئة هانو الضخمة في مدخل الباب يحدِّدها الضوء من خلفه.
قال هانو: «لا يوجد شيء هنا» وكان واقفًا يسد المدخل ويداه في جيبيه. «الغرفة فارغة تمامًا.»
نعم، تلك الغرفة، الغرفة الأمامية! ولكن بين ساقي هانو، تسرب الضوء إلى الغرفة المظلمة خلفه، وهنا، رأى جيم وهو يرتجف يدًا مقبوضة وساعدًا في كم قميص مجعد على الأرض، وقد أضاءهما خط ضوء صغير.
فهتف جيم لهانو: «التفت! انظر!»
التفت هانو.
وقال بهدوء: «نعم. هذا ما تعثرت فيه.»
ووجد مفتاحًا في الحائط بجانب الباب فضغط عليه. غمر الضوء الغرفة المظلمة، وفي وسط فوضى عارمة — طاولة مبعثرة هنا، وكرسي مقلوب هناك — كانت هناك جثة رجل على الأرض. لم يكُن يرتدي معطفًا. كان يرتدي صدريته وأكمام قميصه، وكان مكومًا كالكرة، مما يشير إلى أنه قاسى ألمًا كبيرًا، وركبتاه نحو ذقنه، ورأسه منحنية نحو ركبتيه. كانت إحدى ذراعيه مقبوضة إلى جسمه بقوة، فيما كانت الأخرى التي رآها جيم ممدودة، ويده مقبوضة في تشنج من الألم الذي لا يُحتمل. وحول الجثة كانت ثمة بركة من الدماء التي ظن جيم فروبيشر أن جسدًا لا يمكن أن يحتويها.
تراجع جيم مذهولًا ويداه على عينَيه. وقد شعر بألم في جسده.
وصرخ بتأوه: «إذَن، لقد قتل نفسه لدى اقترابنا.»
أجاب هانو بثبات: «من؟»
قال جيم: «جان كلاديل. الرجل الذي همس لنا من خلف النافذة.»
أذهله هانو بسؤاله.
قال: «بماذا؟»
رفع جيم يديه ببطء من أمام وجهه وأجبر عينيه على النظر. لم تكُن ثمة لمعة سكين أو مسدس في أي مكان على خلفية السجادة الداكنة.
قال هانو: «ربما تعتقد أنه ياباني أقدم على فعل «هارا-كيري». ولكن لو فعل ذلك، لكانت السكين بجانبه. ولا يوجد سكين.»
مال هانو فوق الجثة وتحسسها، ثم سحب يده.
وقال: «ما زال دافئًا» ثم أطلق شهقة. وأشار وهو يقول «انظر!». كان الرجل مستلقيًا على جنبه في هذه الوضعية المروعة التي تعبر عن مكابدته تقلصات شديدة وألم لا يُحتمل. كان كم القميص يحمل علامة حمراء عريضة.
قال هانو: «هنا مُسح السكين.»
ثم انحنى جيم للأمام.
وصرخ: «بحق الله، هذا صحيح» ثم بعد قليل، هتف بصوت مليء بالرهبة: «إنها جريمة قتل.»
أومأ هانو.
وقال: «لا شك في ذلك.»
ثم انتصب جيم فروبيشر. وأشار بإصبعه المرتجف إلى صورة الألم المروع والموت دون كرامة المكوَّمة على الأرض، التي هي حجة على أن تكوين الجنس البشري به شيء فظيع؛ لأن حدوث هذه الأشياء أمر ممكن.
ثم سأل: «أهو جان كلاديل؟»
أجاب هانو: «سيتعيَّن أن نتأكد.» ثم نزل هانو الدرج إلى الباب الأمامي، وبعد أن فتح مزلاجه، نادى مورو إلى داخل المنزل. ومن أعلى الدرج، سمع جيم هانو يسأله:
«أتستطيع التعرف على جان كلاديل؟»
أجاب مورو: «نعم.»
«إذَن فلتتبعني.»
وتقدَّمه هانو إلى الغرفة الخلفية. توقَّف مورو للحظة عند عتبة الباب بوجه خاوٍ من التعبير.
وسأل هانو: «أهذا هو الرجل؟»
تقدم مورو.
وقال: «نعم.»
فقال هانو: «لقد قُتل. هل يمكنك أن تجلب مفوض الحي، وطبيبًا؟ سننتظرك هنا.»
استدار مورو على عقبيه ونزل الدرج. وجلس هانو على كرسي وحدق في الجثة بوجه عابس.
وقال بنبرة محبطة: «قتل جان كلاديل. تمامًا عندما كان يمكن أن يكون ذا نفع ولو قليل في العالم! عندما كان يمكن أن يساعدنا في الوصول إلى الحقيقة! هذا خطئي أيضًا. لم يكُن عليَّ أن أنتظر حتى الليلة. كان يجب أن أتوقَّع أن هذا قد يحدث.»
فهتف جيم فروبيشر: «مَن يمكن أن يكون قد قتله؟»
نفض هانو عنه مشاعر الندم.
وأجاب: «الرجل الذي همس لنا من خلف النافذة.»
شعر جيم فروبيشر بأن عقله يدور.
وهتف: «هذا مستحيل!»
سأل هانو: «لماذا؟ لا بد أنه هو القاتل. فكر في الأمر!» ثم بدأ يروي القصة كما فهمها، وكان بحكايته للقصة يحاول أن يتحرَّاها.
«في الساعة العاشرة وخمس دقائق، جاءنا أحد رجالي إلى جراند تافيرن على عجل وكان لا يزال يلهث قليلًا، وأخبرنا أن جان كلاديل قد وصل إلى المنزل للتو. إذَن، فقد وصل إلى المنزل في الساعة العاشرة إلا خمس دقائق.»
قال جيم موافقًا: «نعم.»
«وقد عطلنا موريس ثيفينيه بضع دقائق. نعم.» ثم بلل شفتَيه بطرف لسانه وقال بهدوء: «سيتعيَّن علينا أن ننظر بعناية إلى ذلك الشاب المتواضع والواعد. لقد احتجزنا. وسمعنا الساعة تدق معلنة العاشرة والنصف بينما كنا ننتظر في الشارع.»
«نعم.»
«وكان كل شيء قد انتهى حينها. والسبب في ذلك أن المنزل كان صامتًا كالقبر؛ كما هو حاله بالفعل. وكانت الجريمة قد وقعت للتو، لأن الجسد كان ما يزال دافئًا. إذا كان هذا المستلقي هنا هو جان كلاديل، فلا بد أن شخصًا آخَر كان ينتظر عودته إلى المنزل الليلة، ينتظر في الممر الخلفي، لأن رجلي لم يرَه. وكان هذا شخصًا يعرفه، صديق له؛ لأن جان كلاديل سمح له بالدخول وأغلق الباب خلفه.»
فقاطعه جيم.
وقال: «وربما كان هنا بالفعل، ينتظره بسكينه العاري في هذه الغرفة المظلمة.»
نظر هانو في أرجاء الغرفة. كانت مفروشة بفرش رخيص ومتكدس، فكانت تجمع بين وظيفتين، المكتب وغرفة المعيشة. كان ثمة مكتب للكتابة، يتعامد على الحائط بجانب النافذة. وخزانة مغلقة تحتل الجزء الأكبر من أحد جانبي الغرفة.
قال: «أنا مندهش. هذا ممكن، بلا شك؛ ولكن إذا كان الأمر كذلك، لماذا مكث القاتل طويلًا؟ إذ لم يكُن يبحث عن شيء، فالأدراج غير مبعثرة.» ثم حاول فتح باب الخزانة. «هي ما تزال مقفلة. كلا، لا أعتقد أنه كان ينتظر. أعتقد أنه جرى استقباله كصديق أو عميل؛ أظن أن جان كلاديل كان لديه عدد غير قليل من العملاء الذين يفضلون زيارته من المدخل الخلفي تحت جنح الليل. أعتقد أن زائره جاء بقصد القتل، وانتظر ما انتظر وارتكب جريمته، وكان قد أجهز عليه لتوِّه قبل أن نقرع جرس الباب.» ثم تنفس هانو بعمق. «تخيل ذلك يا صديقي! كان القاتل يقف هنا فوق جثة قتيله، وفجأة يتردَّد صوت الجرس الحاد والواضح في جميع جنبات المنزل؛ وكأن الله قال له: «لقد رأيتك!» تخيل ذلك! فأطفأ القاتل الضوء ووقف يحبس أنفاسه في الظلام. يدق الجرس مرة أخرى. عليه أن يجيب وإلا ساءت الأمور. فيذهب إلى الغرفة الأمامية ويفتح النافذة، ويعرف أن الشرطة هي التي تقف على الباب.» ثم أومأ هانو برأسه بإعجاب شابَهُ التردُّد. وأضاف: «بيد أن الرجل يتمتع بأعصاب من حديد! فلم يفقد رباطة جأشه. فأغلق مصراع النافذة، وأضاء الضوء، حتى نظن أنه يستيقظ، ثم يركض عائدًا إلى هذه الغرفة. لن يضيع الوقت بالتعثر على الدرج والعبث بقفل الباب الخلفي. كلا، بل فتح هذه المصارع وقفز إلى الأرض. حدث ذلك في لمح البصر. وفي غضون ثانية واحدة، كان في الممر؛ وبحلول الأخرى، كان في مأمن، وقد أنجز مهمته الرهيبة. لن يتحدث كلاديل. لن يخبرنا بالأشياء التي نريد معرفتها.»
توجَّه هانو إلى الخزانة، وباستخدام مفاتيحه الهيكلية، فتح أبوابها مرة أخرى. على الأرفف كانت توجد جرة زجاجية أو اثنتان، وأنبوب تقطير، وأدوات مختبر بسيطة وبعض الزجاجات، واحدة منها أكبر من البقية وكانت نصف ممتلئة بسائل عديم اللون.
قال هانو مشيرًا إلى الملصق: «كحول.»
تحرك جيم فروبيشر بحذر حول أطراف الغرفة، متجنبًا تغيير الفوضى في الأثاث. ثم فحص الزجاجات. لم يكُن أيٌّ منها يحتوي على قطرة واحدة من ذلك المحلول الليموني الفاتح الذي وصفه البروفيسور في أطروحته. أغلق هانو أبواب الخزانة مرة أخرى وأقفلها، ثم تحرك بحذر نحو المكتب. كان مفتوحًا، وكانت هناك بعض الأوراق المبعثرة عليه. فجلس هانو إلى المكتب وبدأ في البحث بعناية. وجلس جيم على كرسي. بطريقة ما، تسربت المعلومة أنه منذ هذا الصباح، كان هانو يعلم بأمر جان كلاديل. لذلك، كان لا بد من إيقاف جان كلاديل عن أي كشف؛ وقد أمكن إيقافه. لم يعُد فروبيشر يشك في أن جريمة قتل قد وقعت في ليلة ٢٧ أبريل في منزل كرينيل. كانت التطورات تتبع بعضها بشكل منطقي. والوقائع تتراكم؛ ومع هذه الجريمة الجديدة، أضيفت قصة أخرى إلى المسألة. نعم، قطعًا كانت الوقائع تتراكم بشكل سليم منطقيًّا ضد شخص ما.