إحباط الخطة
التفَّ الطريق كشريطٍ حول سفح التلِّ، ثم انحدر إلى وادٍ غير عميق. وعلى اليسار، تحت مستوى الطريق بقليل، جرى جدولٌ سريعٌ وسط مرجٍ ضيقٍ تكسوه أعشابٌ خضراء ناعمة. وخلف المرج انتصبت جدران الوادي وعرة، تعلوها بروزات صخرية، وقد اكتسبت نباتاته اللون البني بفعل حرارة الشمس. أما على اليمين، فكانت جدران الوادي الشمالية تنتصب وقد اقتربت من حافة الطريق كثيرًا. وكان الوادي طويلًا، ومنحنياته كبيرة، وفي منتصفه تقريبًا نحو النقطة التي يختفي عندها، كان هناك طريق فرعي يتفرع نحو اليسار، وهو من الطرق التي تُشير إليها كتيبات السائقين بخط متقطع، كان الطريق يجتاز الجدول بجسر حجري، ثم يختفي داخل شق في الجدار الجنوبي للوادي. وخلف هذا التفرُّع، علا الشجر واشتد كثافةً، فغاب الجدول تحت أفيائه، كأنما توارى في جوف كهف غائر؛ كانت منحدرات الوادي على الجانبين مغطاة بأشجار كثيفة جدًّا، لدرجة أن هذا الطرف من الوادي بدا أجرد في ضوء الشمس القوي، لكنها أشجار قصيرة، كأنها اختارت أن تنسجم مع بيئتها. والحق أن الوادي كله بدا وكأنه نسخة مُصغَّرة من وادٍ حقيقي؛ فقد كان ضحلًا وضيِّقًا وقصيرًا. فكأنه أراد أن يكون واديًا ولم يفلح إلا في أن يكون غَورًا.
وحين اندفعت السيارة الصغيرة ذات المقعدين حول جانب التل وبدأت تهبطه، كان الطريق الأبيض المتعرج يمتد أمامها خاليًا إلا من نقطة صغيرة في أقصاه، ينبعث خلفها شريط من الغبار ينتشر كالدخان الخارج من مدخنة قاطرة.
قال جيم: «سَيَغمرُنا هذا الغبار ويخنقنا عندما نمرُّ به.»
ردت بيتي: «ونحن سنفعل به أكثر من ذلك» ولما نظرت خلفها من عجلة القيادة أضافت: «كلا، بل أسوأ!» وكان الغبار خلف السيارة كحجاب. ثم أضافت ضاحكة، وفي صوتها نغمة مرح سمعها جيم لأول مرة بقلب ممتن: «لكن لا يهمني، أيهمك أنت يا جيم؟ أليس رائعًا أن نغادر تلك المدينة ولو لساعة واحدة! آه!» وفتحت بيتي رئتيها للشمس والهواء. وأضافت: «هذه أول ساعة من الحرية لي منذ أسبوع!»
كان فروبيشر سعيدًا أيضًا بأنه خرج إلى منحدرات كوت دور. فمدينة ديجون كانت تضج في ذلك الصباح بجريمة قتل جان كلاديل؛ لقد كان اسمه يتردد على كل لسان، في كل شارعٍ تمر به، مقرونًا بمسحةٍ من سخريةٍ تُلقى على جهاز الشرطة. وكان يتمنى أن ينسى تلك الزيارة المروعة إلى شارع جامبيتا، والجسد المشوه المرمي على أرضية الغرفة الخلفية.
قال متعمدًا: «قريبًا، ستغادرينها نهائيًّا يا بيتي.»
فكشَّرت بيتي تكشيرة صغيرة، ووضعت يدها على كمِّه.
وقالت، وقد علا الاحمرار وجهها وانحرفت السيارة قليلًا عن الطريق: «جيم! ليس لك أن تنبس بذاك القول لفتاة تقود السيارة!» وضحكت وهي تعيد السيارة إلى مسارها، «وإلا فسأدهس سائق الدراجة النارية وتلك الفتاة في العربة الجانبية.»
فقال جيم: «الفتاة في العربة الجانبية ليست إلا حقيبة سفر!»
وكان سائق الدراجة النارية يبطئ من سرعته وهو يقترب من الطريق المتفرع، كأنه سائح لا يعرف المنطقة، وعندما وصل إلى التفرُّع توقف تمامًا وترجل عن دراجته. وأوقفت بيتي سيارتها بجانبه، ونظرت إلى الساعة ومقياس السرعة أمامها.
وسألته: «هل يمكنني مساعدتك؟»
كان الواقف بجوار الدراجة النارية شابًّا نحيفًا، أسمر اللون، ذا وجه ودود. خلع الشاب خوذته وانحنى بأدب.
وقال بصوت خشن بدا لفروبيشر مألوفًا بطريقة ما: «سيدتي، أنا أبحث عن ديجون.»
ردت بيتي: «أيها السيد، يمكنك أن ترى طرفها من خلال تلك الفجوة عبر الوادي.» وفي وسط الفجوة كانت قمة برج الكاتدرائية ترتفع كسنان رمح رقيق. «لكنني أنبهك إلى أن هذا الطريق غير مُعبد، رغم أنه أقصر.»
ومن خلال غيمة الغبار التي أخذت تتلاشى خلف السيارة سمعوا صوت دراجة نارية أخرى يقترب.
تابعت بيتي قائلة: «الطريق الذي جئنا منه أفضل بكثير.»
سأل الشاب: «لكن كم يبعد؟»
فراجعت بيتي مقياس السرعة مرة أخرى.
وقالت: «٤٠ كيلومترًا، وقد قطعناها في ٤٠ دقيقة، مما يعني أن الطريق جيد. كنا قد انطلقنا في الساعة الحادية عشرة تمامًا، والساعة الآن الثانية عشرة إلا ٢٠ دقيقة.»
تدخل جيم قائلًا: «لكن ألم نغادر قبل الحادية عشرة؟»
فقالت: «نعم، بيد أننا توقفنا لدقيقة أو اثنتين لإحكام شد رباط صندوق الأدوات على مشارف المدينة. ومن هناك انطلقنا في تمام الحادية عشرة.»
نظر سائق الدراجة إلى ساعته.
وقال: «نعم، الآن الساعة الثانية عشرة إلا ٢٠ دقيقة. لكن ٤٠ كيلومترًا! أشك إنْ كان عندي ما يكفي من الوقود. أعتقد أنني سأجرب الطريق الأقصر.»
وخرجت الدراجة الثانية من الغبار كما يخرج القارب من ضباب البحر، ثم أبطأت بجانبهم بدورها. قفز السائق من مقعده، ثم رفع نظاراته الواقية إلى جبينه، وانخرط في الحديث.
وقال: «ذلك الطريق الصغير أيها السيد، ليس من الطرق الرئيسية الرسمية. يتضح هذا من أول نظرة تلقيها عليه. لكنه ليس سيئًا. من عند الجسر الحجري يمكنك أن تصل إلى مبنى بلدية ديجون في غضون ٢٥ دقيقة.»
فقال الشاب: «أشكرك. اعذراني. لقد مكثت هنا سبع دقائق، وكان من المفترض أن أكون قد وصلت.»
ثم اعتمر خوذته وامتطى دراجته وانطلق متجهًا إلى قاع الوادي وسط ضجة وفرقعة خفيفة.
وأعاد السائق الثاني نظاراته الواقية على عينيه.
وقال مقترحًا: «هلا ذهبتِ أولًا يا سيدتي؟ وإلا أغرقتكِ بغباري.»
فقالت بيتي بابتسامة: «شكرًا لك!» وضغطت على دواسة التعشيق وانطلقت.
وبعد أن اجتازا الغابة الصغيرة وانحناءة الطريق، ارتفعت الأرض واتسع الوادي. وكان هناك طريق يقطع طريقهم بالعرض، وقد وُضعت عليه أحجار تدل على الكيلومترات، وكان يمتد من الشمال إلى الجنوب.
قالت بيتي: «الطريق إلى باريس» وهي توقف السيارة أمام نُزُل صغير ذي حديقة كثيفة عند الزاوية. ثم مدَّت عينها باتجاه باريس على طول الطريق. وأضافت «ما أجمل الهواء!» وقد تنهَّدت تنهيدة تنم عن شوقها، في حين اتقدت عيناها وتحرك فمها وكأنها تعض بأسنانها البيضاء القوية على فاكهة شهية.
قال جيم: «قريبًا يا بيتي. قريبًا جدًّا!»
وقادت بيتي السيارة إلى ساحة صغيرة على جانب النهر.
قالت: «سنتناول غداءنا هنا، في الحديقة، بين الأزهار والحشرات.»
وكان الغداء مكونًا من عجة البيض، وقطعة لحم أضلاع مطهية بإتقان وساخنة، وسلطة، وزجاجة من نبيذ «كلو دو برنس» من إنتاج عام ١٩٠٤، وقد جعل كل ذلك مدينة باريس الساحرة أقرب إليهم كثيرًا. فجلسا في الهواء الطلق تحت ظل سياج مرتفع؛ وكانت الحديقة المهملة لهما وحدهما؛ فضحكا وابتهجا بحيوية الطبيعة وجو شهر مايو الصحو، وبدأت تتفتح أمام عيني جيم فروبيشر وتتراءى له رؤى من الدهشة والعجب.
لكن بيتي أزاحت تلك الرؤى بعد أن أشعل هو سيجارته، وأشعلت هي سيجارتها، وكان بخار القهوة يتصاعد من الفناجين الصغيرة أمامهما.
إذ قالت: «لكن عمليين يا جيم. أريد أن أتحدث إليك.»
وكان بريق المرح قد فارق وجهها.
فسألها: «بشأن ماذا؟»
فقالت، وعيناها تجولان حتى استقرتا على وجهه: «بشأن آن. يجب أن ترحل.»
هتف جيم مندهشًا: «تهرب؟»
«نعم، فورًا وبسرية تامة.»
تأمل جيم الاقتراح بينما كانت بيتي تنتظر بقلق.
وقال معترضًا: «لن يكون ذلك ممكنًا.»
«بل ممكن.»
«وحتى لو كان ممكنًا، هل ستوافق هي؟»
«إنها موافقة.»
فقال ببطء: «بالطبع هذا يعني الإقرار بالذنب.»
«كلا يا جيم. هي فقط تحتاج إلى بعض الوقت. ما يكفي من الوقت لتتبُّع العقد الخاص بي، وفضح قاتل جان كلاديل. هل تتذكر ما أخبرتك به عن هانو؟ لا بد أن يحصل على ضحيته. لم تصدقني، لكن كلامي حقيقي. عليه أن يعود إلى باريس ويقول: «أرأيتم؟ لقد استدعوني من ديجون، واستغرقت خمس دقائق فقط! هذا كل ما احتجت إليه! خمس دقائق قصيرة، وهذه هي القاتلة أمامكم، مقيدة ومأمونة الجانب!» لقد حاول إلصاقها بي أولًا.»
قال: «كلا.»
«بل فعل يا جيم. والآن وبعد أن أخفق، التفت إلى آن. سيتوجب عليها الرحيل. سيأخذ صديقتي بما أنه لم ينَل مني، نعم، وسيُلفق الأدلة أيضًا.»
احتج جيم: «بيتي! هانو لا يمكن أن يفعل ذلك!»
قالت: «لكنه فعل، يا جيم.»
«متى؟»
قالت: «عندما أعاد كتاب الرجل الأسكتلندي عن سم السهام إلى رفوف المكتبة.»
وكان وقع هذا الجواب على جيم كالصاعقة.
«هل كنتِ تعلمين أنه فعل ذلك؟»
فأجابت: «لم يكن بمقدوري إلا أن أعلم. فما إن أنزَل الكتاب حتى أصبح الأمر واضحًا لي. كان يعرفه عن ظهر قلب، كأنه كتاب أبجدية. كان يعرف أين يجد الرسوم، وتاريخ السهم الخاص بعمي، وتأثير السم، وطريقة تحضير محلوله في لحظة. وتظاهر بأنه تعلَّم كل ذلك في نصف الساعة التي انتظرَنا فيها. لم يكُن ذلك ممكنًا. لقد عثر على ذلك الكتاب في مكان ما ظهر اليوم السابق وأخذه معه سرًّا، وبقي ساهرًا طوال الليل يدرسه. هذا ما فعله.»
غرق جيم فروبيشر في حيرة وارتباك. لقد ظلَّ يتكهَّن أولًا بهذا الشخص ثم بذاك، وفي النهاية كان يتعين أن يخبره أحد بالحقيقة؛ في حين أن بيتي أبصرتها في لحظة. فشعر وكأنه لم يتجاوز في حلبة المصارعة دقيقة ونصف.
وأضافت بيتي بازدراء حاد:
«ثم بعد أن حفظ كل شيء عن ظهر قلب، أعاده خفية إلى الرف واتهمنا.»
قال جيم ببطء: «لكنه اعترف بأنه أعاده.»
فارتبكت بيتي.
«متى اعترف بذلك؟»
أجاب جيم: «الليلة الماضية. لي أنا»، فضحكت بيتي بمرارة. كانت ترفض سماع أي شيء حسن عن هانو.
«نعم، بعدما وجد ما هو أقوى كي يستند إليه.»
«أقوى؟»
«اختفاء عقدي. أوه يا جيم، يجب على آن أن تغادر. لو استطاعت الوصول إلى إنجلترا، فلن يستطيعوا إعادتها، أليس كذلك؟ ليس لديهم أدلة كافية. مجرد شكوك فوق شبهات. لكن الأمر مختلف هنا في فرنسا، صحيح؟ يمكنهم احتجاز الناس بناءً على الشبهات، وإبقاؤهم في الحبس الانفرادي واستجوابهم مرارًا وتكرارًا. أما تذكر ظهيرة البارحة في الردهة يا جيم؟ ظننت أن هانو سيلقي القبض عليها في الحال.»
أومأ جيم فروبيشر برأسه.
«ظننت ذلك أنا أيضًا.»
لقد صدمه اقتراح بيتي قليلًا، لكن كلما اعتاد عليه أكثر، رآه معقولًا أكثر. كانت هناك حجة قاطعة تؤيد هذا الاقتراح، لم يخبر بها بيتي، لا هو ولا هانو. فقد عُثر على ساق السهم في غرفة آن أبكوت، وعلى رأس السهم في منزل جان كلاديل. تلك كانت حقائق قاطعة. وبالنتيجة، كان من الأفضل أن ترحل آن، ما دام هناك متسع من الوقت الآن؛ إن كان هانو يعتقد بالفعل أنها مذنبة.
هتفت بيتي: «لكن من الواضح أنه يعتقد ذلك!»
أجاب جيم ببطء:
«أظنه يعتقد ذلك. يمكننا أن نتأكد على أي حال. راودني شك ليلة البارحة. فسألته بصراحة.»
سألت بيتي بلهفة: «وأجابك؟»
«نعم ولا. أعطاني جوابًا غريبًا للغاية.»
«ماذا قال؟»
قال جيم: «أخبرني أن أزور كنيسة نوتردام. وإن فعلت، فسأقرأ على واجهتها إن كانت آن بريئة أم لا».
تلاشت الألوان من وجه بيتي ببطء. وظلت تحدِّق فيه بعينين مذعورتين. جلست كتمثال من ثلج؛ عدا عينيها اللتين كانتا تلمعان.
ثم قالت بصوت خفيض: «هذا مروِّع»، وكررتها. ثم وقفت فجأة وهي تهتف: «سترى! هلمَّ!» وهرعت نحو السيارة.
فسدت بهجة النهار المشمس بالنسبة إلى كلتيهما. قادت بيتي السيارة عائدة إلى المنزل، فكانت منحنية فوق عجلة القيادة، وعيناها مثبتتان إلى الأمام. لكن فروبيشر تساءل إن كانت ترى شيئًا على الإطلاق من ذلك الطريق الأبيض الذي كانت السيارة تنهبُه. ولم يكن منها إلا أن تحدثت مرة واحدة، وهما يهبطان من المرتفعات والغابات إلى السهول، إذ قالت:
«هل سنلتزم بما نراه؟»
«نعم.»
«إنْ كان هانو يظنها بريئة، فلتبقى. وإنْ ظنَّها مذنبة، فيجب أن ترحل.»
قال فروبيشر: «نعم.»
قادَت بيتي السيارة خلال شوارع المدينة حتى وصلت إلى ساحة واسعة. وتوقفا أمام كنيسة ضخمة من طراز عصر النهضة، لها قبب مثمنة على برجَيها، وقبة صغيرة ثالثة يعلوها لوجي فوق شرفتها. أوقفت بيتي السيارة وتقدمت فروبيشر إلى داخل الرواق. فوق الباب كان هناك نقش بارز كبير ليوم القيامة، الله بين الغيوم، والملائكة ينفخون في الأبواق، والملعونين يقومون من قبورهم ليذوقو العذاب. فوقفا يحدقان إلى هذا المشهد صامتَين. بالنسبة إلى فروبيشر، كان ذلك العمل قاسيًا ووحشيًّا، ينسجم تمامًا مع كشف هانو عن معتقده الحقيقي.
فقال: «نعم، الرسالة واضحة للعيان»، ثم عادا في صمت كئيب إلى منزل كرينيل.
تقدم السائق جورج من الجراج ليتولى أمر السيارة. وركضت بيتي إلى داخل المنزل وانتظرت حتى لحق بها جيم فروبيشر.
وقالت بصوت متهدج: «أنا آسفة جدًّا. كنت أحتفظ ببعض الأمل في داخلي أننا كنا مخطئين … أعني بشأن الخطر الذي يتهدد آن … طبعًا لا أصدق للحظة أنها مذنبة. لكن عليها أن تغادر، هذا واضح.»
ثم صعدت السلالم ببطء، ولم يرَها جيم مرة أخرى إلا وقت العشاء الذي تأخر يومها كثيرًا عن موعده المعتاد. أما آن أبكوت فلم يرها طَوال ذلك اليوم، ولا حتى أثناء العشاء. وقد جاءته بيتي في المكتبة قبل التاسعة ببضع دقائق.
قالت بيتي مبتسمة: «يؤسفني أننا تأخرنا جدًّا على العشاء. نحن الاثنان فقط يا جيم من سنتناول العشاء»، وتقدمته إلى غرفة الطعام.
طوال العشاء، كانت شاردة الذهن وقلقة، تومئ برأسها موافقة على كل ما يقوله جيم، بينما عقلها في مكان آخر، وترد عليه بأجوبة عشوائية، أو لا ترد إطلاقًا. ظنَّ فروبيشر أنها كانت تنصت لصوت ما في الردهة، صوت كانت تتوقعه وقد تأخر. ذلك أن عينيها كانتا تتجهان إلى الساعة باستمرار، وكان الاضطراب والانفعال يتزايدان في سلوكها، وهما أمران غريبان على طبيعتها الهادئة. وأخيرًا، قبيل العاشرة، سمعا صوت بوق سيارة في الشارع الهادئ. توقفت السيارة، كما بدا لفروبيشر، أمام البوابة مباشرة، ثم تبع ذلك الصوت الذي كانت بيتي تنتظره بقلق بالغ؛ صوت إغلاق باب ثقيل من قبل شخص يحاول إغلاقه بهدوء. رمقت بيتي فروبيشر بنظرة سريعة واحمرَّ وجهها حين التقت أعينهما. وبعد ثوانٍ تحركت السيارة من جديد، وتنهَّدَت بيتي تنهيدة طويلة. فمال جيم نحوها. وقال بصوت منخفض، رغم أنهما كانا وحدهما في الغرفة:
«آن أبكوت رحلت إذَن؟»
«نعم.»
«بهذه السرعة؟ إذَن كنتما قد خططتما لكل شيء سلفًا؟»
«رتبنا كل شيء مساء البارحة. من المفترض أن تصل إلى باريس صباح الغد، وإلى إنجلترا مساءً. هذا إن سار كل شيء على ما يرام!»
ورغم قلقها، لاحظت بيتي نبرة ضيق خفيفة في أسئلة جيم فروبيشر. فقد استُبعد من خطط الفتاتين، واتُّخذت القرارات من دونه، وأُبلغ بها في اللحظة الأخيرة، كما لو كان ثرثارًا لا يُوثق به، أو غير كفء لا جدوى من استشارته. فبادرت بيتي إلى تقديم العذر.
فقالت: «كان من الأفضل بالطبع لو استعنا بك يا جيم. لكن آن رفضت ذلك. فقد أصرت على أنك جئت إلى هنا بسببي، ولا ينبغي أن تتورَّط في شيء كهروبها هذا. وقد اشترطت هي ذلك، فاضطررت إلى الموافقة. لكن يمكنك الآن أن تساعدني كثيرًا.»
هدأ جيم وشعر بالرضا. فبيتي، على الأقل، أرادت مساعدته، وكانت قلقة من أن يفشل مخططهما الذي وُضع من دونه.
«كيف أساعدك؟»
«يمكنك أن تذهب إلى السينما وتبقي السيد هانو منشغلًا. من المهم ألا يعلم شيئًا عن هروب آن حتى وقت متأخر من الغد.»
ضحك جيم من عبث محاولة هانو التخفِّي. كان واضحًا أن جميع مَن في المدينة يعرفون أنه يقضي أمسياته في «جراند تافيرن.»
فقال: «حسنًا، سأذهب. سأغادر الآن.»
لكن هانو لم يكن في مكانه المعتاد تلك الليلة، فجلس جيم هناك وحده حتى العاشرة والنصف. ثم خرج رجل من إحدى غرف البلياردو، ووقف خلف جيم وعيناه على الشاشة، وهمس يقول:
«لا تلتفت إليَّ يا سيدي! إنه مورو. سأخرج، هل تتفضل باللحاق بي؟»
ومضى مبتعدًا. فانتظر جيم دقيقتين. وكان قد تذكر نصيحة هانو فدفع ثمن شرابه حين أُحضِر إليه. ثم وضَع الصحن الصغير مقلوبًا ليُظهر أنه لا يدين بشيء. وبعد انقضاء الدقيقتين، خرج يتمشى بهدوء دون أن يلتفت يمنة أو يسرة، وتوجه نحو شارع دو لا جار. وعندما وصل إلى ساحة دارسي، مر به نيكولا مورو دون أن تبدو عليه أي علامة على أنه يعرفه، ثم انحرف إلى اليمين عبر شارع ليبرتي. فتبعه فروبيشر بقلب يعتصره القلق. كان من الحماقة أن يظن أن من السهل خداع هانو بهذه الطريقة. حتمًا أوقفت تلك السيارة. وحتمًا صارت آن أبكوت خلف القضبان! فقد كانت آخر كلمات سمعها من هانو هي: «يجب أن أسرع!»
انعطف مورو إلى جادة سيفيني، ثم عاد أدراجه إلى ساحة المحطة، وانسل إلى داخل أحد الفنادق الصغيرة التي تتجمع في تلك الناحية. كان بهو الفندق خاليًا، وبه سلم ضيق وشديد الانحدار يصله بالطوابق العليا. صعد مورو الدرج وفي أعقابه فروبيشر، ثم فتح بابًا. تطلَّع فروبيشر إلى غرفة جلوس صغيرة وكئيبة في مؤخر المكان. كانت النوافذ مفتوحة، لكن المصاريع مغلقة. وكان ثم مصباح واحد يتدلى من منتصف السقف يضيء الغرفة، وتحت ذلك المصباح جلس هانو منحنيًا فوق خريطة.
كانت الخريطة موسومة بالحبر الأحمر بطريقة غريبة. دائرة تشبه إلى حد بعيد مضرب تنس بلا مقبض، وقد رُسم عليها، من قاعدتها إلى أعلاها، خط متعرِّج يقسمها تقريبًا إلى نصفين. ترك مورو جيم فروبيشر واقفًا، وبعد لحظات رفع هانو عينيه.
وقال بجديَّة كبيرة: «هل كنت تعلم يا صديقي أن آن أبكوت ذهبت الليلة إلى حفلة التنكر التي تقيمها السيدة لو فاي؟»
فوجئ فروبيشر تمامًا.
وتابع هانو: «كلا، أرى أنك لم تكُن تعلم.» ثم تناول قلمه، ووضع نقطة حمراء عند طرف الدائرة قرب قاعدتها.
استفاق جيم من دهشته. كانت حفلة السيدة لو فاي هي النقطة التي يفترض أن تبدأ منها الخطة. لم تكُن الخطة سيئة التصميم في نهاية المطاف، لو استطاعت آن الوصول إلى الحفلة دون أن يلاحظها أحد. فهي متنكرة وسط حشد من الناس بملابس تنكرية، في منزل بحديقة فُتحت بلا شك لأجل هذه الليلة الحارة وفي منزل يُضاء بفوانيس خافتة؛ كانت هذه أفضل فرصة لها كي تتمكن من الهرب. لكن الفرصة ضاعت بالفعل. إذ إن هانو وضع قلمه مجددًا وقال بنبرة تنذر بالشؤم:
«ذهبت بزي زهرة الزنبق، أليس كذلك؟ تلك الزنبقة الجميلة يا صديقي لن ترقص الليلة بفرح كبير.»