حكاية آن أبكوت
في صباح اليوم التالي، اتصل هانو بمنزل كرينيل وحدد موعده لما بعد الظهر. فمضى جيم فروبيشر يقضي الصباح مع السيد بيكس، الذي كان مندهشًا تمامًا بالقصة التي رُويت له.
إذ قال: «للسجناء حقوق في أيامنا هذه. فيحق لهم أن يطلبوا حضور مستشارهم القانوني أثناء استجواب القاضي لهم. سأذهب إلى المديرية حالًا»، ثم انطلق منتصب الرأس منتفخ الصدر كديك صغير مستعدًّا للقتال دفاعًا عن موكلته. لكن لم يكُن ثمة قتال يُخاض. فموكلة السيد بيكس، بكل تأكيد، كانت «محبوسة انفراديًّا» في الوقت الراهن. ولن تُعرض على القاضي قبل بضعة أيام. كان الدور على فرانسين رولار. وكان من المقرر إتاحة كل الفرص للدفاع، وسيُسمح للسيد بيكس بمقابلة بيتي هارلو بطبيعة الحال إذا رغبت في ذلك قبل مثولها أمام القاضي.
عاد السيد بيكس إلى مكتبه في ساحة إتيان دوليه ليجد جيم فروبيشر يجول فيه رويدًا، كأنما تطارده الظنون. رفع جيم رأسه بلهفة، إلا أن السيد بيكس لم يأتِ بما يثلج صدره.
إذ هتف: «لا يعجبني الأمر! لست راضيًا تمامًا! لا أشعر بالارتياح! الجميع مؤدبون؛ نعم. لكنهم يستجوبون الخادمة أولًا. وهذا أمر سيئ»، وضرب بيده على الطاولة. ثم أردف: «هذا من تدبير هانو. إنه يعرف كيف يدير الأمور. الخدم يمكن أن يُجبروا على الكلام، وفرانسين رولار هذه …» ثم أخذ يهز رأسه. «سأستعين بأفضل محامٍ في فرنسا!»
تركه جيم لينكب على عمله، وعاد إلى منزل كرينيل. وكان واضحًا أن شيئًا من تطورات «قضية وابرسكي» الجديدة والمريعة لم يتسرَّب بعد. لا أحد يتهامس بها في الشوارع، ولا أحد يتسكع أمام بوابات المنزل. فقد أصبحت «قضية وابرسكي» في نظر العامة نكتة قديمة مملة. أرسل جيم رسالة إلى آن أبكوت في غرفتها، يُخبرها فيها بأنه سينقل أمتعته إلى فندق ساحة دارسي ويُخلي لها المنزل، راجيًا إياها البقاء فيه. ابتسمت آن في تلك اللحظة ابتسامة خفيفة وهي تقرأ رسالته المرتبكة.
وتأملت في نفسها: «إنه صواب تمامًا، كما يقول السيد بيكس، ومناسب بما يكفي ليبهج السيد هانو ابتهاجًا كبيرًا.»
وعاد جيم بعد الظهر، وشرعت آن أبكوت تسرد مرة أخرى قصة مرعبة وظلامية، تحت ظلال شجر الجميز، بينما تتراقص أشعة الشمس على العشب وطنين النحل يتردد بين الورود، لكن هذه المرة على مسامع جمهور أصغر عددًا. وقد أضاف هانو بعض التفاصيل إلى هذه القصة.
بدأت آن حديثها بقولها: «لم أكن لأحلم أبدًا بحضور حفلة السيدة لو فاي، لولا الرسالة المجهولة»، وهنا مال هانو إلى الأمام باهتمام.
كانت الرسالة المجهولة قد وصلت أثناء تناولها العشاء مع بيتي وجيم. أي إنها أُرسلت في منتصف النهار، بعد وقت قصير من رواية آن قصتها الأولى في الحديقة. فتحت آن المظروف ظنًّا أنه فاتورة ما، لكنها فوجئت بل شعرت بالخوف قليلًا، عندما قرأت التوقيع: «السوط». ثم شعرت بغضبٍ أكبر عندما قرأت ما تحتويه، وإن كان خوفها قد خف. كان «السوط» يأمرها بالحضور إلى الحفلة. لقد كلَّفها صراحةً بمغادرة الصالة عند العاشرة والنصف، واتخاذ ممر معلوم يؤدي إلى جناح ناءٍ عن ناحية الاستقبال، لتختبئ بعدها وراء ستائر حجرة مكتبة صغيرة. وإن هي ظلت ساكنة تمامًا، فسوف تسمع الحقيقة بشأن وفاة السيدة هارلو بعد قليل من ذلك. كما تلقت تحذيرًا ألا تخبر أحدًا بشأن خطتها.
قالت آن: «لم أخبر أحدًا حينها. ظننت الرسالة مجرد مزحة خبيثة، تتماشى مع طبيعة شخصية «السوط». فأعدت الرسالة إلى مظروفها. لكنني لم أستطِع صرف ذهني عنها. ماذا لو كان بها شيء من الحقيقة، ولم أذهب؟ لماذا قد يخدعني «السوط»، وأنا لا أملك مالًا، ولا قيمة لي؟ وظلَّت الرغبة تكبر بداخلي، رغبة من النوع الذي لا يمحوه أي منطق!»
عقب العشاء، توجهت آن إلى حجرتها حاملةً الرسالة، وقد آمنت بما فيها، ثم عاودها السخرية من ذاتها لتصديقها، لتعود وتُصدقها مرة أخرى. لقد شعرت ظهيرة ذلك اليوم وكأن الأصفاد في معصميها. لم يعُد هناك مجال لتضييع أي فرصة لتبرئة نفسها، مهما بدت هذه الفرصة جنونية!
قررت أن تستشير بيتي، فأسرعت إلى غرفة الكنز التي كانت مضاءة لكنها كانت خالية. وكانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف. عزمت آن على انتظار عودة بيتي، وشدها من جديد موضع الساعة المنخفض فوق الخزانة المطعمة. فوقفت أمامها تحدق فيها. وأخذت ساعتها في يدها، لعلها تفهم. وكانت بالفعل قريبة من تحقيق ذلك؟ فلو أنها وجهت قُرصَ ساعتِها باتجاه المرآة خلف الساعة، لانكشفت لها الحقيقة فورًا. لكنها لم تحظَ بالوقت لتفعل ذلك. إذ استوقفها صوت خافت في الغرفة خلفها.
استدارت آن فجأة. لكن الغرفة كانت خالية. بيد أنها كانت متأكدة تمامًا أن الصوت صدر من داخلها. ولم يكُن إلا ثمة مكان واحد يمكن أن يصدر منه الصوت. كان ثمة من يختبئ في المحفة الفاخرة ذات الألواح الرمادية اللامعة، والزخارف الذهبية الدقيقة. طغى القلق على آن أكثر من الخوف. وأول ما جال بخاطرها كان قرع الجرس بجوار المدفأة؛ إذ كان بوسعها القيام بذلك بعيدًا عن مجال رؤية المحفة. فالغرفة تحتوي على كنوز كافية لإغراء مئات اللصوص. لكنها اختارت مجابهة الأمر مباشرة ودون أي تفكير. فتقدمت نحو المحفة من الخلف، ثم اندفعت فجأةً لتقف أمام أبوابه الزجاجية.
وحينها جفلت وشهقت من المفاجأة. كان الحاجز أمام أبواب المحفة قد أُنزل، والأبواب مفتوحة، وكانت بيتي هارلو تتكئ على الوسائد الوثيرة. جلست بيتي بلا حراك، فكانت ساكنة كالتمثال، حتى بعد ظهور آن وهتافها من الدهشة؛ لكنها لم تكُن نائمة. كانت عيناها الواسعتان متقدتين وتحدقان من داخل ظلمة المحفة بطريقة بعثت القشعريرة في جسد آن.
وقالت بيتي ببطء شديد: «كنت أراقبك»، وإنْ كان ثمة احتمال لأن ترق لها أو تتراجع عما بذهنها، فقد تبدد ذلك الآن وإلى الأبد. لقد خرجت بيتي من الممر السري لتجد آن تداعب ساعتها أمام المرآة، بحثًا عن تفسير لذلك الشك الذي راودها، وكانت قريبة جدًّا من اكتشاف الحقيقة؛ قريبة جدًّا جدًّا! سمعت آن حكم الإعدام يصدر بحقها في تلك الكلمات: «كنت أراقبكِ». ورغم أنها لم تفهم فحوى التهديد، فإن بطء النطق وثباته كانا كافيين ليربكها.
وهتفت آن: «بيتي، أريد نصيحتك!»
خرجت بيتي من المحفة، وأخذت الرسالة المجهولة من يدها.
سألت آن تقول: «هل عليَّ أن أذهب؟»
فأجابت بيتي: «هذا شأنك. لو كنت مكانك، لذهبت. لن أتردد. لا أحد يعلم حتى الآن أن هناك شبهات تحوم حولك.»
أبدت آن اعتراضًا على ذلك. فالخروج من بيتٍ يسوده الحزن ربما يُعد تصرفًا مشينًا.
فحاججتها بيتي: «أنت لست من الأقارب. يمكنك الذهاب خفية، قبل الموعد. لا شك أننا نستطيع تدبير الأمر. لكن، كما قلت، هذا شأنك الخاص.»
«لكن لماذا يساعدني «السوط»؟»
فردت بيتي تجادلها: «لا أعتقد أنه يساعدك، على الأقل ليس بشكل مباشر. أظن أنه يهاجم آخرين، ويستخدمك أنت وسيلة.» ثم قرأت الرسالة مرة أخرى. وأردفت: «لقد كان دائمًا على حق، أليس كذلك؟ هذا ما كان سيحدد قراري لو كنت مكانك. لكنني لا أريد أن أتدخل.»
وهنا استدارت آن وقالت:
«حسنًا، سأذهب.»
«إذَن، يجب أن تتلفي هذه الرسالة»، وأمسكت بها كأنها ستمزقها.
فهتفت آن: «كلا!» ومدَّت يدها بسرعة لتأخذها. «أنا لا أعرف منزل السيدة لو فاي جيدًا. قد أضل طريقي بسهولة من دون التعليمات. يجب أن آخذ الرسالة معي.»
وافقت بيتي وأعادتها إليها.
ثم قالت: «يجب أن تذهبي في خفية تامة»، ثم انغمست بكل جوارحها في تنظيم خطة الخروج.
قررت بيتي أن تُعطي فرانسين رولار إجازة، وتُساعد آن بنفسها على ارتداء فستانها المذهل والمتلألئ. وكتبت رسالة إلى ميشيل لو فاي، الابن الثاني للسيدة لو فاي، وأحد معجبي بيتي الذي لا يعرف الكلل. ولحسن حظه، احتفظ ميشيل بالرسالة، فأنقذته من أي اتهام بالتواطؤ في مؤامرتها. إذ استخدمت بيتي معه الحجة نفسها التي أقنعت بها جيم فروبيشر. ذلك أنها راسلته بصراحة قائلةً إن الشبهات قد أحاطت بآن أبكوت، وأنه من الضروري تهريبها سرًّا.
فكتبت تقول: «الخطة كلها جاهزة، يا ميشيل. ستأتي آن متأخرة. وستلتقي بالأصدقاء الذين سيساعدونها في غرفة المكتبة الصغيرة؛ لأن الأولى بك ألا تُحيط علمًا بهؤلاء الرفاق. إذا استطعت أن تُبقي الممر خاليًا لبعض الوقت، يمكنهم الخروج من باب غرفة المكتبة إلى الحديقة، ويصلون إلى باريس صباح اليوم التالي.»
ثم جهَّزت هذه الرسالة دون أن تعرضها على آن، وقالت: «سأرسلها مع رسول غدًا في الصباح، مع أوامر بتسليمها لميشيل شخصيًّا. والآن، كيف ستذهبين؟»
أسهبت الفتاتان في بحث هذه المسألة. إذ إن استدعاء السيارة الفارهة قد يجذب انتباه هانو، وقد يتصور أنها تفر وبيتي تعينها. هذا الاحتمال لم يكُن واردًا البتة.
ثم هتفت بيتي فجأةً: «وجدتها! ستأتي جين لوكلير لتأخذك! وستكونين جاهزة للتسلُّل خلسة. ستتوقَّف بسيارتها للحظة عند البوابة. وسيكون الظلام قد حلَّ. ستغادرين في لمح البصر!»
هتفت آن مندهشة، وتراجعت خطوة: «جين لوكلير!»
كانت آن دائمًا ما تشعر بالحيرة من أن بيتي قد اختارت أصدقاءها من بين الوضيعين والمبتذَلين، على الرغم من أناقتها الشديدة واهتمامها المتقن بمظهرها وسلوكها. لكنها كانت تفضل أن تكون ملكة بين مَن هم دونها على أن تكون عادية بين أندادها. ففي ظل سلوكها المتحفظ، كانت تشتعل برغبة لا تشبع للتمييز. رغبة مستعرة أن تكون محط الاهتمام، والإعجاب، وأن يتطلع إليها من حولها كزعيمة وسيدة قوم. وكانت جين لوكلير واحدة من زمرة أتباعها؛ كانت امرأة ضخمة وصهباء، أسلوبها يتسم بالتكلف والمبالغة من حيث الطابع الرسمي والتهذيب، وتملك نوعًا من الجاذبية، وكانت بلا شك تلقى مكانًا لها في مجتمع المدينة. ولم تكن آن أبكوت تكرهها فقط، بل كانت لا تثق بها. كان ينتابها شعور غامض بأن هناك شيئًا غير سوي في طبيعة تلك المرأة.
قالت بيتي: «إنها ستفعل أي شيء من أجلي يا آن، ولهذا اخترتها. وأعلم أنها ستحضر حفلة السيدة لو فاي.»
رضخت آن أبكوت في النهاية، وكُتب خطاب ثانٍ إلى جين لوكلير. في هذا الخطاب، طُلب من جين زيارة منزل كرينيل في ساعة مبكرة من الصباح؛ وجاءت جين لوكلير فعلًا، وبقيت مع بيتي في غرفة مغلقة ساعة كاملة بين التاسعة والعاشرة. وهكذا جرى ترتيب كل شيء.
في هذه المرحلة قاطع جيم فروبيشر شروح المحقق هانو.
إذ قال: «كلا، ما زال علينا أن نعرف ماذا حدث لإسبينوزا والأخ الأصغر».
فأجاب هانو: «أخبرتنا الآنسة للتو بأنها سمعت صوتًا خافتًا في غرفة التحف، ووجدت بيتي هارلو جالسة في المحفة. كانت بيتي قد عادت لتوها من منزل بروبيزار، حيث ذهب إليه إسبينوزا في تلك الليلة بعد أن خيم الظلام، وحين كان العشاء قد انتهى تقريبًا في منزل كرينيل … ومن منزل بروبيزار توجه إسبينوزا إلى شارع جامبيتا، وهناك انتظر جان كلاديل. لقد كانت تلك الليلة حافلةً بالأحداث، يا أصدقائي. كانت العدالة — تلك الذئبة العجوز — تشم الأرض عند أسفل الباب. كانوا يسمعونها. ولم يكُن لديهم وقت يضيعونه!»
ثم حلَّت الليلة التالية. وكان العشاء متأخرًا جدًّا كما تذكر جيم. والسبب أن بيتي كانت تساعد آن في ارتداء ملابسها؛ إذ إن فرانسين حصلت على إجازتها. تناول جيم وبيتي العشاء معًا، وبينما كانا يتناولانه، تسللت آن أبكوت إلى الطابق السفلي، تغطي ثوبها الجميل بعباءة من فرو القاقوم الأبيض. فتحت الباب الأمامي قليلًا، وفور توقف سيارة جين لوكلير أمام البوابة، اندفعت آن عَبْر الفناء. كانت جين قد فتحت باب السيارة. وما كادت السيارة تتوقف حتى انطلقت مجددًا. وتذكر جيم بوضوح، وهو يستمع للقصة، مدى شُرود بيتي أثناء العشاء، ومبلغ ارتياحها العظيم حين أُغلق باب القاعة برفق، وتحركت السيارة خارجة من شارع تشارلز روبيرت. لقد غادرت آن أبكوت منزل كرينيل إلى غير رجعة. لن تعود لتشكل تهديدًا لبيتي هارلو بعد الآن.
وصلت جين لوكلير وآن أبكوت إلى منزل السيدة لو فاي بعد العاشرة بدقائق قليلة. وتقدم ميشيل لو فاي لاستقبالهما.
وقال لآن: «يسعدني مجيئك كثيرًا يا آنسة، ولكنكِ تأخرتِ. لقد تركت والدتي مكانها عند باب قاعة الرقص، لكننا سنجدها لاحقًا.»
ثم أخذهما إلى غرفة المعاطف، وبينما كانتا تخرجان، انضم إليهما إسبينوزا.
سأل ميشيل لو فاي: «هل سترقصان الآن؟ ليس بعد! إذن سيرافقكما السيد إسبينوزا إلى صالة الطعام بينما أستقبل الضيوف الآخرين.»
وانطلق مسرعًا نحو قاعة الرقص، حيث كانت أصوات عالية تتداخل مع موسيقى الفرقة. وقاد إسبينوزا السيدتين إلى سفرة الطعام. ولم يجدوا عندها أحدًا تقريبًا.
وقالت جين لوكلير بصوت منخفض: «ما زلنا باكرين. لنتناول بعض القهوة.»
لكن آن رفضت. كانت عيناها على الباب، وقدماها تتراقصان، ويداها لا تهدآن. هل كانت الرسالة خدعة؟ هل ستكتشف الحقيقة فعلًا خلال دقائق قليلة؟ تارةً كانت تشعر بأن قلبها سيسقط بين قدميها، وتارةً أخرى بأنه يحلق عاليًا.
وقال إسبينوزا بإلحاح: «آنسة، أنتِ تهملين قهوتكِ. وهي لذيذة وطيبة.»
أجابت آن: «لا شك في ذلك.» ثم التفتت إلى جين لوكلير. وسألتها: «سترسلينني إلى المنزل، أليس كذلك؟ لن أنتظر … بعد ذلك.»
أجابت جين: «بالطبع. جرى الترتيب لكل شيء. السائق يعرف ما عليه فعله. هلا شربت قهوتك يا عزيزتي؟»
لكن آن أصرت على الرفض.
إذ قالت بحزم: «لا أريد شيئًا. حان وقت ذهابي.» وقد لمحت تبادلًا سريعًا وغريبًا للنظرات بين جين لوكلير وإسبينوزا، لكنها لم تكُن في حالة تسمح لها بالبحث عن تفسير. لا ريب في أن القهوة التي قُدمت لها كانت مَخْلوطةً بمخدرٍ دسه إسبينوزا عند إحضارها من السفرة إلى المنضدة التي جلسوا حولها؛ مخدر كفيلٌ بشل وعيها وتيسير التعامل معها. لكنها لم تستسلم، ووقفت على قدميها.
وقالت: «سأجلب ردائي»، وأخذتها، تاركة رفيقيها معًا. ولم تعد إلى غرفة السفرة.
في الجانب البعيد من البهو الكبير، امتد ممر طويل. وفي بدايته، وقف ميشيل لو فاي كحارس يحرسه. وقد أشار إليها، ولما اقتربت منه:
قال بصوت منخفض: «انزلي وانعطفي يمينًا نحو الجناح. ستكون المكتبة الصغيرة أمامكِ مباشرةً».
انسلَّت آن من جانبه. ودلفت إلى جناح من البيت كان خاليًا تمامًا وصامتًا. وفي نهايته وقفت أمام باب مغلق. ففتحته برفق. كان الظلام يعم المكان. تسلل من الممر ما يكفي من نورٍ، ليُبين لها رفوف الكتب الشاهقة على الجدران، وأماكن الأثاث، وستائر داكنة ثقيلة في الجهة المقابلة. كانت إذن أول من وصل إلى الملتقى. فأغلقت الباب خلفها وتقدمت بحذر وبطء ويداها مبسوطتان أمامها، حتى شعرت بالستائر في يدها. فدخلت إلى الحيز وراءها، وكان ذاك الحيز مشربية مقوسة، ناتئة وكبيرة، تطل على الحديقة؛ وفجأةً، سمعت صوتًا غريبًا كأنه صرير، جعل قلبها يقفز إلى حلقها.
إذَن لم تكُن وحدها في الغرفة. كان هناك مَن يراقبها بصمت وهي تدخل من الممر المضيء. ارتفع الصوت أكثر. وحدَّقت آن من بين الستائر، أخذت تباعد بينها بيدين مرتجفتين، ومن صدع خلفها تسلل ضوء خافت إلى الغرفة. في الزاوية البعيدة قرب الباب، كان شيء ما يتشبث برف كتب عالٍ، وينزل منه. كان ثمة مَن يختبئ خلف القمة المزخرفة لخزانة الكتب الثقيلة المصنوعة من خشب الماهوجني؛ والآن ها هو يستخدم الرفوف كسلالم للنزول.
استبدَّ الرعب بآن. وتفطرت من حلقها شهقة. ثم انطلقت نحو الباب. لكنها كانت قد تأخرت. إذ انقضَّ عليها هيكل أسود من أعلى خزانة الكتب إلى الأرض، وما إنْ مدَّت يدها نحو الباب، حتى لُف وشاح حول فمها ليخنق صرختها. ثم جُذبت إلى الداخل بعنف، لكن أصابعها كانت قد لمست مفتاح الإضاءة بجانب الباب، وبينما هي تتعثر وتسقط، أضيئت الغرفة فجأة. انقض عليها المهاجم يحاول إنهاك أنفاسها، ورَبَط الوشاح بإحكام خلف رأسها. حاولت آن أن تنهض، ولكنها أدركت بشهقة من الذهول أن المعتدي الذي يسيطر عليها بثقل جسده ويثبتها بركبتيه لم يكُن سوى فرانسين رولار. تلاشى خوفها، ليحل مكانه سخطٌ جامح وشعورٌ بالمهانة المؤلمة. فأبدت مقاومة عنيفة بكل ما أوتيت من قوة في قوامها اللدن الممشوق. بيد أن الوشاح حول فمها أرهقها، وما لبثت أن استوعبت بفزع متصاعد أنها لا تُضاهي الفتاة القروية الصلبة. كان فارق الطول في صالح آن، لكن طولها لم ينفعها؛ فكانت كطفلة تواجه قطة برية. كانت أعصاب فرانسين من فولاذ. فجذبت ذراعي آن خلف ظهرها وكبلت رسغيها بإحكام، بينما كانت آن ملقاة على بطنها وصدرها يعلو ويهبط، وقلبها ينبض بعنف حتى شعرت بأنه سينفجر. ثم، وحين استسلمت آن، قيدت فرانسين كاحليها أيضًا.
قفزت فرانسين واقفة في طرفة عين. وركضت نحو الباب، وفتحته قليلًا وأشارت بيدها. ثم سحبت ضحيتها إلى الأريكة، ودخلت جين لوكلير وإسبينوزا إلى الغرفة.
قال إسبينوزا: «هل انتهى الأمر؟»
فضحكت فرانسين.
وقالت: «نعم، لكن تلك الصغيرة الجميلة كانت تقاوم! كان عليكم أن تجعلوها تشرب القهوة. عندها كانت ستسايرنا. أما الآن فيجب أن نحملها. إنها مشاكسة، أؤكد لكم.»
ولفت جين لوكلير وشاحًا من الدانتيل حول وجه الفتاة ليخفي الكمامة على فمها، وأثناء إمساك فرانسين لها، وضعت جين رداءها الأبيض على كتفَيها وثبتته في الأمام. ثم أطفأ إسبينوزا النور وسحب الستائر.
كانت الغرفة في الجهة الخلفية من المنزل. وكانت الحديقة تمتد أمام نافذتها. لكنها لم تكُن حديقة زينة، بل مرعى في منزل ريفي فرنسي، حيث ترعى الأبقار تحت النوافذ، ولا يُخصص للزهور والمروج المشذبة سوى شريط ضيق أمام الشرفة. تطلع إسبينوزا إلى المرعى كثيف الأشجار، ورأى الأبقار تتحرك كالأشباح في عتمة الليلة الصيفية. ففتح النافذة، وتسرب إلى أسماعهم خفقان الموسيقى الخافت من قاعة الرقص.
قال إسبينوزا: «يجب أن نسرع.»
ورفع الفتاة العاجزة بين ذراعيه وتقدم إلى المرعى. تركوا النافذة مفتوحة خلفهم، ثم حملوا ضحيتهم عابرين العشب، متخفين في ظلمة الأشجار، ومتجهين إلى نقطة محددة في ممر السيارات حيث كانت تنتظرهم سيارة في منتصف الطريق بين المنزل والبوابة. ثم بدا لهم عن يسارهم ضوءًا خافتًا يأتي من جهة الشرفة والأرض المزينة أمامها، لكنهم كانوا في بقعة مظلمة بالكامل. وقد وقفوا مرة أو نحو ذلك ليستريحوا، وكانوا حينها يوقفون آن على قدمَيها ويمسكون بها حتى يلتقطوا أنفاسهم.
همس إسبينوزا قائلًا: «بضع ياردات بعدُ ونَصِل» ثم توقف مرة أخرى وكتم سبابًا. كانوا الآن عند حافة مسار السيارات، وأمامهم مباشرة رأى إسبينوزا فستانًا أبيض اللون يتلألأ وبالقرب منه وهج سيجارة مشتعلة. فأنزل آن بسرعة وأسندها إلى شجرة. وأسرعت جين لوكلير بالوقوف أمامها بينما اقترب المتخلفان عن الحفل الراقص، وشرعت تتحدث إلى آن وتومئ برأسها وكأنها منهمكة في محادثة شيقة. وأما إسبينوزا فقد جمد الدم في عروقه حين سمع الرجل يقول:
«هناك آخرون هنا! هذا مثير للفضول. لنرَ ما شأنهم؟»
لكن حين تحرَّك عَبْر مسار السيارات، أمسكت الفتاة التي ترتدي الفستان الأبيض بذراعه.
وقالت ضاحكة: «لن يكون من اللباقة فعل هذا. لنفعل ما كنا لنريد من الآخرين أن يفعلوه معنا»، ومر الزوجان من جانبهم في تؤدة.
انتظر إسبينوزا حتى اختفى الرجل والفتاة. ثم همس بصوت مرتجف: «أسرعي! هلمي بنا!»
وبعد أن ساروا بضع ياردات أخرى، وصلوا إلى سيارة إسبينوزا المخبأة في ممشى صغير يتفرَّع من مسار السيارات الرئيسي. فوضعوا آن في السيارة. وجلست جين لوكلير إلى جانبها، فيما تولى إسبينوزا عجلة القيادة. وعندما انطلقوا نحو فال تيرزون، دقَّت ساعة بعيدة مُعلِنةً الحادية عشرة. وفي داخل السيارة، أزالت جين لوكلير الكمامة عن فم آن، وأسدلت عليها كيسًا ثقيلًا وأحكمت ربطه تحت قدميها. وعند مفترق الطرق، كان إسبينوزا الصغير ينتظر بدراجته النارية والمقطورة الجانبية.
وعندما انتهت آنسة آن أبكوت من رواية قصتها، قال هانو بهدوء: «أستطيع أن أضيف كلمات قليلة إلى تلك القصة يا آنسة. في البدء، رجع ميشيل لو فاي إلى المكتبة بعد حين، فأحكم إغلاق النافذة، معتقدًا أنك صرتِ في طريقك إلى باريس. ثانيًا، ألقي القبض على إسبينوزا وجين لوكلير وهما في طريق عودتهما إلى حفل السيدة لو فاي.»