آلة كورونا
وضع المُحقِّق يده برفق على كتف جيم فروبيشر، مُومئًا إليه بالصمت، وقد كان هذا التنبيه ضروريًّا. كانت ثُريَّا الكريستال الكبيرة تتلألأ كأنها مرصعة بالجواهر، والمرايا في الشمعدانات تعكس أضواء المصابيح فتضاعفها؛ وكانت الغرفة الصغيرة الزاهية تغص بالنور؛ وفي هذا البريق وقفت بيتي تضحك. كان كتفاها العاريان يبرزان من فستان سهرة ضيق من المخمل الأسود، ومن شعرها النحاسي المرتب بعناية إلى حذائها المصنوع من الساتان الأسود، بدت كأنها خرجت للتو من صندوق فاخر؛ وكانت تضحك من أعماق قلبها على كيس مُغلَق مُلقًى على الأريكة، كيس يهتز ويتلوى على نحو غريب كسمكة على الشاطئ. كان واضحًا أن هناك من حُبس داخل ذلك الكيس. ولم يكن لدى جيم فروبيشر أدنى شكٍّ في هوية ذلك الشخص، وبدت له ضحكات بيتي أكثر الأصوات التي سمعها في حياته قسوة ووحشية. كانت تميل برأسها إلى الخلف، فرأى جيم عنقها الأبيض النحيل يرتجف، وكتفاها تلمعان وترتجَّان. ثم صفقت بيديها في نشوةٍ فظيعة. فمات شيء ما في صدر فروبيشر وهو يصغي. تُراه كان قلبه؟ على كل حال، كانت تلك المرة الأخيرة التي ستضحك فيها بيتي هارلو.
قالت بيتي: «يمكنكِ أن تُخرجيها يا فرانسين»، وبينما كانت فرانسين تقص طرف الكيس بمقص، جلست هي إلى المكتب وأدارت ظهرها إلى الكيس وفتحت أحد الأدراج. قُطع الكيس وأُلقي على الأرض، وإذا بآن أبكوت ممددة على الأريكة، في ثوب رقصها اللامع، ويداها موثوقتان خلف ظهرها، وكاحلاها مشدودان إلى بعضهما بقسوة. كان شعرها منفوشًا، ووجهها محمرًّا، وكانت تبدو مصابة بدوار تام. كانت تلتقط أنفاسها بصعوبة، وصدرها يعلو ويهبط بشدة. لكنها في تلك اللحظة لم تكن مدركة لموقفها أو محنتها أو محيطها، فقد استقرت عيناها على فرانسين، ثم تحركتا إلى ظهر بيتي دون أن يظهر فيهما أدنى أثر للمعرفة أو الإدراك. بذلت محاولةً للتحرك، لكن حركتها بدت فطريةً صرفة؛ ثم أسدلت جفنيها ومالت إلى الصمت، حتى إن الرائي لها من عند الباب لكانت الريبة تصيبه أنها لا تزال على قيد الحياة، لولا خفوت أنفاسها.
في هذه الأثناء، أخرجت بيتي من الدرج المفتوح أولًا زجاجة صغيرة نصف مملوءة بسائل أصفر شاحب، ثم علبة صغيرة من الجلد المغربي. ومن هذه العلبة أخرجت محقنًا مع إبرته، وركبت الجزأين معًا.
ثم سألت وهي تنزع السدادة عن الزجاجة: «هل أصبحت جاهزة؟»
أجابت فرانسين: «تمامًا، سيدتي». وكانت قد بدأت كلامها بضحكة، لكنها عندما نظرت إلى الأسيرة، انقطعت ضحكتها فجأة وتحولت إلى شهقة مذعورة. إذ كانت آن تنظر إليها مباشرة بنظرة غريبة تربك الأعصاب. كان من المستحيل تحديد ما إذا كانت تعرف فرانسين أم تتجاهلها عمدًا. لكن نظرتها لم تتزعزع، بل كانت ثابتة بشكل مرعب، فصرخت فرانسين فجأة بصوت حاد وهستيري:
«اصرفي عينيكِ عني، ألا تفعلين؟» ثم أضافت وهي ترتجف: «إنه أمر بشع يا سيدتي! كأن جثة ميتة تراقبك وأنت تتحركين في الغرفة.»
التفتَت بيتي بفضول نحو الأريكة، فاتجهت عينا آن إليها. وكأنما تلك النظرة وحدها كانت كفيلة بإيقاظها. فعندما عادت بيتي إلى ملء المحقن بالسائل، تسرَّبَت الحيرة والاضطراب إلى وجه آن أبكوت. وحاولت أن تنهض، لكنها لم تستطع، فبدأت تمزق القيود حول معصمَيها، وقدماها تركلان فوق الأريكة. وتسرب من بين شفتَيها أنين من الألم، ومعه عاد إليها كامل وعيها.
همست آن: «بيتي!» فاستدارت بيتي نحوها، وفي يدها الإبرة جاهزة. لم تتكلَّم، لكن وجهها كان أفصح من أي كلام. كانت شفتها العليا مرفوعة قليلًا عن أسنانها، وقد أرعبت نظرة عينيها الواسعة جيم فروبيشر الواقف عند الباب. لقد رأى هذه النظرة مرة من قبل؛ حين كانت بيتي مستلقية على فراش السيدة هارلو أثناء تجربة هانو، بينما كان هو وحده مع آن في غرفة الكنوز. لم يكن يفهم معناها حينها، أما الآن فكان المعنى واضحًا مثل وضوح الشمس: كانت نظرة قاتلة. وكذلك أدركت آن أبكوت المعنى. وعلى الرغم من عجزها، تقلصت على الأريكة، وتكلمت بشفاه مرتعشة وعيناها مثبتتان على بيتي في رعب شنيع.
فقالت: «بيتي! أنتِ مَن اختطفني وأتى بي إلى هنا! أنتِ مَن أرسلني إلى مدام لو فاي … عمدًا. آه! الرسالة إذَن! الرسالة المجهولة!» ثم سطع في عقلها نور جديد، واهتز كيانها برعب جديد. «أنتِ من كتبتِها! أنتِ يا بيتي حقًّا! أنتِ السوط!»
ثم انحنت إلى الوراء من جديد، تحاول عبثًا أن تتحرَّر من قيودها. فنهضت بيتي من مقعدها، واجتازت الغرفة نحوها، والإبرة تلمع في يدها. فرأت الأسيرة البائسة الإبرة.
فصاحت: «ما هذا؟» ثم أطلقت صرخة عالية. إذ منحها شعورها بالرعب الشديد قوة غير طبيعية. وبطريقة ما سحبت نفسها إلى الأمام، ووضعت قدميها على الأرض، وتمكنت من الوقوف متمايلة.
وشرعت تقول: «أنتِ سﺘ …» ثم توقفت فجأة. «كلا! لا يمكن! لا يمكنكِ فعل هذا!»
بسطت بيتي كفها فوضعتها على كتف آن، وأمسكتها برهةً، متلذذةً بانتقامها.
ثم سألت بصوت ناعم ومرعب: «وجه مَن كان ذاك الذي انحنى فوق وجهك في الظلام؟ لمَن كان ذلك الوجه يا آن؟ خمني!» ثم هزت ضحيتها المتمايلة برقة لا تقل رعبًا عن صوتها الهادئ. «أنتِ تتكلمين كثيرًا. لسانك يمثل خطرًا يا آن. أنتِ فضولية جدًّا! ماذا كنتِ تفعلين في غرفة الكنوز مساء البارحة وساعتك في يدك؟ ها؟ ألا تستطيعين الإجابة، أيتها الحمقاء؟» ثم تغير صوت بيتي. ظل منخفضًا وهادئًا، لكن الكراهية تسللت إليه، كراهية شديدة عميقة.
وأردفت: «لقد كنتِ تتدخلين في شئوني أيضًا، أليس كذلك يا آن؟ آه، أظن أن كلًّا منا يفهم الآخر جيدًا!» وضغط هانو على كتف فروبيشر. ها هو الدافع الحقيقي والسبب وراء كراهية بيتي. كانت آن أبكوت تعرف الكثير، وتوشك أن تعرف أكثر، وربما في أي لحظة تكتشف الحقيقة كاملة. نعم! سيبدو اختفاؤها وكأنه فرار مدفوع بالذعر، بلا شك سيُفهم كأنه اعتراف! لكن فوق كل تلك الاعتبارات، كان ثمة قرار واحد يستحوذ على عقل بيتي هارلو: أن تُعاقب منافستها وتُقصيها.
قالت بيتي: «طوال هذا الأسبوع، كنتِ تقحمين نفسك بطريقي!» ثم أضافت: «وها هي مكافأتك يا آن. نعم. أنا من قيدتُك وأوثقت رجليك وأتيت بكِ إلى هنا. أيتها الزنبقة!» ثم أخذت تنظر إلى ضحيتها نظرة ازدراء وهي واقفة في فستانها البهي، وجواربها الحريرية البيضاء، وحذائها الساتان، وهي تتمايل هلعًا. «١٥ دقيقة، يا آن! ذلك المفتش الأبله كان محقًّا! ١٥ دقيقة! هذا هو الوقت الذي يحتاجه مفعول سم السهم!»
فتحت آن عينيها على اتساعهما. وتدفق الدم إلى وجهها الممتقع ثم انسحب منه، تاركًا إياه أشدَّ امتقاعًا.
فصاحت آن: «سم السهم يا بيتي! كنتِ أنتِ الفاعلة! أوه!»كانت على وشك أن تترنح للأمام، لكن بيتي هارلو دفعتها برفق على كتفها فسقطت على الأريكة. لم يخطر ببال آن أبكوت، حتى تلك اللحظة، أن بيتي كانت مدانة بجريمتها الأخيرة؛ قتل راعيتها. وكان واضحًا لها الآن أيضًا أنه لا أمل على الإطلاق. فانفجرت فجأةً في نوبة من البكاء المرير.
جلست بيتي هارلو إلى جانبها على الأريكة، تراقبها عن كثب وفضول، تستمتع برؤية عذابها بشماتة شيطانية. كان صوت نحيب الفتاة كالموسيقى في أذنيها. لم تكُن تريد له أن يخفت.
فقالت بصوت منخفض، وهي تنحني عليها: «ستبقين هنا في الظلام طوال الليل يا آن، وحدك، وغدًا سيضعكِ إسبينوزا تحت إحدى بلاطات المطبخ الحجرية. أما الليلة فستبقين هكذا تمامًا. هيا!»
ثم مالت فوق آن أبكوت، تجمع جلد ذراعها بيد، وتقرب الإبرة من لحمها باليد الأخرى؛ وإذا بصرخة شديدة تشق الأجواء، أطلقتها فرانسين رولار.
وقالت مشيرةً إلى الباب: «انظري!» كان الباب مفتوحًا، وهانو يقف عند عتبته.
رفعت بيتي بصرها إلى التي أطلقت الصرخة، فشحبت ملامحها. جلست كتمثال من شمع، تحدِّق في الباب المفتوح، ثم بلحظة خاطفة غرست الإبرة في ذراعها، وأفرغت محتواها.
صرخ فروبيشر مذعورًا وأسرع ليمنعها، لكن هانو دفعه بخشونة.
وقال بنبرة قاسية لم يسمعها منه من قبل: «لقد حذرتك أيها السيد من أن تتدخل»؛ وسقطت الإبرة من يد بيتي على الأريكة، ثم تدحرجت على الأرض.
نهضت بيتي واقفة بكل قامتها، وجمعت عقبيها معًا، ومدَّت ذراعيها إلى جانبيها.
وقالت بتبجح تتظاهر بالشجاعة: «١٥ دقيقة يا سيد هانو. أنا في مأمن منك.»
فضحك هانو ولوح بإصبعه في وجهها بازدراء.
وقال: «هذا ماء ملون يا سيدتي ولا يقتل.»
اهتزت بيتي وهي واقفة، ثم تماسكت.
وقالت: «هذه خدعة يا سيد هانو!»
«سنرى.»
لكن نبرة صوته المليئة بالثقة أقنعتها. فانطلقت كالسهم نحو مكتبها. لكنها لم تكن أسرع من هانو؛ إذ اعترض طريقها هناك.
وهتف بها: «آه، كلا! هذا أمر مختلف تمامًا!» وأمسك بمعصميها. ثم نادى: «مورو!»، مشيرًا إلى فرانسين. «وأنت يا سيد فروبيشر، هلا حررت تلك الشابة من فضلك؟»
جر مورو فرانسين رولار خارج الغرفة وأحكم حبسها. أما جيم، فأخذ المقص الكبير وقطع القيود التي كانت تشد معصمي آن وكاحليها، وفكها عنها. وفي تلك الأثناء، كان يرى هانو يدفع بمقعد المكتب إلى منتصف الغرفة، وبيتي تقاوم ثم تستسلم، وقد أرغمها على الجلوس، ثم التقط أحد الحبال التي أسقطها جيم على الأرض. وحين أتم تحرير آن، رأى بيتي جالسة ويداها في الأصفاد، وكاحلاها مربوطان بإحدى أرجل الكرسي؛ وهانو يضغط بمنديله على جرح في يده ينزف. فقد عضته بيتي كحيوان بري وقع في الفخ.
قال هانو بغضب ساخر: «نعم، لقد حذرتِني يا آنسة، في أول صباح التقينا فيه، بأنك لا ترتدين ساعة يد، لأنك تكرهين الأشياء التي تُربط على معصميك. أعتذر! لقد نسيت!»
ثم عاد إلى منضدة الكتابة، ومد يده داخل الدرج. فأخرج منه علبة صغيرة من الورق المقوَّى ونزع غطاءها.
وقال: «خمسة! نعم! خمسة!»
ثم حمل العلبة عبر الغرفة إلى جيم فروبيشر، الذي كان واقفًا إلى الجدار ووجهه شاحب كأنه ميت.
وقال له: «انظر!»
كان في العلبة خمسة أقراص بيضاء.
وأضاف: «نحن نعلم أين القرص السادس. أو بالأحرى، نعلم أين كان. فقد حللته اليوم. إنه سيانيد البوتاسيوم، يا صديقي! اطحن أحدها بين أسنانك ولن تحتاج إلى ١٥ دقيقة؛ كلا على الإطلاق! مجرد جزء من الثانية! هذا كل ما يتطلبه الأمر!»
اقترب فروبيشر وهمس في أذن هانو. قال: «اتركها في متناولها!»
كان أول ما خطر له غريزيًّا أن يمنع بيتي من أن تؤذي نفسها. أما الآن، فقد بات يتمنى ذلك بكل ما أوتي من يأس، حتى إن أسًى بالغًا تسرَّب إلى عيني هانو.
وقال برفق: «لا أستطيع، يا سيدي.» ثم التفت إلى مورو وقال: «هناك سيارة أجرة تنتظر عند زاوية منزل كرينيل»، وانطلق مورو للبحث عنها. أما هانو، فتوجه نحو آن أبكوت، التي كانت جالسة على الأريكة ورأسها منكس وجسدها يرتجف. وكانت بين الحين والآخر تلامس معصمها المتألم وتفركه برفق.
فقال وهو يقف أمامها: «آنستي، أنا مدين لك بتفسير واعتذار. لم أظن للحظة واحدة، منذ البداية، أنكِ مذنبة في جريمة قتل السيدة هارلو. كنت على يقين بأنك لم تمسي عقد اللؤلؤ الوردي … آه، كنت واثقًا من ذلك قبل أن أجد العقد بوقت طويل. صدقتُ كل كلمةٍ من حكايتكِ التي رويتها لنا في الحديقة. لكن، لم يكن بوسعي أن أُظهر لكِ شيئًا من هذا اليقين. فلم يكن بوسعي أن أحميك خلال هذا الأسبوع الأخير في منزل كرينيل إلا بالتمثيل وكأنني مقتنع بذنبكِ.»
قالت وهي تحاول أن تبتسم: «أشكرك يا سيدي.»
فتابع يقول: «أما الليلة، فأنا مدين لكِ باعتذار. وأقدمه لكِ وأنا خجل. لم أكن أشك للحظة أنكِ سيؤتى بكِ إلى هذا المكان تحت رحمة الآنسة بيتي الرقيقة الحنونة. وكنت هنا لأتأكد من أنكِ لن تتعرضي لرقتها. لكن لم أواجه في حياتي قضية أصعب من هذه، بهذا القدر من اليقين في ذهني، وهذا القدر الضئيل من الأدلة في يدي. كنتُ في حاجةٍ ماسةٍ إلى الدليل الذي تيقنتُ أنني سأظفر به في هذه الغرفة الليلة. ومع ذلك، أرجوكِ أن تصدقيني: لو كنت قد تخيلت لوهلة ما ستتعرضين له من قسوة، لكنت ضحيت بهذا الدليل دون تردد. أستميحك عذرًا.»
فأجابته ببساطة: «يا سيد هانو، لولاك لما كنت على قيد الحياة الآن. لولاك لصرت ممددة هنا في الظلام وحدي، كما وُعدت، بانتظار إسبينوزا … ومعوله.» ثم تحشرج صوتها وصارت ترتجف بعنف حتى اهتزت الأريكة التي كانت تجلس عليها.
فقال لها بلطف: «يجب أن تنسي هذه الآلام. لا زلتِ في مقتبل الشباب، كما قلت لكِ من قبل. مع الوقت، ومع …»
لكن عودة نيكولا مورو قاطعته، ومعه شرطيان ومفوض الشرطة جيراردو.
وسأله هانو: «هل معك فرانسين رولار؟»
رد مورو بجفاف: «ستسمعها بنفسك.»
وارتفع في الممر صوت جلبة؛ وقع أقدام وصوت امرأة تصرخ من الغضب. ثم سرعان ما خفت الصوت.
فقال هانو: «الآنسة هنا لن تسبب لكم كل هذا العناء.»
كانت بيتي متكومة على كرسيها، ومعرضة بوجهها ومتجهمة، وشفاهها تتمتم بكلمات غير مفهومة. ولم تنظر إلى جيم فروبيشر ولو لمرة واحدة منذ أن دخل الغرفة؛ ولم تنظر إليه الآن.
انحنى مورو وفك وثاق كاحليها، ورفعها شرطي ضخم من الكرسي. لكنها لم تستطع الوقوف؛ إذ خانتها ركبتاها، ولم يتبقَّ في جسدها قوة ولا عزم. فحملها الشرطي بين ذراعيه كأنها طفلة، وما إن تحرك نحو الباب حتى وقف جيم فروبيشر أمامه معترضًا طريقه.
وهتف بصوت قوي رنان: «قف! سيد هانو، لقد قلتَ قبل قليل إنك صدقت كل كلمة نطقت بها الآنسة آن.»
رد هانو: «هذا صحيح.»
فقال جيم: «إذَن، فأنت تعتقد أن السيدة هارلو قُتلت في العاشرة والنصف من ليلة السابع والعشرين من أبريل. وفي تلك اللحظة كانت الآنسة هنا في حفلة السيد دي بوياك! إذَن، يجب أن تُطلق سراحها!»
لكن هانو لم يجادله.
بل قال: «وماذا عن الليلة؟ من فضلك، تنحَّ جانبًا!»
ظل جيم واقفًا لحظة في مكانه، ثم ابتعد. وقف مغمض العينين، وعلى وجهه من الحزن ما جعل هانو يحاول أن يواسيه بكلمات خرقاء.
فشرع يقول: «كانت تجربة قاسية عليك، يا سيد فروبيشر.»
فانفجر جيم قائلًا: «ليتك وثقت بي منذ البداية!»
سأله هانو: «وهل كنت ستصدقني إن فعلت؟» فصمت جيم. وأردف هانو: «لقد تحملتُ مخاطرة كبيرة أدرك الآن أنني لم أكن أملك الحق في تحملها. ومع ذلك، أخبرتك بأكثر مما تتصور.»
ثم التفت إلى مورو.
وقال: «أغلق أبواب الفناء وباب المنزل بعد أن يغادروا، وأحضر المفاتيح إليَّ هنا.»
كان جيراردو قد جمع الأدلة: السائل، والمحقن، وأقراص السيانيد، وقِطَع الحبال.
قال هانو وهو ينحني إلى منضدة الكتابة: «هناك شيء ذو أهمية هنا» ثم التقط علبة سوداء قمتها مسطحة. وعلَّق قائلًا إلى جيم وهو يسلِّمها إلى جيراردو: «ستتعرف على هذه.» كانت علبة لآلة كاتبة من نوع كورونا، وقد دلَّ وزنها على أن الآلة ذاتها بداخلها.
وأوضح هانو بينما أغلق الباب خلف المفوَّض: «نعم. هذه الغرفة الجميلة هي المصنع الذي أُعدَّت فيه كل تلك الرسائل البغيضة. هنا خُزِّنت المعلومات من أجل استخدامها؛ وهنا كُتبت الرسائل؛ ومن هنا أُرسِلت.»
هتف جيم: «رسائل ابتزاز! رسائل تطالب بالمال!»
أجاب هانو: «بعضها، نعم.»
«لكن بيتي هارلو كانت تملك المال. كانت تملك كل ما تحتاجه، بل أكثر إن طلبت!»
هزَّ هانو رأسه وقال: «كل ما تحتاجه؟ كلا. المبتز لا يكتفي أبدًا. هو لا يعترف بتجاوز الحدود في الابتزاز.»
عندها استبدَّ غضب مفاجئ بجيم. كان هو وهانو قد اتفقا على وجود عصابة تقف خلف كل هذه الجرائم. قد تكون بيتي ضمن صفوفهم، بل ربما هي العقل المدبِّر، لكن أيُعفى الجميع من المحاسبة؟ فهتف: «هناك آخرون! الرجل الذي كان يقود الدراجة النارية …»
فأجاب هانو: «إسبينوزا الصغير. ألم تلاحظ لهجته عندما توقفت عند مفترق الطرق في فال تيرزون؟ لم يركب دراجته مجددًا. كلا!»
فقال جيم: «والرجل الذي حمل الكيس ودخل به؟»
فقال هانو: «موريس ثيفينيه. ذاك الشاب المبتدئ الواعد. إنه الآن في الحجز. لن يحصل أبدًا على تلك التزكية التي كان يأمل بها لفتح أبواب باريس.»
فتابع جيم: «وإسبينوزا نفسه … الذي كان سيأتي إلى هنا غدًا …» وتوقف فجأةً، وقد وقعت عيناه على آن.
فقال هانو: «وهو الذي قتل جان كلاديل، أليس كذلك؟ أحمق ذاك الرجل! لماذا يستخدم خنجر الكاتالونيين وبطريقتهم؟» ثم نظر إلى ساعته. «انتهى الأمر. لا شك أن إسبينوزا الآن خلف القضبان. وهناك آخرون يا سيدي لم تسمع عنهم قط. لقد وقع في شبكتنا الليلة صيد وفير. لا تقلق!»
عاد مورو ومعه المفاتيح وسلمها لهانو، فوضعها في جيبه، وتوجه إلى آن أبكوت.
وقال: «آنستي، لن أزعجك الليلة بأي أسئلة. أما غدًا، ستروين لي لماذا ذهبتِ إلى حفلة السيدة لو فاي. لقد قيل إنك كنتِ تنوين الهرب. لكن هذا، بالطبع، لم يكن صحيحًا. ستخبرينني بالحقيقة غدًا، وبكل ما حدث هناك.»
ارتجفت آن من ذكريات تلك الليلة، لكنها ردت بهدوء.
«نعم. سأخبرك بكل شيء.»
فقال هانو بمرح: «جيد. إذَن، يمكننا أن نذهب.»
سألت آن بدهشة: «نذهب؟! لكنك حبستنا جميعًا داخل المنزل.»
فضحك هانو. كان يستعد لمفاجأتها، وهو يعشق المفاجآت طالما أنها من تدبيره.
وقال: «أظن أن السيد فروبيشر قد أصاب الحقيقة بتخمينه. هذا المنزل يا آنستي، منزل بروبيزار، قريب جدًّا، من منزل كرِينيل. فلا يفصل بينهما سوى صف واحد فقط من منازل شارع تشارلز روبيرت. وقد بناهما الرجل نفسه، إتيان بوشار دو كرِينيل، رئيس البرلمان أيام لويس الخامس عشر، وهو رجل مبجَّل وذو أهمية؛ وقد بناهما معًا يا آنستي، وهذا هو بيت القصيد. وبعد أن انتهى من بنائه، أسكن في هذا المنزل سيدةً مرحة من المقاطعة وأصبح المنزل يحمل اسمها؛ السيدة دي بروبيزار. ولم يكن في الأمر فضيحة. لأن الرئيس لم يأتِ أبدًا لزيارتها. ولديه سبب وجيه. فقد بنى ممرًّا سريًّا يصل بين المنزلين في تلك الحقبة التي عُرفت بكثرة الممرات السرية.»
أصاب الذهول فروبيشر. لقد نسب هانو إليه فطنة لم يتمتع بها قط. كانت الأحداث قد توالت عليه تلك الليلة بسرعة مذهلة وهو منشغل بها، فلم تترك له متسعًا للتفكير أو التخمين.
فقال مندهشًا: «كيف عرفت هذا؟»
فقال هانو مواصلًا حديثه: «ستعرف في الوقت المناسب. أما الآن فلنكتفِ بالحقائق. بعد وفاة إتيان دو كرينيل، ضاع سر هذا الممر في مرحلةٍ ما. ومن الواضح أيضًا، في ظني، أنه تدهور وانسدَّ. على أية حال، في نهاية القرن الثامن عشر، انتقل منزل بروبيزار إلى أيدٍ أخرى غير مالك منزل كرينيل. بيد أن سايمون هارلو اكتشف السر. فاشترى منزل بروبيزار من جديد، ورمم الممر، واستعمله للغرض نفسه الذي استُعمل له في عهد إتيان دو كرينيل. فقد جاءت السيدة رافيار لتسكن هنا في السنوات التي سبقت وفاة زوجها، تلك الوفاة التي أعتقتها لتتزوج سايمون. لقد انتهت محاضرتي! هلموا بنا!»
وانحنى أمام آن كأنما هو محاضرٌ يودِّع جمهوره، ثم فتح مزلاجَي الأبواب المزدوجة للخزانة الكبيرة المطعَّمة في فجوة الحائط. فانطلق من آن هتاف ينم عن الدهشة وقد نهضت واقفةً على قدميها المرتجفتين. كانت الخزانة فارغة تمامًا. فلم يكُن بها أي رفٍّ، واتضح لهم جميعًا أن أرضيتها مائلة نحو أحد أطرافها، وأن ثمة درجًا ينحدر إلى الأسفل في داخل الحائط السميك.
قال هانو وهو يُخرج مصباحه الكهربي: «تعالوا. سيد فروبيشر، خذ هذا واذهب أولًا مع الآنسة. سأتولى إطفاء الأنوار وألحق بكما.»
لكن آن تراجعت فجأة وقد قطَّبت جبهتها قليلًا. ثم أمسكت بذراع هانو لتستند إليه. وقالت: «سآتي معك. ساقاي لم تعودا راسختين.»
وأتبعت قولها بضحكة خفيفة كأنما تهون الأمر، لكن فهم كلا الرجلين الحقيقة. فقد كان جيم فروبيشر يظنها مذنبة؛ كان يظنها سارقة وقاتلة. فكانت تهابه لصالح من آمن ببراءتها منذ البداية. بل لم يكُن ذلك كل شيء. فخذلان جيم سبَّب لها جرحًا لم يكُن لأي أحد غيره أن يسبِّبه. فأطرق جيم برأسه إقرارًا، وضغط زر المصباح، ثم بدأ ينزل خمس أو ست درجات من الدرج الضيق. وتبعه مورو.
وقال هانو: «هل أنتِ مستعدة يا آنسة؟ هيا!»
وأحاط خصرها بذراعه ليسندها، ثم ضغط على زر قرب أبواب الخزانة، فغرق المكان في الظلام. ونزلا على الدرج في أثر الشعاع المنبعث من المصباح. ثم أغلق أبواب الخزانة وأحكمها بالمزلاج.
وهتف: «تقدموا، وأنتِ يا آنستي، انتبهي إلى كعبيك على هذه الدرجات الحجرية.»
ولما صار رأسه أسفل مستوى الدرجة الأولى، نادى على فروبيشر أن يتوقف ويرفع المصباح. ثم أزاح اللوح الأرضي للخزانة وأعاده إلى مكانه. وتحت اللوح كانت ثمة فتحة تهبط إلى الأسفل. فرفعها هانو وثبتها في مكانها.
«يمكننا المتابعة الآن.»
هبطوا ١٠ درجات أخرى فوجدوا أنفسهم في قاعة صغيرة متقوسة. ومنها امتد ممر مرصوف بالطوب والحجارة يفضي إلى عتمةٍ حالكة. تقدم فروبيشر في الممر حتى بلغوا درجًا آخر.
فسأل هانو فروبيشر، وقد ترددت نبرته في الممر المجوف: «إلى أين يؤدي هذا الدرج، يا صديقي؟ ستخبرني أنت.»
كانت صورة تلك الليلة لا تزال حاضرةً في ذهن جيم، حين جلس مع آن وبيتي في ظلام الحديقة العطرة، وكيف كانت آن تمسح بنظرها جوانب العتمة بين أشجار الجميز، فأجاب بسرعة:
«إلى حديقة منزل كرينيل.»
فضحك هانو.
ثم قال: «وأنتِ يا آنسة، ما قولك؟»
هنا اكفهرَّ وجه آن.
وأجابت بجدية: «الآن عرفت.» ثم ارتجفت، وسحبت رداءها على كتفيها ببطء. وأردفت: «لنصعد ونتحقق!»
تقدم هانو أولًا، وأنزل بابًا صغيرًا مسحورًا عند قمة الدرج، وضغط نابضًا ثم سحب لوحًا من مكانه.
وقال: «انتظروا»، ثم قفز إلى الخارج وأشعل الضوء.
صعدت آن أبكوت، وجيم فروبيشر، ومورو من محفة سايمون هارلو إلى غرفة الكنز.