الفصل التاسع

السر

كانت كراسي الحديقة قد أُعدت بالفعل على العشب في أقصى الحديقة، تحت ظلال الأشجار الوارفة. وتقدمهم هانو في طريقه نحوها.

قال: «سنكون هنا في النسيم البارد، ولن يسمعنا أحد إلا الطيور» ثم رتب الوسائد بعناية في كرسي عميق من الخوص من أجل آن أبكوت. تذكر جيم فروبيشر مرة أخرى عناية الطبيب بالمريض، وشعر مرة أخرى ببعض الانزعاج من هذه المقارنة. لكنه قد بدأ يفهم على نحو أوضح شخصية هذا الرجل الذي لا سبيل لتغييره. لم تكُن مجاملاته الصغيرة ورعايته مُفتعلة. بل كانت طبيعية، لكنها لن تمنعه للحظة عن تعقب هدفه. كان يرتب الوسائد بيدَين سريعتين وخبيرتين كالممرضة … هذا صحيح، لكنه سيضع الأصفاد حول معصمي «مريضه» في اللحظة التالية بنفس السرعة والخبرة، إذا اقتضى واجبه ذلك.

قال هانو: «هكذا! الآن يا آنسة أنتِ مرتاحة. أما أنا، فسأدخن إذا سُمح لي.»

ثم التفت ليطلب الإذن من بيتي، التي كانت قد تبعتهما مع جيم إلى الحديقة.

أجابت: «بالطبع»؛ ثم تقدمت وجلست في كرسي آخر.

أخرج هانو من جيبه حزمة زرقاء لامعة من سجائر سوداء رفيعة وأشعل واحدة. ثم جلس في كرسي قريب من الفتاتين. ووقف جيم فروبيشر خلف هانو. كان العشب مرقطًا ببقع من ضوء الشمس والظلال الباردة. وكانت طيور الشحرور والسُّمْنِيَّةُ تغرد على الأغصان والشجيرات، وكانت الحديقة تعج بالورد، والهواء يعبق برائحتها. كان هذا المكان مستغربًا على القصة العجيبة التي ستحكيها آن أبكوت عن مغامراتها في ظلمة الليل وصمته؛ لكن هذا التباين نفسه بدا وكأنه يجعل القصة أكثر وضوحًا وحيوية.

استهلت آن قائلة: «لم أذهب إلى حفل السيد دي بوياك في ليلة ٢٧ أبريل»، ففُوجئ جيم، حتى إن هانو رفع يده ليمنعه من المقاطعة. لم يخطر ببال جيم أين كانت آن أبكوت في تلك الليلة. لكن لم تحمل هذه الجملة لهانو أي مفاجئة.

سألها: «لم تكوني على ما يرام؟»

أجابت آن: «لم يكُن هذا هو السبب. لكن بيتي وأنا كان بيننا … لن أقول قاعدة، ولكن اتفاق عمل من نوع ما، والذي أعتقد أنه أصبح ساريًا منذ أن جئت إلى منزل كرينيل. لم نتدخَّل في استقلالية بعضنا البعض.»

كانت الفتاتان قد أدركتا منذ البداية أن الخصوصية هي جوهر الرفقة. كان لكلٍّ منهما مكانها الخاص في غرفة الجلوس.

قالت آن: «لا أظن أن بيتي ولَجَت غرفتي قط، أما أنا فلم أدخل حجرتها إلا مرة أو مرتين. كان لكلٍّ منا أصدقاؤه. ولم نُضايق بعضنا بأسئلة عن مكان وجودنا أو مَن كنا برفقته. باختصار، كنا نمنح بعضنا مساحة من الحرية.»

قال هانو باستحسان وودٍّ وحرارة: «قاعدة حكيمة يا آنسة. فالكثير من المنازل تتصدَّع بسبب غياب مثلها. إذَن، عائلة دي بوياك كانت من أصدقاء الآنسة بيتي.»

استأنفت آن: «نعم. وبمجرد أن غادرت بيتي، أخبرتُ جاستون أنه يمكنه إطفاء الأنوار والذهاب إلى الفراش متى شاء؛ وصعدت إلى غرفة الجلوس الخاصة بي، التي هي بجوار غرفة نومي. يمكنك رؤية النوافذ من هنا. ها هي هناك!»

كانت النوافذ في مجموعة تواجه الجزء الخلفي من المنزل الطويل عبر الحديقة. على يمين القاعة امتد خط النوافذ المغلقة، وكانت غرفة نوم بيتي في الطابق العلوي. أشارت آن إلى الجناح على يسار القاعة باتجاه الطريق.

قال هانو: «فهمت. تقع غرفتك فوق المكتبة يا آنسة.»

أجابت آن: «نعم. كان ثَم رسالة يتعيَّن عليَّ كتابتها» ثم توقفت فجأةً. لقد صادفت مانعًا أثناء سرد قصتها كانت قد نسيته عندما صرخت في المكتبة. ثم تنهَّدَت. وتمتمت: «أوه!» ثم همست مرة أخرى: «أوه!» بنبرة منخفضة. ونظرت بقلق إلى بيتي، لكنها لم تتلقَّ أي مساعدة منها. كانت بيتي منحنية إلى الأمام، ومرفقاها على ركبتَيها، وعيناها مثبتتان على العشب عند قدمَيها، وكأنها في عالم آخَر.

سأل هانو بسلاسة: «وبعد يا آنسة.»

تابعت آن حديثها قائلة: «كانت رسالة مهمة»، وهي تختار كلماتها بعناية، كما فعلت بيتي في لحظة ما أثناء استجوابها بالأمس … كانت تخفي شيئًا أيضًا، تمامًا كما فعلت بيتي. «كنت قد قطعت وعدًا صادقًا أن أكتبها. لكن العنوان كان في الطابق السفلي في غرفة بيتي. كان عنوان أحد الأطباء.» وبعد أن قالت ذلك، بدا وكأنها تجاوزت المانع، فتابعت بنبرة سلسة وطبيعية أكثر.

«تعرفون ما هو الأمر، يا سيد هانو. كنت قد لعبت التنس طوال فترة الظهيرة. كان قد أصابني تعب خفيف. كانت هناك رسالة يجب كتابتها بعناية، والعنوان كان في الطابق السفلي. قلت لنفسي إنني سأفكر في صياغة الرسالة أولًا.»

وهنا قطع جيم فروبيشر سرد القصة، وقد كان يتقلقل على قدمَيه بفارغ الصبر.

فسأل: «لكن ما موضوع هذه الرسالة؟ وإلى أي طبيب؟»

التفت هانو بحدة.

وهتف: «أرجوك! ستتكشف هذه الأمور في وقتها المناسب إذا تركناها وشأنها واحتفظنا بها في ذاكرتنا. دع الآنسة تروي قصتها بطريقتها» ثم عاد إلى آن أبكوت بالتفاتة خاطفة.

وقال: «وبعد يا آنسة. قررتِ أن تفكري في صياغة رسالتك.»

تلألأت ابتسامةٌ خافتةٌ على محيا الفتاة للحظة، وقالت: «لكن الأمر كان في حقيقة المطاف مجرد ذريعة، ذريعة لأستقر في كرسيي الكبير، وأمد ساقيَّ، وأخلد إلى الراحة. يمكنك أن تخمن ما حدث.»

ابتسم هانو وأومأ برأسه.

«لقد غلبكِ النوم. الإرادة في الشباب الأصحاء المتعبين لا تجدي في إبقائهم مستيقظين.»

أجابت آن: «كلا، لكن الندم يستيقظ معهم، ويوبخهم على الفور وبقسوة. استيقظتُ وقد خالطني شعورٌ بالبرد قليلًا، كما يحدث مع من ينامون في كراسيهم. كنت أرتدي فستانًا خفيفًا من الحرير الرقيق، بلونه الأزرق الفاتح … أوه، كم كان الفستان خفيفًا جدًّا! نعم، كنت أشعر بالبرد، وضميري كان يقول: «أيتها الكسولة الكبيرة! وماذا بشأن رسالتك؟ لماذا لم تنجزيها؟»

«هببت واقفة في لحظة، وفي اللحظة التالية كنت خارج الغرفة على منبسط الدرج، وكنت ما زلت خدرة من النوم. أغلقت بابي خلفي. كان ذلك بمحض الصدفة. كانت الأنوار مطفأة على الدرج وفي القاعة بالأسفل. وكانت الستائر مسدلة على النوافذ. ولم يكُن ثَمَّ قمرٌ تلك الليلة. كنت في ظلام دامس لدرجة أنني لم أستطِع رؤية يدي عندما رفعتها قريبًا من وجهي.»

أسقط هانو طرف سيجارته عند قدمَيه. وكانت بيتي قد رفعت وجهها وتحدِّق في آن فاغرة فاهها. بالنسبة لهم جميعًا، توارت الحديقة عن الأنظار ببهائها المشمس وورودها الفاتنة وطيورها الشادية. كانوا على الدرج مع آن أبكوت في تلك الليلة المظلمة. كانت التغيرات السريعة في لون خدَّيها وتعبيرات عينَيها … وقد أجبرتهم حيويتها وانفعالها في سردها على متابعتها باهتمام.

قال هانو بهدوء: «وبعد يا آنسة؟»

تابعت آن: «لم يكُن الظلام يهمني» وهي مندهشة من جرأتها، الآن بعد أن عرفت ما حدث لاحقًا في تلك الليلة. «أنا خائفة الآن. لكنني لم أكُن خائفة حينها»، وتذكر جيم كيف كانت عيناها تتقلبان الليلة الماضية في الحديقة بين البقع المظلمة بحثًا عن متسلل. بالتأكيد، كانت خائفة الآن! كانت يداها تقبضان بقوة على ذراعي الكرسي، وشفتاها ترتعشان.

«كنت أعرف كل درجة من الدرج. كانت يدي على حاجز السلم. ولم يكُن هناك أي صوت. ولم يخطر ببالي أن أحدًا كان مستيقظًا غيري. حتى إنني لم أفتح الأنوار في القاعة بالمفتاح الموجود في أسفل الدرج. كنت أعلم أن هناك مفتاحًا بالقرب من باب غرفة بيتي من الداخل، وكان ذلك كافيًا. أعتقد أيضًا أنني لم أكن أرغب في إيقاظ أي أحد. وعند أسفل الدرج، استدرت إلى اليمين بتلقائية مثل الجندي. كان باب غرفة بيتي أمامي بالضبط على الجانب الآخر من القاعة. اجتزتُ القاعة ويداي ممدودتان أمامي، وإذا ببيتي، كما لو أنها هي التي تسير في القاعة، تبسط يديها إلى الأمام.

وقالت ببطء: «أجل، كان يجب فعل ذلك. في الظلام … ومع عدم وجود شيء سوى الفراغ أمامك … نعم!» ثم ابتسمت عندما رأت أن عيني هانو كانتا تراقبانها بفضول. «ألا تظن ذلك يا سيد هانو؟»

قال هانو: «بلا شك. لكن دعينا لا نقاطع الآنسة.»

تابعت آن: «لمست الحائط أولًا، عند زاوية الممر والقاعة.»

سأل هانو: «الممر الذي توجد به النوافذ المطلة على الفناء من جهة وأبواب غرف الاستقبال من الجهة الأخرى؟»

أجابت: «نعم.»

فسأل: «هل كانت الستائر مُسدَلة على جميع النوافذ أيضًا، يا آنسة؟»

أجابت: «نعم. لم يكُن هناك أي وميض ضوء في أي مكان. رحت أتحسَّس طريقي على طول الحائط إلى يميني — أي في القاعة، بالطبع، وليس الممر — حتى انزلقت يدي عن سطح الجدار ولمست الفراغ. كنت قد وصلت إلى فتحة الباب. تحسست مقبض الباب، وأدرته ودخلت الغرفة. كان مفتاح الكهرباء مثبتًا في الجدار بجانب الباب، قريبًا من يدي اليسرى. ضغطت عليه. أعتقد أنني كنت لا أزال شبه نائمة عندما أشعلت الأنوار في غرفة الكنوز، كما كنا نسميها. لكن في اللحظة التالية كنت مستيقظة تمامًا؛ أوه، لم أعهد نفسي قط بهذه الدرجة من اليقظة.» لم تكد أصابعي تبتعد عن المفتاح بعد إشعال الضوء، حتى عادت مرة أخرى لإطفائه. لكن هذه المرة رفعت المفتاح بحذر شديد، حتى لا يصدر أي صوت … لا، ولا حتى أخفض صوت قد يشي بي. كانت الفترة بين حركتَي يدي قصيرة جدًّا، لدرجة أنني بالكاد لاحظت الساعة الموجودة فوق الخزانة المطعمة في منتصف الحائط المقابل لي، ثم وقفت مرَّة أخرى في الظلام، ولكن بثبات تام وأنا أحبس أنفاسي — شعرت ببعض الخوف — نعم، لا شك أنني شعرت بشيء من الخوف، لكنني كنت مندهشة أكثر من كوني خائفة. والسبب في ذلك أن الجدار الداخلي للغرفة، في الطرف الآخر، بالقرب من النافذة، هناك …» وأشارت آن إلى النافذة الثانية من النوافذ المغلقة التي تحدِّق في الحديقة تحديقًا عقيمًا «… الباب الذي طَالَمَا كان مُقفَلًا منذ وفاة سايمون هارلو كان مفتوحًا، وكان نور ساطع يلمع من خلفه.»

أطلقت بيتي هارلو صرخة خافتة.

وقالت وقد بدا عليها الاضطراب أخيرًا: «ذلك الباب؟ كان مفتوحًا؟ كيف حدث ذلك؟»

غير هانو وضعه في كرسيه، وسألها سؤالًا.

فقال: «في أي جانب من الباب كان المفتاح، يا آنسة؟»

أجابت بيتي: «في جانب سيدتي، إذا كان المفتاح موجودًا في القفل أصلًا.»

«أوه! أنتِ لا تتذكرين إذا كان موجودًا؟»

أجابت بيتي: «كلا.» ثم أضافت: «بالطبع، كنا أنا وآن نذهب ونعود من غرفة نوم عمتي عندما كانت مريضة، لكن غرفة تبديل ملابس كانت تفصل بين غرفة النوم والباب المؤدي إلى غرفتي، لذا لم نكُن لنفطن لذلك.»

قال هانو: «بالتأكيد. غرفة تبديل الملابس التي كان يمكن أن تقيم فيها الممرضة، وقد أقامت فيها بالفعل عندما كانت السيدة تصاب بنوبة. هل تتذكرين إذا كان الباب الواصل بين الغرفتين لا يزال مفتوحًا أو غير مقفل في صباح اليوم التالي؟»

عقدت بيتي حاجبيها وفكرت، ثم هزت رأسها.

قالت: «لا أستطيع التذكر. كنا جميعًا في حالة اضطراب كبير. كان هناك الكثير لنفعله. لم ألاحظ.»

قال هانو: «لا. بالفعل، لماذا قد تلاحظين؟» ثم التفت إلى آن. «قبل أن تستمرِّي في هذه القصة الغريبة، يا آنسة، أخبريني! هل كان الضوء خلف الباب المفتوح، ضوءًا في غرفة تبديل الملابس أم في الغرفة التي تليها، أي غرفة نوم السيدة هارلو، أم أنكِ لم تلاحظي؟»

أجابت آن بثقة: «في الغرفة البعيدة كما أعتقد. لو كان الضوء في غرفة تبديل الملابس، لكانت غرفة الكنوز أكثر إضاءة. غرفة الكنوز طويلة بلا شك، لكن حيث كنت واقفة، كنت في ظلام تام. كان هناك فقط هذا الشريط من الضوء الأصفر في المدخل المفتوح. كان يمتدُّ باستقامة عَبْر السجادة، وأضاء المحفَّة المقابلة للمدخل حتى صارت كلها تلمع مثل الفضة.»

قال هانو بمرح: «أوه، هناك كرسي محمول في غرفة التحف تلك؟ سيكون من المثير رؤيته. إذَن يا آنسة، كان الضوء قادمًا من الغرفة البعيدة؟»

فقالت آن بصوت يرتجف: «الضوء و… والأصوات.»

هتف هانو: «أصوات!» وجلس باستقامة في كرسيه، بينما أصبحت بيتي هارلو بيضاء كالشبح. «أصوات! ما هذه الأصوات؟ هل تعرفتِ عليها؟»

«كان أحدها هو صوت سيدتي. ما كنت لأخطئه. كان عاليًا وعنيفًا للحظة. ثم تحول إلى همهمة أنين. أما الصوت الآخر فتحدث مرة واحدة بكلمات قليلة وواضحة. لكنه فعل ذلك همسًا. وكان هناك أيضًا صوت … حركات.»

قال هانو بحدة: «حركات!» وبدا وجهه يزداد حدة أيضًا. «هذه كلمة لا تساعدنا كثيرًا. للحركات أنواع كثيرة، فالمواكب تتحرك. والكرسي يتحرك إذا دفعتُه. ويدي تتحرك إذا غطيت فمًا وأوقفت صرخة. هل هذا هو نوع الحركات الذي تقصدين يا آنسة؟»

بدأت آن أبكوت تضعف فجأة تحت وطأة أسئلته القاسية.

وقالت بهتاف مرتفع: «أوه، نعم للأسف» وغطت وجهها بيديها. «لم أفهم حتى هذا الصباح عندما تحدثت عن كيفية استخدام السهم. أوه، لن أسامح نفسي أبدًا. وقفت في الظلام، على بعد أمتار قليلة — ليس أكثر — وقفت ساكنة تمامًا وأصغيت، وكانت سيدتي تُقتل خلف المدخل المضيء!» ثم كشفت وجهها وبدأت تضرب ركبتيها بقبضتيها وهي في حالة من الهياج.

«صرخت سيدتي «نعم، أصدق ذلك الآن!» بصوتها الأجش الذي نعرفه. «صرت الآن مكشوفة، ها؟ مكشوفة تمامًا!» ثم ضحكت بشكل هستيري؛ ثم جاء الصوت، كما لو كان … نعم، ربما كان ذلك! … وكأنها كانت تُكبَّل وتُقيَّد، تحوَّل صوت سيدتي إلى همهمة ثم إلى صمت مطبق … ثم جاء الصوت الآخر يهمس بوضوح: «هذا سيفي بالغرض.» وطوال الوقت كنت واقفة في الظلام … أواه!»

سأل هانو بنبرة آمرة: «ماذا فعلتِ بعد أن وصل هذا الهمس الواضح إلى أذنيكِ؟ أزيلي يديكِ عن وجهكِ، من فضلكِ، ودعيني أسمعك.»

أطاعت آن أمره. فألقت برأسها إلى الخلف والدموع تنساب على وجهها.

وهمست: «استدرت. خرجت من الغرفة. أغلقت الباب خلفي … برفق شديد. وهربت.»

قال هانو: «هربتِ؟ هربتِ؟ إلى أين؟»

«الطابق العلوي! إلى غرفتي.»

قال هانو: «ولم تدقي جرسًا؟ لم توقظي أحدًا؟ هربتِ إلى غرفتكِ! خبأتِ رأسكِ تحت الأغطية مثل طفل! هيا، أخبريني يا آنسة!»

كفَّ هانو عن سخريته اللاذعة ليسألها:

«مَن تظنين كان صاحب الصوت الذي همس بوضوح: «هذا سيفي بالغرض»؟ هل تعتقدين أنه صوت الغريب الذي ذكرتِه في المكتبة هذا الصباح؟»

أجابت آن: «كلا يا سيدي. لم أستطِع التمييز. فكل الأصوات حين الهمس تكون متشابهة.»

قال هانو: «لكنكِ بالتأكيد عرفت لذلك الصوت صاحبًا. وأن تهربي وتختبئي … لا أحد يفعل ذلك.»

قالت آن: «ظننت أنه صوت جين بودان.»

عاد هانو للاسترخاء في مقعده، ناظرًا إلى الفتاة بنظرةٍ تجمع بين الرعب والريبة على حدٍّ سواء. بينما وقف جيم فروبيشر خلفه، يعتريه شعورٌ بالخزي من جنسيته. هل يمكن أن تكون هناك خديعة أكثر وضوحًا؟ إذا كانت تعتقد أن الممرضة جين بودان كانت في غرفة النوم، فلماذا استدارت وهربت؟

قال هانو: «بحقك يا آنسة.» وقد أصبح صوته فجأة لطيفًا، يكاد يكون متوسلًا. «لا تطلبي مني أن أصدق ذلك.»

فالتفتت آن أبكوت بإيماءة بائسة نحو بيتي.

وقالت: «أرأيتِ!»

أجابت بيتي: «نعم.» ثم جلست مرتابة لثانية أو نحو ذلك قبل أن تهب واقفة على قدميها.

وقالت: «انتظروا!» وقبل أن يتمكَّن أي شخص من إيقافها، كانت تجري بسرعة إلى المنزل. وتساءل جيم فروبيشر إذا كان هانو قد قصد إيقافها، ثم تخلى عن الفكرة باعتبارها مستحيلة. بالتأكيد، كان قد صدر عنه حركة صغيرة سريعة؛ وحتى الآن، كان يتابع هروب بيتي وسط العشب الفسيح وبين الورود بنظرة غامضة وغريبة.

وقال لفروبيشر: «أن تركض هكذا! برشاقة الصبية وطلاوة الفتيات! هذا جميل، أليس كذلك؟ يا لرشاقة ساقَيها الطويلتَين النحيلتَين، ويا لخفة جسدها!» وركضت بيتي صعودًا على الدرج الحجري ودخلت إلى المنزل.

كان ثمة توتر في سلوك هانو لا ينسجم مع كلماته المرحة، وكان يحدِّق في نوافذ المنزل الخالية بترقُّب. لكن بيتي لم تستغرق أكثر من دقيقة في مهمتها. فقد عادت إلى الدرج وفي يدها مظروف كبير وعاودت الانضمام سريعًا إلى المجموعة.

وقالت بندم لكن من دون مرارة: «يا سيدي، حاولنا إخفاء هذا عنك. حاولت أنا بالأمس، وحاولت آن اليوم، كما حاولنا لسنوات عديدة إخفاءه عن كل ديجون. لكن لا مفرَّ من ذلك الآن.»

ثم فتحت المظروف وأخرجت صورة فوتوغرافية وسلمتها إلى هانو.

قالت: «هذه صورة للسيدة عمتي، في وقت زواجها من عمي.»

كانت الصورة بطول ثلاثة أرباع وتظهر امرأة نحيلة بوقفة مستقيمة تدلُّ على الشباب، وفي وجهها حلَّت ملامح شخصيتها الفردية محلَّ جمال الشباب. كانت المعاناة قد أضفت على وجهها بُعدًا روحانيًّا، فيما بدَت عيناها حزينتين تُظلِّلُهما الهالات السوداء، وفمها رقيقًا، ويوحي حتى من خلال هذه الصورة الجامدة بشيء من حس الدعابة. وبالنسبة لجيم فروبيشر الذي كان ينظر من فوق كتف هانو، فلم يهتف قائلًا: «كانت جميلة»، ولكنه قال: «كنت أودُّ التعرُّف عليها.»

قال هانو: «نعم! هي ودودة.»

أخرجت بيتي صورة ثانية من المظروف.

وقالت: «لكن هذه، يا سيدي، هي السيدة نفسها قبل عام.»

كانت الصورة الثانية قد التُقطت في مونت كارلو، وكان من الصعب تصديق أنها لنفس المرأة، فقد حدث تغيير مأساوي خلال تلك السنوات العشر. أمسك هانو بالصورتين جنبًا إلى جنب. كانت الرشاقة وحس الدعابة قد اختفيا تمامًا؛ أصبحت هيئة جسدها عريضة، وملامحها غليظة وضخمة؛ وقد صار خداها ممتلئين، وشفتاها متدليتين؛ ولم يكُن هناك في عينَيها سوى العنف. كانت صورة مروعة تجسد التدهور.

قال هانو بلطف: «من الأفضل أن نكون دقيقين، يا آنسة، على الرغم من أن هذه الصور تحكي قصتها المؤلمة بوضوح كافٍ. هل كانت السيدة هارلو تعاقر الشراب خلال السنوات الأخيرة من حياتها؟»

قالت بيتي موضحة: «منذ وفاة عمي. حياتها، كما تعرف على الأرجح، كانت بائسة ووحيدة قبل أن تتزوجه. لكن حينها كان لديها حلم تعيش عليه. لكن بعد وفاة سايمون هارلو …» وأنهت شرحها بإيماءة.

قال هانو: «نعم، بالطبع يا آنسة، كنا نعلم أنا والسيد فروبيشر منذ أن دخلنا في هذه القضية أن هناك سرًّا. كنا نعرفه قبل تحفظكِ بالأمس أو تحفظ الآنسة أبكوت اليوم. لا شك أن وابرسكي كان على علمٍ بأمرٍ ما لم ترغبي في إفشائه، وذلك قبل أن يهدِّد محاميكِ في لندن، أو يوجه إليكِ اتهاماته.

أجابت بيتي: «نعم، كان يعرف، والأطباء والخدم بالطبع الذين كانوا مخلصين للغاية. فعلنا ما بوسعنا لإخفاء سرنا، لكننا لم نكُن متأكدين أبدًا من أننا نجحنا.»

تهلَّل وجه هانو بابتسامة ودية.

ثم قال: «في الواقع، يمكننا التأكد من ذلك، الآن وهنا» فحدَّق فيه جيم والفتاتان.

وهتفوا بارتياب: «كيف؟»

ابتسم هانو ابتسامة عريضة. وأبقاهم في حالة من التشويق. ثم مدَّ يدَيه. لقد اعتَرَتْه شخصية الفنان، كما كان ليقول — أو الدجال، كما كان جيم فروبيشر ليصفه — وكان يستعد لترك انطباع.

قال هانو: «بالإجابة عن سؤال بسيط واحد. هل تلقَّتْ أيٌّ منكما أيها السيدتان رسالة مجهولة تتحدَّث عن هذا الموضوع؟»

أخذهم الاختبار على حين غِرَّة؛ ومع ذلك، أدرك كلٌّ منهم على الفور أنه لا يمكن أن يكون هناك اختبار أفضل. لقد استغلَّ هذا الشخص المجهول أو تلك المجموعة المجهولة كل أسرار البلدة في وقت أو آخَر؛ كل الأسرار، باستثناء سر تدهوُر السيدة هارلو. فأجابت بيتي:

«لا! لم أتلقَّ رسالة قط.»

وأضافت آن: «ولا أنا.»

قال هانو: «إذَن سركما لا يزال سرًّا.»

سألت بيتي بسرعة: «إلى متى؟» ولم يُجِب هانو بكلمة. لم يَستطِع أن يقطع وعدًا بأي شيء دون أن يكون مخالفًا لما أسماه عقيدته.

قالت بيتي بحزن: «هذا مؤسف. لقد كافحنا طويلًا، أنا وآن.» وقدمت للرجلين لمحة عن الحياة التي عاشتها الفتاتان في منزل كرينيل. «لم نستطِع فعل الكثير. لم يكُن لأيٍّ منا أي سلطة. كنا نعتمد كلتانا على كرم السيدة، ورغم أن أحدًا لم يكُن أكثر لطفًا منها عندما … عندما كانت على طبيعتها، فإنها لم تكُن سهلة المراس عندما كانت تصاب … بنوباتها. كان الفرق في العمر بيننا وبينها كبيرًا جدًّا؛ بحيث لم نستطِع فعل أي شيء سوى البقاء متيقظين.»

لم تكُن تتحمَّل التدخل؛ كانت تشرب بمفردها في غرفة نومها؛ وكانت تصبح عنيفة وتطلق التهديدات إذا ما تدخل أي شخص. كانت لتطرد الجميع إلى الشارع. وإذا احتاجت أي مساعدة، كانت تدق الجرس لاستدعاء الممرضة، كما كانت تفعل أحيانًا، وإنْ كان نادرًا.» بحسب وصف بيتي هارلو، كانت حياة مرهقة ومروعة لهاتين الحارستين الشابتين.

كنا في حالة يأس تام. لأن السيدة بالطبع كانت مريضة مرضًا عضالًا بقلبها، وكنا دائمًا نخشى أن تحدث مأساة ما. بدَت لنا تلك الرسالة، التي كانت آن تعتزم كتابتها إبَّان وجودك في حفل السيد دي بوياك، الفرصة الوحيدة المتاحة. كانت موجهة إلى طبيب في إنجلترا — كان يدعي أنه طبيب على أي حال — وكان يعلن أن لديه علاجًا مُعيَّنًا يمكن إعطاؤه دون علم المريضة في طعامها وشرابها. أوه، لم أكُن أُومِنُ بذلك، لكن كان علينا أن نجرِّبه.»

نظر هانو إلى فروبيشر بانتصار.

وقال: «ماذا قلتُ لك يا سيد فروبيشر عندما أردت أن تسأل سؤالًا عن هذه الرسالة؟ أرأيت! إن هذه الأمور تتكشَّف في وقتها المناسب إذا تركتها وشأنها.»

اختفت نبرة الانتصار من صوته. ثم نهض من كرسيه، وبعد أن انحنى لبيتي بوقار واحترام صادقين، سلمها الصور مرة أخرى.

وقال: «أنا في غاية الأسف يا آنسة. من الواضح أنكِ وصديقتكِ عشتما في ظل صعوبات لم نكُن نتوقعها. وبالنسبة للسر، سأفعل ما بوسعي.»

سامحه جيم تمامًا على التوبيخ الذي وجهه له بسبب أسلوبه الرائع مع بيتي. كان لديه أمل حتى أن هانو سيتخلى الآن عن عقيدته، لكي يظل السر محفوظًا، وتحصل الحارستان الشابتان على مكافأتهما لحراستهما اللصيقة. لكن هانو جلس مرة أخرى في كرسيه، والتفت نحو آن أبكوت. كان ينوي المُضِيَّ قدمًا في استجوابه. لن يدع الأمر على ما هو عليه. وكانت خيبة أمل جيم أكبر، لأنه لم يسعه إلا أن يدرك أن القضية — هذه القضية ضد شخص ما — كانت تتبلور أكثر فأكثر من شيء غير ملموس إلى شيء ملموس، ومن فرضية إلى حجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥