الفصل الثامن عشر

الحبة البيضاء

في غضون دقائق، كانت القضية على وشك أن تتعزَّز بشكل هائل. إذ انطلقت صيحة تعجب من هانو. هبَّ هانو على قدميه وأشعل ضوء مصباح قراءة ذي ظل أخضر كان على حافة المكتب. كان يمسك الآن تحت الضوء درجًا صغيرًا أخرجه من مقدمة المكتب. وبحذر شديد، رفع شيئًا صغيرًا منه، شيئًا يشبه الشارة التي يرتديها الرجال في عُرى ثيابهم. ثم وضعه على ورق التجفيف؛ وضحك بغلظة في تلك الغرفة المليئة بالموت.

ثم أومأ إلى جيم.

«تعالَ وانظر!»

رأى جيم سهمًا صغيرًا رفيعًا من الحديد ذا نصل مسنن وساق حديدية. لم يكُن بحاجة ليسأل عن طبيعته، فقد رأى مثيله ذلك الصباح في أطروحة البروفيسور بإدنبرة. هذا كان رأس سهم سايمون هارلو المسموم.

قال جيم بصوت مرتجف: «لقد وجدته!»

«نعم.»

دفعه هانو قليلًا وقال وهو يتأمله:

«في مكان بعيد بآلاف الأميال، يجلس زنجي خارج كوخه في منطقة كومبي ويسحق بذور السموم ويخلطها بالطين الأحمر، ثم يدهن سهمه الجديد بطبقة سميكة، وينتظر عدوه. لكن عدوه لا يأتي. فيقايضه أو يعطيه لصديقه الأبيض التاجر على نهر شاير. يحضره التاجر إلى بلده ويعطيه لسايمون هارلو صاحب منزل كرينيل. ويعيره سايمون هارلو لأستاذ في إدنبرة، والذي بدوره يكتب عنه أطروحة ويطبعها ويعيده مرة أخرى. وفي النهاية، بعد كل هذه الرحلات، يصل إلى مسكن جان كلاديل في حي فقير في ديجون، ويُهيَّأ بطريقة جديدة ليؤدي عمله القاتل.»

لا أحد يعرف كم من الوقت كان هانو سيستمر في التفلسف بهذا الشكل المؤسف عن السهم. لكن لحسن الحظ، جاء صوت إغلاق باب في الطابق السفلي وسُمعت أصوات في الممر، فنجا جيم فروبيشر من الاستماع إليه.

قال هانو: «إنه المفوض!» ثم نزل مسرعًا على الدرج.

سمعه جيم يتحدث بصوت منخفض لفترة طويلة، ولا شك أنه كان يشرح له الموقف والأمور. ذلك أنه عندما أحضر المفوض والطبيب إلى الغرفة، قدم جيم كشخص يعرفونه مسبقًا.

فقال: «هذا هو السيد فروبيشر.»

بتحية سريعة لجيم، انحنى المفوض، الذي كان أصغر سنًّا وأكثر حيوية من جيراردو، ووجَّه نظره نحو جثة جان كلاديل الملتوية.

حتى هو لم يستطع كبح لمحة من الاشمئزاز. فطقطق بلسانه في سقف فمه.

وقال: «هذا ليس يسيرًا، ما مر به هذا الشخص! ليس يسيرًا على الإطلاق.»

اجتاز هانو الغرفة مرة أخرى نحو المكتب ولف السهم بورق بعناية.

وقال بإجلال موجهًا حديثه إلى المفوَّض: «بإذنك، سيدي المفوض، سآخذ هذا معي. وسأتحمل مسئوليته.» ثم وضعه في جيبه ونظر إلى الطبيب، الذي كان يميل بجانب جان كلاديل. وأضاف: «لا أودُّ التدخل، بيد أنني سأكون شاكرًا لو أُتيحت لي نسخةٌ من التقرير الطبيِّ. أعتقد أنه قد يساعدني. إذ أرى أنه سيكشف أن أسلوب ارتكاب هذه الجريمة خاص بشخص واحد فقط.»

أجاب المفوض الشاب بنبرة رسمية ومهذبة: «بالتأكيد ستحصل على نسخة من التقرير، سيد هانو.»

وضع هانو يده على ذراع جيم.

وقال: «نحن نسلك السبيل يا صديقي. أوه، نعم، على الرغم من الاحتجاجات الودية من جانب السيد المفوض. هذا ليس شأننا. لنذهب!» وباشر بجيم إلى الباب ثم استدار. وأضاف: «لا أريد أن أتدخل، لكن من المحتمل أن المصاريع وعتبة النافذة تحمل جميعها آثار أصابع القاتل. لا أعتقد ذلك مرجحًا، لأن ذاك المتوحش اتخذ احتياطاته. لكنه أمر مُمكِن، لأنه غادر في عجالة كبيرة.»

كان المفوض ممتنًّا للغاية.

إذ قال: «تأكد بأننا سنولي اهتمامًا للمصاريع وعتبة النافذة.»

فاقترح هانو يقول: «ونسخة من بصمات الأصابع، إذا وُجدت أي منها؟»

وافق المفوض قائلًا: «ستكون تحت تصرف السيد هانو في أقرب وقت ممكن.»

شعر جيم بأسف لأن السيد بيكس لم يكُن حاضرًا في هذه المحادثة الصغيرة المليئة بالمجاملات المتبادلة. كان المفوض وهانو مصممين على عدم التعدي على حقوق بعضهما البعض وحريصين بكل تهذيب على ألا يحدث تعدٍّ على حقوقهم. لا شك أن السيد بيكس كان سيستمتع بانضباط سلوكهما.

نزل هانو وفروبيشر إلى الشارع. لم يكُن الجيران قد انتبهوا بعد. وكان ثَم رجلا شرطة يقفان أمام الباب. كان شارع جامبيتا لا يزال نائمًا وفي غفلة عن الجريمة التي حدثت في أحد بيوته الأقل شأنًا.

قال هانو: «سأذهب إلى المقر الرئيسي للشرطة. لقد أعطوني هناك مكتبًا صغيرًا مع أريكة. أريد أن أترك رأس السهم في مكان آمن قبل أن أذهب إلى الفندق.»

قال جيم: «سأذهب معك. سيكون من المريح أن أمشي قليلًا في الهواء الطلق بعد تواجدي في تلك الغرفة.»

كان المقر الرئيسي للشرطة يبعد نحو ميل عبر المدينة. فانطلق هانو في مسيره بسرعة كبيرة، وعندما وصل إلى المبنى، أدخل جيم إلى مكتب به خزانة مثبتة على الحائط.

وقال: «هلا جلست قليلًا؟ يمكنك التدخين إن أردت.»

كان في حالة من الكآبة العميقة؛ لقد تغير تمامًا عن شخصيته المرحة؛ لدرجة أن جيم فروبيشر لم يفهم سوى الآن كم كان هانو يعلق آمالًا كبيرة على مقابلته مع جان كلاديل. فتح هانو الخزانة وأحضر إلى الطاولة بضعة مظاريف بأحجام مختلفة، ونسخة من أطروحة البروفيسور وملفه الأخضر. ثم جلس أمام جيم وبدأ بفتح مظاريفه وترتيب محتوياتها في صف، وعندما فُتح الباب، دخل عليه شرطي فحيَّاه وتقدم نحوه. وكان يحمل ورقة في يده.

قال الشرطي: «لقد وصل رد من باريس عبر الهاتف في الساعة التاسعة الليلة يا سيد هانو. يقولون إن هذا قد يكون اسم الشركة التي تريدها. تأسست في شارع دي باتينول، لكنها لم تعُد قائمة منذ قبل سبع سنوات.»

أجاب هانو بتجهم: «نعم، هذا ما حدث» وهو يأخذ الورقة. ثم قرأ ما كُتب عليها. وأضاف: «نعم، نعم. هذه هي. لا شك.»

ثم أخذ مظروفًا من رف على الطاولة ووضع الورقة بداخله وأغلق غطاءه. وعلى وجهه، رآه جيم يكتب كلمة توضيحية. «عنوان».

ثم نظر إلى جيم بعيون متقدة.

وهتف: «هذا الأمر يسير إلى شيء محتوم. نحن نزداد يقينًا بوقوع الجريمة وكيفية ارتكابها. وتتكشف أمامنا لمحات عن أسبابها المحتملة. لكننا لا نقترب أبدًا ولو بخطوة واحدة من الأدلة؛ الأدلة الحقيقية المقنعة عن هوية مرتكبها. حتمية؟ كم أنا أحمق لاستخدام هذه الكلمة. إنما هي الفطنة الثاقبة والجرأة وبرودة الأعصاب، هذا هو ما يوقفنا في نهاية كل طريق ويجعلني أبدو أحمق!»

ثم وبشراسة أشعل عود ثقاب وأشعل سيجارة. وحاول فروبيشر أن يعزيه.

فقال: «نعم، لكنها الفطنة الثاقبة والجرأة وبرودة الأعصاب لأكثر من شخص واحد.»

نظر هانو إلى فروبيشر بحدة.

وقال: «بيِّن لي يا صديقي.»

«كنت أفكر في الأمر منذ أن غادرنا شارع جامبيتا. لم أعُد أشك في أن السيدة هارلو قُتلت في منزل كرينيل. من المستحيل الشك في ذلك. لكن قتلها كان جزءًا من نشاط عصابي. وإلا كيف تفسر مقتل جان كلاديل الليلة؟»

فارتسمت على وجه هانو ابتسامة سريعة بددت الكآبة عن وجهه قليلًا.

وقال: «نعم. لقد أمضيتَ في حلبة الثيران مدة ١٥ دقيقة.»

«توافقني الرأي إذن؟»

«نعم!» بيد أن كآبته عادت إلى وجهه. وأردف: «لكننا لا نستطيع الإمساك بالعصابة. نحن نخسر الوقت، وأخشى ألا يكون لدينا وقت لنخسره.» وارتجف هانو كرجل يشعر بالبرد فجأة. ثم أضاف: «أنا قلق جدًّا الآن. أنا … خائف جدًّا.»

وتسلل خوفه منه ولازم فروبيشر. لم يكُن فروبيشر يفهم ذلك، ولم يكن لديه أدنى فكرة عما كان هانو يخافه، لكن بينما هو جالس في ذلك المكتب ساطع الإضاءة في المبنى الصامت، شعر بحضور أرواح شريرة تحيط بهما وتتهافت عليهما، أرواح غريبة وشريرة كالتي قد ينحتها حرفي قديم في ديجون على أعمدة الكاتدرائية. فأصابته الرجفة هو أيضًا.

قال هانو: «لنرَ الآن!»

وأخذ طرف ساق السهم من أحد المظاريف، والرأس الحاد من جيبه، ووضعهما معًا. كان الرأس الحاد فضفاضًا الآن لأن الفتحة التي تستقبله في أعلى ساق السهم كانت قد توسعت لتستوعب رأسًا مدببًا. لكن الساق كانت بالطول المناسب تقريبًا. فوضع هانو السهم على الطاولة وفتح ملفه الأخضر. ولفت انتباه جيم مظروف صغير مربع، مثل ذلك الذي يستخدمه الصيادلة. فأخذه. بدا المظروف فارغًا، لكن عندما هزه، تدحرجت على الطاولة حبة مصنوعة من مادة بيضاء صلبة. كانت متسخة بالغبار، وكان عليها لطخة خضراء؛ وعندما قلبها، لاحظ شقًّا أو قطعًا على سطحها، كما لو أنها ضربت بشيء حاد.

فقال: «ما صلة هذا الشيء بالقضية من الأساس؟»

فرفع هانو نظره من الملف الذي كان بيده. ثم مد يده بسرعة ليأخذ الحبة من جيم، ثم سحب يده مرة أخرى.

وقال بجدية: «ربما الكثير. وربما لا شيء. لكنها حبة مثيرة للاهتمام. سأعرف المزيد عنها غدًا.»

لم يستطِع جيم أن يتذكر أي مناسبة جعلت هذه الحبة تلفت الانتباه. بالتأكيد لم تُكتشف في منزل جان كلاديل، لأنها كانت موجودة مسبقًا في الخزانة في المكتب. لقد لاحظ جيم المظروف المربع الصغير عندما أخرجه هانو من الخزانة. بدت الحبة كما لو أنها التُقطت من قارعة الطريق مثل علبة الكبريت الشهيرة التي قال عنها السيد بيكس. أو … نعم، كانت هناك لطخة خضراء عليها؛ ربما من العشب. جلس جيم مستقيمًا في كرسيه. كانوا جميعًا معًا في الحديقة هذا الصباح. هانو، وهو بنفسه، وبيتي، وآن أبكوت. لكن عند هذه النقطة توقفت تخمينات فروبيشر. لم تستطِع ذاكرته أو قدرته على الاستنتاج ربط هذه الحبة بالنصف ساعة التي قضوها جميعًا تحت ظلال أشجار الجميز. الشيء الوحيد الذي كان متأكدًا منه تمامًا هو الأهمية الكبيرة التي يعلقها هانو عليها. فطوال الوقت الذي كان يتعامل معها فيه ويفحصها، لم تفارق عينا هانو جيم أبدًا، ولو للحظة واحدة. كانت عيناه تتبعان كل حركة صغيرة لأطراف أصابعه بتركيز شديد، وعندما أمال جيم كفه أخيرًا معيدًا الحبة إلى مظروفها الصغير، بالتأكيد أطلق هانو نفسًا طويلًا من الارتياح.

ضحك جيم فروبيشر ببشاشة وانشراح. كان قد بدأ يفهم الرجل الذي أمامه. لم يستجلب أي علامات اندهاش من هانو بأسئلة عديمة الجدوى. بل انحنى فوق الطاولة وأخذ المذكرة الخاصة به التي كان هانو قد وضعها جانبًا من ملفه. وفتحها على الطاولة أمامه وأضاف سؤالين جديدين إلى الأسئلة التي كان قد كتبها مسبقًا. وهكذا أصبحت الأسئلة كالآتي:

(٥) ما هي بالتحديد الرسالة التي أُرسلت عبر الهاتف من باريس إلى المقر الرئيسي للشرطة وتم إخفاؤها في مظروف وضع عليه هانو كلمة «عنوان»؟
(٦) متى وأين ولماذا التُقطت الحبة البيضاء، وما معناها ومغزاها؟

بضحكة أخرى، أعاد فروبيشر المذكرة إلى هانو. بيد أن هانو قرأها ببطء وتأنٍّ. وقال بعزيمة واهنة: «كنت آمل أن أجيب عن جميع أسئلتك الليلة. لكنك ترى! نحن نفشل عند كل منعطف، ويجب على الأسئلة أن تنتظر.»

وكان يعيد ترتيب المذكرة في الملف بشكل منهجي عندما بدَت على وجه فروبيشر أمارات دهشة شديدة. فأشار بإصبعه إلى الملف.

وقال: «هذه البرقية!»

كانت هناك برقية مثبتة على الرسائل الثلاث المجهولة التي كان هانو يحتفظ بها في الملف — الرسالتان اللتان أراهما هانو لفروبيشر في باريس والثالثة التي أعطتها بيتي هارلو له ظهيرة اليوم. وكانت البرقية ملتصقة ببعضها بشريطين من الورق اللاصق على شكل صليب.

قال جيم: «هذه برقيتنا. البرقية التي أرسلتها الآنسة هارلو إلى شركتنا يوم الاثنين؛ نعم، بحق الله، يوم الاثنين الماضي.»

أذهلت البرقية جيم كثيرًا، فقد كانت أيامه مليئة بالمخاوف والتفريج، والإثارة والشكوك، والاكتشافات وخيبات الأمل، ليدرك أن اليوم ما يزال مساء الجمعة؛ وأنه في يوم الأربعاء الماضي لم يكُن قد رأى بيتي هارلو أو تحدث معها بعد. وأردف: «البرقية التي علمنا منها في لندن أنك تتولى القضية.»

فأومأ له هانو.

وقال: «نعم. لقد أعطيتني إياها.»

قال جيم: «وأنت مزقتها.»

فشرح له هانو. «فعلت. لكنني التقطتها من سلة المهملات بعد ذلك وأعدت لصقها.» وذلك دون أن يبدو مرتبكًا من حدة ذهن جيم فروبيشر. «كنت أنوي أن أثير بعض المشكلات هنا مع الشرطة لإفشائهم السر. أنا سعيد الآن لأنني التقطتها. ينبغي أن تكون أنت نفسك قد أدركت أهميتها في صباح اليوم التالي قبل حتى أن أصل إلى منزل كرينيل، عندما أخبرتَ الآنسة أنك أريتني إياها.»

أعاد جيم ذاكرته إلى الوراء. كان لديه شغف بالدقة والصرامة، وهو أمر مناسب جدًّا لشخص في مهنته.

وقال: «لم أعرف أن الآنسة هارلو تلقت الخبر برسالة مجهولة إلا عندما أتيت أنت.»

فقاطعه هانو بسرعة بعض الشيء: «حسنًا، هذا لا يهم. ما يهم بالنسبة لي هي أنه عندما تنتهي القضية ويكون عندي متسع من الوقت لهذه الرسائل، قد تكون البرقية ذات قيمة.»

قال جيم: «نعم، فهمت.» ثم كرر قوله: «فهمت» وأخذ يتململ في كرسيه؛ ثم فتح فمه إذ كاد يقول شيئًا، ثم أغلقه مرة أخرى؛ وبقي معلقًا بين الكلام والصمت، بينما قرأ هانو الملف وتأمل الأدلة التي أمامه ولم يجد فيها أي أمل.

فصاح بعنف: «إنها لا تقودني إلى أي مكان!» فاتخذ جيم فروبيشر قراره.

وقال: «سيد هانو، أنت لا تشاركني أفكارك، لكنني سأتعامل معك بطريقة أفضل؛ بغض النظر عن الجريمة التي وقعت في منزل كرينيل، أمامك لغز هذه الرسائل المجهولة الذي يجب أن تحله. يمكنني مساعدتك في هذا النطاق. فقد استُلمت رسالة أخرى.»

«متى؟»

«الليلة، بينما كنا نتناول العشاء.»

«مَن استقبلها؟»

«آن أبكوت.»

«ماذا!»

وقد قفز هانو من كرسيه وهو يهتف، فانتصب واقفًا ووجهه أبيض كجدران الغرفة، وعيناه مستعرتان بنظرة ثاقبة نحو فروبيشر. لم تكُن الأخبار أبدًا بهذا القدر من المباغتة والإدهاش.

فسأله هانو: «هل أنت متأكد؟»

أجاب جيم: «تمامًا. وصلت مع البريد المسائي؛ مع رسائل أخرى. أحضرها جاستون إلى غرفة الطعام. كانت هناك رسالة لي من شركتي في لندن، ورسالتان لبيتي، وهذه الرسالة لآن أبكوت. وقد فتحتها آن بتجهم، كما لو أنها لا تعرف من أرسلها. رأيتها وهي تفتحها. كانت رسالة مكتوبة على الورق العادي نفسه — ومكتوبة بالطريقة نفسها — دون عنوان في أعلاها. وقد شهقت عندما نظرت إليها، ثم عاودت قراءتها مرة أخرى. ثم طوتها بابتسامة ووضعتها من يدها.»

فسأل هانو يتأكد: «بابتسامة؟»

«نعم. كانت سعيدة. فقد عاد الدم إلى وجهها. واختفى القلق.»

«ولم تُرها لك؟»

«كلا.»

«ولا للآنسة هارلو؟»

«كلا.»

«لكنها كانت سعيدة، أليس كذلك؟» بدا أن هذا كان أكثر ما أثار دهشته في الأمر كله. «هل قالت أي شيء؟»

أجاب جيم: «نعم، قالت: «لقد كان دائمًا على حق، صحيح؟»»

«قالت ذلك! «لقد كان دائمًا على حق، صحيح؟»» وعاود هانو الجلوس بروية، فكأنه تحول إلى تمثال من الحجر. وبعد قليل، رفع عينه.

ثم سأل: «وماذا حدث بعد ذلك؟»

«لا شيء، حتى انتهينا من العشاء. ثم أخذت رسالتها وأومأت برأسها إلى الآنسة بيتي، التي قالت لي: «سيتعيَّن علينا أن ننصرف ونتركك تشرب قهوتك بمفردك.» ثم اجتازتا القاعة إلى غرفة بيتي. غرفة الكنز. وقد انزعجت لهذا قليلًا. فمنذ أن وصلت إلى ديجون والأشخاص الذين ألتقيهم يحاصرونني واحدًا تلو الآخر بأوامر مفادها أن أبقى هادئًا ولا أتدخل. لذا جئت أبحث عنك هنا في جراند تافيرن.»

في وقت آخر، كان هياج جيم بسبب شعوره بالإهانة ليستفز هانو إلى واحد من عروضه المؤسفة، لكنه الآن لم يلاحظ ذلك على الإطلاق.

وقال هانو: «ذهبتا لمناقشة تلك الرسالة معًا. كانت تلك الشابة سعيدة، وهي التي كانت في حالة ضيق شديد ظهيرة اليوم. إذن هناك مخرج!» كان هانو يناقش مشكلته مع نفسه، وعيناه مثبتتان على الطاولة. وتابع: «أكانت البائقة مفيدة؟ عجبًا! يا للعجب!» ثم نهض من كرسيه واجتاز الغرفة مشيًا مرة أو نحو ذلك. وقال: «أنا هانو، أنا الثور العجوز الذي خاض ١٠٠ جولة مصارعة، ها أنا في حيرة من أمري!»

لم يكُن هانو يتظاهر الآن. كان في الواقع وببساطة مندهشًا من أنه يمكن أن يكون في حيرة تامة. ثم عاد إلى الطاولة وقد تغيرت حالته المزاجية تغييرًا سريعًا.

وقال متوسلًا بصدق شديد وحتى بتواضع كبير: «في هذه الأثناء يا سيد فروبيشر، وإلى أن أتمكن من تفسير هذه الحادثة الجديدة الغريبة لنفسي، أتوسل إليك أن تعيرني مساعدتك.» وكان الخوف قد عاد إلى عينيه وبدا في صوته. كان مضطربًا إلى درجة لا يمكن لجيم فهمها. وأضاف: «لا يوجد شيء أكثر أهمية من مساعدتك. أريدك أن … كيف يمكنني أن أصيغ ذلك حتى يتسنى لي إقناعك؟ أريدك أن تبقى قدر الإمكان في منزل كرينيل … أن … أن تراقب الآنسة آن أبكوت الجميلة، إلى …»

ولم يتمكَّن من قول المزيد. إذ قاطعه جيم فروبيشر بغضب شديد.

فقال: «كلا، لن أفعل ذلك. أنت تجتاز الكثير من الحدود يا سيدي. لن أكون جاسوسًا لك. أنا لست هنا من أجل هذا. أنا هنا من أجل موكلتي. أما بالنسبة لآن أبكوت، فهي مواطنتي. لن أساعدك فيما يخالف مصلحتها. بحق الله، لن أفعل!»

نظر هانو عبر الطاولة إلى وجه «زميله الغِرِّ» المحمر بالغضب، الذي استقال الآن من مهمته وقبِل بالهزيمة دون مداولة.

ثم قال بهدوء: «لا ألومك. في الحقيقة، لم أكن أتوقع أي رد آخر. يجب أن أكون سريعًا، هذا كل شيء. يجب أن أكون سريعًا جدًّا!»

هنا سقط غضب فروبيشر عنه مثل عباءة يُلقيها المرء. فقد رأى هانو يجلس أمامه بوجه أبيض مليء بالقلق والاضطراب وعيون سطع فيها بوضوح بصيص من الرعب.

وصاح بغيظ: «أخبرني! كُن صريحًا معي لمرة واحدة! هل آن أبكوت مذنبة؟ بالطبع هي ليست وحدها، على أي حال. الأمر ينطوي على عصابة. نحن متفقون على ذلك. وابرسكي فرد منهم، بالطبع؟ هل آن أبكوت عضوة أخرى؟ هل تعتقد ذلك؟»

جمع هانو أدلته ببطء. كان هناك صراع يدور داخله. لقد أثرت ضغوط الليلة عليهما كلاهما، وكان يجد إغراءً شديدًا لا يُطاق في أن يبوح بأسراره لمرة واحدة. من ناحية أخرى، قرأ جيم فروبيشر في هانو كل تقاليد خدمته؛ التأني بشأن الحقائق، والتكتم بشأن الشكوك؛ والإنصاف. ولم يستسلم هانو للإغراء إلا بعد أن أعاد كل شيء في الخزانة مرة أخرى. وحتى حينها، لم يستطِع أن يكون مباشرًا في حديثه.

إذ قال بتردُّد، وكأن الكلمات تُنتَزع منه: «تريد أن تعرف ما أعتقد بشأن آن أبكوت؟ اذهب غدًا إلى كنيسة نوتردام وانظر إلى الواجهة. هناك سترى، بما أنك لست أعمى.»

كان واضحًا أنه لن يقول المزيد. فقد وقف بوجه عابس أمام فروبيشر، نادمًا بالفعل على أنه قال ما قال. فالتقط فروبيشر قبعته وعصاه.

وقال: «شكرًا. تصبح على خير.»

تركه هانو حتى ذهب إلى الباب. ثم قال:

«أنت غير مشغول بارتباطات يوم غد. ولن أذهب إلى منزل كرينيل. هل لديك أي خطط؟»

أجاب جيم: «نعم. سآخذ جولة بالسيارة حول المنطقة.»

فقال هانو بفتور: «نعم. الأمر يستحق. لكن تذكر أن تتصل بي قبل أن تذهب. سأكون هنا. سأخبرك بأي أخبار تطرأ. تصبح على خير.»

تركه جيم فروبيشر واقفًا في منتصف الغرفة. وقبل أن يغلق الباب، كان هانو قد نسي وجوده. والسبب في ذلك أنه كان يكرر على نفسه، بصوت يشوبه اليأس: «يجب أن أكون سريعًا! يجب أن أكون سريعًا جدًّا!»

مشى فروبيشر بسرعة ونشاط نحو ساحة إرنست رينان وشارع دي لا ليبرتي، وهو يتأمل في توجيه هانو له باستقصاء واجهة كنيسة نوتردام. كان عليه أن يتذكر ذلك وينفذه في الصباح. لكن تلك الليلة لم تكُن قد انتهت بعد بالنسبة إليه.

فعندما وصل إلى مدخل شارع تشارلز روبرت الصغير، سمع خطوات خفيفة وسريعة خلفه؛ خطوات بدت مألوفة. لذا، عندما انعطف إلى الشارع، تمهل والتفت. فرأى رجلًا طويل القامة يعبر مدخل الشارع بسرعة ويختفي بين المنازل على الجانب الآخر. توقف الرجل للحظة تحت ضوء مصباح من مصابيح الشارع عند زاوية الشارع، وكان جيم متأكدًا تمامًا من أنه هانو، حتى إنه كاد يقسم على ذلك. لم تكن هناك فنادق أو أماكن إقامة في هذا الجزء من المدينة. كان حيًّا يتألَّف من المنازل الخاصة. فما الذي يبحث هانو عنه هنا؟

وبينما هو يتأمل هذا السؤال الجديد، نسي مسألة واجهة كنيسة نوتردام؛ وعندما وصل إلى منزل كرينيل، وقعت حادثة صغيرة جعلت من المستبعد أن يتذكَّرها عما قريب. دخل جيم المنزل باستخدام مفتاح أُعطي له، وأشعل الضوء في القاعة الرئيسية باستخدام مفتاح كهربائي بجانب الباب. ثم اجتاز القاعة إلى أسفل الدرج، وكان على وشك أن يطفئ الضوء باستخدام المفتاح هناك والذي أشارت إليه آن أبكوت، وذلك عندما فُتِح باب غرفة الكنز. وظهرت بيتي في مدخله.

فقال بصوت منخفض: «ما زلتِ مستيقظة؟» وقد سرَّه أنه وجدها ما زالت مستيقظة، كما أحزنه أنها لا تحصل على القسط الكافي من النوم.

فأجابته: «نعم» وببطء لانت ملامحها وابتسمت. «كنت بانتظار نزيلي.»

ثم أبقت على الباب مفتوحًا، فتبعها ودخل إلى الغرفة.

فقالت له بيتي: «دعني أنظر إليك» وبعد أن طالعت وجهه، أضافت: «جيم، لقد حدث شيء الليلة.»

أومأ جيم برأسه.

فسألته: «وما هو ذاك؟»

فقال جيم: «لننتظر حتى يوم غد يا بيتي!»

اختفت الابتسامة عن وجه بيتي. وخبا إشراق عينيها الداكنتين الساحرتين. إذ واراهما الإرهاق والضيق.

فقالت هامسة: «إنه شيء مروع إذن؟»

«نعم» ثم مدَّت يدها إلى ظهر الكرسي لتثبت نفسها.

وقالت: «أرجوك، أخبرني الآن يا جيم! سيجافيني النوم الليلة إلا إذا أخبرتني؛ وكم أنا متعبة جدًّا!»

كان هناك تلهُّف عميق في صوتها، وإرهاق شديد في وضعية جسدها اليافع، فلم يكُن من جيم إلا أن استسلم.

وقال بلطف: «سأخبرك يا بيتي. ذهبت أنا وهانو الليلة للعثور على جان كلاديل. وجدناه ميتًا. لقد قُتل بوحشية.»

أطلقت بيتي أنينًا وأخذت تتمايل على قدميها. كانت لتسقط لولا أن أمسك بها جيم بين ذراعيه.

وهتف: «بيتي!»

دفنت بيتي وجهها في كتفه. وشعر بأنفاسها على صدره.

قالت وهي تئن: «هذا مروع! جان كلاديل! … لم يسمع به أحد حتى هذا الصباح … والآن وقع ضحية ما يحدث من أمور مرعبة؛ مثلنا جميعًا! أوه، أين سينتهي كل هذا؟»

وضعها جيم في كرسي وركع على ركبتيه بجانبها.

كانت بيتي تنتحب وقد حاول أن يرفع وجهها نحو وجهه.

فهمس يقول: «عزيزتي!»

لكنها رفضت أن ترفع رأسها.

وقالت بصوت مكتوم: «لا»، وضغطت وجهها أكثر في تجويف كتفه وتشبثت به بيدين يائستين.

فكرر: «بيتي! أنا آسف جدًّا … لكن كل شيء سيكون على ما يرام. أنا واثق من ذلك. أوه، بيتي!» وبينما كان يتحدَّث، كان يلعن نفسه بسبب تفاهة كلماته. لماذا لم يستطِع أن يجد بعض الأفكار الجميلة حقًّا ليعزيها بها؟ شيء أفضل من هذه العبارات المبتذلة مثل «أنا آسف» و«سيستقيم كل شيء»؟ لكنه لم يستطِع، وبدا أنه لم تكن هناك حاجة إلى ذلك. والسبب في ذلك أن ذراعيها التفا حول عنقه واحتضناه بقوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥