جيم يُغيِّر مكان إقامته
كانت غرفة المكتبة مستطيلة الشكل كبيرة المساحة، بها نافذتان طويلتان تطلان على الفناء، وكانت نافذة المراقبة بعيدة في نهاية الغرفة فوق الرصيف في الشارع. وكان ثمَّة باب في الجدار الداخلي بالقرب من هذه النافذة يُفضي إلى غرفة خلفية، وموقد كبير مفتوح يواجه النوافذ المطلة على الفناء. وباستثناء ذلك، كانت الجدران مصفوفة بأرفُف عالية مملوءة بالكتب، فيما عدا بعض الفراغات هنا وهناك حيث أُخذَت بعض المجلدات من مكانها. وقد أعاد هانو الكتاب الذي كان يحمله في يده إلى مكانه.
وقال: «يسهل على المرء أن يرى أن هذه مكتبة سايمون هارلو، جامع الكتب. لطالما اعتقدت أنه إذا كان لدى المرء ما يكفي من الوقت لدراسة الكتب التي يشتريها الرجل ويقرؤها ثم مقارنتها، فسيعرف حقيقته على نحو أوثق من أي طريقة أخرى. لكن للأسف! المرء لا يملك الوقت أبدًا.» والتفت نحو جيم فروبيشر بأسًى. ثم قال: «تعالَ وقف بجانبي، سيد فروبيشر. فإن مجرد نظرة على أظهر الكتب تشي بشيء ما.»
وقف جيم بجانب هانو.
وقال هانو: «انظر، هنا كتاب عن الأواني الذهبية الإنجليزية القديمة، وكتاب آخَر … اقرأ لي عنوان هذا الكتاب، من فضلك.»
قرأ جيم عنوان الكتاب الذي كان إصبع هانو يشير إليه.
«العلامات والرموز على الفخار والخزف.»
كرَّر هانو العبارة ثم انتقل. ومن رف عند مستوى صدره وإلى يسار النافذة التي كانت تجلس فيها بيتي، أخذ مجلدًا كبيرًا ونحيلًا له غلاف ورقيٌّ وقلَّب صفحاته. كان كُتيِّبًا عن مشغولات المينا في حيِّ باترسي.
وقال جيم فروبيشر وهو يُلقي نظرة على رف الكتب: «ينبغي أن يكون هناك مجلد ثانٍ.» كانت هذه ملاحظة عابرة. إذ لم يكُن يُولِي أي اهتمام للكتاب ذي الغلاف الورقي عن مشغولات المينا بحي باترسي. ذلك لأنه كان في الواقع منشغلًا بالتكهُّن عن سبب استدعاء هانو له إلى جانبه. هل كان يأمل أن يكتشف بعض نظرات التفاهم التي قد تتبادلها الفتاتان، أو بعض الإشارات التي تدلُّ على أنهما متواطئتين؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد خاب أمله. فلأنه على الرغم من أن بيتي وآن كانتا الآن بعيدتين عن عين هانو المنتبهة، فلم تتحرك أيٌّ منهما أو تُشِر إلى الأخرى. ومع ذلك، بدا هانو مهتمًّا تمامًا بكتابه. وقد أجاب على اقتراح جيم.
«نعم، يمكن للمرء أن يفترض أن هناك مجلدًا ثانيًا. لكن هذا الكتاب كامل» ثم أعاد الكتاب إلى مكانه. كان هناك حيِّز بجانبه لمجلد آخَر كبير، طالما أنه لم يكُن أكثر سُمكًا منه، فوضع هانو إصبعه في الفراغ على الرف، وكان من الواضح أنه مستغرق في أفكاره.
واستدعَتْه بيتي إلى محيطه.
فقالت بصوتها الهادئ من مقعدها عند النافذة: «سيد هانو، لقد ذكرت أن هناك نقطة ثانية تودُّ أن تسألني عنها.»
ردَّ هانو: «نعم يا آنسة، لم أنسَها.»
والتفت بحركة سريعة تثير الريبة فوقف بحيث تكون كلتا الفتاتين أمامه، بيتي عن يساره عند النافذة، وآن أبكوت واقفة عن يمينه وبعيدًا قليلًا، تحدِّق فيه بنظرة تغلفها الرهبة.
فسأل هانو بيتي: «آنستي، منذ أن قدَّم بوريس وابرسكي اتهامه، هل كنت عرضة لمضايقات بسبب أيٍّ من تلك الرسائل المجهولة التي يبدو أنها تجوب ديجون؟»
أجابت بيتي: «لقد تلقَّيت رسالة واحدة» فرفعَت آن أبكوت حاجبَيها في دهشة. وأردفَت بيتي: «جاءت صباح الأحد. بطبيعة الحال كانت مليئة بالافتراءات، ولم أكُن لأهتمَّ بها لولا شيء واحد. أخبرتني تلك الرسالة أنك يا سيد هانو قادم من باريس للتحقيق في القضية.»
فقال هانو بهدوء: «أوهو! وتلقيتِ هذه الرسالة صباح الأحد؟ هلا أريتها لي يا آنسة؟»
هزَّت بيتي رأسها.
«كلا يا سيدي.»
فابتسم هانو.
«بالطبع. لقد تخلَّصتِ منها كما هو مفترض في التعامل مع مثل هذه الرسائل.»
ردَّت بيتي: «كلا، لم أفعل. لقد احتفظت بها. وضعتها في درج منضدة الكتابة في غرفة جلوسي الخاصة. لكن تلك الغرفة مُغلَقة بالأختام يا سيد هانو. والرسالة ما تزال في الدرج.»
استقبل هانو قولها بارتياح واضح. وقال بقناعة: «إذَن لا يمكنها أن تهرب يا آنسة.» لكن تلك القناعة تلاشت. إذ قال: «إذَن قام مفوض الشرطة فعليًّا بإغلاق غرفة جلوسكِ الخاصة بالختم. في هذا شيء من المبالغة بالتأكيد.»
هزَّت بيتي كتفَيها.
وقالت بمرارة: «كانت غرفتي، كما ترى، حيث أحتفظ فيها بأشيائي الخاصة. وفي نهاية المطاف وُجِّهت الاتهامات لي!» لكن آن أبكوت لم تكُن راضية عن ترك الأمر عند هذا الحد. فتحرَّكَت خطوةً نحو بيتي ثم نظرَت إلى هانو.
وقالت: «لكن هذه ليست الحقيقة الكاملة. غرفة بيتي جزء من مجموعة الغرف التي جرى تدبير غرفة نوم السيدة هارلو فيها. إنها الغرفة الأخيرة من المجموعة والمُطِلَّة على القاعة، ولهذا السبب، كما قال مفوض الشرطة معتذرًا، كان من الضروري إغلاقها مع الغرف الأخرى.»
قال هانو بابتسامة: «أشكركِ يا آنسة. نعم، هذا بالتأكيد يُلطِّف من فعلته.» ثم نظر إلى بيتي في مقعد النافذة بنظرة متسائلة. قال: «أعتذر أنني أغضبت الآنسة هارلو. هلَّا ساعدتني في توضيح كل هذه التواريخ المُزعجة الآن؟ دُفنت السيدة هارلو بحسب ما فهمت صباح السبت قبل ١٢ يومًا!»
قالت آن أبكوت: «نعم، سيدي.»
«وبعد الجنازة، عند عودتكم إلى هذا المنزل، فتح كاتب العدل الوصية وقرأها؟»
«نعم، سيدي.»
«وبحضور بوريس وابرسكي؟»
«نعم.»
«ثم بعد أسبوع بالضبط، أي في السابع من مايو، توجه بسرعة إلى مقر الشرطة؟»
«نعم.»
«وصباح الأحد وصلت الرسالة المجهولة بالبريد؟»
التفت هانو إلى بيتي، التي أومأت برأسها موافقة.
«وبعد ذلك بقليل في نفس الصباح جاء مُفوِّض الشرطة، الذي أغلق الأبواب بالأختام.»
ردَّت آن أبكوت: «في الساعة الحادية عشرة بالضبط.»
طأطأ هانو رأسه شيئًا يسيرًا.
ثم قال: «أنتما فتاتان رائعتان. تلاحظان الساعة التي تحدث فيها الأشياء بدقة. إنها هبة نادرة، ومفيدة جدًّا لأشخاص مثلي.»
كانت آن أبكوت تزداد راحة مع كل إجابة تُقدِّمها. فصارت الآن تضحك بوضوح.
وقالت: «أنا أفعل ذلك على أي حال، سيد هانو. لكن للأسف! لقد ولدت لأكون عانسًا. لا يسعني احتمال كرسي في غير مكانه، أو كتاب في غير موضعه، أو ساعة لا تعمل على نحو صحيح، أو حتى دبوس على السجادة. ألاحظ كل شيء من فوري وأصحِّح الأوضاع. نعم، كانت الساعة الحادية عشرة بالضبط عندما دقَّ مُفوِّض الشرطة الجرس.»
سأل هانو: «وهل فتَّش الغُرف قبل أن يُغلقها بالأختام؟»
ردَّت آن: «كلا. وقد اعتبر كلانا إهماله هذا غريبًا، حتى قيل لنا إن قاضي التحقيق يريد ترك كل شيء على حاله.»
فضحك هانو بحرارة.
وقال مفسِّرًا: «كان ذلك من أجلي. مَن يستطيع أن يعرف أي أشياء رائعة قد يكتشفها هانو بعدسته المكبرة عندما يصل من باريس؟ أي بصمات حاسمة! أوه! ها! ها! أي قصاصات من رسائل محترقة! آه! ها! ها! لكن دعيني أخبركِ يا آنسة أنه إذا ارتُكبت جريمة في هذا المنزل، فحتى هانو نفسه لن يتوقَّع أن يكتشف أي شيء مذهل في غرف كانت مفتوحة أمام جميع أفراد المنزل لمدة أسبوعين منذ وقوع الجريمة. رغم هذا»، ثم انتقل نحو الباب، «بما أنني هنا الآن …»
هنا نهضت بيتي بسرعة البرق. فتوقف هانو والتفت نحوها بسرعة، بعينَين متحدِّيتَين وقاسيتين.
فسألت بلهفة غريبة: «هل ستفضُّ تلك الأختام الآن؟ إذَن هل يمكنني أن آتي معك … من فضلك، أرجوك! أنا المتهمة. لديَّ الحق في الحضور» ثم علا صوتها وهي تهتف بإلحاح.
فقال هانو بنبرة لطيفة: «هدِّئي من روعك يا آنسة. لن يتم استغلالكِ. لن أفضَّ أي أختام. فكما أخبرتكِ، هذا هو حق مفوض الشرطة، الذي يتمتَّع بسلطات قضائية كذلك، وهو لن يتحرك حتى يكون التحليل الطبي جاهزًا. كلا، ما كنت سأقترحه هو أن تُطلعني الآنسة هنا» وأشار إلى آن «على الجزء الخارجي من غرف الاستقبال وعلى بقية المنزل.»
فقالت بيتي: «بالطبع» ثم جلست مرة أخرى في مقعد النافذة.
قال هانو: «شكرًا لكِ.» ثم التفت إلى آن أبكوت. وقال: «هلَّا ذهبنا؟ وأثناء هذا، هلَّا أخبرتني برأيكِ في بوريس وابرسكي؟»
صاحت آن: «إنه وقح. يمكنني أن أخبرك بذلك، سيد هانو. لقد عاد بالفعل إلى هذا المنزل بعد أن قدَّم شكواه، وطلب مني أن أدعمه»؛ ثم خرجت من الغرفة أمام هانو.
تبع جيم فروبيشر الاثنين إلى الباب وأغلقه من ورائهما. كانت الدقائق القليلة التي مضت قد جعلت عقله في حالة من الهدوء التام. كان كاتب الرسائل المجهولة هو الهدف الحقيقي للمحقِّق. وقد تغيرت طريقته تمامًا عندما كان يطرح أسئلته عن تلك الرسائل. كان أسلوبه الذي امتزج فيه الحماس واللامبالاة قد اختفى، وحتى تسليته من سوء مزاج بيتي اختفت أيضًا. وقد شرع في عمله بتركيز وهدوء. عاد جيم إلى الغرفة. وقد أخرج علبة سجائره من جيبه وفتحها.
وسأل: «هل لي أن أدخِّن؟» وبينما التفت إلى بيتي طالبًا الإذن، توقَّفَت أفكاره وكلماته بفعل صدمة جديدة. كانت بيتي تحدِّق فيه بذعر واضح في عينَيها وكان وجهها جامدًا مثل قناع حزين.
وهمست قائلة: «هو يظن أنني مذنبة.»
فقال جيم: «كلا» وانتقل إلى جوارها. لكنها لم تكُن تريد أن تستمع.
إذ قالت: «بل نعم. أنا متأكدة من ذلك. ألا ترى أنه كان مضطرًّا لذلك؟ لقد أُرسِل من باريس. ولديه سمعته ليحافظ عليها. لا بد أن يكون قد كشف ضحيته قبل أن يعود.»
راودته نفسه أن يحنث بعهده. كل ما كان عليه فعله هو إخبارها بالسبب الحقيقي الذي جلب هانو من باريس، وسيزول قلقها. لكنه لم يقدر على ذلك. كل تقاليد حياته كانت تحثه على الصمت. لم يجرؤ حتى على إخبارها بأن هذه التهمة الموجهة إليها كانت مجرد ذريعة. كان عليها أن تعيش في قلق لفترة أطول قليلًا. ثم وضع يده بلطف على كتفها.
وقال: «بيتي، لا تصدقي ذلك!» وهو يعي ضعف هذه العبارة مقارنة بما كان يمكن أن يقوله. وأردف: «كنت أراقب هانو، وأُصغي إليه. أنا متأكد أنه كان يعرف بالفعل إجابات الأسئلة التي كان يطرحها عليك. كان يعرف حتى أن سايمون هارلو شخص شغوف بجمع الكتب، على الرغم من أن شيئًا لم يُذكر بهذا الشأن. كان هانو يطرح الأسئلة ليرى كيف ستجيبين عنها، ويضع أحيانًا فخًّا صغيرًا بحسب اعترافه …»
قالت بيتي بصوت مرتجف: «نعم، كان ينصب الفخاخ طَوالَ الوقت.»
واصل جيم بثقة: «وكل إجابة قدمتِها، حتى أسلوبك في تقديمها، كانت تجعل براءتكِ أكثر جلاءً.» سألت بيتي: «بالنسبة إليه؟»
أجاب جيم: «نعم، بالنسبة إليه. أنا متأكد من ذلك.»
تعلَّقت بيتي هارلو بذراعه وأمسكته بكلتا يديها. ومالت برأسها عليه. فشعر جيم بنعومة خدها عَبْر كُم معطفه.
وهمست: «شكرًا لك. شكرًا لك يا جيم» وابتسمت عندما نطقت باسمه. لم تكُن تشكره على ثقته الكبيرة بكلماته بقدر ما شكرته على الراحة التي منحتها ملامسته لها.
وأردفت: «إنني أبالغ على الأرجح بشأن أشياء بسيطة. وربما أكون شحيحة أيضًا مع السيد هانو. لكنه يعيش وسط الجرائم والمجرمين. لا بد أنه معتاد على رؤية الناس يُدانون ويختفون وعلى رؤية الأهوال، بحيث لا يبدو مهمًّا بالنسبة له إن سلك أحدهم هذا الطريق بشكل أو بآخر سواء كان بريئًا أو مذنبًا.»
فقال جيم فروبيشر بلطف: «نعم يا بيتي، أعتقد أن هذا غير عادل بعض الشيء.»
فقالت: «حسنًا، سأتراجع عن ذلك» ثم أطلقت ذراعه. «على أي حال يا جيم، أنا أعتمد عليك أنت وليس عليه هو» ثم أطلقت ضحكة مليئة برجاءٍ أسر قلبه.
فقال جيم: «لحسن الحظ، ليس عليكِ أن تعتمدي على أحد» وما كاد ينتهي من جملته إلا وعادت آن أبكوت إلى الغرفة بمفردها. كانت تقريبًا بنفس طول بيتي وعمرها، ولديها النحافة نفسها الشبيهة بالفتيان، وطريقة الوقوف التي تميز فتيات هذا الجيل. لكن في جوانب أخرى، حتى في لون ملابسها، كانت مختلفة تمامًا عن بيتي. كانت ترتدي ملابسها كاملة باللون الأبيض، من معطفها إلى حذائها، وكانت ترتدي قبعة ذهبية كبيرة بحيث كان يصعب أحيانًا تمييز شعرها عن القبعة.
سألت بيتي: «وأين السيد هانو؟»
ردت آن: «إنه يتجول بمفرده. لقد أريته كل الغرف ومن يستخدمها، وقال إنه سينظر فيها وأرسلني إليكِ.» سألت بيتي هارلو: «هل فضَّ الأختام عن جناح الاستقبال؟»
فردت آن: «أوه، كلا. لقد أخبرنا أنه ليس بمقدوره فعل ذلك بدون مفوض الشرطة.»
وعلَّقت بيتي بجفاف: «نعم، أخبرنا بذلك. لكنني كنت أتساءل عما إذا كان يقصد ما قاله.»
فقالت آن: «أوه، لا أعتقد أن السيد هانو مثير للقلق.» وقد أعطت لجيم فروبيشر انطباعًا بأنها ربما تقول عن هانو في أي لحظة إنه القريب منهم والعزيز عليهم. كانت قد تجاوزت تمامًا الصدمة المحدودة الأولى التي سبَّبها إعلان وجوده. ثم جلست بجانب بيتي في مقعد النافذة ونظرت إلى جيم بثقة واضحة تمامًا وأردفت: «بالإضافة إلى أننا يمكننا أن نشعر بالأمان الآن على أي حال.»
أبدى جيم فروبيشر يأسه. يمكن القول إن ذلك المظهر الغريب والدال على التحفظ خدع آن أبكوت بشأنه، كما حدث بالفعل مع بيتي. إذا كانت هاتان الفتاتان طلبتا مساعدته عندما وجدتا نفسيهما في خضم عاصفة هوجاء أو وسط متاعب جمة، لَما تردَّد في تلبية طلبهما. لكن هذه كانت مسألة مختلفة تمامًا. لقد كانتا ببساطة تضعانه في مواجهة مع هانو.
فهتف يقول: «كنتما في أمان من قبل. هانو ليس عدوكما، وأما أنا، فليس لديَّ خبرة ولا موهبة فطرية لهذا النوع من العمل …» ثم توقف عن الحديث وهو يئن. ذلك أن الفتاتين كانتا تحدقان فيه بابتسامة تنم عن عدم التصديق.
وفكر جيم في نفسه: «ربَّاه، إنهن يعتقدن أنني ماكر، وكلما اعترفت بعدم كفاءتي، زاد اعتقادهن أنني أكثر دهاءً.» ثم تخلى عن الجدال. وقال: «بالتأكيد أنا في خدمتكما.»
قالت بيتي: «أشكرك. ستجلب أمتعتك من الفندق وتمكث هنا، أليس كذلك؟»
شعر جيم بشيء من الميل نحو قبول هذه الدعوة. لكن من ناحية، ربما يرغب هو في رؤية هانو في جراند تافيرن؛ أو ربما يرغب هانو في رؤيته، والسرية هي شرط هذه اللقاءات وحالها. كان من الأفضل أن يحافظ على حريته الكاملة في الحركة.
فجاء رده: «لن أسبِّب لكِ هذا الإزعاج يا بيتي. لا يوجد أي سبب في العالم يجعلني أفعل ذلك. مكالمة هاتفية وفي غضون خمس دقائق أكون إلى جانبكِ.»
بدَت بيتي هارلو في حيرة، أتلح في دعوتها أم لا.
وشرعت تقول: «لا يبدو هذا من كرم الضيافة في رأيي …» فانفتح الباب، ودخل هانو إلى الغرفة.
وقال: «تركت قبعتي وعصاي هنا.» ثم التقطهما وانحنى تحية للفتاتين.
فسألته بيتي: «هل رأيت كل شيء، سيد هانو؟»
وردَّ هانو يقول: «كل شيء يا آنستي. لن أزعجكِ مرة أخرى حتى يصبح تقرير التحليل بين يديَّ. أتمنى لكِ صباحًا سعيدًا.»
انزلقت بيتي من مقعد النافذة ورافقته إلى القاعة. بدا لجيم فروبيشر أنها كانت تحاول تعويض سوء مزاجها؛ وعندما سمع صوتها، فكَّر أنه يلحظ فيه نبرة اعتذار.
قالت بيتي مُناشِدة: «سأشعر بسعادة غامرة إذا أخبرتني بنتيجة ذلك التقرير في أسرع وقت ممكن. أنت تفهم أفضل من أي شخص أن هذه ساعة صعبة بالنسبة إليَّ.»
أجاب هانو بجدية: «أعي ذلك جيدًا يا آنسة. سأحرص على ألا تطول هذه الساعة.»
كان جيم — الذي يراقبهما من خلال المدخل وهما واقفان معًا في القاعة التي تضيئها الشمس — يشعر بلمسة خفيفة جدًّا على ذراعه. فالتفت سريعًا. كانت آن أبكوت بجانبه، وقد اختفت كل الحيوية وحتى رقة لونها عن وجهها، وكانت عيناها تعكسان نداءً يائسًا يملؤه الرعب.
وهمست: «هل ستأتي وتمكث هنا؟ أوه، أرجوك!»
فأجابها: «لقد رفضت للتو. لقد سمعتِني.»
فواصلت تقول: «أعرف» وتلعثمت الكلمات على شفتَيها. «لكن تراجع عن رفضك. أرجوك أن تفعل! فأنا أرتعد خوفًا. ليس بمقدوري استيعاب أي شيء. أنا مرعوبة!» وقد شبكت يدَيها معًا تتوسل إليه. لم يرَ جيم خوفًا بهذا الوضوح من قبل، كلا، ولا حتى في عيني بيتي قبل بضع دقائق. لقد جرد هذا الخوف وجه آن الجميل من كل جماله، وأحاله في ثانية إلى وجه هزيل عجوز. لكن وقبل أن يتمكن من الإجابة، سمع صوت عصا تصطدم بقوة بأرضية القاعة، مما أفزعهما وكأنهما سمعا صوت طلقة مسدس. نظر جيم عبر المدخل. كان هانو ينحني لالتقاط عصاه. حاولت بيتي التقاطها، لكن هانو كان قد أمسكها بالفعل.
وقال: «أشكركِ يا آنستي، لكنني ما زلت أستطيع لمس أصابع قدمي. أفعل ذلك خمس مرات كل صباح وأنا بملابس النوم»، وضحك، ثم نزل الدرجتين إلى الفناء، وبخطواته السريعة الغريبة هذه اختفى في شارع تشارلز روبرت في لحظة. وعندما التفت جيم مرة أخرى إلى آن أبكوت، كان الخوف قد زال عن وجهها تمامًا لدرجة أنه كاد ألا يصدق عينيه.
وقد صاحت بمرح: «بيتي، سيمكث هنا.»
ردَّت بيتي بابتسامة غريبة فيما كانت تعود إلى الغرفة: «لقد استنتجت ذلك.»