الفصل الثامن

الكتاب

أصيب جيم فروبيشر بالدوار من هذين التصريحين المذهلين المتتاليين، فغرق في دوامة من الأفكار. واختلطت بداخله مشاعر الحيرة والدهشة. لم يكُن لديه وقت ليسأل «كيف»؛ لأنه كان بالفعل يسأل «ماذا بعد؟» كانت أول فكرة واضحة في رأسه تتعلق ببيتي، وبينما كان ينظر إليها، استولى عليه وزعزعه غضب شديد إزاء كلٍّ من هانو وآن أبكوت. لماذا لم يتحدثا من قبل؟ لماذا يجب أن يتحدثا الآن؟ لماذا لا يتركان الأمور على ما هي عليه؟

كانت بيتي متكئة بظهرها على مقعد النافذة، وقد أرخت يديها ساكنتين إلى جانبيها، بينما ارتسم على وجهها إرهاقٌ وضيقٌ شديدان. فكر جيم في مريض مصاب يستيقظ في الصباح ليعتقد لبعض اللحظات أن المرض كان مجرد كابوس؛ ثم تأتي الطعنة، وتستقرُّ غيمة الألم ليوم آخر. قبل لحظة، بدا أن محنة بيتي قد انتهت. أما الآن فكانت تبدأ مرحلة جديدة.

فقال لها: «أنا آسف.»

كان تقرير المحللين يستقرُّ على طاولة الكتابة تحت أنظاره مباشرة. فالتقطه بلا مبالاة. كان التحليل مجرد خدعة، بكل أختامه وتوقيعاته، دبَّرها هانو لإجبار وابرسكي على التراجع. ألقى فروبيشر نظرة عليه، ثم بدأ يقرؤه بعناية من البداية إلى النهاية. وعندما انتهى، رفع رأسه وحدق في هانو.

وصاح: «لكن هذا التقرير حقيقي. هنا تفاصيل الاختبارات التي أُجريت والنتيجة. لم يتم العثور على أي أثر للسم.»

رد هانو: «لا أثر على الإطلاق.» ولم يكن منزعجًا مطلقًا من السؤال.

فقال جيم: «إذَن، لا أفهم لماذا تقدم الاتهام، أو من تتهم.»

فقال هانو بثبات: «لم أتهم أحدًا. دعنا نكُن واضحين في ذلك! أما بالنسبة لسؤالك الآخر … انظر!»

وجذب هانو جيم من مرفقه وقاده إلى رف الكتب بجانب النافذة حيث وقفا معًا بالأمس.

«كان هناك فراغ هنا بالأمس. أنت نفسك لفتَّ انتباهي إليه. أترى أن الفراغ قد امتلأ اليوم؟»

قال جيم: «نعم.»

أخذ هانو المجلد الذي يشغل الفراغ. كان الكتاب بحجم صفحة الرُّبعية، وكان سميكًا إلى حدٍّ ما ومغلفًا بغلاف ورقي.

وقال: «انظر إلى هذا»؛ ولاحظ جيم فروبيشر، وهو يأخذه بشيء من الدهشة، أنه على الرغم من أن عيني هانو كانتا تستقران على وجهه، فإنهما كانتا خاليتين من أي تعبير. لم تكُن عين هانو تريانه. انصبَّت حواس هانو على الفتاتين، رغم أنه لم يرمقهما حتى بنظرة؛ فقد كان يترقَّب أي حركة قد تصدر عنهما، سواء كانت دهشة أم رعبًا. رفع جيم رأسه فجأة في تمرد. كان يُستخدم في خدعة أخرى، كما قد يستخدم ساحر ما شخصًا أحمق من الجمهور على منصته. نظر جيم إلى غلاف الكتاب، وصاح بعنف كافٍ لاستعادة انتباه هانو:

«لا أرى أي شيء ذي صلة هنا. إنه أطروحة طبعتها جمعية علمية في إدنبرة.»

«صحيح. وإذا نظرت مرة أخرى، فسترى أن من كتبه هو أستاذ الطب في تلك الجامعة. وإذا نظرت مرة ثالثة، فسترى من خلال نقش صغير بالحبر أن النسخة قدمت مع تحيات الأستاذ إلى السيد سايمون هارلو.»

وبينما كان يتحدَّث، ذهب هانو إلى النافذة الثانية المطلة على الفناء وأخرج رأسه وتحدث لبعض الوقت بصوت منخفض.

وقال بينما يلتفت إلى داخل الغرفة: «لن نحتاج إلى حارسنا هنا بعد الآن. لقد أرسلته في مهمة.»

وعاد إلى جيم فروبيشر الذي كان يقلب صفحات الأطروحة دون أن يفهم شيئًا.

سأل هانو: «حسنًا؟»

قرأ جيم بصوت عالٍ: «ستروفانثوس هسبيدوس.» ثم أضاف: «لا أستطيع فهم أي شيء منه.»

قال هانو: «دعني أحاول!» وأخذ الكتاب من يد جيم. وقال: «سأطلعك على الكيفية التي أمضيت بها نصف الساعة أثناء ترقبي لك هذا الصباح.»

وجلس عند طاولة الكتابة، ووضع الأطروحة على لوح الكتابة أمامه وفتحها على لوحة ملونة.

ثم قال: «هذه هي ثمرة نبات ستروفانثوس هسبيدوس عندما تنضج.»

أظهرت اللوحة جِرابين طويلين مدبَّبين متصلين عند ساقيهما ثم ينفصلان مثل زوج من البوصلات مضبوط بزاوية حادة. كانت أظْهُر هذه الجِرابات مستديرة، وداكنة اللون ومرقطة؛ أما الأسطح الداخلية، فكانت مسطحة، وكانت الميزة الغريبة فيها أن ريشًا أبيض حريريًّا يبرز من شقوق طولية.

واصل هانو: «كل ريشة من هذه الريشات …» ونظر لأعلى ليجد أن آن أبكوت قد اقتربت من الطاولة، وأن بيتي هارلو نفسها كانت تميل للأمام بوجه يعكس الفضول «… كل ريشة من هذه الريشات متصلة بساق رفيعة بجِراب بيضاوي، وهو البذرة، وعندما تنضج الثمرة تمامًا وتفتح هذه الجرابات لتصنع خطًّا مستقيمًا، تتحرَّر الريشات وينشر الهواء البذور. هذا رائع، صحيح؟ انظر!»

وقلب هانو الصفحات حتى وصل إلى لوحة أخرى. هنا كانت الريشة ممثلة بشكل مستقل تمامًا عن الجراب. كانت منبسطة كالمروحة، فاتنةً ودقيقة النسيج على نحوٍ بديع؛ ومن ساق رفيعة كالشعرة، كانت البذرة تتدلى كجوهرة.

سأل هانو وهو ينظر إلى وجه آن أبكوت بابتسامة: «ما رأيك فيها يا آنسة؟ حلية صنعها فنان مرهف لسيدة أنيقة، صحيح؟» وأدار الكتاب حتى تتمكن هي على الجانب الآخر من الطاولة من الإعجاب بالرسم بشكل أفضل.

بدا أن بيتي هارلو قد استولى عليها الفضول الآن. أما جيم فروبيشر، الذي كان ينظر من فوق كتف هانو إلى اللوحة ويتساءل بقلق عن غاية هذا، فرأى ظلًّا يسقط على الكتاب. وجد بيتي واقفة بجانب صديقتها، وكفَّاها على حافة الطاولة ووجهها يميل فوق الكتاب.

أردف هانو وهو يهز رأسه: «يتمنى المرء أن تكون بذرة ستروفانثوس هسبيدوس هذه حلية. لكن للأسف! هي ليست بهذه البراءة.»

ثم أدار الكتاب نحوه، متصفحًا صفحاته من جديد. واختفت الابتسامة تمامًا من وجهه. حيث توقف عند لوحة ثالثة؛ وهذه اللوحة الثالثة أظهرت صفًّا من الأسهم ذات الرءوس المسننة.

نظر هانو من فوق كتفه إلى جيم.

وسأل: «هل فهمت الآن أهمية هذا الكتاب، سيد فروبيشر؟ لم تفهمها بعد؟ يُصنع من بذور هذا النبات سمُّ السهام الشهير في أفريقيا. إنه أشد السموم فتكًا على الإطلاق؛ إذ لا يوجد له ترياقٌ مُضاد.» وزاد التجهم في صوته. حيث قال: «وهو شر السموم، لأنه لا يترك أي أثر.»

فُوجئ جيم فروبيشر. وصاح: «هل هذا صحيح؟»

قال هانو: «نعم»؛ وفجأةً انحنت بيتي للأمام وأشارت إلى أسفل اللوحة.

وقالت بفضول: «هناك علامة أسفل مقبض ذلك السهم. نعم، وملاحظة صغيرة بالحبر.»

للحظة تنزلت على جيم فروبيشر هبة صغيرة من البصيرة، وُلدت بلا شك من حيرته وقلقه. إذ انقشع حجاب في دماغه. لم يرَ أكثر مما كان أمامه — المجموعة الصغيرة حول الطاولة في صباح مشرق من أيام شهر مايو، لكن كل شيء أصبح قاتمًا ومرعبًا، وذبل الإشراق إلى ضوء رمادي مَواتٍ وبارد كالقبور. كانت الفتاتان بجمالهما وشبابهما وأناقتهما منتبهتين وتنحنيان بشعرهما اللامع فوق لوحة أسهم السم كتلميذات في محاضرة. والرجل الذي يلقي المحاضرة بكلام لطيف ودمث، والقريب جدًّا منهما، كان يتتبع بلا هوادة خيوط جريمة قتل، وربما أصبح الآن يرى في إحدى هاتين الفتاتين ضالتَه، وربما كان يخطط الآن حتى لوضعها في قفص الاتهام في محكمة الجنايات وإرسالها بعد ذلك — محمولة وهي تصرخ وتبكي من الرعب مع خيوط الفجر الأولى — إلى المقصلة البشعة التي أُقيمت خلال الليل أمام بوابات السجن. شاهد جيم هانو يتحول من شخصيته الودودة واللطيفة إلى كيان شرير ومرعب، وكأنه يراه في مرآة مشوهة. كيف يمكنه الجلوس بهذا القرب منهما على الطاولة، والتحدث إليهما، ويشير إلى هذا الرسم البياني أو ذاك في اللوحات، وهو إنسان ويعرف ما ينوي فعله. قطع جيم المحاضرة بصيحة من الغضب والاستياء.

«لكن هذا ليس سمًّا! هذا كتاب عن سم. الكتاب لا يمكن أن يقتل!»

فرد عليه هانو على الفور:

«ألا يمكنه ذلك فعلًا؟» وهو يصيح بحدة. «استمع إلى ما قالته الآنسة منذ قليل. أسفل مقبض هذا السهم المسمى «الشكل (و)» كتب البروفيسور ملاحظة صغيرة.»

كان هذا السهم مختلفًا قليلًا عن الأسهم الأخرى في شكل ساقه. أسفل رأس السهم الحديدي المثلث كان حجم الساق يزداد. كان الأمر كما لو أنه جرى تركيب رأس السهم داخل بصيلة؛ مثلما نرى أحيانًا أقلام الحبر الخشبية التي تكون رفيعة ومستدقة في الطرف العلوي، وسميكة تمامًا فوق سن الكتابة.

وقال هانو وهو يقرأ ملاحظة البروفيسور: «انظر الصفحة ٣٧»، ثم قلب الصفحات.

«الصفحة ٣٧. ها نحن أولاء!»

مرر هانو إصبعه إلى منتصف الصفحة وتوقف عند كلمة مكتوبة بحروف كبيرة.

«الشكل (و).»

أدنى هانو كرسيه من الطاولة قليلًا، في حين تحركت آن أبكوت حول طرفها لتستوضح الرؤية؛ حتى جيم فروبيشر وجد نفسه منحنيًا فوق كتف هانو. كانوا جميعًا يشعرون بتوتر غريب؛ كانوا يتوقعون شيئًا مثل المستكشفين وهم على حافة الاكتشاف. وبينما قرأ هانو الفقرة بصوت عالٍ، بدا أنهم جميعًا يحبسون أنفاسهم؛ وهذا ما قرأه:

««الشكل (و) هو تمثيل لسهم مسموم أعارنيه السيد المحترم سايمون هارلو، من بلاكمانز، نورفولك، ومن منزل كرينيل في ديجون. وقد أعطاه إياه السيد جون كارلايل، وهو تاجر على نهر شاير في منطقة كومب، وهو أفضل مِثال لسهم مسموم رأيته. سُحقت بذور ستروفانثوس في الماء وخُلطت مع الطين الأحمر الذي يستخدمه أهالي كومب الأصليون، ودُهنت ساق السهم بالكامل وكذلك رأسه باستثناء نقطة الاختراق ليظل السهم حادًّا كما هو.»»

استلقى هانو في كرسيه عندما انتهى من قراءة هذه الفقرة.

ثم قال: «أترى يا سيد فروبيشر السؤال الذي يجب أن نجيب عنه. أين هو سهم سايمون هارلو اليوم؟»

نظرت بيتي إلى وجه هانو:

«إذا كان في أي مكان في هذا المنزل يا سيدي فيجب أن يكون في الخزانة المقفلة في غرفة الجلوس الخاصة بي.»

صاح هانو بحدة: «غرفة جلوسك؟»

«نعم. إنها ما نسميه غرفة الكنوز … فنصفها متحف ونصفها غرفة معيشة. كان عمي سايمون يستخدمها، وكذلك السيدة. كانت غرفتهما المفضلة، وهي مليئة بالتحف والأشياء الجميلة. ولكن بعد وفاة سايمون هارلو، رفضت السيدة دخولها. فأغلقت الباب الذي يصل بينها وبين غرفة تغيير ملابسها، حتى لا تدخلها ولو سهوًا. وللغرفة بابٌ يفضي إلى القاعة. وقد أعطتني هذه الغرفة.»

زال التجهم من جبين هانو.

وقال: «فهمت. وهذه الغرفة مقفلة بالختم.»

«أجل.»

«هل سبق لك أن رأيت السهم يا آنسة؟»

«لا أتذكر ذلك. لم تلقِ نظرةً في الخزانة إلا مرةً واحدةً وحسب؛ ففيها أشياء مروعةٌ خبيئة»؛ ثم اقشعرت بيتي قشعريرة صغيرة وهزت كتفها لتتخلَّص من ذكراها.

جادل فروبيشر بمرارة: «الأرجح أنه ليس في المنزل على الإطلاق، إنه لم يعُد إلى المنزل البتة. يرجح أن البروفيسور كان ليختار الاحتفاظ به.»

رد هانو: «إذا استطاع ذلك. لكن من المستبعد جدًّا أن يسمح له جامع التحف النادرة بالاحتفاظ به. كلا!» وجلس لبعض الوقت يتأمل. وأخيرًا تساءل: «هل تعلم ما أفكر فيه؟» ثم أجاب عن سؤاله بنفسه. «أنا أتساءل ما إذا كان بوريس وابرسكي في شارع جامبيتا فعلًا يوم السابع من مايو وقريبًا جدًّا من متجر جان كلاديل العشاب أم لا.»

صاح جيم: «بوريس! بوريس وابرسكي» هل كان هانو يرى أنه المجرم؟ لكن ما المانع؟ من يكون مرجحًا أكثر منه إذا كان هناك مجرم، بما أن بوريس وابرسكي كان يعتقد نفسه وريثًا بموجب وصية السيدة هارلو؟

وتابع هانو: «أنا أتساءل إنْ كان هو نفسه يفعل الشيء الذي ألقى باللوم عليك فيه يا آنسة بيتي.»

صاحت بيتي: «يدفع له؟»

«يدفع … أو يعتذر عن عدم الدفع، وهو الأرجح، أو يستعيد السهم المسموم بعد أن نُظِّف من السُّم، وهو الأرجح على الإطلاق.»

أخيرًا، أنهى هانو أسراره وتحفظُّاته. أما شكوكه التي كانت مجنحة مثل السهم في اللوحة، فكانت مصوبة مباشرة نحو هذا الهدف الواضح. تنفس جيم الصعداء، كالمستيقظ من كابوس؛ فعم الاسترخاء ذلك الجمع الصغير؛ وابتعدَت آن أبكوت عن الطاولة؛ وقالت بيتي بهدوء وكأنها تخاطب نفسها: «السيد بوريس! السيد بوريس! أوه، لم أفكر في ذلك قط!» وما أثار تعجب جيم أنه كان هناك بالفعل نبرة من الأسى في صوتها.

وقد سمعها هانو أيضًا، حيث أجاب بابتسامة:

«لكن عليك أن تحملي نفسك على التفكير في ذلك يا آنسة. ففي نهاية المطاف، هو لم يكُن لطيفًا معك لدرجة أن تظهري له هذا القدر الكبير من حسن النية.»

ظهر احمرار خفيف على خدي بيتي. ولم يكُن جيم متأكدًا تمامًا من أن كلمات هانو يغيب عنها قدر بسيط من السخرية.

فأجابت بسرعة: «لقد رأيته جالسًا هنا، قبل نصف ساعة … رجلًا مَهينًا، يذرف الدموع!» ثم هزَّت كتفَيها بإيماءة تنمُّ عن الاشمئزاز. «لا أتمنى له شيئًا أسوأ من ذلك. كنت مقتنعة وراضية.»

ابتسم هانو مرة أخرى بفضول وتسلية، وهو شيء لم يستطِع فروبيشر فهمه تمامًا. لكنه كان يشعر من وقت لآخَر بانطباع مزعج بأن مبارزة سرية غريبة كانت تدور طوال هذا الوقت بين بيتي هارلو وهانو تحت المظهر الخارجي الهادئ للأسئلة والأجوبة … مبارزة كان فيها المتباريان يتعرَّضان واحدًا تلو الآخَر لخدوش بسيطة. لكن بدا هذه المرة أن بيتي قد تأذت.

رد هانو: «أنت راضية يا آنسة، لكن القانون لم يرضَ. كان بوريس وابرسكي يتوقَّع إرثًا. كان بحاجة إلى المال على الفور، كما يظهر في أول رسالتين أرسلهما إلى شركة السيد فروبيشر. كان لدى بوريس وابرسكي دافع.» ثم قلَّب نظره بين الحاضرين بإيماءة لتأكيد الجزئية التي يشير إليها. «إن الدوافع بلا شك هي علامات إرشادية يصعب قراءتها، وإذا أخطأنا في قراءتها، فإنها تضلنا إلى طريق بعيد. مفهوم! لكن على المرء أن يبحث عن العلامات الإرشادية ويحاول قراءتها قراءةً صحيحة. استمعوا مرَّة أخرى إلى أستاذ الطب بجامعة إدنبرة! إنه دقيق قدر الإمكان.»

وقعت عينا هانو ثانية على وصف «الشكل (و)» في الكتاب الذي ما زال مفتوحًا على الطاولة أمامه.

«كان السهم أفضل نموذج لسهم مسموم رآه على الإطلاق. فقد دُهِن رأس السهم وبضع بوصات من ساقه بطبقة سميكة وناعمة من معجون السم. وكان السهم غير مستخدم والسم طازجًا، وهذه السموم تحتفظ بسميتها لسنوات عديدة. أرى أنه إذا سُلِّم هذا الكتاب وهذا السهم إلى جان كلاديل العشَّاب، فبإمكانه بسهولة أن يصنع محلولًا كحوليًّا سيُسبِّب الموت في غضون ١٥ دقيقة إذا أمكن حقنه بإبرة تحت الجلد ولن يترك أي أثر.»

سألت بيتي بإنكار: «في غضون ١٥ دقيقة؟» بينما انطلقت صيحة مفاجئة من الكرسي بجانب الحائط، حيث جلست آن أبكوت مرة أخرى.

صاحت «أوه!» لكن لم يلاحظها أحد على الإطلاق. كان كلٌّ من جيم وبيتي يحدِّقان إلى هانو، في حين كان هو مشغولًا تمامًا بتأكيد حجَّته.

هتف جيم: «في غضون ١٥ دقيقة؟ كيف تعرف هذا؟»

«هذا مذكور هنا في الكتاب.»

تابع جيم: «وأين كان جان كلاديل ليتعلَّم كيفية التعامل مع المركب بأمان، وكيفية تحضير المحلول؟»

أجاب هانو: «هنا! هنا! هنا!» وهو يطرق ببراجمه على الكتاب. «كل شيء مكتوب هنا … توالت التجارب على الحيوانات الحية، حيث قيس تأثير السم وسُجِّل بدقة على مدى الدقائق. أوه، إذا كان هناك رجل يتمتَّع بمعرفة عملية بالمواد الكيميائية مثل المعرفة التي ينبغي أن يتمتَّع بها جان كلاديل، فإن النتيجة مؤكدة.»

مالت بيتي هارلو مرة أخرى فوق الكتاب، ولف هانو الكتاب نصف لفة بينهما، حتى يتمكَّن كلاهما من القراءة إذا ما حرَّكا رأسَيهما. وقد قلب الصفحات إلى بداية الكتاب واستعرضها بسرعة.

«انظري آنستي إلى الجداول الزمنية. يقبض ستروفانثوس عضلات القلب مثل نبات ديجيتاليس، لكن بعنف وسرعة أكبر. انظري إلى انقباضات القلب المسجلة بالدقيقة تلو الأخرى، حتى لحظة الموت وكل شيء … وإليكم المفارقة! … يمكن من خلال هذه التجارب تحويل السم إلى دواء ويصبح هذا السلاح القاتل ترياقًا منقذًا للحياة … كما حدث فعلًا.» مال هانو إلى الخلف، ونظر إلى بيتي هارلو من بين عينَيه نصف المغلقتين. وقال: «هذا رائع يا آنسة. ما رأيك؟»

أغلقت بيتي الكتاب ببطء.

وقالت: «أعتقد، يا سيد هانو أن دراستك لهذا الكتاب بعناية خلال نصف الساعة التي انتظرتنا فيها هنا هذا الصباح لا تقلُّ إدهاشًا.»

كان هذا هو دور هانو ليتغيَّر لونه. فزاد الدم في وجهه. ارتبك هانو لثانية أو نحو ذلك. ولمح جيم مرة أخرى المبارزة السرية، وانتابه فرح أن هانو بجلاله هو الذي تأذى هذه المرة.

وسرعان ما قال: «إنَّ دراسة السموم على وجه التحديد هي مجال تخصُّصي. في عصرنا هذا، يجب أن نتخصَّص في شيء، حتى ونحن أعضاء في الشرطة الجنائية.» ثم التفَت بسرعة نحو فروبيشر، وقال: «أراك مستغرقًا في التفكير يا سيدي!»

كان جيم يتابع سلسلة أفكاره الخاصة.

فأجاب: «أجل.» ثم تحدث إلى بيتي.

«أظن أن بوريس وابرسكي كان لديه مفتاح للباب، أليس كذلك؟»

أجابت: «نعم.»

قال: «هل أخذه معه؟»

«أظنُّ ذلك.»

فسألها: «متى تُغلق البوابات الحديدية؟»

«هذا آخِر شيء يفعله جاستون قبل أن يذهب إلى الفراش.»

كان ارتياح جيم يزداد مع كل إجابة يتلقَّاها.

هتف جيم: «أترى يا سيدي هانو، طوال هذا الوقت كنا نغفل سؤالًا مهمًّا. من أعاد هذا الكتاب إلى رفه؟ ومتى؟ أمس عند الظهر كان المكان فارغًا. وهذا الصباح أصبح ممتلئًا. مَن ملأه؟ ليلة أمس جلسنا في الحديقة بعد العشاء خلف المنزل. أيُّ شيءٍ أيسرُ من تسلُّل وابرسكي إلى المنزل بمفتاحه عندما كان الفناء خاليًا، فيعيد الكتاب ويتسلَّل خارجًا دون أن يلحظه أحد؟ …»

أوقفته إيماءة من بيتي.

إذ قالت بمرارة: «دون أن يلاحظه أحد؟ مستحيل! لقد عينت الشرطة رقيبًا لحفظ الأمن عند بواباتنا وهو لا يغادر لا ليلًا ولا نهارًا.»

هز هانو رأسه.

وقال: «لم يعُد موجودًا. بعد أن كنتِ طيبة بما يكفي للإجابة عن أسئلتي بصراحة صباح أمس، وهي الأسئلة التي كان من واجبي أن أسألكِ إياها، أمرته بالانصراف على الفور.»

هتف جيم بفرح: «هذا صحيح.» وقد تذكر الآن أنه عندما جاء بسيارته من الفندق في فترة الظهيرة، كان شارع تشارلز روبرت فارغًا تمامًا. وقفت بيتي هارلو مذهولة من المفاجأة. ثم أصبح وجهها وديًّا أكثر بعد أن ارتسمت عليه ابتسامة؛ فصارت عيناها وكأنهما ترقصان مع الابتسامة، وانحنت قليلًا نحو المحقِّق في إيماءة صغيرة. لكن صوتها كان رقيقًا بفعل نبرة الامتنان.

إذ قالت: «أشكرك، يا سيدي. غاب عني بالأمس أن الرجل قد أُعفي من عمله، وإلا كنت قد أسديت إليك الشكر آنذاك. في الحقيقة، لم أكُن أتوقَّع هذا القدر من اللطف منك. وكما أخبرت صديقي جيم، كنت أعتقد أنك غادرت وأنت تعتقد أنني مذنبة.»

رفع هانو يده مُحتجًّا. بالنسبة إلى جيم، كانت هذه الحركة بمثابة تحية السيف التي يؤديها المبارز في نهاية المبارزة. كانت المعركة السرية الصغيرة بين هذين الاثنين قد انتهت. هانو، بصرفه الشرطي من أمام البوابة، أعطى إشارة واضحة ليس فقط لبيتي ولكن لكل ديجون بأنه لم يجد ما يبرر أي مراقبة لتحركاتها أو أي قيود على حريتها.

وأعلن جيم بقوة: «أترون إذَن.» كان دائبًا في التركيز على حله للقضية كما يركز الكلب على عظْمته. «أترون أن الطريق كان خاليًا أمام وابرسكي ليلة أمس.»

لكن بيتي لم تكُن مقتنعة. فهزت رأسها بحزم.

وقالت: «لا أريد أن أصدق أن السيد بوريس مدان بهذه الجريمة البشعة. علاوةً على ذلك …» والتفتت بعينيها الكبيرتين نحو هانو متوسلة، «لا أصدق أن أي جريمة قتل وقعت هنا على الإطلاق. لا أريد أن أصدق ذلك» ثم تعثر صوتها للحظة.

ثم واصلت: «في نهاية المطاف يا سيدي هانو، على أي أساس تبني هذه النظرية المروعة؟ على أن كتابًا لعمي سايمون لم يكُن في مكتبته أمس وهو موجود اليوم. نحن لا نعرف أكثر من ذلك. نحن لا نعرف حتى ما إذا كان جان كلاديل موجودًا أصلًا أم لا.»

قال هانو وهو يحدق إلى الكتاب على الطاولة: «سنعرف ذلك قريبًا يا آنسة.»

فقالت: «ولا نعرف ما إذا كان السهم موجودًا في المنزل، أو ما إذا كان قد وجِد فيه أصلًا.»

فأصر هانو: «سنتحقق من ذلك يا آنسة.»

«وحتى لو كان السهم بحوزتنا الآن وكان أثر السم فيه، فما زلت لا تستطيع أن تتحقق من أن بقيَّته قد استُخدمت. هذا تقرير من الأطباء يا سيدي. ولأنه يقول إنه لا يمكن اكتشاف أي أثر للسم، فلا يمكنك أن تستنتج أن سمًّا لا يترك أثرًا قد استُخدم. لا يمكنك أبدًا إثبات ذلك. ليس لديك أي شيء تعتمد عليه وتنطلق منه. كلها تخمينات ستجعلنا نعيش في كابوس. أوه، لو كنت أعتقد للحظة أن جريمة قتل قد ارتُكبت، لقلت لك أن تستمر فيما تفعل، لكن لم تُرتكب أي جريمة. أنا واثقة من أن جريمة لم ترتكب هنا!»

كان صوت بيتي ينطوي على صدق واضح، وحرارة قوية بهدف الاستعطاف، لإحلال السلام وإنهاء الشكوك، ومن أجل الحق في النسيان والمغفرة، حتى إن جيم شعر بأنه لا يمكن لأي رجل أن يقاوم ذلك. في الواقع، جلس هانو لفترة طويلة وعيناه مثبتتان على الطاولة قبل أن يجيبها. ولكن عندما فعل ذلك أخيرًا، عرف جيم على الفور أنها قد خسرت، على الرغم من أنه بدأ حديثه بصوت لطيف.

إذ قال: «لا بأس بحجتك وبتوسلاتك يا آنسة بيتي. ولكن لكلٍّ منا عقائده التي يعيش وفقًا لها. إليك عقيدتي، وهي متواضعة جدًّا. إنني لأجد المبررات في معظم الجرائم: حتى في جرائم العنف. فما الانفعال والغضب وحتى الجشع إلا صفات حميدة تطورت بصورة تجاوزت الحدود! أشياء كانت في البداية محمودة ثم صارت وحشية! والأمر نفسه ينطبق على عملية تنفيذ الجريمة. فعادات الحياة تجعل من الطبيعي استخدام هذا السلاح أو ذاك، ونحن نرى في هذه الأسلحة بشاعة وشذوذًا، ومجرد استخدامها علامة على انحراف مروع. أجل، أنا أقرُّ بهذه المبررات. لكن ثَم جريمة واحدة لن أسامح بشأنها أبدًا … جريمة القتل بالسم. وثم مجرم واحد لن أتوقف أو أتوانى عن ملاحقته أبدًا، القاتل بالسم.» ومن خلال كلمات هانو، ساد إحساس حقيقي بالكراهية، وعلى الرغم من أن صوته كان منخفضًا، وأنه لم يرفع عينَيه عن الطاولة البتة، فإنه استحوذ على انتباه الثلاثة الذين يستمعون إليه وكأنهم وقعوا تحت تأثير تعويذة سحرية قوية.

وتابع هانو بمرارة: «تكون سيطرة القاتل بالسم على ضحيته سيطرة جبانة وسرية، فتكون حياة الضحية تحت رحمته، ويا لها من رحمة تلك التي يظهرها بالتأكيد. يكون عمله البشع سهلًا للغاية. إذ يصبح مجرد عادة مثل معاقرة شراب، ليس أكثر من ذلك بالنسبة للقاتل، ولكن بمتعة تعدل ألف ضعف المتعة التي يمكن أن يجدها في الشراب. الأمر كممارسة أحد أنواع الفنون الشنيعة. أتدرون! إن مرَّت جريمة قتل بالسم دون رادع ولم يأخذ القاتل عقابه، فلن يطول الأمر قبل أن تقع جريمة أخرى. فلا تستهينوا! لا تستهينوا!»

كان صوته يرتفع ثم يخفت. ولكن الكلمات بدَت وكأنها لا تزال تتردَّد في جو الغرفة، فتصطدم بالجدران وترتدُّ منها ولا تزال مسموعة. وعلى الرغم من خياله البطيء، شعر جيم فروبيشر أنه لو كان هناك قاتل بالسم حاضرًا بينهم وسمع هذه الكلمات، لَتَمزَّق الصمت بصرخته من الذنب وانكشف أمره. فتوقف قلبه عن الخفقان وهو ينصت لأي صرخة، رغم أن عقله أخبره أنه لا يوجد في تلك الغرفة فم يمكن أن تصدر منه هذه الصرخة.

رفع هانو نظره إلى بيتي عندما انتهى. واعتذر منها بأن حرك يديه حركة صغيرة وابتسم ابتسامة مليئة بالندم. وقال: «عليكِ أن تقبليني بجبلتي يا آنستي، ولا تلوميني على المعاناة التي لا بد أنني ما زلت أتسبَّب فيها بأكثر مما يمكنكِ أن تتحملي. فأنا ما صادفت قضية أكثر صعوبة من هذه. ولذلك، أجد صعوبة كبيرة في تحديد أي السبل ينبغي أن أسلك.»

وقبل أن تتمكن بيتي من الرد، جاء صوت طرق على الباب.

فصاح هانو: «ادخل!» فدخل رجل قصير داكن البشرة يبدو عليه النشاط والانتباه، وكان يرتدي ملابس عادية.

وقال موضحًا: «هذا هو نيكولا مورو، الذي كان يحرس الفناء. أرسلته منذ فترة في مهمة»، ثم التفت إلى مورو.

«كيف الأمور يا نيكولا؟»

وقف نيكولا في وضع الانتباه ويداه على جانبي سرواله، على الرغم من ملابسه العادية، وتحدث بصوت رسمي خالٍ من التعبير.

فقال: «وفقًا للتعليمات، ذهبت إلى متجر جان كلاديل. إنه في العقار رقم سبعة. ثم اتجهتُ من شارع جامبيتا إلى مقر الشرطة. تحققتُ من بيانك. مَثُل جان كلاديل مرتين أمام محكمة الجنح لبيع عقاقير ممنوعة، وتمَّت تبرئته مرَّتين بسبب غياب الشهود اللازمين.»

قال هانو: «شكرًا، يا نيكولا.»

فحياه مورو بالتحية العسكرية، واستدار على عقبه وخرج من الغرفة. تلا ذلك لحظة من الصمت، من الإحباط. ونظر هانو إلى بيتي بأسًى.

قال: «أرأيتِ! يجب أن أستمرَّ. يجب أن نبحث في خزانة سايمون هارلو المقفلة عن السهم المسموم، إذا تصادف أنه موجود هناك.»

ذكَّره فروبيشر: «الغرفة مقفلة بالأختام.»

أجاب هانو: «يجب أن نفض هذه الأختام»، ثم أخرج ساعته من جيبه وعبس وجهه.

ثم قال: «نحتاج إلى السيد المفوض، والسيد المفوض لن يكون في مزاج جيد إذا أزعجناه الآن. لأنها الساعة الثانية عشرة، فهي ساعة الغداء المقدسة. لقد لاحظتم في سياق الأحداث أن مفوضي الشرطة لا يكونون أبدًا في مزاج جيد. ذلك لأن …» ولكن جمهور هانو لم يسمع مطلقًا تفسيرَه هذه الحقيقةَ المعروفة. ذلك لأنه توقف بحركة غريبة في صوته، وساعته لا تزال تتأرجح من أصابعه في سلسلتها. نظر كلٌّ من جيم وبيتي إلى حيث كان ينظر. رأوا آن أبكوت واقفة عند الحائط ويدها على الحاجز العلوي للكرسي لتمنع نفسها من السقوط. كانت عيناها مغلقتين، وبدَت المعاناة والشدة على وجهها كله. وفي لحظة، كان هانو بجانبها.

فسألها بلهفة: «يا آنسة، ما الذي تريدين أن تخبريني به؟»

همست: «هل هذا صحيح إذَن؟ جان كلاديل موجود بالفعل؟»

«أجل.»

قالت: «وأن السهم المسموم ربما يكون قد استُخدم؟» ثم تردَّدت في نطق الكلمات التالية، ولكنها نطقتها في الأخير: «وأن الموت حل في غضون ١٥ دقيقة؟»

قال هانو مُقسِمًا: «أُقسِم لكِ إن هذا صحيح. ما الذي تريدين أن تخبريني به؟»

«بأنني كنت أستطيع منع كل هذا. لن أسامح نفسي أبدًا. كنت أستطيع منع الجريمة.»

ضاقت عينا هانو وهو يراقب الفتاة. وتساءل فروبيشر، هل كان خائب الأمل؟ هل كان يتوقع ردًّا مختلفًا تمامًا؟ لكن حركة سريعة من بيتي صرفت انتباهه عن هذه الأسئلة. فقد رآها تنظر عبر الغرفة إليهم بعيون لامعة هي أغرب ما رأى. ثم انسحبت آن أبكوت مبتعدة عن هانو ووقفت منتصبة بالكامل عند الحائط وذراعاها ممدودتان. بدت وكأنها تعزل نفسها كمنبوذة؛ كانت وضعيتها ووقفتها وكأنها تصرخ: «ارجموني! أنا بانتظاركم.»

وضع هانو ساعته في جيبه.

وقال: «يا آنسة، سنترك المفوض يتناول غداءه بسلام، وسنصغي إلى قصتك أولًا. ولكن ليس هنا. في الحديقة تحت ظل الأشجار.» ثم أخرج منديله ومسح جبينه. وتابع: «في الحقيقة، أنا أيضًا أشعر بالحرارة. هذه الغرفة ساخنة كالفرن.»

عندما استرجع جيم فروبيشر أحداث ذلك الصباح في وقت لاحق، لم يكُن هناك شيء يبرز بوضوح في ذاكرته — كلا لم يبرز شيء، ولا حتى كتاب الأسهم وصفحاته، ولا بيان هانو عن عقيدته في الحياة — مثل بروز صورة هانو وهو يعبث بساعته في طرف السلسلة بينما تتألَّق في ضوء الشمس وهو يتساءل عما إذا كان يجب أن يقاطع مفوض الشرطة الآن أو يتركه يأكل غداءه بسلام. كان الكثير مما هو غير مُتوقَّع بالنسبة إليهم جميعًا يعتمد على التسلسل الدقيق للأحداث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥