خدم الصدفة
وجد فروبيشر نفسه في أحد أركان غرفة مستطيلة. وأمامه كان هناك زوج من النوافذ تطلُّ عَبْر النهر اللامع على مسرح شاتيليه الكبير. على يساره كانت هناك طاولة ضخمة عليها بعض أكوام من أوراق مرتبة بعناية، وقد جلس إليها رجل كبير الجسم قويُّ البنية. نظر فروبيشر إلى الرجل بصدمة ودهشة خفيفة، تمامًا كالمبتدئ في ساحة المبارزة الذي يواجه مُعلِّمه الذي لا مفرَّ من مواجهته؛ لقد فاجأه أنه بدا عاديًّا في نهاية المطاف. ومن جانبه، لا يمكن أن نقول إن هانو نظر إلى فروبيشر على الإطلاق؛ ولكن عندما تحدث كان واضحًا أنه نظر إليه بطريقة ما وكانت نظرته فاحصة. نهض هانو بانحناءة طفيفة واعتذر.
«لقد أطلت عليك الانتظار سيد فروبيشر. صديقي العزيز السيد ريكاردو لم يذكر غايتك في رسالته. ظننت أنك جئت بالرغبة المعتادة في رؤية شيء من عالَم الجريمة. والآن بما أنك أمامي، أعرف أن رغبتك أكثر جدية.»
كان هانو رجلًا في منتصف العمر، ذا شعر داكن كثيف، ووجه مستدير وذقن حليق كمُمثِّل هزلي. ولم يكُن في مظهره شيء ذو دلالة — على الأقل عند رؤيته لأول مرة في مزاج حَسَن — سوى العينين الفاتحتين تحت جفنَيه الثقيلين نوعًا ما. أشار هانو إلى كرسي.
وقال: «هلا جلست من فضلك؟ سأخبرك يا سيد فروبيشر أن للسيد ريكاردو — ولأصدقائه — مكانة خاصة ومَعَزَّة في قلبي … لكن الأفعال أبلَغ من الكلام، كيف يمكنني مساعدتك؟»
وضع جيم فروبيشر قبعته وعصاه على طاولة جانبية واتخذ مجلسه في الكرسي أمام طاولة هانو.
وقال: «أنا شريك في مكتب محاماة يُعنى بالمصالح الإنجليزية لعائلة في ديجون» وحينها رأى الحيوية والتعبيرات تختفي من محياه. قبل لحظة كان برفقة رفيق ودود ولطيف؛ والآن ها هو ينظر إلى رجل بلا عاطفة.
قال هانو: «أجل؟»
استطرد جيم: «تحمل هذه العائلة اسم هارلو.»
قال هانو: «أوهو!»
لم تُوحِ لفظته بأي قدر من الاندهاش، وبالكاد كانت تشي بالاهتمام. ومع ذلك، واصل جيم حديثه.
«العضو المتبقِّي من هذه العائلة هي فتاة في العشرينيات من العمر اسمها بيتي هارلو، قام شخص روسي هو بوريس وابرسكي ويرتبط بالعائلة عن طريق الزواج، بتوجيه اتهام لها بالقتل.»
قال هانو: «أها! ولماذا أتيت لي يا سيد فروبيشر؟»
حدَّق جيم بالمحقق. كان سبب قدومه واضحًا.
ومع ذلك، لم يعُد جيم مُطمَئِنًّا من موقفه. كان هانو قد فتح درجًا في طاولته وشرع يضع فيه أحد الملفات.
وقال: «أجل؟» كمَن يقول: «أنا أستمع.»
فقال جيم: «ربما أكون مخطئًا. لكن أمكن إبلاغ مكتبي أنك أنت — السيد هانو — المسئول عن القضية»، فتوقفت حركات هانو فجأة. كان الملف في راحة يده كما لو كان يَزِنه، كان ثابتًا بشكل استثنائي؛ وقد راود جيم انطباعٌ سريع أن هانو كان أكثر من مُرتبِك. بعد ذلك وضع هانو الملف في الدرج وأغلقه بهدوء. وقد تحدَّث بهدوء أيضًا ولكن بصوتٍ ناعمٍ، وكان في صوته نبرة وجدها فروبيشر مُقلِقة في واقع الحال.
«هذا ما أُبلغتم به يا سيد فروبيشر! وفي لندن! اليوم الأربعاء! الأخبار تنتقل بسرعة كبيرة في هذه الأيام، بالتأكيد! حسنًا، ما أُبلغتم به صحيح. أُهنِّئُكم. لقد أحرزتم النقطة الأولى.»
سرعان ما استغلَّ جيم فروبيشر تلك الكلمة. كان قد فكَّر في أثناء رحلته أي شخصية ستكون مفيدة أكثر في تناول الموضوع مع المحقق. وقد قدَّم له تعليق هانو البسيط واللاذع هذا الثغرة التي كان بحاجة إليها.
فردَّ بجدية: «ولكنني لا أتبنى هذه النظرة على الإطلاق، سيد هانو. يروقُني الاعتقاد بأنه لن يكون بيننا أيُّ خصومة أو نزاع. لأنه إذا كان هناك نزاع، فسأكون أنا الخاسر بالتأكيد. كلا! أنا متأكد أن الرغبة الوحيدة التي لديك في هذا الشأن هي الوصول إلى الحقيقة. بينما رغبتي هي أن تنظر إليَّ فقط كزميل دون العادي، والذي يستطيع مساعدتك لحسن الحظ.»
مرَّت ابتسامة على وجه هانو وأعادت له شيئًا من اللطف والوداعة.
وعلَّق يقول: «دائمًا ما كانت المبالغة والتحدُّث بقوة مفيدين. والآن، أي نوع من المساعدة، سيد فروبيشر؟»
«من هذا النوع يا سيد هانو. رسالتان من بوريس وابرسكي يطلب فيهما المال، وتنطوي الثانية على تهديدات. تلقتهما شركتي قبل أن يُقدَّم هذا الاتهام، وكلتاهما بالطبع لا تزالان دون رد.»
ثم أخرج الرسالتين من المظروف الطويل وسلَّمَهما عَبْر الطاولة إلى هانو الذي قرأهما ببطء، وكان يترجم في ذهنه العبارات إلى الفرنسية أثناء القراءة. راقب فروبيشر وجهه بحثًا عن تعبير عن الراحة أو الرضا. ولكن أُصيب بإحباط شديد عندما لم يحدث تغيير من هذا القبيل؛ وقد التفت إليه هانو في النهاية بشيء من الاستنكار الذي يقارب الأسف.
«نعم … لا شك أن هاتين الرسالتين لهما أهمية مُعيَّنة. ولكننا يجب ألا نبالغ بشأن أهميتهما. القضية صعبة جدًّا.»
هتف جيم بغضب: «صعبة!» بدا أنه كان يطرق عبثًا جدارًا سميكًا من البلاهة. لكن هذا الرجل أمامه ليس بأبله أو غبي.
وصاح: «لا أفهم ذلك! هذه أوضح حالة على الابتزاز يمكنني تخيلها …»
قال هانو محذرًا: «الابتزاز كلمة قبيحة، سيد فروبيشر.»
فردَّ جيم: «والابتزاز شيء قبيح. بحقك يا سيد هانو، بوريس وابرسكي يعيش في فرنسا. حتمًا تعرف شيئًا عنه. حتمًا لديك إضبارة له.»
انقضَّ هانو على الكلمة بهتاف صغير من الابتهاج، وتفجَّرت في وجهه الابتسامات، وأخذ يهزُّ إصبعه بجذل نحو زائره.
«آه، آه، آه، آه! إضبارة! نعم، كنت بانتظار هذه الكلمة! أسطورة الملفات الشاملة الكبرى! أنت أيضًا لديك هذا الاعتقاد الساحر، سيد فروبيشر. فرنسا وإضباراتها! نعم. إذا نفدت مناجم الفحم فيها، بمقدورها دائمًا أن تحافظ على دفئها بحرق ملفاتها! المعروف أن ملفك يبدأ في اللحظة التي تضع فيها قدمك لأول مرة في كاليه! صحيح؟ تسافر إلى باريس … يُدوَّن ذلك بالملف! تتناول العشاء في فندق ريتز … يُدوَّن ذلك أيضًا! بعد ذلك تذهب إلى حيث لا ينبغي بك أن تذهب … فيُدوَّن ذلك أيضًا! تعود متأخرًا إلى الفندق، يعتريك شعور بعدم الارتياح لأنك على يقين من أنه في مكان ما في هدأة الليل ثمة موظفون ستة صغار بِلِحًى سوداء ويحملون مصابيح ذات ظلال خضراء يكتبون كل شيء في إضبارتك. لكن … مهلًا!»
فجأةً نهض هانو من كرسيه وإصبعه على شفتَيه، وعيناه جاحظتان. لم يكُن هناك رجل أكثر منه غموضًا، ولا أجلَّ منه في غموضه. وتسلَّل هانو نحو الباب على أطراف أصابعه بخطوات خفيفة مُدهِشة من رجل بحجمه. وبصمت وببطء شديد، وبعين مُشرِقة ومُتأهِّبة مثل عين طائر تنظر إلى فروبيشر، أدار المقبض. ثم سحب الباب بسرعة نحوه. كانت هذه هي الحركة الكلاسيكية للكشف عن المُتنصِّتين، والتي نراها في مئات المسرحيات الكوميدية والهزلية؛ وقد نفَّذَها هانو بامتياز لدرجة أن جيم توقَّع تقريبًا أن يرى خادمة غرفة مرتبكة تسقط على ركبتَيها، حتى في مكتب البحث الجنائي هذا. لكنه لم يرَ شيئًا سوى ممرٍّ قذر مُضاء بضوء صناعي وفيه رجال ينتظرون في هدوء. أغلق هانو الباب مرة أخرى، وقد بدا عليه الارتياح الشديد.
وهمس قائلًا: «لم يسمعنا رئيس الوزراء، نحن في أمان.» وعاد إلى جانب فروبيشر. ثم انحنى وهمس في أذن ذلك الرجل الحائر:
«أستطيع أن أخبرك عن تلك الملفات. هي في تسعة أعشارها شائعات الحارس مترجمة إلى لغة شرطي يعتقد أن الجميع يجب أن يكونوا في السجن. إذ يقول الحارس: هذا السيد فروبيشر … يوم الثلاثاء عاد إلى المنزل في الواحدة صباحًا ويوم الخميس عاد في الثالثة يرتدي زيًّا غريبًا؛ وفي تقرير الشرطي يصبح كلامه، «السيد فروبيشر يعيش حياة منفلتة»، ويستقرُّ هذا عنك في ملفك … نعم يا صديقي، هكذا تمامًا! ولكن هنا في مكتب البحث الجنائي … لا تنبس ببنت شفة عن هذا الأمر، وإلا آذيتني! … هنا نحن مثل الآنسة بيتي هارلو، «نحن نزدري تلك الملفات».»
كان ذهن جيم فروبيشر من النوع الحذِر. فلكي يتغيَّر من حالة مزاجية إلى أخرى، يتطلَّب الأمر توالي الأفكار وتدرُّجها. في الوقت الراهن كان فروبيشر في حالة من الارتباك الشديد. قبل دقيقة واحدة، كان هانو عميل العدالة الجاد؛ ودون أدنى إشارة، أصبح هازلًا ومستمتعًا بذلك أيما استمتاع. أصبح لَعوبًا ومهرِّجًا. يكاد جيم يسمع أجراس قبعته لا تزال ترن. لم يزِد جيم على أنْ أخَذَ يُحملِق فيه، وقد عاود هانو الجلوس في كرسيه بابتسامة كدرة.
وقال بأسف غريب: «إذا عملنا معًا في ديجون يا سيد فروبيشر، فلن أستمتع كما استمتعتُ مع صديقي الصغير العزيز السيد ريكاردو في مدينة إيكس. كلا، بالتأكيد! لو كنتُ أدَّيتُ أمامه هذه التمثيلية الهزلية الصامتة، لَجحظَتْ عينه من رأسه من الاستغراب. كان سيهمس لي، «رئيس الوزراء يأتي في الصباح ليتجسَّس عليك من خارج الباب … أوه!» ولارتعش من الحماس. لكنك … تنظر إليَّ بنظرات فاترة وجامدة، وتقول في نفسك، «هذا المدعو هانو، إنه لَمُهرِّج!»»
فقال جيم بجدية: «كلا»، فقاطع هانو اعتراضه بضحكة.
وقال: «لا يهم.»
فقال جيم: «هذا يسرني. لأنك قلت للتوِّ شيئًا سأحرص جدًّا على ألا تتراجع فيه. لقد أعطيتني أملًا أننا سنعمل معًا.» فانحنى هانو إلى الأمام ومرفقاه مستندان على مكتبه.
وقال بوداعة: «اسمعني. لقد كنت صريحًا ومُخلصًا معي. لذا سأريح عقلك. قضية وابرسكي هذه … مدير الشرطة في ديجون لا يأخذها على محمل الجد؛ ولا أنا كذلك. إنها تهمة بالقتل، وبطبيعة الحال يجب النظر فيها بعناية.»
«بطبيعة الحال.»
واصل هانو: «وبالمثل، ثمة دافع بسيط وراءها بالطبع»، فاندهش فروبيشر من أن هذه هي الكلمات نفسها التي استخدمها السيد هاسلت في اليوم السابق، رغم أن الأول تحدث بالإنجليزية والثاني بالفرنسية. «ستعرف حديثي هذا بصفتك محاميًا. ثمة حقائق بسيطة وغير سارة من الأفضل أن نحتفظ بها لأنفسنا. ولكنها مسألة هَيِّنة، ومع هاتين الرسالتين اللتين أحضرتهما لي، أصبحت حتى أكثر بساطة. سنطلب من وابرسكي أن يشرح هذه الرسائل وبعض الأمور الأخرى أيضًا، إن استطاع. إن بوريس وابرسكي هذا من نوع خاص! ستُخرَج جثة السيدة هارلو اليوم وستؤخذ شهادة الأطباء، وبعد ذلك، بلا شك، ستُرفَض القضية ويمكنك التعامل مع وابرسكي كما تشاء.»
سأل جيم: «وماذا عن ذلك السر الصغير؟»
هز هانو كتفيه.
وقال: «لا شك أنه سيظهر للنور. ولكن ما الذي يهم إذا كان سيظهر للنور فقط في مكتب قاضي التحقيق، ولا يتجاوز الباب؟»
وافقه جيم: «لا شيء على الإطلاق.»
«سترى. نحن لسنا مخيفين في نهاية المطاف، ويمكن لعميلتك الصغيرة أن تضع رأسها الجميل على الوسادة دون أن تخشى أن ينالها ظلم.»
هتف جيم فروبيشر بحماس: «شكرًا لك سيد هانو!» كان يعي شعورًا كبيرًا بالارتياح الشديد لدرجة أنه فوجئ به. كان فروبيشر أسير شعوره بالشفقة تجاه تلك الفتاة المجهولة في البيت الكبير التي كانت تتعرَّض للهجوم من جانب مجنون وليس لها نصير سوى فتاة أخرى في سنها. وأردف: «نعم، هذا خبر رائع بالنسبة لي.»
ولكنه ما كاد ينتهي من الكلام حتى تسللت الشكوك إلى ذهنه حول صدق الرجل الذي يجلس أمامه. لم يكُن جيم يريد أن يُتلاعب به وأن يكون صيدًا سهلًا، مهما كانت خبرته قليلة. فنظر إلى هانو وتساءل. هل هذه الوداعة التي يراها أقل تكلُّفًا من حالاته المزاجية الأخرى؟ لم يستقرَّ جيم على شيء بالنسبة إلى تقديره عن المحقِّق. فهو في لحظة يكون صارمًا مُتسلِّطًا، وفي اللحظة التي تليها يكون خبيثًا لَعوبًا، وفي لحظة بعدها يكون صديقًا! فأيُّهم زائف وأيُّهم حقيقي؟ لحسن الحظ، كان هناك سؤال اختباري طرحه السيد هاسلت يوم أمس، عندما كان يطل من النافذة عَبْر ميدان راسل سكوير. وقد كرَّرَه جيم الآن.
«تقول إن المسألة هيِّنة، صحيح؟»
«مِن أهوَنِ المسائل.»
«إذَن سيد هانو، كيف بحق السماء أن قاضي التحقيق في ديجون لا يزال يجد من الضروري استدعاء أحد خبراء البحث الجنائي في باريس لمساعدته؟»
كان السؤال متوقعًا بشكل بديهي، وصعوبة الإجابة عنه ليست أقل بداهة. هزَّ هانو رأسه مرَّة أو مرَّتَين.
وقال: «صحيح» ثم كرَّرها مرة أخرى «صحيح» وكأنه يساوره الشك. ونظر إلى جيم بعين تملؤها الظنون. ثم قال باندفاع: «سأخبرك بكل شيء، وعندما أخبرك، ستقطع عهدًا أنك لن تخون ثقتي لأي شخص في هذا العالم. ذلك لأن هذا أمر جاد وخطير.»
لم يستطِع جيم أن يشك في صدق هانو في هذه اللحظة، ولا في مودته. إذ كان الصدق والمودة يشعَّان من الرجل كاللهب القوي.
قال فروبيشر: «أعطيك كلمتي الآن»، ومدَّ يده عَبْر الطاولة. فصافح هانو يده. وأجابه: «أستطيع أن أتحدَّث معك بحرية، إذَن»، وأخرج حزمة صغيرة زرقاء من سجائر سوداء حالكة. «تريد سيجارة.»
أشعل الرجلان سيجارتيهما، وشرع هانو يشرح من خلال السحابة الزرقاء:
«أنا ذاهب حقًّا إلى ديجون لكن لشأن آخَر تمامًا. قضية وابرسكي هذه، إنها مجرد ذريعة! فقاضي التحقيق الذي يستدعيني … لديكم في الإنجليزية عبارة توضح ذلك …» وبفخر تحول للحديث بالإنجليزية بدرجة ما أو بأخرى. إذ قال: «يحفظ ماء وجهه! نعم، هذا هو التعبير الدلالي. يحفظ ماء وجهه، وسترى يا صديقي، أن الأمر يحتاج إلى الكثير من حفظ ماء الوجه، نعم، الكثير من ذلك. والآن اسمع! أشعر بالإثارة عندما أفكِّر في ذلك القاضي.»
ثم مسح جبينه بمنديله، وبعد أن رتَّب جملته، استأنف بالفرنسية.
«البلدات الصغيرة يا صديقي — حيث الحياة ليست مَرِحة جدًّا ولدى الناس من الوقت ما يكفي للاهتمام بشئون جيرانهم — هذه البلدات لديها جرائمها الخاصة، وربما الأكثر خطورة بينها كلها هي جريمة الرسائل المجهولة. فجأةً من العدم، تَرِد تلك الرسائل مثل الطاعون، وتكون مليئة بالاتهامات القبيحة التي يصعب دحضها، ومَن يدري؟ ربما كانت صحيحة أحيانًا. أخذت هذه الرسائل الخبيثة تتدفَّق لفترة إلى صناديق البريد ولا يتحدَّث أحدٌ بكلمة. وإذا طُلب المال، فإن الناس يدفعونه. وإذا كان ما يدفع هذا القلم المجهول إلى ذلك الفعل هو مجرد الشر، فإن مَن يتعرَّضون لأذاه ما يزالون يُمسكون ألسنتهم. ولكن بدأ كلُّ واحد يتشكَّك في جاره. تسمَّمَت الحياة الاجتماعية للبلدة. ثمة غيمة كبيرة من الرعب تجثم فوقها، حتى أصبح صوت طرق ساعي البريد — الذي هو أمرٌ مُرحَّب به في الحياة اليومية العادية — شيئًا يثير الرعب، وفي نهاية المطاف تحدث أشياء مروعة.»
كانت نبرة هانو جادة وهادئة لدرجة أن جيم نفسه ارتعد، حتى في هذه الغرفة التي يمكنه من خلالها رؤية أشعة الشمس تتلألأ على النهر وحتى مع سماع همس الشوارع الباريسية اللطيف. جاءه فوق هذا الهمس صوت طرقات حادة لساعي البريد على الباب. فرأى وجهًا ممتقعًا يزداد امتقاعًا وعيونًا ساكنة يضنيها اليأس.
وواصل هانو: «حلَّ هذا الطاعون بديجون. واستفحل طَوال ما يزيد على العام. لم تطلب الشرطة المساعدة من باريس. كلا، لم يكُن لديها حاجة للمساعدة، ستحل هذه المشكلة البسيطة بنفسها. نعم، لكن الرسائل استمرت ومعها شكاوى المواطنين. وقد قالت لهم الشرطة: «اهدءُوا! قاضي التحقيق لديه دليل. أعطوه الوقت!» ولكن الرسائل استمرَّت. ثم بعد عام تأتي قضية وابرسكي هذه في شكل منحة إلهية. على الفور، يتشاور مفوض الشرطة والقاضي معًا. «سنستدعي هانو في هذه القضية البسيطة، وسيعثر لنا على كاتب الرسائل المجهولة. سنستدعيه بطريقة سرية جدًّا، فإذا ما تعرَّف عليه أحدٌ في الشارع وصاح «هذا هانو»، يمكننا أن نقول إنه يحقِّق في قضية وابرسكي. وبهذه الطريقة، لن يتأهب كاتب الرسائل ونحن … نحن نحفظ ماء وجهنا».» واختتم هانو بحماس: «لكن كان حريًّا بهم أن يستدعوني قبل عام. لقد أهدروا عامًا كاملًا.»
سأله جيم: «وخلال هذا العام، أحدثت أشياء مروعة؟»
أومأ هانو بغضب.
«رجل عجوز وحيد ومسالم، يتناول غداءه في الفندق ويشرب قهوته في جراند تافيرن، يُلقي بنفسه أمام قطار ميدترينيان السريع فيتقطع إربًا. ويطلق عاشقان النار على نفسَيْهما في «فوري دي مواسونير». فتاة شابة تعود إلى المنزل من حفلٍ راقص؛ تتمنى لأصدقائها ليلة هانئة على عتبة منزلها وهي مبتهجة، وفي الصباح يُعثَر عليها مشنوقة في قضيب حديدي مثبت في جدار غرفتها وهي ما زالت ترتدي فستان الرقص، في حين وُجدت في الموقد بقايا محترقة من إحدى هذه الرسائل. كم تلقَّت تلك الفتاة البائسة من رسائل قبل أن تدفعها هذه الرسالة الأخيرة إلى هذا الجنون؟ آه، ألم أخبرك؟ هذا القاضي يحتاج إلى حفظ ماء وجهه.»
ثم فتح هانو درجًا في مكتبه وأخرج منه مظروفًا أخضر اللون.
«انظر، هاتان اثنتان من تلك الرسائل الثمينة»، وأخرج ورقتين مكتوبتين بالآلة الكاتبة من المظروف وسلَّمَهما إلى فروبيشر. وأضاف لما رأى الاشمئزاز على وجه قارئهما: «ربما لا تسرُّك رؤية هذه الرسائل في الصباح، أليس كذلك؟»
قال جيم: «إنها فظيعة. لم أكُن لأصدق …» ثم قطع حديثه بأن أطلق أنينًا خافتًا. «لحظة واحدة سيد هانو!» ثم مال برأسه مرة أخرى على الورق، مقارنًا بينهما، يدقِّق في كل جملة. كلا، لم يكُن هناك سوى الخطأين الاثنين اللذين لاحظهما مباشرةً. ولكن يا لها من أخطاء! على أي حال، بالنسبة إلى أي شخص يتمتع برؤية ثاقبة وقليل من الحظ فيما يتعلق بالخبرة. كانت تلك الأخطاء تقلص مجال البحث كثيرًا!
وصاح بحماس: «سيد هانو، باستطاعتي أن أقدِّم لك مساعدة إضافية.» ولم يلحظ الابتسامة العريضة التي تنمُّ عن السرور والتي بدَّلت وجه المحقق على نحو مفاجئ. «مساعدة قد تقودك سريعًا إلى كاتب هذه الرسائل.»
صاح به هانو «أصحيح؟ هات ما عندك يا صديقي الشاب. لا تتركني أرتجف من الإثارة. وإياك … أوه! إياك أن تقول إنك اكتشفت أن الرسائل كُتبت على آلة كورونا. ذلك لأننا نعرف هذا بالفعل.»
وقال وهو يسلم الرسائل إلى هانو: «حسنًا، لقد جررت ذلك على نفسي، أليس كذلك؟ كنتُ رشيدًا يا سيدي أن اعتبرتُ أن من حسن الحظ أننا لن نكون خصمين.»
فقد وجه هانو مظهره اللعوب.
وقال بكل جدية: «لا تُعلِّق آمالًا عريضة عليَّ بأكثر مما أستحق يا صديقي، وإلا خاب أملك. فنحن خدم الصدفة، حتى أفضل مَن فينا. تكمن مهارتنا في أن نحقِّق منها الاستفادة القصوى، عندما تتلألأ لجزء من الثانية أمام أعيننا.»
ثم أعاد الرسالتين المجهولتين إلى المظروف الأخضر ووضعه مرة أخرى في الدرج. وبعد ذلك جمع الرسالتين اللتين كتبهما بوريس وابرسكي وأعادهما إلى جيم فروبيشر.
«سوف تحتاج إلى هذه الرسائل في ديجون. هل ستذهب هناك اليوم؟»
«عصر اليوم.»
فقال هانو: «حسن! سأستقلُّ القطار الليلي.»
فقال جيم: «يمكنني انتظارك حتى ذلك الحين.» لكن هانو هزَّ رأسه نافيًا.
وقال: «من الأفضل ألا نذهب معًا، وألا نقيم في الفندق نفسه. سيعرف الناس في ديجون سريعًا أنك محامي السيدة هارلو الإنجليزي، وسيكون من برفقتك تحت الملاحظة أيضًا. بالمناسبة، كيف أُبلِغتم في لندن أنني أنا — هانو — مَن كُلِّفت بهذه القضية؟»
أجاب جيم: «تلقينا برقية.»
«أجل؟ ممَّن؟ يحدوني الفضول!»
«من الآنسة هارلو.»
بدَت الحيرة للحظة على مُحَيَّا هانو وللمرة الثانية في هذا اللقاء. لم يكُن جيم فروبيشر يشك في ذلك. جلس هانو على هذه الحال لفترة طويلة، سيجارته في منتصف الطريق إلى شفتيه، كأنه رجل تحول إلى حجر. ثم ضحك بمرارة، وعيناه منتبهتان ومتجهتان إلى جيم.
وسأله: «هل تعرف ماذا أفعل يا سيد فروبيشر؟ أنا أطرح على نفسي لغزًا. أجب عنه إذا استطعت! ما هي العاطفة الأقوى في العالم؟ الجشع؟ الحب؟ الكراهية؟ لا شيء منها. إنه الرغبة الشديدة لدى مسئول عام أن يأخذ عصا كبيرة ويضرب زميله المسئول على مؤخر رأسه. لقد كان الترتيب أن أذهب بسرية إلى ديجون حتى تتهيَّأ لي الفرصة لتحقيق النجاح. ترى! وقد كان الإعداد لذلك يوم السبت، وبحلول يوم الاثنين نشر زملائي الأخبار بحيث أمكن للسيدة هارلو إرسالها لك ببرقية صباح الثلاثاء. لكن هذا لطيف، أليس كذلك؟ هل يمكنني رؤية البرقية من فضلك؟»
أخرج فروبيشر البرقية من المظروف الطويل وسلمها إلى هانو الذي أخذها بشوق واستغراب وفتحها على الطاولة أمامهما. وقرأها ببطء شديد، بحيث تساءل جيم إذا كان هو أيضًا يسمع من خلال خطوط البرقية صرخة طلب المساعدة نفسها المثيرة للشفقة التي سمعها هو، مثلما يسمع المتلقِّي عبر سماعة الهاتف. لكن عندما رفع هانو وجهه، كانت كل تعابير المرارة قد ذهبت عنه.
«تلك الفتاة المسكينة خائفة الآن، أليس كذلك؟ لم تعُد أصابعها النحيلة تشير بالازدراء، صحيح؟ لا بأس، في غضون بضعة أيام سنكون قد جعلنا أمورها على ما يرام.»
قال جيم بشجاعة ونشاط: «نعم.»
«حتى ذلك الحين، سأمزق هذا، موافق؟» ورفع هانو البرقية. وأردف: «اسمي مذكور فيها. ستكون البرقية معك في أمان دون شك، لكنها لا تخدم غرضًا. وكل شيء يُمزَّق هنا يُحرَق في المساء. القرار لك» ودلَّى البرقية أمام عينَي جيم فروبيشر.
فقال جيم: «بكل تأكيد» فمزَّق هانو البرقية. ثم جمع قطع الورق المُمزَّقة معًا ومزَّقها مرة أخرى وأسقطها في سلة النفايات. ثم قال: «هكذا! أُنجز الأمر! والآن أخبرني! هناك فتاة إنجليزية شابة أخرى في منزل كرينيل.»
قال جيم بإيماءة موافقة: «اسمها آن أبكوت.»
«نعم، أخبرني عنها.»
فقدَّم جيم لهانو الرد نفسه الذي كان قد قدمه للسيد هاسلت.
«لم أرَها في حياتي. ولم أسمع عنها حتى البارحة.»
ولكن بينما تلقى السيد هاسلت الإجابة بدهشة، قبِل بها هانو بدون تعليق.
وقال بابتسامة: «سنتعرف كلانا إذَن على تلك السيدة الشابة في ديجون» ثم نهض من كرسيه.
شعر جيم فروبيشر أن المقابلة التي بدأت بشكل سيئ وتحوَّلت إلى مقابلة ودية تُعيد نفسها وتنتهي نهاية ليست جيدة. كان يعي فارقًا طفيفًا وغير ملحوظ في أسلوب هانو، ليس تقليلًا من وده ولطفه، لكن … لم يستطِع جيم أن يجد شيئًا سوى العبارة التي قالها هانو لتحديد هذا التغيير. بدا أن هانو قد استغلَّ الفرصة بينما تلوح للحظة أمام ناظريه. لكنه لم يكُن باستطاعته أن ينتبه إليها حين لاحت.
التقط جيم قبعته وعصاه. وكان هانو بالفعل عند الباب ويده على المقبض.
وقال: «وداعًا سيد فروبيشر، وأشكرك شكرًا خالصًا على زيارتك.»
وردَّ جيم: «سأراك في ديجون.»
وافقه هانو بابتسامة قائلًا: «بالتأكيد. في العديد من المناسبات. ربما في مكتب قاضي التحقيق. لكننا سنلتقي بلا شك في منزل كرينيل.»
لكن جيم لم يكُن مرتاحًا. كان هذا تعاونًا حقيقيًّا بدا هانو قبل بضع دقائق أنه يقبل به، ناهيك عن أن يتطلَّع إليه. أما الآن، فالأمر على العكس تمامًا، كان هانو يتجنبه.
فاقترح جيم: «ولكن إذا كنا سنعمل معًا؟»
أكمل هانو يقول: «قد ترغب في التواصل معي والوصول إليَّ بسرعة. أجل. وأنا ربما أرغب في التواصل معك والوصول إليك، وإن لم يكُن بسرعة، فبشكل سري جدًّا. أجل.» ثم تدبَّر السؤال في ذهنه. وأضاف: «ستمكث في منزل كرينيل كما أعتقد؟»
فقال جيم: «كلا» وشعر بشيء من الراحة لما بدت خيبة الأمل على هانو. فأوضح له: «لن يكون هناك حاجة إلى ذلك. لا يمكن لبوريس وابرسكي أن يحاول فعل المزيد. هاتان الفتاتان ستكونان آمنتين بما فيه الكفاية.»
وافقه هانو: «هذا صحيح. ستمكث إذن في الفندق الكبير في ساحة دارسي. بالنسبة إليَّ سأبقى في مكان أكثر احتجابًا، ولن أستخدم اسمي الحقيقي. سأتمسك بأي فرصة لا تزال باقية لي للحفاظ على السرية.»
ولم يتطوَّع هانو بذكر اسم الفندق المجهول أو الاسم الذي اقترح أن يتنكر به، وكان جيم حريصًا على ألا يستفسر. ووقف هانو بيده على مقبض الباب وعيناه مثبتتان على وجه فروبيشر وهو يفكر.
ثم قال: «سوف أستأمنك على حيلة صغيرة من حيلي» وقد اتقدَّ وجهه بابتسامة أضاءته بروح مرحة. «هل تحب الأفلام؟ كلا … نعم؟ بالنسبة لي، أنا أعشقها. أينما أذهب أخصِّص ساعة للسينما. فأنا أرى أشياء رائعة وأراها في الظلام … بحيث إنني أثناء مشاهدتي أستطيع التحدث بهدوء مع صديق، وعندما تُضاء الأنوار يكون قد غادر كلٌّ منا، ولا يتبقى سوى مقعدينا الفارغين اللذين جلسنا فيهما. نعم إنها دور السينما! بجمهورها الذي يتغير باستمرار والأشخاص الجدد الذين يأتون ويجلسون فجأةً على حجرك لأنهم لا يستطيعون رؤية شيء في الظلمة ولو كان أمام أعينهم، خذها مني، دور السينما مناسبة وتصلح لذلك. لكنك لن تشي بسري الصغير؟»
أنهى هانو كلامه بضحكة. وقد تجددت روح جيم فروبيشر بفضل تجدُّد ثقة هانو. فشعر بابتهاج يبعث على الفضول كأنه قد سافر بعيدًا عن جو ساحة راسل التقليدي. لم يتمكن أن يتصور في ذهنه أي صورة له أو لشريكه السيد هاسلت في الشركة وهما يلتقيان عميلًا في زاوية مظلمة من دار عرض سينمائي قبالة طريق ماريليبون. لم تكُن هذه المناورات من بين الأساليب التي تتبعها الشركة، وبدأ جيم يجد التغيير مثيرًا. وفكر في أن هذه الشركة ربما كانت عتيقة قليلًا في نهاية المطاف. وقد صاغ جيم عبارة ليعبر عن ذلك، صاغها هو بنفسه! … هم يفتقدون إثارة العمل الشرطي.
قال جيم وكانت نبرة الحماس في صوته: «بالطبع سأحفظ سرك. ما كنت لأفكر أبدًا في مكان بهذه الروعة لنجتمع فيه.»
فقال هانو: «حسن. موعدنا في التاسعة إذَن مساءَ كلِّ ليلة، وما لم يكُن هناك شيء جاد يمنعني، فسأكون جالسًا في القاعة الكبيرة في جراند تافيرن. يقع جراند تافيرن في الزاوية المقابلة للميدان من محطة القطار. لا يمكنك أن تخطئه. سأكون على الجانب الأيسر من القاعة وقريبًا من الشاشة وعلى الحافة بالقرب من غرفة البلياردو. لا تبحث عني عندما تضاء الأنوار، وإذا كنت أتحدث مع شخص آخَر، تجنبني كأنني السم. مفهوم؟»
أجاب جيم: «تمامًا.»
«والآن لديك سران تحفظهما.» وكان وجه هانو قد فقد ابتسامته. بدا أن وجهه يصبح أكثر حِدَّة بطريقة غريبة، فأصبحت العينان فاتحتا اللون جامدتين وفي غاية الجدية. وقال: «هذا أيضًا مفهوم يا سيد فروبيشر. لأنني بدأت أعتقد أننا كلينا قد نرى أشياءً غريبة قبل أن نغادر ديجون مرة أخرى إلى باريس.»
مرت لحظة الجدية. وبانحناءة فتح الباب. لكن وبينما خرج جيم فروبيشر إلى الممر كان مقتنعًا مرة أخرى أن هانو في جميع الأحوال رصد لمحة من فرصة لائحة، حتى لو لم يقبض عليها بيدَيه.