المنزل السري
كانت ليلة صافية ومظلمة، والهواء ساكن ودافئ، والسماء تزهو بعدد لا يُحصى من النجوم. تسلَّلت المجموعة الصغيرة إلى قلب المدينة عبر الأزقة الخلفية والممرات الضيقة. كان دونيه يتقدَّمهم، ويأتي باتينو آخرهم متأخِّرًا بثلاثين ياردة تقريبًا، بينما سار مورو في الجهة المقابلة من الشارع. وما إن تجاوزوا أنوار ساحة المحطة، حتى صاروا يسيرون بين أبواب موصدة ونوافذ مُغلَقة لمنازل دامسة. كان قلب جيم فروبيشر يخفق بعنف داخل صدره. وقد أرهف سمعه وأمعن بصره عله يلتقط دليلًا على أن هناك مَن يتعقَّبهم. لكن لم يكُن ثمة من يتوارى في أحد مداخل المنازل، ولم تحمل الريح إلى آذانهم أكثر الأصوات خفوتًا لتدل على وجود مَن يُلاحقهم.
فقال بصوت حاول عبثًا أن يجعله ثابتًا، لكن بقي فيه شيء من الارتجاف: «في ليلة كهذه، يمكن سماع وقع الأقدام على الحجارة من مسافة ربع ميل، ونحن لا نسمع شيئًا. ومع ذلك، إن كانت هناك عصابة، فكيف يُعقل أنهم لا يراقبوننا؟»
وقد خالفه هانو الرأي. إذ رد وهو يخفض صوته: «هذه ليلة تصلح للذرائع؛ الذرائع القوية والمُحكمة التي لا يمكن الطعن فيها. سيكون الجميع مع أصدقائهم علنًا؛ عدا المنخرطين في هذا الأمر انخراطًا مباشرًا، وأولئك لا يعلمون كم اقتربنا من أسرارهم.»
ثم انعطفوا إلى زقاق ضيِّق وساروا بمحاذاة جانبه الأيسر.
وسأل هانو: «هل تعرف أين نحن؟ لا تعرف؟ نحن الآن قريبون من منزل كرينيل. فخلف هذه البيوت التي عن يسارنا، يمتد شارع تشارلز روبرت.»
فتسمَّر جيم فروبيشر فجأة.
وهتف: «جئتَ إلى هنا ليلة أمس إذَن بعد أن تركتُك في مقر الشرطة؟»
فأجابه هانو بهدوء لا يتزعزع: «آه، إذَن فقد عرفتني! كنت أتساءل إن كنت فعلت، حين التفت عند بوابة دارك.»
على الجانب الآخَر من الشارع، قطع تسلسل البيوت سور عالٍ كان له بابان خشبيَّان ضخمان. ومن خلف السور، عند نهاية أحد الأفنية، كان الطابق العلوي وسطح بيت فخم يرتفعان بانحدار شديد تحت السماء المرصعة بالنجوم.
فأشار هانو إلى ذلك البيت.
«انظر إلى ذلك المنزل أيها السيد! جاءت السيدة رافيار لتقيم هناك بينما تنتظر أن تُطلق يداها. إنه يتبع منزل كرينيل. وبعد أن تزوجت من سايمون هارلو، لم يؤجروه قط، بل أبقوه كما هو، مَقامًا لحبهما العظيم؛ يا لهما من زوجين رومانسيين عجيبين. لكن، لا شك في أن هناك دلالة رومانسية أكبر. فمنذ ذلك الحين وهو مهجور.»
شعر جيم فروبيشر ببرودة تطبق على قلبه. أهذا هو الهدف الذي يقوده إليه هانو بهذه الخطى الواثقة؟ أخذ يحدِّق في البوابة والمنزل. حتى في الظلام، بدا المنزل موحشًا ومتآكلًا، وكان طلاء الأبواب متقشِّرًا، ولا ضوء يشعُّ من أي نافذة.
لكن كان ثمة من هو مستيقظ في الشارع، فقد انفتحت بحذر شديد إحدى النوافذ فوق رءوسهم مباشرة، وسُمع همس يتسرَّب إليهم.
«لم يظهر أحد.»
لم يُبدِ هانو أي رد فعل تجاه الهمسة. ولم يتوقف عن سيره حتى، لكنه قال لفروبيشر:
«كما سمعت، ما زال مهجورًا.»
عند نهاية الشارع، اختفى دونيه في العتمة. وعبر هانو وفروبيشر الطريق بينما كان مورو يتقدمهم مباشرة، وانعطفوا في ممر ضيِّق بين البيوت على اليمين.
ومن بعده انعطفوا مجددًا إلى اليمين في ممرٍّ ضيِّقٍ آخر بين جدران عالية؛ وبعد أن قطعوا نحو ٣٠ ياردة، رأى فروبيشر فروع الأشجار الوارفة تمتد خلف الجدار عن يمينه. كانت الظلمة هنا تحت الأغصان كثيفة إلى درجة أنه لم يعد يرى رفيقَيه، واصطدم بمورو قبل أن يدرك أنهم بلغوا نهاية المسير. كانوا الآن خلف حديقة المنزل الذي عاشت فيه السيدة رافيار وأحبَّت.
شدَّ هانو قبضته على ذراع جيم فروبيشر يجبره على الوقوف بلا حراك. وكان باتينو قد اختفى كما اختفى دونيه من قبل، في صمت تام وبلا أثر. وقف الرجال الثلاثة الباقون في الظلام ينصتون. وترددت في ذهن فروبيشر عبارة قالتها آن أبكوت في حديقة منزل كرينيل، وهي تصف الفزع الذي تملَّكها حين شعرت بوجه يميل عليها في الظلمة. كان قد ظنَّها تبالغ. لكنه الآن يتراجع عن حكمه. إذ خُيل إليه أن ضربات قلبه حتمًا ستوقظ كل من في ديجون.
ظل الرجال على تلك الحال دقيقة كاملة، ثم انحنى نيكولا مورو بإشارة من هانو. وسمع فروبيشر كفَّه ينزلق فوق الخشب، وأعقب ذلك طقطقة خافتة جدًّا، وهو يُدخل مفتاحًا في القفل ويديره. ودون أي صوت، انفتح باب في الجدار وانبثق منه خيط من الضوء إلى الزقاق. ودلف الرجال الثلاثة إلى حديقة يعمُّها العشب البري والشجيرات المتشابكة. ثم أغلق مورو الباب خلفهم وأقفل القفل. وفي اللحظة التي استقر فيها القفل، دقت ساعات المدينة معلنة انتصاف الساعة.
همس هانو في أذن فروبيشر:
«لم يبلغوا فال تيرزون بعد. هلم بنا!»
ثم تقدَّموا يتسللون فوق بساط الحشائش والأعشاب إلى مؤخرة المنزل. وكانت هناك درجات حجرية قصيرة يعلوها العفن تهبط من الشرفة؛ ووراء الشرفة نوافذ مغلقة بالمصاريع. لكن في زاوية المنزل، على مستوى الحديقة، كان ثَمَّ باب. فانحنى مورو مرة أخرى، ومجدَّدًا انفتح الباب إلى الداخل بصمت تام. لكن هذا الباب، على خلاف باب الحديقة، لم يُدخل معهم أي بصيص من النور، بل انفتح على ظلمة حالكة كجوف القبر. فتقهقر جيم فروبيشر خطوة، لم يكُن خائفًا، بل كان يرهب أن يرى رجلًا غيره يرتدي ملابسه ويقطن جسده يخرج من هذا الباب من خلفه. فتوقف قلبه لوهلة، ثم دفعه هانو برفق إلى داخل الممر. وأُغلِق الباب خلفهم، وتناهى إليه صوت خافت بالكاد يُسمع ينبئ بأن الباب قد أُقفل.
فهمس هانو بصوت حاد: «أصغِ!» فقد التقطت أذنه المدرَّبة صوتًا من داخل المنزل فوق رءوسهم. وفي لحظة، التقطه فروبيشر أيضًا، صوتٌ منتظم ومستمر وخافت للغاية، لكنه بدا موحشًا في هذا البيت المهجور الغارق في الظلام. وتدريجيًّا، أدرك جيم ما هو.
قال متنهِّدًا: «إنه صوت ساعة!»
فأجابه هانو، «نعم! ساعة تدُقُّ في منزل مهجور!» ورغم أنه نطق بكلماته نفخًا أكثر منه همسًا، فقد قالها بشيء من الانفعال الذي لم يخفَ على جيم. لقد التقط الصياد أثر فريسته. وباتت الطَّريدة قاب قوسين أو أدنى.
وفجأةً، أضاء خيط من النور الممرَّ، ليكشف عن درج صغير يؤدي إلى باب على اليمين في أعلاه، ثم انطفأ النور. إذ أعاد هانو مصباحه الكهربائي إلى جيبه، وتجاوز مورو متقدِّمًا كلا رفيقَيه. ثم انفتح الباب عند أعلى الدرج بصرير مفاجئ صادر من مفاصله. فتوقف فروبيشر وقد بلغ قلبه حنجرته، وإن كان لا يعرف ممَّ يخشى بالتحديد. ثم أضاء المصباح من جديد، وهذه المرة أخذ يستكشف ما حوله. وقد وجد الرجال الثلاثة أنفسهم في ردهة مرصوفة بالحجر.
اجتاز هانو الردهة، وأطفأ المصباح، وفتح بابًا آخر. ومن خلال مصراع نافذة مكسور يتدلَّى على مفصل، تمكَّنوا من رؤية ردهة طويلة تمتد في الظلمة. وكان الضوء الخافت الداخل من النافذة يُظهر لهم بابًا مزدوجًا عاليًا يؤدي إلى غرفة في مؤخرة المنزل. تقدَّم هانو بخطى متسلِّلة، وألصق أذنه بأحد لوحي الباب. وبعد لحظات، بدا له أنه قد اطمأن لما سمع، فأنزل يده إلى المقبض، وانفتح الباب دون أن يُحدث أدنى صوت. ثم أضاء المصباح مرة أخرى. فظهرت أمامهم غرفة فسيحة عالية السقف، نوافذها الطويلة محجوبة بستائر سميكة من حرير أحمر مزركش، وعلى نحو مفاجئ لفروبيشر، بدت الغرفة مأهولة وتستخدم يوميًّا. إذ كان كل شيء فيها منظم ونظيف، والأثاث لامع ومحفوظ، وفي المزهريات زهور جديدة وطازجة تعبق الأرجاء برائحتها؛ وكان موضع الساعة التي تدق فيه هو رف المدفأة الرخامي.
كانت الغرفة مُؤثَّثة بذوق أنيق يتميز بالرقة، باستثناء خزانة فخمة وضخمة ذات أبواب مزدوجة مصنوعة من الخشب المطعَّم، تحتل تجويفًا قرب المدفأة. وعلى الجدران كان ثمة مرايا بواجهات مذهَّبة ومصابيح كهربائية، وعدد من اللوحات المائية. وكانت هناك ثُريَّا تتلألأ متدلية من السقف، وطاولة كتابة على الطراز الإمبراطوري قرب النافذة، وأريكة وثيرة تمتد بمحاذاة الجدار المقابل للمدفأة. لاحظ جيم فروبيشر كلَّ ذلك بسرعة، قبل أن ينطفئ المصباح مرة أخرى. وقد أغلق هانو الباب من خلفهم.
وقال هامسًا حين عادوا إلى الرواق الطويل: «يمكننا أن نختبئ في تجاويف هذه النوافذ. لن يُضاء نور في هذه الغرفة ما دام ذلك المصراع معطوبًا، هذا أكيد. فلنراقب الآن بصمت تام.»
واتَّخذوا مواقعهم جميعًا مستترين بالظلمة الدامسة بجوار النافذة ذات المصراع المكسور. كانوا يستطيعون رؤية فناء المنزل والبوابتين الكبيرتين عند نهايته رؤية خافتة، فأخذوا ينتظرون؛ وكان جيم فروبيشر تحت وطأة توتُّر رهيب وتوقُّع مُرعب، حتى خُيِّل إليه أن كل ثانية تمرُّ تُعادل ساعة، وقد عجِب سرًّا من ثبات رفيقَيه. إذ لم يكُن يسمع أي صوت أنفاس سوى صوت أنفاسه هو.
وبعد برهة، وضع هانو يده على ذراعه، واشتدَّ قبضه عليها شيئًا فشيئًا. ورغم وقوف جيم بلا حراك كأنما أصيب بتشنُّج، كان هانو هو الآخر ينتابه انفعال شديد. فقد انفرج أحد مصراعي باب الفناء الواسع في صمتٍ. ولم يتجاوز انفراجه اليسير، ليعود فينغلق بالصمت نفسه. بيد أن أحدهم انسلَّ إلى الداخل؛ كان خيالًا غامضًا، وسريعًا، وصامتًا إلى حدٍّ جعل جيم يظن أن مخيلته خدعته وهيأت ذلك له، لولا تلك الكتلة شديدة السواد عند منتصف البوابة الكبيرة. فثمَّة من يقف الآن حيث لم يكُن أحد قبل دقيقة، يقف ثابتًا كأحد المراقبين المختبئين في الرواق، بل أكثر سكونًا من أحدهم. إذ تحرَّك هانو فجأة على أطراف أصابعه إلى أعماق الظلام، ثم جلس على عقبيه، وأخرج ساعته من جيبه. ثم جذب معطفه حولها وأومض بمصباحه على قرصها مجرد لمحة قصيرة. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة بخمس دقائق.
همس وهو يزحف عائدًا إلى مكانه: «حان الوقت. استمعوا الآن!»
مضت دقيقة، ثم أخرى. وجد فروبيشر نفسه يهتز كما يهتز المرء عند المصوِّر حين يُطلب منه أن يبقى ساكنًا. شعر وكأنه على وشك السقوط. ثم التقطت أذنه صوتًا بعيدًا، وفورًا هدأت أعصابه. كان صوت دراجة نارية، وراح الصوت يعلو ويعلو. وقد شعر بتوتُّر هانو بجانبه. لقد كان هانو على صواب إذَن! ترسَّخت هذه القناعة في ذهنه أكثر. فحين كان كل شيء غامضًا ومشوَّشًا عليه، كان هانو يرى بوضوح منذ البداية. لكن ما الذي رآه؟ لم يكُن فروبيشر يستطيع الإجابة عن هذا السؤال بعد، وبينما كان يتخبَّط في ظنونه، اجتاحه شعور عارم بالارتياح. فقد توقَّف صوت الدراجة تمامًا. كانت قد اخترقت أحد الشوارع المجاورة وانطلقت نحو الريف المفتوح. لم يعُد يسمع لمحركها أدنى صوت. لقد اجتاز ذلك المسافر الليلي مدينة ديجون ونجح في الانطلاق في طريقه.
وفي هدوء وارتياحه، تخيُّله يلتهم الطريق، ومصباحه يزاحم نجوم السماء بضوئه، والأميال تمتد وتزداد من خلفه؛ وفجأةً، تلاشى ذلك المشهد السارُّ من أمام ناظريه، وخفق قلبه كأنما سيرقى إلى حلقه. فقد فُتح مصراع من مصراعي البوابة الكبيرة فتحة أكثر هذه المرة، ثم أُغلق، وكانت الدراجة النارية ذات العربة الجانبية داخل الفناء. وقد حرَّر السائق قابض تعشيق التروس وأوقف محركه على بُعد أكثر من ١٠٠ ياردة في الشارع الآخر. وكانت سرعته الذاتية كافية، بل أكثر من كافية، لتدفعه نحو المنعطف ومنه إلى داخل الفناء. ثم دنا الرجل الذي أغلق الباب من سائق الدراجة النارية بعد أن ترجَّل عنها. ورفعا معًا شيئًا من العربة الجانبية ووضعاه على الأرض. ثم فتح الحارس الباب مرة أخرى، وأخرج السائق دراجته للخارج، وأُغلق الباب، ودار المفتاح في قفله. وفي غضون ذلك، لم ينطق أي منهما ولو بكلمة واحدة أو يصدر حركة غير ضرورية. حدث كل ذلك خلال بضع ثوانٍ. وقف الرجل قرب البوابة، وبعد قليل، سُمع من أحد الشوارع صوت محرِّك الدراجة من جديد. لقد أُنجزتَ مهمته.
تساءل جيم فروبيشر مندهشًا عن السبب الذي جعل هانو يتركه يرحل. لكن هانو لم يكن يسترعي انتباه سوى الرجل الذي بقي، والحمولة الكبيرة الموضوعة على الأرض بجوار الجدار الجانبي الغلف. تحرَّك الرجل نحو تلك الحمولة، وانحنى فوقها، ورفعها بجهد ظاهر، ثم وقف حاملًا إياها بين ذراعيه. كان الشيء طويلًا وثقيلًا بلا معالم واضحة. هذا فقط ما أمكن للمراقبين في الرواق أن يروه.
تحرَّك الرجل في الفناء نحو الباب بلا صوت، وجذب هانو رفيقيه مبتعدًا عن النافذة ذات المصراع المكسور. ورغم سرعة حركتهم، استطاعوا بالكاد الإفلات من النور الخافت المنبعث. فقد كان المتسلل بالفعل ومعه حمولته داخل الرواق. ولم يكن الباب الأمامي موصدًا كما تبين. لم يتطلب الأمر أكثر من لمسة لفتحه. فتحرَّك المتسلِّل بلا صوت نحو الباب المزدوج، وقد ترك هانو أحد مصراعيه مفتوحًا. ووقف أمامه، ودفعه بقدمه، فانفتح الجانبان معًا. ثم اختفى داخل الغرفة. ولكن النور الضبابي الخافت سقط عليه للحظة، ورغم أن أحدًا لم يستطع تخمين هويته، فقد رأوه جميعًا وهو يحمل كيسًا ثقيلًا.
ظنَّ فروبيشر أن هانو سيتحرك الآن، في جميع الأحوال. لكنه لم يفعل. سمعوا جميعًا صوت الرجل، لكن لم يسمعوا وقع خطواته، بل احتكاك ملابسه بالأثاث: ثم جاء صوت ناعم، بالكاد يُسمع، كأنما وضع حمولته على أريكة وثيره: ثم عاد فظهر عند عتبة الباب، وذراعاه فارغتان، وقبعته مضغوطة على جبينه، وبياض باهت حيث يفترض أن يكون وجهه. ورغم الظلام، رأوا لمعان عينيه.
قال فروبيشر في نفسه: «الآن سيقبض عليه هانو!» متوقعًا أن ينقضَّ عليه فجأة ويطرحه أرضًا.
لكن هانو ترك هذا الرجل أيضًا وشأنه. أغلق الرجل الأبواب بهدوء حيث جمع المصراعين ثم غادر المعرض. لم يُسمع صوت الباب الخارجي وهو يُغلق، لكن دوَّى داخل المنزل على نحو مفاجئ صوت كأنه معدن فوق حجر. وهنا فهم حتى جيم فروبيشر أن الباب الخارجي قد أُقفل، وأن المفتاح قد أُسقِط من خلال فتحة الرسائل. زحف الرجال الثلاثة عائدين إلى نافذتهم. فرأوا المتسلِّل يعبر الفناء، ويفتح مصراع البوابة الكبيرة، ويتلفَّت يمنة ويسرة، ثم يغادر. ومرة أخرى، دوَّى صوت مفتاح على الحجر. لقد دُفع أو رُكل تحت الباب إلى داخل الفناء. دقَّت الساعات معلنة ربع الساعة. ولدهشة فروبيشر، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة والربع. منذ لحظة دخول الدراجة النارية إلى الفناء وحتى الآن، لم يمرَّ أكثر من خمس دقائق. ومرة أخرى، خلا المنزل من أهله عدا الرجال الثلاثة.
فهل كان خاليًا فعلًا؟
انسلَّ هانو إلى باب الغرفة وفتحه؛ وانبعث صوت طفيف من تلك الحجرة الدامسة، كصوت شيء حيٍّ يتحرَّك في تململ. وعند مرفق جيم فروبيشر تنفَّس هانو الصعداء. يبدو أن أمرًا ما قد حدث، وبالكاد كان يجرؤ أن يعلق أمله عليه؛ خوف كبير كان يخشاه، وتبيَّن له الآن أنه لم يتحقَّق. ثم دوَّى فجأة صوت طقطقة حاد، ثم صوت زنبرك ينفلت، ثم مزلاج يُسحب. أغلق هانو الباب بسرعة، وابتعد الرجال الثلاثة. لقد دخل أحدهم إلى الغرفة بطريقة ما، وكان يتحرك فيها بهدوء. ومن زاوية الممر الذي لجئوا إليه، رأوا الباب يتحرك ببطء نحو الداخل. ثم ظهر شخص عند العتبة، إذ وقف بلا حراك يُنصت، ثم بعد ثوانٍ تقدم عبر الرواق نحو النافذة. كانت فتاة؛ هذا ما أمكنهم تمييزه من شكل رأسها ورقبتها النحيلة. ولدهشة الثلاثة، ظهر ظل ثانٍ بجانبها. وقد أطل كلاهما من النافذة نحو الفناء. لم يكن هناك ما يخبرهما إن كان الزوار قد أتوا ورحلوا، أم لم يأتوا بعد. همست إحداهن:
«المفتاح!»
وتقدمت الأخرى، الأقصر قامة بينهما، نحو الرواق وعادت وفي يدها المفتاح الذي أُسقط من خلال فتحة الرسائل. ضحكت الطويلة منهما، وكان صوتها واضحًا، فرحًا، كزقزقة الطيور، حتى إن جيم فروبيشر لم يشك للحظة في هويتها. كانت الفتاة التي تقف عند النافذة في هذا المنزل المظلم والخفي والمفتاح في يدها والتي تخبر الأخرى بأن كل ما جرى تخطيطه قد نُفِّذ، هي بيتي هارلو. لم يتخيل فروبيشر يومًا صوتًا بهذه الدرجة من الخبث وبهذا القدر من الترويع، كضحكتها الرنانة والمبتهجة التي انطلقت وسط سكون الرواق. لقد أرعبته، وهزت ثقته بالعالم من جذورها.
فقال محدثًا نفسه: «حتمًا هناك تفسير وجيه» لكن قلبه كان يغرق في رعب حقيقي. ترى، ما هو الحدث الفظيع الذي تكون تلك الضحكة مقدمة له؟
عاد الظلان يجتازان الرواق ومبتعدين عن النافذة. لم يعُد هناك ما يدعو إلى الحذر على ما يبدو.
قالت بيتي بصوتها العادي: «أغلقي الباب يا فرانسين.» وحين حدث ذلك، أُضيئت الأنوار داخل الغرفة. لكن الزمن والإهمال كانا قد أزاحا الأبواب عن مواضعها. فلم تُغلق تمامًا، وبين مصراعي الباب ظهر شريط من الضوء الذهبي كأنه عصا ساحر.
هتفت بيتي: «هيا نرى الآن! هيا نرى!» وضحكت مجددًا؛ وتحت غطاء ضحكتها، تسلل الرجال الثلاثة إلى الأمام ونظروا خلال الباب: كان مورو على ركبتيه، وفروبيشر ينحني فوقه، وهانو منتصبًا خلفهما.