الفصل السادس والعشرون

واجهة نوتردام

كان الحظ حليفهما للمرة الثانية. إذ كان اليوم خاليًا من الضباب والغيوم، وكانت سلسلة الجبال الفضية الشاهقة تتدلى في الأفق الأزرق متمايزة وساحرة. أشعل هانو إحدى سجائره السوداء، ثم أدار ظهره لذلك المشهد على مضض.

وقال: «لقد ارتُكبت خطيئتان جسيمتان: واحدة في البداية ارتكبتها بيتي هارلو، وأخرى في النهاية ارتكبتُها أنا، ومن بين الاثنتين، تُعد خطيئتي أقل تبريرًا. فلنبدأ القصة إذن من البداية. ماتت السيدة هارلو ميتة طبيعية. ثم دُفنت؛ وورثت بيتي هارلو ثروة آل هارلو. ثم يطلب منها بوريس وابرسكي مالًا، فترده بازدراء. ولمَ لا؟ لكنها لا بد أنها شعرت بالندم بعد أسبوع على أنها ردت عليه بتلك الطريقة! إذ فجَّر وابرسكي مفاجأته: السيدة هارلو قُتلت بالسم على يد ابنة أختها بيتي. تخيَّل مشاعر بيتي هارلو حين سمعت ذلك! تلك تهمة منافية لما هو معقول. لا شك في ذلك! لكنها أيضًا حقيقية. فقبل دقيقة كانت آمنة. لا شيء يمكن أن يمسَّها. أما الآن، فقد أصبح رأسها على المقصلة. فاعتراها الخوف. ثم يجري استجوابها في غرفة قاضي التحقيق. ولا يملك القاضي شيئًا ضدها. سيكون كل شيء على ما يرام إن لم ترتكب زلة. لكن هناك احتمالًا كبيرًا أن تزل. والسبب في ذلك أنها ارتكبت الجريمة بالفعل. والخطر الذي يَحدِق بها لا يكمن في الأدلة التي يمكن أن يقدمها وابرسكي، بل في ذاتها هي. وبعد يومين يزداد رعبها، إذ تسمع بأن هانو قد استُدعي من باريس. فترتكب خطأها. إذ ترسل إليك ببرقية في لندن.»

سأل فروبيشر مسرعًا: «ولماذا كان ذلك خطأً؟»

فقال: «لأنني بدأت أتساءل فورًا: «كيف عرفت بيتي هارلو أن هانو قد استُدعي؟» وقد أحدثتُ جلبة في مكتبي بشأن خيانة زملائي في ديجون. لكنني لم أصدق كلمة مما قلت. كلا! إنما بدأتُ أشعر بالفضول تجاه بيتي هارلو. كان هذا كل ما هنالك. ولا أزال أشعر بالفضول. بعد ذلك، نأتي إلى ديجون، وأنت تخبرها بأنك أريتني تلك البرقية.»

قال جيم معترفًا: «نعم، فعلت.» ثم أضاف ببطء: «وأتذكر أيضًا أنها مدَّت يدها إلى حافة النافذة؛ نعم، كأنها تريد أن تتماسك.»

رد هانو بإيماءة تنم عن الإعجاب: «لكنها كانت سريعة في استعادة رباطة جأشها. إذ لا بد لها أن تفسر تلك البرقية. فليس بمقدورها أن تقول لي إن موريس ثيفينيه بعث إليها برسالة مستعجلة. كلا! لذا، حين سألتها إن كانت قد تلقت واحدة من تلك الرسائل المجهولة التي تمثل صلب مهمتي الحقيقية في ديجون كما تذكر، أجابت على الفور: «نعم، تلقيت رسالة صباح الأحد أخبرتني بأن السيد هانو سيأتي من باريس ليفتك بي.» كان هذا تصرفًا سريعًا، صحيح؟ نعم كان سريعًا، لكنه كذب، وأنا أعلم ذلك. إذ لم تُطرح مسألة استدعائي حتى مساء الأحد. أترى، كانت الآنسة بيتي محاصَرة. وكنت قد طلبتُ منها الرسالة. لكنها لم تقُل إنها أتلفتها، خشية أن أظن فورًا أنها لم تتلقَّ مثل هذه الرسالة أصلًا. بل على العكس، قالت إنها في غرفة الكنز المغلة بالأختام، وهي تعرف تمامًا أنه يمكنها أن تكتبها وتضعها هناك عبر منزل بروبيزار قبل رفع الأختام. ولكن، لكي تكون الرسالة في غرفة الكنز، لا بد أن تكون قد تلقتها صباح الأحد، لأن الأختام وُضعت صباح الأحد. وهي لم تكن تعرف متى طُرحت فكرة استدعائي. كانت تجازف مجازفة غير مضمونة النتائج، وأنا أعلم أنها تكذب؛ لقد زاد فضولي بشأنها أكثر من أي وقت مضى.»

ثم توقف هانو عن الحديث. إذ كان جيم فروبيشر يحدِّق إليه وعيناه مليئتان بالذعر.

وهتف قائلًا: «كنت أنا إذن من وضعك في أثرها؟ أنا الذي جئت لأدافع عنها!» ثم أضاف: «لأنني أنا من أراك البرقية.»

رد عليه هانو بجدية: «سيد فروبيشر، لم يكن ليصبح هذا أمرًا مهمًّا لو أن بيتي هارلو كانت بريئة، كما كنت تظن»، فصمت فروبيشر.

وتابع هانو: «والآن، بعد مقابلتي الأولى مع بيتي هارلو، تجولت في أنحاء المنزل بينما كنتَ تتحدث معها في المكتبة!»

فقال جيم: «أجل.»

فقال هانو وهو يرفع حاجبيه موجهًا سؤالًا لجيم بنبرة فكاهية: «وفي غرفة الآنسة آن، وجدتُ شيئًا أثار اهتمامي من النظرة الأولى. فقل لي ما هو!» وكان يأمل في أن يلهي هذا اللغز جيم عن تأنيبه لنفسه. وقد نجح في ذلك بدرجة ما أو بأخرى.

إذ أجاب فروبيشر بابتسامة باهتة: «أعتقد أني أستطيع أن أخمن. كان الكتاب عن الاسبورانثوس.»

«نعم! سم السهم! السم الذي لا يترك أثرًا! كان هذا السم هو الكابوس الذي يراودني يا سيدي. من سيكون أول قاتل يستخدمه؟ كيف سأتمكن من مواجهته وإثبات أنه لا يمنح القاتل أمنًا أكثر مما يمنح الزرنيخ أو حمض البروسيك؟ تلك أسئلة أرعبتني. وفجأةً، دون توقع، وفي منزل تُوفيت فيه امرأة للتو نتيجة فشل في القلب، أجد مؤلَّفًا مملًّا عن هذا السم مخبأً تحت كومة من المجلات في غرفة فتاة شابة. لقد صُدمت. ما الذي يفعله هذا الكتاب هناك؟ كيف وصل إلى هناك؟ ثم ألمح إشارة على الغلاف تدل على صفحة محددة. وأفتح الصفحة، وإذا بي أجد أمامي مباشرة وصفًا لسهم سامٍّ من مجموعة سايمون هارلو. الرسائل المجهولة؟ نسيتُ أمرها في الحال. ماذا لو كان ذلك الحيوان وابرسكي على حق من حيث لا يدري، وأن السيدة هارلو قُتلت بالفعل في منزل كرينيل؟ لا بد أن أتحقَّق من ذلك. فأخفيت الكتاب تحت سترتي، وهبطت الدرج إلى الطابق السفلي، وأنا أطرح على نفسي بعض الأسئلة. هل الآنسة آن مهتمة بأمور اسبورانثوس هسبيدوس هذه؟ أم كان لديها ما تأمله من وفاة السيدة هارلو؟ أم أنها ربما لم تكُن تعلم من الأساس أن الكتاب موجود تحت تلك المجلات على الطاولة الجانبية؟ لم أكن أعلم، وكان ذهني في حالة اضطراب. ثم ألاحظ بيتي هارلو تسدد تلك النظرة الشريرة نحو صديقتها؛ كم كانت نظرة كاشفة أيها السيد! لم أكن أتعامل مع آنسة بسيطة ومتواضعة بحسب للأعراف. كلا. ثم غادرتُ منزل كرينيل وفضولي بشأن بيتي هارلو قد تضاعف.»

وسرعان ما جلس جيم فروبيشر إلى جانب هانو.

وسأله بلهجة تنطوي على شك: «هل أنت مُتيقِّن من ذلك؟»

فرد هانو باستغراب: «تمامًا.»

فقال جيم: «أنسيت، ذلك اليوم بعد أن غادرتَ منزل كرينيل، أمرتَ بانصراف الشرطي من أمام البوابة؟»

فأجاب هانو بثبات وهدوء: «كلا، لم أنسَ ذلك مطلقًا. كان شرطي النظام ببنطاله الأبيض مثيرًا للضحك؛ بل أسوأ من ذلك، كان عائقًا فعليًّا. لا فائدة من مراقبة أناس يعرفون أنهم تحت المراقبة. لذا أمرتُ بصرف الشرطي، وعندئذٍ يمكنني أن أبدأ بمراقبة حقيقية لهاتين الفتاتين في منزل كرينيل. وفي عصر ذلك اليوم، بينما ينقل السيد فروبيشر أمتعته من فندقه، تخرج بيتي هارلو في نزهة، ويتبعها نيكولا مورو سرًّا؛ ثم تختفي. ولم أُلقِ باللوم على نيكولا في هذا الشأن. إذ لا ينبغي له أن يقترب منها كثيرًا. كانت في تلك المنطقة الضيقة من الأزقة قرب منزل بروبيزار. ولا شك أنها استخدمت البوابة الصغيرة في الجدار، تلك التي استخدمناها نحن بعد أيام، لكي تختفي. فقد كان يجب عليها أن تكتب تلك الرسالة المجهولة، لتكون في انتظاري حين يُرفع الختم عن غرفة الكنز. لكنني لم أكُن أعلم كل هذا بعد. كل ما كنت أعلمه هو أن بيتي هارلو خرجت في نزهة واختفت، ثم ظهرت بعد ساعة في شارع آخر. أما أنا، فقد قضيت عصر ذلك اليوم أبحث في الكيفية التي تقضي بها الشابتان حياتهما ومن هن صديقاتهن. لم تكن عملية مثمرة جدًّا، لكنها لم تكن عديمة الجدوى. إذ وجدت بعض الأصدقاء المشبوهين في دائرة بيتي هارلو. والآن، انتبه لهذا أيها السيد! الفتيات الشابات ذوات الميول المتحررة، اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو أدبيًّا أو سَمِّ ما شئت، في حالتهن لا تُعدُّ الصداقات الغريبة أمرًا مستغربًا. بل هي متوقعة. أما في حالة فتاة شابة يبدو أنها تعيش حياة طبيعية تقليدية، فالوضع مختلف. في هذه الحالة، تكون الصداقات المشبوهة … مشبوهة فعلًا. إسبينوزا الكبير والآخر الشاب، موريس ثيفينيه، جين لوكلير؛ الأشخاص السطحيون والرخيصون من هذا النوع؛ كيف لنا أن نفسر وجودهم كأصدقاء لتلك الفراشة الرقيقة، بيتي هارلو؟»

أومأ جيم فروبيشر برأسه. لقد راوده هو الآخر شعور بعدم الارتياح بسبب العلاقة بين إسبينوزا وبيتي هارلو.

وتابع هانو: «وأما المساء الذي قضيتَه في الحديقة مع الشابتين وسط النسيم العليل، فقد قضيتُه أنا مع البروفيسور من إدنبرة. وأعددتُ فخًّا صغيرًا. نعم، وفي صباح اليوم التالي جئتُ مبكرًا إلى منزل كرينيل ونصبتُ فخي. إذ أعدتُ وضع كتاب السهام في مكانه المعتاد فوق الرفِّ.»

وهنا توقف هانو في شرحه ليأخذ سيجارة سوداء أخرى من رزمة زرقاء لا تفارق جيبه، وقدم واحدة إلى جيم.

«ثم تأتي مقابلتي مع ذلك الحيوان وابرسكي؛ فيقص عليَّ تلك القصة الغريبة عن بيتي هارلو في شارع جامبيتا قرب متجر جان كلاديل. ربما كان كلامه كذبًا. وربما كان صادقًا فيما رأى وكان مجرد حادث عرَضي. نعم! لكن أيضًا، تلك القصة تتلاءم تمامًا مع هذه الفرضية عن جريمة قتل السيدة هارلو التي بدأت تسيطر على ذهني. فإن كان ذلك السم قد استُخدم، فلا بد أن شخصًا يعرف تركيب العقاقير هو من أعد المحلول باستخدام العجينة التي كانت على السهم. وهنا وصل فضولي تجاه بيتي هارلو إلى أقصاه! وما إن غادرني ذلك الحيوان، حتى نصبتُ الفخ؛ ونجحتُ نجاحًا فاق كل توقعاتي. فقد أشرت إلى مؤلف البروفيسور الاسكتلندي. لم يكُن في مكانه بالأمس. أما اليوم، فهو هناك. فمن أعاده إذَن؟ طرحت ذلك السؤال ووجدت الآنسة آن تائهة تمامًا. لا تعرف شيئًا عن ذلك الكتاب. كان هذا واضحًا كوضوح جبل مون بلان في الأفق هناك. أما بيتي هارلو، فتعرف فورًا من أعاد ذلك الكتاب؛ وفي لحظة سخرية حمقاء، تتيح لي أن أرى بأنها تعرف. كانت تعرف أنني وجدته بالأمس، وأنني طالعته منذ ذلك الحين ثم أعدته. ولا تُبدي أي اندهاش. كلا لم تفعل، فهي تعرف أين وجدته. عندها، أصبحت مثل وابرسكي. يخامرني شعور في قلبي أنها هي من وضعته تحت تلك المجلات في غرفة آن أبكوت، رغم أنني لم أعلم بذلك بعد في قرارة نفسي. كانت بيتي هارلو قد أعدت خطة لتحويل الشبهات عن نفسها إلى آن أبكوت، في حال نشأت تلك الشبهات. لكن الأبرياء لا يفعلون ذلك، أيها السيد.

ثم ننتقل إلى الحديقة وتحكي لنا الآنسة آن قصتها. وبعدها مباشرة قلت لك يا سيد فروبيشر إن كل العتاة في الإجرام ممثلات بارعات. لكنني في حياتي كلها لم أرَ واحدة تتقن التمثيل كما فعلت بيتي هارلو أثناء سرد تلك القصة. تصور! جريمة قتل بشعة ارتُكبت سرًّا، وفجأة تضطر القاتلة إلى الاستماع إلى رواية حقيقية عن تلك الجريمة، في حضور المحقق الذي يسعى لإيجاد الجاني! كان هناك شخص قريبٌ بما يكفي طوال الوقت، يكاد يرقى إلى مصاف شهود العِيان، بل ربما كان شاهد عِيان حقيقيًّا. إذ إنها لا تستطيع أن تطمئن أنها بأمان حتى تُروى القصة كاملة. تخيل مشاعر بيتي هارلو خلال تلك الساعة في الحديقة الغناء، إن استطعت! ما الأسئلة التي لا بد أنها كانت تتزاحم في رأسها! هل تقدمت آن أبكوت في النهاية وتسللت لترى من خلال الباب المضاء؟ هل تعرف الحقيقة؛ وهل أخفتها حتى هذه اللحظة حينما أصبح بمقدورها أن تقولها بأمان في حضور هانو وفروبيشر؟ هل ستكون كلماتها التالية «وها هي ذي القاتلة تجلس إلى جانبي»؟ لا بد أن تلك كانت لحظات مرعبة لبيتي هارلو!»

أضاف فروبيشر: «ومع ذلك، لم تظهر عليها أي علامة على الاضطراب.»

فعلق هانو: «لكنها أخذت حذرها. فقد ركضت فجأةً، وبسرعة كبيرة، إلى داخل المنزل.»

«نعم. بدا لي أنك كنت على وشك منعها.»

تابع هانو: «وقد كنتُ فعلًا على وشك منعها فعلًا. لكنني تركتها، فعادت …»

قاطعه فروبيشر «وبيدها صور السيدة هارلو.»

هتف هانو: «بل وأكثر من مجرد تلك الصور! فقد أدارت مقعدها نحو الآنسة آن. وجلست وهي تمسك بمنديلها، ووجهها مُغطًّى بالمنديل، تستمع استماعَ صديقةٍ حنونة ومتعاطفة. ولكن عندما قالت الآنسة آن إن وقت الجريمة كان في العاشرة والنصف، تمكن منها الضعف؛ لم يسعها سوى أن تضطرب. وفي تلك اللحظة من الضعف، أسقطت منديلها. صحيح أنها التقطته في الحال. لكنها وضعت قدمها حيث سقط المنديل، وعندما انتهت القصة تمامًا، ونهضنا من مقاعدنا، دارت على عقبها بعنف أكيد حتى خلفت في العشب اللين ثقبًا ظاهرًا. كنت حريصًا على معرفة الشيء الذي أحضرته معها من المنزل في منديلها، وأسقطته مع المنديل، ثم دفنته بثقل جسدها كلِّه في التربة حتى لا يراه أحد. في الواقع، تركت قفازي عامدًا كي أعود وأكتشفه. لكنها كانت أسرع مني. فقد أحضرت لي قفازي بنفسها، وكم فوجئت! أنا، هانو، تخدمني مثل هذه الشابة الرقيقة! على كل حال، وجدته لاحقًا عندما كنت أنت وجيراردو والباقون تنتظرونني في المكتبة. كان ذلك هو قرص سيانيد البوتاسيوم الذي أريتك إياه في المديرية. لم تكُن بيتي تعرف مقدار ما ستكشفه آن أبكوت. وكان سُم السهم مخبَّأً في منزل بروبيزار. لكن كان معها شيء آخر في متناول يدها؛ شيء أسرع قتلًا وأشد فتكًا. لذلك ركضت إلى الداخل لتحضره. وصدقني أيها السيد، لقد تطلب الأمر جرأة هائلة أن تجلس هناك وذلك القرص على مقربة من فمها. لقد شحب وجهها كثيرًا. لا أستغرب ذلك. ما أستغربه هو أنها لم تسقط فورًا من كرسيها في حالة إغماء تام أمام أعيننا. لكنها لم تفعل! بل جلست هناك، مستعدة لابتلاع ذلك القرص في الحال إن لزم الأمر، قبل أن تصل يدي إليها. أكرر قولي لك: الأبرياء لا يفعلون ذلك.»

لم يكُن لدى جيم حجة يجيب بها.

وفي نهاية المطاف لم يجد بدًّا أن يقول: «نعم. من المؤكد أنها حصلت على الأقراص من جان كلاديل.»

فتابع هانو: «وبعدها، افترقنا لتناول الغداء، وتمت إزالة الأختام في فترة بعد الظهر. لكن قبل أن يحدث ذلك، كان لا بد من إنجاز بعض الأمور. يجب نقل الساعة من رف المدفأة في غرفة الكنوز إلى الخزانة المطعمة. ويجب أيضًا حرق بعض الرسائل.»

سأل فروبيشر بحماسة: «نعم. ولماذا؟»

فهزَّ هانو كتفَيه.

«لقد أُحرقت الرسائل. ومن الصعب تبين السبب. من جهتي، أظن أن تلك الرسائل القديمة بين سايمون هارلو ومدام رافيار كانت تشير مرارًا إلى الممر السري. لكن هذا مجرد تخمين. بيد أن ما تأكدت منه خلال ساعة الغداء تلك، هو أن هناك ممرًّا سريًّا، وأنه يمتد من غرفة الكنوز إلى منزل بروبيزار. إذ لم يخطئ نيكولا مورو هذه المرة. لقد تبعها إلى منزل بروبيزار، ورأيت أنا من هذا البرج الدخان يتصاعد من المدخنة. انظر، يا سيدي، ها هي تلك! لكن لا يتصاعد الدخان منها اليوم.»

ثم نهض واقفًا وأدار ظهره لجبل مون بلان. كانت الأشجار في الحديقة، وسقف منزل كرينيل المنحدر المزين بنقوش صفراء، ومداخن المنزل، كلها بارزة فوق المباني الأدنى من حولها. لم يكن الدخان يتصاعد اليوم إلا من واحدة من تلك المداخن، وهي تلك الموجودة في أقصى طرف المبنى حيث تقع المطابخ.

«ثم عدنا في فترة ما بعد الظهر. وأُزيلت الأختام. وكنا في غرفة نوم السيدة هارلو، حين حدث أمر لا أستطيع تفسيره.»

فقال فروبيشر بثقة: «اختفاء العَقد»؛ وابتسم هانو ابتسامة عريضة.

وهتف: «انظر! نصبت لك فخًّا، ووقعت فيه على الفور! العقد؟ كلا، كلا، كلا! كنت مستعدًّا لذلك. إنه لإلقاء التهمة على الآنسة آن. حسنًا! لكن لا يكفي أن يُخفى كتاب السهم المسموم في غرفتها. لا، لا بد من منحها دافعًا كذلك. إنها فقيرة؛ ولن ترث شيئًا. إذن، يختفي العقد الذي يساوي ١٠٠ ألف جنيه، ويُترك لك أن تستنتج ما تشاء من اختفائه. كلا، الأمر البسيط الذي لا أستطيع تفسيره مختلف. تذهب بيتي هارلو والطيب جيراردو إلى غرفة جين بودن ليتأكدا من أن صرخة من غرفة السيدة لا يمكن سماعها هناك.»

«نعم.»

«ثم يعود جيراردو.»

«نعم.»

«لكنه عاد وحده. هذا هو الأمر الصغير الذي أعجز عن تفسيره. أين هي بيتي هارلو؟ أسأل عنها قبل أن أدخل غرفة الكنوز، وإذا بها، بكل تواضع وهدوء، قد اندست بيننا من جديد. كنت شديد الفضول بشأن هذا يا صديقي، أؤكد لك أنني ظللت متيقظًا ومنتبهًا لأعرف تفسيره.»

قال فروبيشر: «أتذكر. توقفت عند الباب وسألت عن الآنسة هارلو. تساءلت وقتها عن سبب توقفك. لم أعلق أهمية على غيابها.»

لوَّح هانو بيده في الهواء. كان سعيدًا. كان في مزاج الفنان بعد إنجاز عمله. بعد انتهاء التوتر والألم. والآن فليحُز الأمر إعجابَ المتفرجين!

«وأنت تعرف كل ما كشفته غرفة الكنوز يا سيد فروبيشر. لكنني سأجيب عن سؤال في مذكرتك. ما إن دخلت الغرفة، حتى بدأت أبحث عن مدخل الممر السري القادم من منزل بروبيزار. وقد رأيته على الفور. لا يوجد سوى مكان واحد ممكن. المحفة الفاخرة التي وُضعت بشكل جميل في تجويف الجدار. وقد حرصت ألا أفتِّش بين وسائده بحثًا عن السهم المسموم؛ تمامًا كما كنت حريصًا ألا أطلب المظروف الذي يحمل ختم البريد الذي أُرسلت فيه الرسالة المجهولة. إذا ظنت بيتي هارلو أنها تفوقت على الثعلب العجوز هانو … فليكن! دَعْها تظن ذلك. ثم صعدنا إلى الطابق العلوي، وهناك وجدت تفسيرًا لذلك الأمر البسيط الذي أزعجني، وهو غياب بيتي هارلو.»

فحدَّق به جيم فروبيشر.

وقال: «كلا، لم أفهم ذلك بعد. دخلنا غرفة الجلوس الخاصة بآن أبكوت. وكتبتُ مذكرتي باستخدام قصبة السهم المسموم، ولاحظتَ ذلك، نعم! لكن أمر غياب بيتي هارلو! لا، لم أفهمه.»

صاح هانو: «لكنك فعلت! إنه ذلك القلم! لم يكن في الصينية المخصصة للأقلام في اليوم السابق، عندما وجدتُ الكتاب. كان هناك قلم واحد فقط؛ ذلك الشيء السخيف الذي تستخدمه الفتيات، ريشة إوزة ضخمة مصبوغة بالأحمر، ولا شيء غيره. لقد وُضعت قصبة السهم هناك لاحقًا. متى؟ بالطبع، الآن فحسب. واضح ذلك. أين كانت القصبة قبل ذلك؟ في أحد مكانين: إما في غرفة الكنوز وإما في منزل بروبيزار. لقد أخذتها بيتي هارلو خلال تلك الساعة من الحرية؛ وحملتها في ثوبها؛ واقتنصت لحظتها المناسبة عندما كنا جميعًا في غرفة نوم السيدة هارلو، وسرعان ما أصبحت في صينية الأقلام الخاصة بالآنسة آن، لتجعل الشكوك أكثر إقناعًا! ثم مشيتُ مع السيد بيكس، الذي كانت لديه خطة رائعة أن أبحث في قنوات الصرف عن علبة ثقاب مليئة باللآلئ. وقد وافقته؛ نعم، هذا هو الحل الوحيد. لقد وجدها السيد بيكس! من جهتي، حصلت على بعض المعلومات المفيدة عن منزل كرينيل ومنزل بروبيزار. حملت هذه المعلومات إلى خبير واسع المعرفة في دار أرشيفات الإدارات، وفي صباح اليوم التالي ألممتُ بكل شيء عن إتيان دي كرينيل المتجهم، والسيدة دي بروبيزار المبتهجة. لذا، بينما كنتَ أنت وبيتي هارلو تتدربان على الرحلة في فال تيرزون، كنتُ ونيكولا مورو منشغلين جدًّا في منزل بروبيزار؛ بالنتائج التي باتت واضحة لك الآن، وإحداها لم أخبرك بها بعد. فقد كان عقد اللؤلؤ في درج طاولة الكتابة.»

جال جيم فروبيشر في أرجاء الشرفة. نعم، لقد اتضحت له المسألة الآن؛ قصة الأهواء الشريرة والغرور، والطمع في السُّلطة بأساليب قاسية. هل هناك بصيص أمل وسط هذا الخراب؟ استدار جيم فجأة نحو هانو. أراد أن يعرف التفصيل الخفي الأخير.

«قلتَ إنك ارتكبت الخطأ الذي لا يُغتفر. ما هو؟»

«طلبت منك أن تقرأ تقديري لآن أبكوت على واجهة كنيسة نوتردام.»

فقال جيم فروبيشر: «وقد فعلت.» كان لا يزال ينظر نحو منزل كرينيل، وقد تحركت ذراعه نحو يسار المنزل. وأشارت أصابعه إلى الكنيسة التي تعود إلى عصر النهضة بقبابها وأروقتها، والتي أوصلته بيتي هارلو إليها بالسيارة.

«ها هي ذي هناك، وتحت رواقها ذاك النحت الرهيب الذي يصوِّر يومَ الحساب.»

فقال هانو بهدوء: «نعم، لكن هذه هي كنيسة سان ميشيل يا سيدي.»

ثم جعل فروبيشر يستدير. فإذا أمامه، في نقطة بينه وبين مون بلان، وبالقرب منه، ترتفع قبة كنيسة رشيقة البناء على الطراز القوطي، وكأنها جوهرة.

«تلك هي كنيسة نوتردام. دعنا ننزل وننظر إلى الواجهة.»

قاد هانو فروبيشر إلى الكنيسة العجيبة وأشار إلى الإفريز. وهناك رأى فروبيشر صورًا لشياطين نصفها حيواني ونصفها بشري، وخنازير بشرية تضحك، ومخلوقات معذبة برءوس ملتوية تنظر إلى الخلف، وكائنات هرِمة وثملة وفاسدة يعجز الخيال عن تصورها؛ وبينهم فتاة واحدة تصلي، وجهها الجميل متألم، ويداها مشبوكتان بشدة في تضرع، صورة للخوف والإيمان، أسيرة وسط هذه الوحوش، تستغيث بالمارة طلبًا للرحمة والعون.

وقال هانو بجدية: «تلك يا سيد فروبيشر، هي ما أرسلتُك كي تراها. لكنك لم ترَها.»

وقد تغير وجهه وهو يتكلم. إذ أشرق بالمودة. ورفع قبعته.

وكان جيم فروبيشر يقف بعينين شاخصتين في دهشة وهو ينظر إلى الإفريز، وذلك حين سمع صوت آن أبكوت خلفه.

وقالت آن وهي تقف بجانب الرجلين: «وكيف تفسر هذا العمل العجيب، سيد هانو؟»

فقال هانو: «سأترك تفسير هذا للسيد فروبيشر يا آنستي.»

والتفت كلٌّ من آن أبكوت وجيم فروبيشر بسرعة نحو هانو. لكنه كان قد اختفى بالفعل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥