تقديم

بعد عشرين عامًا ينضم هذا الكتاب إلى شقيقيه السابقين اللذين ظهرا للنور سنة ألف وتسعمائة وسبع وستين، وهما «البلد البعيد» و«مدرسة الحكمة»، وهو يضيف إلى تجاربهما الثلاثين في الأدب والفلسفة على الترتيب عشرين تجربة أخرى في الشعر والفكر. وإذا كان الكتابان المذكوران قد قدما تجارب مختلفة كابدها المؤلف مع شخصيات وأعمال ومواقف متنوعة لعدد من الأدباء والفلاسفة صدرت كلها عن تشابك الفكر والعاطفة، والفلسفة والفن، كما حاولت أن تبين للقارئ أن التذوق والتأمل كليهما لا يستغنيان عن الحب والتعاطف والمشاركة، دون أدنى تفريط فيما يقتضيه منهج البحث من أمانة ودقة واستقصاء، فإن هذا الكتاب الذي يواصل الرحلة نفسها يحاول أن يجمع الطرفين في مركب واحد، ويخاطر بدخول تلك الأرض الحرام التي تشف فيها الحدود التقليدية بين الشعر والفكر، لتنفذ في النهاية إلى ما يمكن وصفه بشعر الفكر وفكر الشعر. ولهذا جاء عنوان الكتاب تعبيرًا عن اللحن الأساسي الذي لم يتوقف صاحبه عن ترديده والتنويع عليه، كما عبرت المقالات أو بالأحرى المحاولات المختلفة التي يضمها بين دفتيه عن تلك التجربة المحورية بطرق مباشرة أو غير مباشرة.

سيلاحظ القارئ المتعاطف مع إنتاجي السابق أن بعض المحاولات في هذا الكتاب قد تطورت خلال العشرين سنة الماضية، وتبلورت في كتب كاملة. ﻓ «ثورة الشعر الحديث» كانت إرهاصًا بالكتاب الكبير الذي يحمل نفس العنوان (ظهر جزآه الأول والثاني عن هيئة الكتاب في سنتي ١٩٧٢م، ١٩٧٤م)، «ولمَ الشعراء في الزمن الضنين؟» كانت مقدمة أولية لكتاب عن «هلدرلين» شاعر الغربة والاغتراب (صدر سنة ١٩٧٤م عن دار المعارف)، «وجوته وعصره» ثمرة لقاء حميم مع شاعر الألمان الأكبر الذي سبق أن عشت مع ديوانه الشرقي في «النور والفراشة» (١٩٧٩م)، وترجمت بعض روائعه كالحكاية والأقصوصة (١٩٦٦م)، ومسرحية توركواتو تاسو (١٩٦٧م)، وكتبت العديد من المقالات عن أشعاره ورواياته. فإذا اتجه القارئ إلى الفكر والمقالات والدراسات التي تناولته، وجد أنها محاولات مع روح الشكل — إن صح هذا التعبير — ومجاهدات لتحقيق التزاوج العسير بين الفكر والفن، بحيث يلتف الفكر في غلالة الفن، وينهل الفن من نبع الفكر.

وكل هذا يعبر كما قلت عن اقتناع أكدته تجربة حياتي وعملي العقلي والوجداني، سواء في الفلسفة التي أعيش من تدريس تاريخها منذ ما يقرب من ربع القرن، أو في الأدب الذي بدأت طريقي فيه بكتابة القصة القصيرة والمسرحية والمقالة، وما زلت أكافح للاستمرار في السير عليه على الرغم من كل المرارات والمعوقات.

ولقد ازداد ميلي في السنوات الأخيرة إلى الاعتقاد بأن الفيلسوف يمكن أن يكون في صميمه فنانًا وأديبًا انتزع الفكرة المجردة من إطارها المحسوس، وقنع بالنواة الجافة دون الثمرة الحية، وأن الفنان والأديب في حقيقته فيلسوف كسا الفكرة بالصورة الحسية وأحياها بالعاطفة الجياشة. لست أريد من ذلك أن أخلط بينهما، فلكلٍّ طريقته ورؤيته ومنهجه بطبيعة الحال، ولن يرضى الفيلسوف أن نجعله شاعرًا أو أديبًا، كما لن يسعد الأديب والشاعر أن نحشره مع الفلاسفة في نظام أو نسق فلسفي محدد، ولكن المقصود أن التفاعل بينهما عميق وأكيد، وإن يكن غير مباشر وشديد التعقيد، وأنه قد آن الأوان لرفع الحواجز السميكة، وإزالة الأسلاك الشائكة التي طالما فصلت بينهما (راجع المسألة من جوانبها المختلفة في ليوناردو والفلاسفة وبين الشعر والفلسفة، وتأمل كذلك بعض جوانبها في الدراستين المترجمتين اللتين تعالج إحداهما قضية العلم والعلمانية في واحدة من أخطر الروايات العربية الحديثة، وقضية الرؤية وتعلمها من المنهج الظاهرياتي والفلسفة الفينومينولوجية عند مؤسسها هسرل).

والواقع أن الأمر — فيما يخصني على الأقل — لم يكن محاولة لجعل الفكر شاعريًّا أو وضع الشعر في قوالب الفكر. لقد كان في الحقيقة أبعد ما يكون عن التعمد والقصد؛ لأنه ظل على الدوام نزعة تلقائية تحكمها عوامل التكوين والطبع والمزاج بجوانبها البيولوجية والثقافية … ومحاولاتي في الكتابة الفلسفية عن أفلاطون على سبيل المثال في صورة الخاطرة الشاعرية، أو عن الحكماء السبعة في صورة لوحات درامية، بجانب محاولات أخرى في كتابة الخاطرة والمقالة الفنية والقصة والمسرحية والبكائية، قد لا تعبر فحسب عن الصراع الذي عانيته، وما زلت أعانيه بين الفلسفة والشعر، وبين العلم والإبداع، بل ربما تجاوزت ذلك إلى محاولة التجريب في الشكل وتأصيله، ومواصلة المحاولة التي بدأها روادنا الإحيائيون لمد الجسور بين جذورنا التراثية التي نتشبث بها والتجارب العالمية التي نحرص على استيعابها والإفادة منها. ولذلك فإن المحاولات التي تطل عليها اليوم — مهما يكن الرأي في جدواها وفي قدرتها أو عجزها عن التغيير والتأثير — هي في الواقع جزء لا يتجزأ من محاولات جيل أتشرف بالانتماء إليه، جيل أخلص الجهد في هذه المواجهة الحضارية المستمرة، وسواء لقي الجحود والنكران، أو حظي في حياته أو بعد موته بشيء من العرفان والتقدير، فالأهم من ذلك في ميزان الحقيقة الحرة المنصفة أنه أخلص وصدق، وحاول أن يتقن عمله قبل كل شيء، ويجود بالعطاء دون أن ينتظر الجزاء.

إن الكاتب يقدم شهادته على الحقيقة بقدر ما يسعه من الجهد، وفي هذا الكتاب شهادة واعتراف، ستشعر بهما خصوصًا في الحوار والشهادة اللذين رأيت من واجبي ومن حق التاريخ أن أضيفهما للكتاب. وإذا كانت هذه الشهادة لا تخلو من الأسى والحسرة على جدوى الكلمة التي لم تتحول بعد إلى فعل قادر على التغيير، ولم تجد حيلة — أمام سقوط القيم وظواهر الانهيار والانتحار الحضاري التي لم تعد خافية على أحد — سوى أن تلجأ إلى الهمس والمناجاة، فإنها لا تركن لليأس، ولا تعدم الإصرار على الأمل في تجاوز الواقع المشوه السائد إلى واقع آخر ممكن، ولا بد من المغامرة والتجريب لتحقيقه. وهذا الكتاب بتجاربه المتواضعة يشارك في السعي لتحقيق الأمل المشترك.

وهل الحياة والفن والأدب والعلم في النهاية إلا تجارب ومحاولات؟

القاهرة في أغسطس ١٩٨٧م، عبد الغفار مكاوي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤