ليوناردو … والفلاسفة١

هل يمكن أن تنهل الفلسفة من ينابيع الإبداع التي يحيا عليها الأدب والفن؟ وهل نتصور فيلسوفًا كبيرًا لم يكن خلَّاقًا بمعنى من المعاني ألا يشارك مزاجه وطبعه الخاص في تأليف «وجهة النظر» التي يقدمها لنا في بناء عقلي محكم؟ ألا تختفي الروح الشخصية خلف قناع النظرة الكلية العامة، والنبض الفردي وراء قضايا الفكر ومبادئه، واليد الحية على أطراف سلسلة «المفاتيح» التي أعدها لمعالجة صناديق السر والمجهول، والنفاذ إلى مغاليق الوجود والمعرفة؟ كيف نتصور فلاسفة ملهمين (مثل هيراقليطس وأنبادوقليس وأفلاطون وأفلوطين والرواقيين وأوغسطين والفارابي وابن سينا وبرونو وديكارت واسبينوزا وليبنتز وهيجل وشيلنج … إلخ، بالإضافة إلى فلاسفة الوجود والحياة والمتصوفة في كل مكانٍ وزمان) كيف نتصور الأنظمة التي شادوها بغير العذاب والمعاناة، والأفكار التي رتبوها بغير الصورة الحسية والخيال المجنح والشرارة التي انقدحت في قلوبهم قبل أن تبرد وتسكن في بناء أو نظام أو نسق؟ وهذه الأنظمة والأنساق المجردة نفسها، ألم تصبح اليوم قصورًا جليلة دارسة، نستمتع برؤيتها وتأملها كما نستمتع بأي عمل فني خالد؟ أليس الفلاسفة أيضًا فنانين على طريقتهم؟ ألا يمكن أن تتفجر القصيدة والقصة والمسرحية والخاطرة والبحث والدراسة العميقة من نفس الفعل الخلاق؟

لا شك أن الإجابة تبدو سهلة. فما من عمل عظيم لا يصدر عن تجربة، وما من تجربة لا تنديها قطرة من نبع الخلق. وتاريخ العلم والعلماء، وحياة المبدعين في كل ميدان لا تخلو من مواقف ولحظات لا ينفع فيها تفسير أو تحليل. صحيح أن الطرق بعد ذلك تتشعب، والدروب تختلف، والغايات والنتائج تتفرق، ولكن النبع الخلَّاق دائمًا هناك، ولولا عطاؤه ما كانت للإنسان حضارة، ولا تفوق في علم أو فن أو صنعة أو فضيلة. هذه أمور يعرفها كل من عايش النابغين معايشة كافية، واستطاع أن ينصت إلى وجيب قلوبهم من خلال الكلمات والألحان والخطوط والظلال. هذا إلى توافر عدد كبير من الشعراء في تاريخ الفلسفة، ومن الفلاسفة في تاريخ الأدب والفن غير أن الفيلسوف لن يرضيه أن نصفه بأنه شاعر أو فنان، ولن يسعد الشاعر والفنان أن نخلع عليهما لقب الفيلسوف! وتبقى المشكلة قائمة (والمشكلات الحقيقية لا تعرف الحلول الأخيرة؛ لأن الحل النهائي معناه الموت النهائي، ولأننا لا نملك إلا محاولة الاقتراب منها، وتجربة أسلحتنا في اقتحام أسوارها).

عشت السنوات الأخيرة مع هذه الأسئلة التي تمزقني منذ أن «تورطت» في تدريس الفلسفة، فلا أنا بقادر على نزع أشواكها المغروسة في قلبي، ولا أنا بمستطيع أن أصم أذني عن نداء الخلق الذي يتردد صداه في كياني. لا العمل اليومي يحفظ شجرة التجربة من الذبول والسقوط في دوامة الثرثرة والتكرار والتسطيح والجفاف والابتذال، ولا لقمة العيش تسمح بترف الانتظار لبروق الإبداع والطاعة لقوانينه والاستسلام لمخاطره ومفاجآته ومفارقاته (وهو كما نعلم معبود يكره أن يشرك به، ولا يعطيك شيئًا حتى يأخذ منك كل شيء!)

ووسط المحنة التي لا يدري إلا الله مصيرها، وقعت عيني مصادفة على هذه الصفحات التي كتبها الشاعر الفيلسوف الفرنسي بول فاليري (١٨٧١–١٩٤٥م) عن «ليوناردو والفلاسفة».

ولا أزعم أنها هدتني إلى حل، أو قدمت لي عزاءً. فمن المشكلات كما قلت ما لا يحل ولا ينفع فيه عزاء (اللهم إلا إذا أمكنك أن تقفز فوق ظلك وقدرك أو تتسلى برؤية «بنات» أفكارك وعذابك ووحدتك، وهي تغتال كل لحظة أمام عينيك!) ولكني وجدت نفسي أمد يدي للقلم، فأتابع هذه الصفحات العميقة الدقيقة المرهفة، وأختصر منها وأضيف إليها القليل من توابل شطحاتي وتجاربي. ثم تركتها وكدت أنساها حتى ذكَّرني بها احتفال الإنسانية المثقفة في سنة ١٩٧٤م بنشر مخطوطات جديدة للعبقري الإيطالي المذهل دافنشي (وصدر بها العدد القيم من مجلة اليونسكو في طبعتها العربية في شهر ديسمبر من نفس السنة).

ربما يدهشك حديثي عن دافنشي الفيلسوف، بعد أن عرفته مصورًا خالدًا ونحَّاتًا وموسيقيًّا وعالمًا طبيعيًّا ومهندسًا وأديبًا، وستتكفل الخواطر التالية بتسليط الضوء على صورة جديدة للعبقري الذي «رسم» فلسفته، ونزهَّها عن كل نظام لغوي أو عقلي. وقد يريبك الكلام عن فاليري «الفيلسوف» بعد أن قرأت له أو قرأت عنه، واطلعت على درر من شعره ونثره وتأملاته النفسية عن فعل الخلق الفني (في الشعر بوجه خاص)، وسمعت عن مكانته المرموقة في الأدب الفرنسي والعالمي، ووقفته النبيلة في وجه البربرية النازية، وانتصاره للسلام العالمي والتعاون الثقافي بين الأمم. فما الذي يبرر وصفه بالفيلسوف؟ وما الذي يدعو بعض المعاجم الفلسفية (مثل معجم لاروس) إلى أن يفسح له مكانًا بين الفلاسفة؟

لا مشاحة في الأسماء كما يقال، فلو فهمت الفلسفة بالمعنى التقليدي الذي يتمثل في نظام أو نسق أو مذهب مغلق يحيط بمسائل الوجود والمعرفة، ويصدر عنها وجهة نظر كلية من خلال فكرة أو مبدأ واحد يتفرع عنه كل شيء، أو عدة مبادئ وقضايا عامة تلخص الواقع كله، ولو فهمت الفيلسوف بمعنى المتخصص في الكلي العام، المعبر عن تخصصه بلغة برهانية وعقلية مجردة، فلن يكون فاليري فيلسوفًا، ولن يحتمل أن تلصق عليه بطاقة الفلسفة. أما إذا أخذت الفلسفة بمعناها العام، وروحها الخالد الباقي — النظر المتعالي، القدرة على السؤال عن اﻟ «ما» واﻟ «لماذا» نزعة التحليل والبحث والفهم، الوقوف بين الأنا والأنا، أو تأمل التأمل، ونقد النقد والتعمق في فعل الخلق نفسه، فسيحتل فاليري مقعدًا مريحًا في صفوف الشعراء الفلاسفة. وسوف يكفيك — للاقتناع بهذا الرأي — أن تنظر في بعض شعره الناصع الغامض، الباهر الملغز (وكأن كل بيت فيه ماسة يخطف ضوءُها البصر ويغشاه في آن واحد) كالمقبرة البحرية، وربة القدر الشابة، وغيرهما من القصائد التي يضمها ديوانه «رقي» (١٩٢٢م). ويكفي أن تتأمل بعض كتبه التي يدور معظمها حول فعل الخلق المتأرجح بين مثال الجمال والكمال المطلق، وعاطفة الجسد والحس الدافئ الحي مثل «المدخل إلى منهج ليوناردو دافنشي» (١٨٩٥م)، و«أمسية مع السيد تست» (١٩٠٦م)، و«أويبالينوس أو المهندس المعماري» (١٩٢٣م)، و«النفس والرقص» (١٩٢٥م)، و«ليوناردو والفلاسفة» (١٩٢٩م)، و«حديث عن العقل» (١٩٢٩م)، و«نظرات على العالم المعاصر» (١٩٣٣م)، وألوان (من ١٩٢٤ إلى ١٩٤٤م)، ومقاله عن استندال (١٩٢٧م)، ورسالته عن معلمه مالارميه (١٩٢٨م)، وحواره الفكري فاوست كما أراه (١٩٤٥م) يكفي أن تطلع على شيء من هذا كله لتواجه العقل الذكي الباهر، والثقافة الشاملة الجامعة، والأسلوب الكلاسيكي الصافي، والروح الديكارتية الواضحة المتشككة، والسخرية السقراطية السمحة، والاطلاع الواسع على مختلف العلوم والفنون، وفي مقدمتها الرياضيات والعمارة والتاريخ والرسم والموسيقى. ثم تلمس أنفاس هيراقليطس وبارمنيدز في شذراتهما الدقيقة المقتصدة التي يتضوع منها عبير الشعر والنبوة والسحر والرمز، وتتأكد في النهاية من صدق العبارة التي وصفه بها عميد أدبنا العربي — رحمه الله — في مقاله الرائع عنه (في كتابه ألوان، ص٥١–٦٤، سنة ١٩٥٨م)، وقال عنه فيها إنه «شاعر العقل وعقل الشعر.»

اقرأ معي هذه المقطوعة التي تبدأ بها قصيدته الشهيرة «المقبرة البحرية» التي تعد من أروع و«أفظع» الشعر على الإطلاق:

هذا السقف الهادئ، الذي يخطو عليه الحمام
يرف بين أشجار الصنوبر، بين القبور،
والظهيرة العادلة تشمله بالنيران.
البحر، البحر، الذي يبدأ على الدوام ويعيد.
يا لها من نعمة بعد تفكير عميق
في نظرةٍ طويلةٍ إلى هدوء الآلهة!

وستلمس فيها اللغة الدقيقة المحسوبة — كأنها رياضيات الشعر — والشكل النقي المحكم، والنفس الهائم بين مناطق الوعي اليقظ ومجاهل الوعي المظلم، بين كمال العقل وعذاب الجسد. واقرأ معي أيضًا هذه المقطوعة من نفس القصيدة؛ لتعرف أن «الحس» و«الشهرة» و«الشبق» هي الأصل في كل شعر عظيم، وأننا نظلم هذا الشاعر إن حاولنا أن نحدد أسلوبه بأنه «رمزي» أو «محض» أو «مثالي» أو «مطلق» أو بغيرها من الأوصاف المضادة:

الصيحات الحادة من الفتيات الماجنات،
العيون، والأسنان، والجفون المنداة،
النهد الساحر الذي يعبث باللهيب،
والدم اللامع في الشفاه المستسلمة،
العطايا الأخيرة، والأصابع التي تذودها،
كل ذلك يثوي تحت الأرض، ويدخل في اللعبة.

والحديث عن شعر فاليري — أبو الأحرى شعر الشعر — طويل لا يتسع له هذا المجال. والحديث كذلك عن صمته الطويل عن كتابته — وقد قارب العشرين سنة — يمكن أن يفيد بعض شعرائنا المكثرين بغير داعٍ. ولهذا أود أن أحيلك إلى الدراسة القيمة التي قدم بها الأستاذ شفيق مقار لمختارات من شعره، (وتجدها في كتابه «شيء من الشعر»، من صفحة ١٣٧ إلى ١٧٢. وإلى دراستي عنه في الجزء الأول من كتابي عن ثورة الشعر الحديث، من صفحة ٢٧٤ إلى ٢٩٢. والقصائد التي اخترتها له — ومن بينها هذه القصيدة العسيرة — في الجزء الثاني من نفس الكتاب، ص١٦٣–١٧٢)، ويكفي أن أنقل إليك هذه السطور التي لخص فيها فاليري أسلوبه في الشعر الذي تأثر فيه بأسلوب مالارميه، ومنهج دافنشي، واختلف عنهما في آن واحد: «عند الشاعر تتكلم الأذن، وينصت الفم، إن العقل واليقظة هما اللذان يخلقان ويحلمان، والنوم هو الذي يرى رؤية واضحة، إن الصورة والخيال هما اللذان ينظران، والفقد والفراغ هما اللذان يبدعان.» كما أنقل إليك عبارة أخرى من اعترافاته الحكيمة عن نظرته إلى فعل الخلق: «إنني أفضل أن أكتب شيئًا هزيلًا، وأنا في حالة وعي تام ونصوع كامل على أن أخلق تحفة رائعة من أجمل الروائع، وأنا في حالة جذب تضعني خارج نفسي.» وكلتا العبارتين تبينان أن هذا الشاعر العسير الذي ألزم نفسه بقوانين العقل والشكل قد أبدع — رغم أنف هذه القوانين — شعرًا محترقًا بلهيب الإلهام الذي لا يتحكم فيه إلزام.

مهما يكن من شيء، فقد تعين الصفحات التالية على إبراز بعض قسمات هذا الوجه الفلسفي المتلألئ بنور الوضوح والشك والحزن النبيل. إن صاحبه يرفض المذهب، ويؤكد — كما يفعل المعاصرون — أنه لو كانت له فلسفة لكان موضوعها الأوحد هو الممكن، ولحاولت أن تنفذ إلى منابع الطاقة الخلَّاقة الفعَّالة في أغوار الإنسان. و«الأنا» هي المحور الذي تدور حوله خواطر هذا المفكر، والأنا من كل زواياها وجوانبها المتناقضة المتصارعة (لدى الفنان والعالم والفيلسوف والطاغية، في الإبداع الفني، والتأمل الكوني، والاستماع الموسيقي، والتفكير في الفكر، ونقد النقد، وشعر الشعر، ولغة اللغة)، ولهذا لا يصح أن تتصور أن الخواطر التي ستقرؤها الآن تدور حول ليوناردو وحده، فليس هذا العبقري الإيطالي ولا الميسيو تست وفاوست وغيرهم من الشخصيات إلا رموزًا تومئ للمثل الأعلى، وهو الإنسان الذي يملك طاقة غير عادية على الخلق غير العادي، أي على التعبير عن أقصى سهام الممكن التي تقدر عليها قوس الإنسان.

إليك إذًا هذه السطور التي يتحد فيها عقل المفكر الشاخص إلى الكمال والجمال والمثال وقلب الفنان المضطرب بغرائب الواقع، ومتناقضات الفرد وعذابات الجسد، ومصادفاته ومفاجآته.

– بين الطبيعة والأعمال (الفنية)، بين شهوة الرؤية وشهوة القدرة، علاقات لا نهاية لها، سرعان ما يتوه التحليل فيها.

– إن العقل الذي يحاول باستمرار أن يعيد تنظيم الموجودات، وترتيب رموز جميع الأشياء حول بيت المجهول يستنفذ جهده في هذه المحاولة، وييأس في هذا المجال الذي تسبقه فيه الأجوبة والأسئلة، وتلد النزوة قوانين، ويؤخذ الرمز مأخذ الشيء، والشيء مأخذ الرمز، ويستغل هذه الحرية للوصول إلى نوع من الدقة التي لا سبيل إلى تفسيرها.

– الجمال متعة وإغراء هائل لا يقاوم — مشاهدة الجميل تغري كل إنسان بتعمقه — ولعلها هي التي تهدي العقل هداية خفية، لعلها هي مبدؤه.

– الفيلسوف هو نوع من المتخصص في الكلي العام، وهي صفة يعبر عنها بنوع من التناقض. ثم إن هذا «الكلي» لا يظهر إلا في صورة لغوية أو لفظية.

– لم يعدم الفلاسفة الشعور بالقلق من العواطف والانفعالات. وقد انتبهوا إليه بطريقتهم المنهجية، فأخذوا يبحثون عن أسبابه، وآليته، ومعناه، وماهيته.

– إن الجهد الأكبر للفلسفة — حتى لو نظرنا إليه في قلب الفيلسوف — يتألَّف قبل كل شيء من محاولة تحويل ما نعرفه إلى ما ينبغي علينا معرفته. وهذه المحاولة تقتضي أن تقدم في نظام معين. هذا هو الذي يجعلنا نضع الفيلسوف بين الفنانين، لكن المشكلة هي أن الفيلسوف نفسه لا يستريح لهذا الوضع. من هنا كانت مأساة الفلسفة أو ملهاتها.

– بينما يتجادل الفنانون، ويختلفون حول مكانة كل منهم من فنه، يتجادل الفلاسفة، ويختلفون حول مشكلة «الوجود». لعل الفيلسوف يعتقد بينه وبين نفسه أن «الأخلاق» (لاسبينوزا) أو «المونادولوجيا» (مذهب الكائنات الفردة أو الأحادات لليبنتز) أهم وأكبر خطرًا من سويت أو سوناته من مقام «ري» الصغرى؟!

– حقًّا إن بعض الأسئلة التي تطرحها عقول الفلاسفة والمشكلات التي يحطمون بها رءُوسنا قد تكون «أعم»، وأقرب إلى الطبيعة والفطرة من الأعمال الفنية، ولكن ما من شيء يثبت أن هذه الأسئلة والمشكلات ليست ساذجة (بل إن معظم المشكلات الفلسفية الكبرى نشأت عن أسئلة تبدو في غاية السذاجة: ما الوجود؟ ما الموت؟ ما معنى الحياة؟ ما غايتها ومصيرها؟ ماذا أفعل؟ … إلخ).

– إن نظام الأسئلة هو الذي يميز الفلسفات المختلفة؛ لأن رأس الفيلسوف لا يمكن أن تحتوي على أسئلة منفصلة أو معزولة تمامًا. بل إننا لنجد فيها نغمة كامنة قد تكون بعيدة أو قريبة، تربط بين جميع الأسئلة والمشكلات التي تضمها هذه الفلسفة. والشعور بهذا الارتباط العميق، هو الذي يوصي بالنظام وبفرضه. ونظام الأسئلة يؤدي بالضرورة إلى أب الأسئلة جميعًا، وهو السؤال عن المعرفة.

– ولكن بمجرد أن ينتهي الفيلسوف من وضع مشكلة المعرفة أو تأسيسها وتبريرها — سواء بالغ من شأنها بتركيبات منطقية أو حدسية قوية، أو امتحنها بمقاييس النقد، أي بمقاييسه هو نفسه — فإنه يجد نفسه مضطرًّا إلى التفسير — أي إلى أن يعبر في المذهب أو النظام الذي وضعه — وهو نظامه الشخصي في الفهم — عن النشاط الإنساني بوجه عام، الذي لا يمكن أن تكون المعرفة البشرية في نهاية الأمر سوى وجه واحد من وجوهه، أو حالة واحدة من حالاته، وإن كان هو الذي يمثل مجموعها الكلي وإطارها العام. هنا تجد كل فلسفة نفسها في وضع حرج … فكل فكر بحت أو كل فكر محوري يسعى على اختلاف مضمونه ونتائجه إلى تحقيق المثل الأعلى لترتيب الأفكار والتصورات حول اتجاه محوري أو فكرة مركزية تشغل المفكر نفسه أو تميزه عن غيره. مثل هذا الفكر لا بد أن يرجع بالضرورة إلى التنوع والتفرق واللانظام واللامتوقع في الأفكار الأخرى، وأن يحاول إضفاء النظام على ما يبدو غير منظم. بعبارة أوضح: إنه يحاول أن يعيد تركيب التنوع والتعدد والاستقلال الذي يجده عند الآخرين، وأن يخلع عليه وحدته هو ونظامه هو. إنه مضطر إلى تبرير وجود أشياء اتهمها بالخطأ أو التناقض أو الشر، مضطر أن يعترف بحيوية المحال أو غير المعقول، ويسلم بخصوبة المتناقض والسلبي. بل إنه بعد استبعاد كل ما هو جزئي وواقعي وفردي لا بد أن يحس بينه وبين نفسه أنه في حاجة لأن ينتبه إلى اتجاه معين، أو إنتاج خاص، أو حالة شخصية معينة. هذا الرجوع الاضطراري من الكلي إلى الجزئي، من العام إلى الخاص، من شمول المنطق إلى تنوع الواقع وتناقضه وتمرده على كل ترتيب ذهني ذكي، هو بداية الحكمة وغروبها في وقت واحد.

– الحق أن وجود الآخرين شيء يقلق أنانية المفكر، ويزعج استعلاءه على الدوام، فلا يسعه إلا أن يصدم بلغز الآخر، لغز شخصيته وسر إرادته، حتى أقرب الناس إلينا وأعزهم علينا، نحاول أن نبرر تصرفاتهم أو نفهمها أو نقول إنها كانت ضرورية لكي ننزع منها شوكة التعسف والإرادة المستقلة التي تستثير غيظنا، لكن الآخر موجود في النهاية. ولغز وجوده يضغط علينا، يتحدانا ويحصرنا ويربكنا بمسلكه وتصرفاته وطبعه الذي يختلف عن مسلكنا وتصرفاتنا وطبعنا، وقراراته ومواقفه في كل ما يتصل بالمحافظة على البدن أو على الاستمتاع الحسي والمادي مختلفة عنا. الآخر يظهر اختلافه عنا تنوع ذوقه وتعبيره وما يبدعه أو يخلقه بحساسيته.

– الفيلسوف يضيف بهذا كله: بالتنوع والاختلاف والتفرد. إنه يجاهد؛ لكي يغرق كل هذا الواقع، أو كل هذه الوقائع في نوره الخاص؛ لكي يحيطها بإطاره الفكري الصارم أو يردها إلى إمكانات تتعلق به هو نفسه. باختصار: إنه يحاول أن يفهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من محاولة التفسير والتبرير.

– من هنا يحاول أن يبني علمًا لقيم التعبير أو الإبداع — أي علمًا للأخلاق أو الجمال — وكأن قصر الفكر يبدو له ناقصًا بغير هذين الجناحين المتجانسين. ففي هذين الجناحين تحاول ذاته المجردة أو «أناه» المتعالية أن تأسر العاطفة والفعل والانفعال والخلق. لهذا يرجع كل فيلسوف في النهاية — شاء هذا أو لم يشأه — إلى البشر الآخرين وإلى أعمالهم، بعد أن ينتهي إلى الله أو الذات أو المكان أو الزمان أو المقولات أو الماهيات. لا بد له من الهبوط من أعلى السلم إلى سفح الواقع الملون المتنوع، الخير أو الشرير، ومِن ثَم كانت كل فلسفة مسألة «شكل» أو «نظام» أو «إطار»، حتى الفلسفات الذاتية أو الوجودية التي تحاول أن تقصر نفسها على مشكلات الذات والوجود الحميم الصميم لا تخلو في النهاية من فرض الشكل على ما لا شكل له. كل فلسفة هي في آخر المطاف أشمل شكل يمكن لفرد معين أن يضفيه على تجاربه الباطنة أو تجاربه المختلفة عن تجارب غيره. كل هذا بصرف النظر عن المعارف التي يمكن أن يملكها مثل هذا الفرد، الذي كثيرًا ما ينسى أنه شخص أو فرد.

والغريب أنه كلما اقترب في صياغة هذا الشكل العام لفلسفته من التعبير عنه تعبيرًا فرديًّا أو تعبيرًا مناسبًا بدت الأشكال والأفعال والأعمال التي يقوم بها غيره غريبة عنه. من هنا كان إحساس كل فيلسوف بتميُّزه وتفرُّده عن غيره. من هنا كانت كل فلسفة أشبه بجزيرة منعزلة وسط جزر منعزلة في بحر المعرفة أو المجهول.

– كما خلق الفيلسوف «الحق» أو «الحقيقة»، فقد خلق كذلك «الخير» و«الجمال». وكما ابتدع القواعد التي يتفق بها الفكر المستقل مع نفسه (على يدي أرسطو) راح يشغل نفسه بتحديد القواعد التي يمكن أن يتطابق بها الفكر والتعبير مع مثل ونماذج وقواعد خالصة من نزوات الأفراد وشكوكهم، وأن يوحدها في إطار مبدأ كلي عام عن كل تجربة، وعن كل فرد (كما حاول كانط في أخلاقه مثلًا أو في مبادئ معرفته).

– ودخول المثل إلى مجال الفكر يُعد من أهم الأحداث التي تمت في تاريخ العقل البشري. هو حدث أوروبي بالأصالة، وضعف هذا المثل منذ عهد أفلاطون إلى اليوم يسير جنبًا إلى جنب مع ضعف الفضائل الأوروبية المتميزة جيلًا بعد جيل.

– من الواضح أن «الخير» و«الجمال» قد أصبحا بدعة «مودة» قديمة، أما «الحق» فقد بينت الفوتوغرافيا (التصوير الشمسي) طبيعته وحدوده. أوشك تسجيل الظواهر تسجيلًا أمينًا ألا يحتاج للإنسان إلا في أضيق الحدود.

– ومع ذلك فمن فضل هذه «المثل» الراسخة في ضمير الإنسان، أننا لا زلنا نتعلق بفكرة «العلم البحت» الذي ينتقل من حقائق جزئية إلى حقائق جزئية، محاولًا أن يصل إلى المثل الأعلى للمعرفة الخالصة الموحدة المطلقة. وما زلنا — لحسن الحظ — على اقتناع بوجود قيم أخلاقية وجمالية ومعرفية مستقلة عن تغير الأزمان والأماكن والأجناس والأشخاص، نقول لحسن الحظ على الرغم من كل جهود الوضعيين والماديين في طعن هذه المثل أو إخضاعها لنير «النسبي» و«المتغير» و«المشروط».

– ومع هذا، فكل يوم يمر ينظر بعين الاتهام إلى أنقاض هذا البناء المعماري النبيل. ونكاد نشهد هذه الظاهرة العجيبة كل يوم، إن تطور العلوم نفسها يتجه إلى التقليل من فكرة المعرفة (كأنما تتحقق نبوءة إليوت الحزينة عن المعرفة التي ضاعت مع العلم، والكلمة التي ضيعتها الكلمات، والحكمة التي طمستها كثرة المعلومات …) أي إن ذلك الجانب العلمي الذي كان يبدو أنه باقٍ وخالد، وأنه يجمع بين منهج العلم وروح الفلسفة (الإيمان بالمعقول، والاعتقاد في القيمة الخالصة للعقل) قد تخلى عن مكانه بالتدريج لأسلوب جديد في تصور دور المعرفة وقيمتها. فلا يمكن الزعم بأن جهود العقل تتجه اليوم إلى ذلك الحد العقلي النهائي الذي نسميه «الحقيقة». يكفي أن نواجه أنفسنا بالصدق، ونسألها بأمانة لنحس في أنفسنا جميعًا هذا الاقتناع الحديث بأن كل معرفة لا تقابلها القدرة والقوة المؤثرة لم تبقَ لها أية أهمية تذكر، اللهم إلا الأهمية التي يضفيها عليها التقليد أو التعسف. كل معرفة أوشكت أن تصبح «وصفة» لقوة يمكن تحقيقها. لهذا انفصلت كل ميتافيزيقا، وكل نظرية للمعرفة أيًّا كان نوعها انفصالًا مؤلمًا عما يشعر الجميع — عن قصد أو غير قصد — بأنه المعرفة الوحيدة الحقة؛ أي المعرفة التي تتحول إلى قوة وذهب … هكذا تفككت الأخلاق والجمال من تلقاء نفسها إلى الأوهام الضائعة التي ننسى معها روح الأخلاق والجمال.

– هل ما زال في إمكاننا أن نتحدث عن «استطيقا»، عن علم «الجمال» …؟ وهل من المعاصرين من يذكر هذه الكلمة؟ يبدو أنهم لا يذكرونها إلا باستخفاف عابر، كأنها قد أصبحت أثرًا من آثار الماضي. الجمال نفسه أصبح أشبه بالميت. حلت محله الجدة، الطرافة، والغرابة، والحدة، والإثارة؛ أي كل قيم الأشياء التي تصدم وتفاجئ. الإثارة الفجة أصبحت لها السيطرة على النفوس الحديثة، والأعمال التي توصف اليوم ﺑ «الجمال» أصبحت مهمتها أن تنتزعنا بعيدًا عن حالة التأمل الهادئ والسعادة المطمئنة التي لم تكن تنفصل أبدًا عن فكرة الجمال. لقد تغلغلت فيها أساليب النفس القلقة، ونفذت إليها صور الحس العابرة. يكفي أن تقرأ هذه الكلمات الجارية: اللاوعي، اللامعقول، اللحظي المباشر، وكلها كما تدل عليها أسماؤها ألوان من النفي لصور الفعل العقلي الثابت المستقر، ونماذج الفكر الخالص المحض. أصبح من النادر أن تجد إنتاجًا يدل على رغبة في «الكمال»، كادت هذه الرغبة «المتخلفة»، الكامنة وراء الأعمال العظيمة التي خلدها تاريخ الفن والفكر والأدب أن تختفي أمام العطش الذي لا يروى، والفكرة المتسلطة عن «الأصالة»، وكأن الأصالة أصبحت لا تعني إلا «الإغراب» و«الشذوذ»، والخروج على قواعد العقل، وعلى بنائه النبيل وميزانه العدل. وكأن المرء لا يمكنه اليوم أن يكون «وضعيًّا» أو عمليًّا في حياته، أي لا يمكنه أن يكون «معاصرًا»، إلا إذا سعى إلى التأثير المباشر المفاجئ، وتخلى عن كل «عمل جميل» بالمعنى العريق الخالد. ألسنا نشهد بهذا أفول شمس الخلق المبدع الأصيل لتحل محلها شهب الإثارة السريعة والتجديد بأي ثمن؟!

– أصبح الطموح إلى الكمال مختلطًا بالرغبة في أن يكون العمل الفني مستقلًّا عن كل عصر وزمان، لكن الحرص على الجديد يريد أن يجعل منها حدثًا مهمًّا يلفت الأنظار؛ لأنه ضد اللحظات نفسها. الأول يسلم بالموروث والمحاكاة والتقليد، بل يقتضيها؛ لأنها درجات السُّلَّم التي يتحتم عليه أن يصعد عليها ليصل إلى المطلق الذي يحلم به. والثاني يستبعدها جميعًا، وإن كان في نفس الوقت يتضمنها بصورة أدق؛ لأنه ماهيته تكمن في «اختلافه» عن الموروث.

– تعريف «الجمال» في عصرنا لا يمكن إذًا أن يخرج عن كونه وثيقة تاريخية أو لغوية. هذه الكلمة الشهيرة — إذا أخذناها بمعناها العريق — ستلحق حتمًا ﺑ «عملات» لفظية أخرى لم يعد أحد يستعملها.

– ومع ذلك فهناك عديد من المشكلات التي لا يمكن أن تندرج تحت أي علم محدد، ولا أن تنشأ من أي صنعة (تكنيك) خاصة، مشكلات يبدو أن الفلاسفة جهلوها أو تجاهلوها، وإن كانت تظهر على الدوام، أو تعود إلى الظهور فيما ينتاب الفنانين من شكٍّ وقلق، وفيما يعبرون به عن أنفسهم تعبيرًا غامضًا أو غريبًا.

لنفكر مثلًا في مشكلات التأليف والبناء بوجه عام (أي في العلاقات القائمة بين أجزاء العمل الفني وبينها وبين الكل)، أو في المشكلات التي تنشأ عن تعدد وظائف كل عنصر من عناصر العمل، أو في مشكلات الصياغة التي تتصل في وقت واحد بعلوم الهندسة والفيزياء والمورفولوجيا (علم البنية)، ولا تثبت في واحد منها، بل تكشف عن القرابة بين صور توازن الأجسام والأشكال المتجانسة، ومحاسن الكائنات الحية، وأوجه النشاط الإنساني التي تصدر عن حالة الوعي أو اللاوعي، وتحاول أن «تغطي» المكان والزمان الحر، وكأنها تخضع لنوع من الخوف من الفراغ.

– مثل هذه المشكلات لا تفرض نفسها على الفكر الخالص. إنها تنشأ وتستمد قوتها من غريزة الخلق، وحين ترتفع هذه الغريزة إلى ما وراء «التنفيذ اللحظي» المباشر. تلتمس من التأمل حلولًا وتتخذ شكل التجريد أو شكل التفلسف لكي تثبت شكل الخلق الواقعي الحي وتقيم بناءه. ويبدو في هذه الحالة كأن الفنان يصعد على طريق الفيلسوف؛ لكي يصل إلى مبادئ تبرر أهدافه الفنية أو تدعمها أو تضفي عليها سلطة فوق السلطة الفردية، ولكنه سيظل مختلفًا عن الفيلسوف؛ لأنه مهما صعد مع الأفكار المجردة، فإنما ليبحث عن نتائج خاصة بعمله الفني. وبينما يكون الكائن أو الموجود هو الحد الأقصى الذي يسعى إليه الفيلسوف الحق، والغاية التي ينتهي إليها من كل عملياته العقلية، يحيا الفنان، ويعمل في مجال الممكن، ويسعى لما سوف يكون. إنه حين يقدم على عمل ضخم، أو مركب جديد عليه هو نفسه، ويرى أن رسائله وتخطيطه لا تتحدد مباشرة على أساس التناسب المتبادل بينها، يحاول أن يبحث له عن نظرية عامة، وأن يلتمس في لغة الفكر المجرد سلطة يقيمها ضد نفسه تيسر له المضي في مشروعه، وتخلق له «شروطًا» كلية عامة. يكفي أن يكون الإنسان قد عايش الفنانين ليعرف أن السلطة التي يلجأ إليها الفنان شيء، وسلطة الفلسفة نفسها شيء آخر. فربما كان الفارق الأساسي بين «الاستطيقا الفلسفية»، وبين تأملات الفنان هو أن الأولى تصدر عن تفكير يعتقد أنه غريب على الفنون، وأن ماهيته تختلف عن فكر الشاعر أو الموسيقى أو الرسام. إن أعمال الفن بالنسبة لها (أي للاستطيقا أو علم الجمال) حالات عارضة أو خاصة، آثار حساسية نشيطة تبحث بطريقة عشوائية عن مبدأ لا تمتلكه ولا تعرف إلا الفلسفة فكرته الخالصة. هذه الحساسية الفعالة لا تبدو للفيلسوف ضرورية؛ لأنه يرى أن موضوعها الأسمى ينبغي أن ينتمي للفكر الفلسفي، ويكون في متناوله مباشرةً عن طريق الاهتمام بمعرفة المعرفة أو بنظام أو نسق للعالم المحسوس والمعقول. إن الفيلسوف لا يشعر بضرورتها الخالصة الفريدة. إنه يسيء فهم الوسائل المادية، وأساليب تنفيذ العمل وقيمه؛ لأنه يميل إلى تمييزها عن الفكرة. إنه لا يستطيع أن يفكر معه في تلك العلاقات الخفية الصميمة المتبادلة في داخل العمل الفني بين ما يريده الفنان وما يقدر عليه، بين ما يراه عرضيًّا وما يراه أساسيًّا، بين الشكل والعمل والصورة والمضمون والروح والوعي والتنفيذ. إن الفيلسوف يفتقر إلى الإحساس بهذا المقياس الخفي الذي يقيس به الفنان عناصره المتباينة في طبيعتها كما يفتقد الشعور الذي يملكه الفنان، أو بالأحرى يملك الفنان في كل لحظة من لحظات الخلق، وكل فعل من أفعاله بالتعاون والتآزر بين الإرادي والضروري، بين المتوقع والمفاجئ، الشعور بالجسم الذي يعالجه بمادته، برغباته، بحضوره بل بغيابه، وهو ما يسمح له بالاتصال بالطبيعة نفسها بوصفها المنبع الخصب الذي لا ينضب للموضوعات والنماذج والوسائل والأساليب. وكل هذا موضوع لا يمكن تبسيطه أو رده إلى فكرة مجردة بسيطة؛ لأنه يصدر عن نظام مستقل عنه، ولا يخضع للتحكم العقلي. إن مشكلات الفنان لا يمكن تلخيصها على نحو ما يلخص الفيلسوف «عالمه». والدليل على هذا أن تلخيص أي موضوع فكري، يمكن أن يحافظ على فكرته الجوهرية. أما تلخيص العمل الفني فيضيع جوهره. من هنا كانت تحليلات «الاستطيقي» للعمل الفني في نهاية الأمر وهمًا كبيرًا. إنه يحاول — ويا للجهد الضائع في الشروح والتحليلات — أن يستخلص من العمل الفني بعض خصائصه الجمالية؛ لكي يرتفع إلى صيغة عامة عن الأشياء الجميلة. وتلخيص العمل في بعض الخصائص العامة يفقده قيمه العاطفية أو فضيلته الانفعالية.

– لا يستطيع الفيلسوف أن يفهم بسهولة أن الفنان ينتقل بصورة تلقائية من الشكل إلى المضمون، ومن المضمون إلى الشكل، ولا يفهم أن الشكل يأتيه قبل المعنى الذي سيضفيه عليه، وأن فكرة الشكل مساوية عنده للفكرة التي تتطلب شكلًا.

– بكلمة واحدة: لو أمكن قيام «الاستطيقا» لاختفت الفنون من أمامها؛ أي اختفت أمام ماهيتها.

– ترى كيف كان يبدو الحال لو أن الفلاسفة كانوا فنانين؟ أكان الفيلسوف الذي يصنع التمثال أو يبدع الصورة أو يخلق القصيدة أقدر على تذوق أسرار الإبداع الجمالي في النحت أو الرسم أو الشعر؟

– ربما كان الإنسان أقدر على تصور ما يبدعه بنفسه تصورًا أفضل.

– لقد قال لنا باسكال إنه لم يبدع فن الرسم. واعترف صراحةً — وكل أفكاره وخواطره الخالدة اعترافات — بأنه لا يرى ضرورة في مضاعفة الأشياء التافهة العقيمة، وبذل العناء في إيجاد صور لها — ومع ذلك فكم كان هو نفسه فنانًا كبيرًا، وكم أجاد رسم اللوحات الناطقة عن كلماته — لكن يبدو أنه وصل في النهاية إلى طرح كل شيء في سلة التفاهة، واعتبار كل شيء — ما عدا الموت — من قبيل الرسوم الوهمية.

– من أسهل الأمور أن يثبت الإنسان — بالتأمل البحت — أن كل شيء عبث وباطل. هذا نوع من البلاغة الرخيصة التي استطاع باسكال أن يكشف عنها النقاب. وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على مزاج مريض، أو عيب فسيولوجي، أو محاولة للتأثير على العقول من أيسر الطرق.

ما أسهل أن يثير الكاتب في قرائه الرعب من الحياة والتقزز من الوجود، أن يصور لهم تفاهتها وعبثها وبؤسها وحمقها. ما أسهل أن يثير فيهم النزعات الشبقية أو الشهوات الحسية. يكفي أن يغير الكلمات، يكفي أن يجيد اللعب بها. غير أن عدم الانخداع بالكلمات فن. إنه نوع من الشعر المحض.

لنتأمل أمر الفلاسفة قليلًا، ماذا فعل رجل مثل كانط عندما أسس أخلاقه واستطيقاه على أسطورة الكلي العام، على التسليم بوجود عالم ضروري مشترك موجود بالقوة في كل نفس تأتي إلى هذا العالم؟ وماذا فعل كل فلاسفة الخير والجمال؟ أليسوا كذلك فنانين من طراز خاص؟ أليسوا مبدعين جهلوا أنفسهم؟ ألم يعتقدوا أنهم استبدلوا بالفكرة السطحية الفجة عن الواقع فكرة أكمل وأدق؟ ماذا فعلوا بتحليلاتهم العميقة، وتفريقاتهم الدقيقة، بشوقهم الدفين إلى حالة معينة، وحبهم العميق لما يمكن أن يكون وما ينبغي أن يكون، ألم يكونوا خالقين مبدعين؟ ألم يكونوا فنانين على طريقتهم عندما أضافوا مشكلات إلى مشكلات، وموجودات إلى موجودات، ورموزًا إلى رموز، وصورًا إلى صور، فأثروا كنز العقل وتركيباته الحرة بثروة جديدة؟

– لقد دخل الفيلسوف منذ الأزل في معركة ﻟ «احتواء» الفنان واستغراقه، وﻟ «تفسير» ما يحسه الفنان وما يعمله، لكن النتيجة كانت عكس ما أراد. فالفلسفة لم تسطع أن تتمثل كل مجال الحساسية المبدعة، أو تدرج كل أسرار النشاط المبدع تحت فكرة الجميل. إنها لم تستطع أن تفسره أو تفهم «أعماقه»، فراحت تفتش عن بنائه وتركيبه، عن الحرية الكامنة في شعره المجرد، عن المبادئ والمسلمات الخفية أو المعلنة التي يقوم عليها، عن العناصر التي تتألف منها لغته أو منطقه أو روحه؛ أي راحت تفتش عن أطلال ميتافيزيقية دارسة.

– هل يمكننا — بوصفنا فنانين — أن نجرب التفكير في مشكلات لم يبحثها حتى الآن إلا «الباحثون عن الحقيقة»؟ هل يمكن أن نغير العادة المألوفة منذ قرون وقرون، فنتأمل أفكار الفلاسفة، وكأنها أكاذيب جميلة وأوهام مجردة وخيالات وأحلام مجسدة؟ لنصور هذا بمثل من تاريخ النحت القديم. كان الناس في وقت من الأوقات لا ينظرون فحسب إلى تمثال إنسان أو حيوان على أنه شبيه بالإنسان أو الحيوان الحي، بل كانوا يتصورون أنه يملك قوًى روحية خارقة تفوق القوى الطبيعية. كانوا يصنعون من الحجر أو الخشب آلهة لا تشبه البشر في شيء. وكانوا يقدمون الطعام والقرابين لهذه «الأصنام»، ويقدسون هذه «الصور» التي لم تكن «صورًا» إلا من بعيد جدًّا. والعجيب أنهم كانوا يزدادون عبادة وتقديسًا لها كلما ازدادت بُعدًا عن الشكل أو الصورة (وهو شيء تلاحظه في علاقة الأطفال بعرائسهم أو المحبين بمحبوباتهم؛ إذ يبدو أننا نعتقد أننا لا نتلقى الحياة من شيء إلا بقدر ما نسخو في إعطائها له). ثم ضعفت هذه الحياة التي كان يضفيها «المخلوق» على «خالقه» الوهمي بالتدريج، ورفض أن يعبد الصورة الفجة أو التمثال الغليظ، وتحول معبوده إلى «صنم جميل»، وفقد هذا الصنم — تحت ضغط النقد — تأثيره الخيالي على الأحداث والكائنات، وصار له تأثير واقعي على من ينظر إليه أو «يتذوقه». وصار التمثال حرًّا، أصبح هو نفسه.

– هل يمكننا — بغير أن نصدم العاطفية الفلسفية صدمة قاسية — أن نشبه كل هذه الحقائق العريقة المعبودة — هذه المبادئ والمثل، والماهيات والمقولات والحقائق في ذاتها، هذا الوجود وهذا العالم، هذا الحشد الهائل من التصورات والأفكار التي كانت تبدو أهميتها لكل عصر وجيل — هل يمكن أن نشبهها بالأصنام التي تحدثنا عنها الآن؟

– أجل! إن كل تجريدات الفلسفة التقليدية تبدو أعمال بدائيين. إن أفكارها ومشكلاتها التي تعبر عنها تنطوي — إن جاز هذا القول — على نوع من السذاجة البالغة، وفكرة الواقع والسببية تبدو بوجه خاص من أشد الأفكار غلظة وأكثرها فجاجة، أليس تقديم الأفكار المجردة بغير تعريف دقيق لها نوعًا من الخلط بين هذا الفعل الشعري الخالص وبين لغة تقنية (فنية) تحاول إخضاعه لها؟

– ربما يسأل اليوم سائل: ما هي الفلسفة التي يمكن أن تكون بالقياس للفلسفة القديمة مثل تماثيل القرن الخامس بالقياس إلى أصنام الآلهة المجهولين في القرون السحيقة المجهولة؟

– ربما بدت التركيبات المجردة والتأليفات الفكرية القديمة أكثر إنسانية وإغراء وخصوبة من كثير من المذاهب والأنظمة الحديثة القائمة على أوهام التفسير والتحليل والنقد المحكم الدقيق. وربما استطاع عقل حديث بروح جديدة وطموح مختلف أن يواصل العمل السامي الذي قامت به الميتافيزيقا القديمة، بعد أن يوجهها إلى الغايات التي أضعفها النقد إضعافًا شديدًا.

– لقد استطاعت الرياضة منذ القدم أن تستقل بنفسها عن كل غاية غريبة عنها، وأن تجد تصورها الصحيح عن طريق التطور الخالص لأسلوبها والوعي بقيمة هذا التطور، والكل يعلم كيف أدت بها حريتها إلى إكسابها مرونة خارقة، وجعلها سلاحًا يستعين به عالم الطبيعة.

– فن مؤلف من الأفكار، فن نظام الأفكار أو فنون أنظمتها المختلفة، أهذا تصور عقيم؟ إن البناء المعماري ليس مجرد واقع، والموسيقى ليست مجرد أصوات. هناك عاطفة أو شعور بالأفكار يبدو أن من الممكن تربيته في النفس كما يربي الشعور باللون أو الصوت، بل إن الفيلسوف — إن جاز لنا أن نقدم تعريفًا له — يتميز بتفوق هذا الشعور أو هذه الحساسية وسيطرتها على كيانه.

– إن الإنسان يولد فيلسوفًا كما يولد نحَّاتًا أو موسيقيًّا. هذه الموهبة الفطرية إذا تعهدها صاحبها، وأخذ يستعين بها في تقصي حقيقة أو واقع معين يمكن أن تثق بنفسها فتخلق وتبدع أكثر مما تبحث وتتقصى. هناك يستطيع الفيلسوف أن يستخدم طاقاته بحرية كاملة، وأن يستغل ملكته الطبيعية في أساليب وصور لا حصر لها. هنالك يصبح ذلك الفيلسوف الحق الذي «يرى» المجرد رأي العين، ويبعث الحياة والحركة في الأفكار والمعاني الخالصة.

– لهذا فإن تعليم الفلسفة يصبح أعدى أعداء الفلسفة إن لم يعلم الطالب حرية العقل المطلقة، لا بإزاء المذاهب فحسب، بل إزاء المشكلات نفسها. لا بد لهذا التعليم أن يخلق عند المبتدئ شهوة التفلسف.

– وهذا هو الذي يسمح بإنقاذ الحقائق في ذاتها (أو النومين بتعبير كانط). إذا استطعنا أن نحس التجانس الداخلي القائم بينها.

يظهر أن الأعمال الفلسفية تؤدي عند المهتمين بها نفس الدور، وتترك نفس الأثر الذي تتركه الأعمال الفنية في نفوس المتذوقين لها، والمهتمين بها. هناك عشاق لديكارت واسبينوزا وليبنتز وكانط كما أن هناك عشَّاقًا لباخ وبيتهوفن وموزارت. وهناك أمثلة للتقارب بين الجانبين. خذ مثلًا فاجنر ونيتشه.

– هل تريد دليلًا ناصعًا على ما سقناه الآن على سبيل الظن والترجيح؟ فكر في المصير الذي انتهت إليه مذاهب كبار الفلاسفة. بأية عين نطلع اليوم على هذه النفائس التي تضم بين دفتيها نظامًا لن يتحقق؟ هل نلتمس فيها شيئًا غير المتعة العقلية الخالصة؟ أنمارس فيها حرية غير حرية العقل في أسمى ألعابه؟ أينتظر أحد منها شيئًا غير هذا؟ أيتصور أحد منا إمكان تحقيق جمهورية أفلاطون في الواقع أو إمكان بلوغ الروح المطلق أو الحقيقة الكاملة؟ ألسنا ندخل إلى المذاهب القديمة كما ندخل في معبد جليل، ونتقدم منها كما نتقدم من أثر عريق؟ هل ننتظر منها إلا متعة اللعب الجميل؟ هل نقبل عليها لغير هذه اللذة المؤلمة؟ أصحيح أنه لن يبقى شيء من أفلاطون أو اسبينوزا إذا رفضهما العقل؟ وهل كانا يطمعان في أكثر من هذا؟

– هناك أفراد ممتازون كانوا بعيدين عن الفلسفة. ومع ذلك فقد كانت لديهم كل مزايا التفكير المجرد، وكل دقائقه وأعماقه. لقد استطاعوا أن «يصوروا» تفكيرهم المجرد، أن يطبقوه في أشكال واقعية ويثبتوه ببراهين حسية. (كان لديهم هذا العلم الدفين بالعلاقات المستمرة بين «الإرادي» و«الضروري»).

– ليوناردو دافنشي هو نموذج هؤلاء الأفراد الممتازين.

– أغرب شيء أن يستبعد من لوحة الفلاسفة الذين يعترف التراث بهم. لا شك أن السبب في هذا يرجع إلى أنه لم يكتب نصوصًا فلسفية بالمعنى الشكلي لهذه الكلمة. إن ملاحظاته ومذكراته ومخطوطاته التي تركها وراءه تذهلنا بتنوع الموضوعات والمشكلات التي اهتم بها. لكأنما أخذ على عاتقه أن يطيع جميع ربات الفن والفكر ويكون رهن إشارتهن!

– إذا كان الفيلسوف هو الذي يبني نظامًا مرتبًا من الأفكار ويضمن بذلك لنفسه مكانًا في تاريخ الفلسفة (وهو تاريخ يعتمد على الاصطلاح أو الاتفاق، وهذا الاتفاق يستند بدوره إلى تعريف تعسفي للفلسفة والفيلسوف)، وإذا كان من الصعب أن نلخص أفكاره أو نرتب مشكلاته، بحيث نقارن مذهبه بغيره من المذاهب، فلا بد أن نستبعد ليوناردو دافنشي من قائمة الفلاسفة.

– بيد أنه يتميز عن الفلاسفة، ويقارن بهم في نفس الوقت لأسباب أخرى أهم.

فإذا كان هدف الفيلسوف هو التعبير عن تأملاته بالقول، وإذا كان كل همه ينحصر في تكوين معرفة يمكن نقلها عن طريق اللغة، فلا يمكن أن يكون ليوناردو فيلسوفًا بهذا المعنى الضيق.

– فاللغة ليست كل شيء بالنسبة إليه، والمعرفة ليست في نظره كل شيء، بل ربما لم تكن عنده سوى وسيلة. إنه يرسم ويحسب ويبني ويزين ويستخدم جميع الوسائل المادية التي تستطلع الأفكار، وتكشف عنها في نفس الوقت، ويتيح لها أن تثبت على الأشياء وتصطدم بها، وتخلق لها المصاعب الغريبة التي تقاومها في وجهها وتضعها في عالم آخر لا يمكن أن تحيط به معرفة أولية أو يتنبأ به جهد عقلي مسبق.

– إن المعرفة لا تشع هذه الطبيعة المعجزة، بل هذه الطبائع المتنوعة. القدرة هي هم صاحبها وطموحه ومجاله. وهو لا يفصل «الفهم» عن «الخلق»، ولا النظر عن العمل، ولا التأمل عن القوى الحية التي تنمو في الخارج، ولا الحق عن المتحقق بكل صوره وأشكاله التي يتجسد فيها من آلات وأعمال وإنشاءات.

– هنا كان ليوناردو هو «الجد» الأصيل للعلم الحديث والمعاصر. فأهم ما يميز العلم ويحدد ماهيته أنه «مجموع العمليات والوصفات التي تنجح باستمرار»، وأنه يتقدم على الدوام وفي يده لوحة من «التطابقات» بين أفعالنا وبين الظواهر، وهي لوحة تزداد بالتدريج دقة واقتصادًا وإحكامًا. العلم بمعناه الحديث يخضع «المعرفة» للقدرة (وهو بهذا يسير في الطريق الذي رسمه بعد ذلك فرانسيس بيكون، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا أرجعناه إلى أول يوناني فكَّر تفكيرًا نظريًّا مجردًا، وصاغ فكره في هذا السؤال: ما الموجود؟) وهو يصل في هذا إلى حد أن يجعل المعقول تابعًا للتحقق، أو لما يقبل التحقيق ويحتمله. (وهذه العبارة تلخص مذاهب الواقعيين في الحقيقة سواء أكانوا وضعيين أو براجماتيين أو تحليليين … إلخ) إن إيمان العلم وثقته يستندان على التأكد من القدرة على استعادة ظاهرة معينة أو تكرارها على أساس أفعال معينة ومحددة. إن قضاياه صيغ أفعال. ومعيار القيمة لديه هو «عدم الخطأ» في التنبؤ. وكل ما عدا ذلك من نظريات وتفسير للظواهر ووصف لها أمر يمكن الخلاف حوله، هو شيء من الأدب مجرد وسائل وأدوات.

إن القوانين عنده مجرد «مواضعات» قد تخطئ وقد تصيب. والأسس والمناهج والمبادئ النظرية قد تتعارض وتتضارب. المهم عنده هو النتيجة العملية أو الوضعية، هو القوة والقدرة المكتسبة. بكلمة واحدة هو النجاح. هذا هو الذي يهم رجل العلم الحديث. ولهذا لا تفصل معرفته أبدًا عن الفعل وأدوات التحقيق والتحكم والتنفيذ. إن عقله يتحرك دائمًا بين تجربتين، تجربة معطاة وأخرى متوقعة. ولهذا فكل معرفة تصدر عن القول أو تتحرك نحو الأفكار لا قيمة لها عنده.

– ماذا تفعل الفلسفة وهي تفاجأ كل لحظة بعواصف الاكتشافات العلمية الحديثة؟ ماذا تفعل الميتافيزيقا وهي ترى نفسها مهجورة مخلوعة عن العرش، تندب حظها وتبكي فجيعتها في أبنائها (كأنها «هيكوبا» زوجة بريام ملك طروادة التي رأت أبناءها يُذبَحون أمام عينيها؟) ما مصير مشكلاتها العنيدة العريقة؟ ماذا تصنع ﺑ «أنا أفكر» و«أنا موجود»؟ بفعل «الوجود» أو الكينونة الغامض الذي يدور منذ القدم في الفراغ بكل المشكلات والأسئلة التي تمخضت عنه؟

الجواب عسير. وقد كانت ردود فعل الفلسفة — ممثلة في أمها العجوز المحتجة أبدًا المهانة على الدوام (الميتافيزيقا) — على الاكتشافات العلمية مدهشة أو غامضة أو مضحكة: أليس من الخير للفيلسوف أن يجعل فكره مستقلًّا عن جميع المعارف التي يمكن أن يقوضها الكشف عن تجربة جديدة، أي أن يكون فكرًا يدور في فلك الممكن لا الواقع، ويحمل غايته وهدفه في ذاته؟ لكن هل يمكن أن يتحصن الفيلسوف في قلعة الفكر المحض أو يحبس نفسه في قفصه البلوري الصافي دون أن تحين منه نظرة إلى الواقع؟

– لو استطعنا أن نتحرر من عاداتنا الفكرية، أن نرتفع فوق تنوع الاتجاهات الفلسفية المعاصرة وفوق ضجيجها أيضًا، لأمكننا أن نتفق بسهولة على أن الفلسفة — كما يحددها تراثها العريق المكتوب — نوع «أدبي» خاص، يتميز بموضوعات وأشكال واصطلاحات معينة تتردد فيه. هي نوع من العمل العقلي و«الإنتاج» اللغوي يطمح دائمًا إلى النظر الكلي العام، سواء في مواقفه وغاياته أو في صيغ التعبير عنه. ولما كان بطبيعته بعيدًا عن كل تحقق في الخارج، ولا يهدف إلى أن يتمثل في قوة أو سلطة قائمة — باستثناء بعض الفلسفات التي حاولت تغيير الواقع بالعلم والتخطيط أو الخرافة العنصرية أو الثورة السياسية والاجتماعية — فإن هذا النظر الكلي العام ينبغي ألَّا يكون مؤقتًا، ولا أن يكون وسيلة أو أداة، ولا تعبيرًا عن نتاج، قابلة للتحقق، أعني أن تكون له غاية في ذاته. من هنا يمكننا أن نضعه غير بعيد من الشعر والفن.

– غير أن المشكلة هي أن هؤلاء الفنانين الذين ذكرتهم من قبل — أي الفلاسفة — يجهلون أنهم فنانون ولا يريدون أيضًا أن يكونوا فنانين. لا شك أن فنهم يختلف عن فن الشعراء. فهم لا يفكرون كثيرًا في رنين الكلمات، وسحرها الخفي، وقراباتها الحميمة، بل يبدءُون عادة من الإيمان بوجود قيمة مطلقة مستقلة عن حواسهم وإحساساتهم. الفيلسوف يسأل: ما الواقع؟ ما الوجود؟ ما الخير؟ … إلخ، إنه لا يعني نفسه كثيرًا بأصول هذه الكلمات وجذورها الممتدة في عروق الأسطورة والصورة والاستعارة، وفي حياة المجتمعات والشعوب، ولا يهتم بمعانيها الدقيقة العسيرة التي اكتسبتها على مر العصور، وعلى مختلف الشفاه، ولا بمجدها أو تماسكها وهي تنتقل من قلم إلى قلم، ومن لسان إلى لسان. إنها تصبح بالتأمل والتفكير والجدل أدوات عجيبة قادرة على تعذيب مجموعات ومجموعات من الأفكار، مفاتيح سحرية مخيفة صنعتها رءُوس لحل مشكلات الوجود والواقع والإدراك، حفر واسعة عميقة على استعداد لابتلاع كل شيء، وتصور كل شيء.

– ولكن هذا التعميم، هذا الاستخدام الكلي للكلمات، ألا يخفى وراء مظهره الشمولي هذا روح الفن؟ ألا ينطوي مع ذلك على وجه شخصي أو فردي يحاول أن يتنكر وراء قناع الكلي العام؟ أليس عمل الفيلسوف الذي يرى في «التعبير الشائع» آلاف الصعوبات التي لا يلحظها الرجل العادي، ويخلق آلات المشكلات والمتاعب والمتناقضات التي لا تراها عينه، ويبلبل العقول، ويزرع فيها أشواك الحيرة والاندهاش والاستغراب، حيث لا يحس الناس غير الطمأنينة والأمن والوضوح … أليس هذا عملًا شخصيًّا وفرديًّا، وإن ارتدى مسوح الشمول والتعميم؟

– وإذا كانت الكلمة هي أداة الفيلسوف وغايته، إذا كانت هي مادته التي ينفخ فيها ويعذبها ويستخلص أحشاءها، ويثبت عليها أجنحة التعميم، فإن الفنان ينظر إليها نظرة أخرى. إنه يعذب الكلمة، ويتعذب بها، وهي أيضًا وسيلته وغايته، ولكنه يحس فيها إحساسات، ويرى ظلالًا وأطيافًا، ويسمع نبضات لا يراها الفيلسوف ولا يسمعها ولا يهتم بها. إن الكلمة هي مادته التي يشكِّلها ويصنع من «عدمها» مخلوقات حية. شعرًا أو قصة أو مسرحًا، ونحتًا أو موسيقى (فكلاهما لغة أيضًا) لهذا يمكننا القول بأن الكلمة هي أخطر أدواته وأقلها في نفس الوقت، هي الشيء الوحيد الذي يملكه ويريد من خلاله أن يصل إلى ما لا يملك.

– فلنتأمل حال فنان عظيم من عصر النهضة ليوناردو دافنشي (١٤٥٢–١٥١٩م) هناك (كما ذكرت لك) أمور تجمعه بالفلاسفة وتميزه عنهم. أهمها أن الرسم هو فلسفته. وهو نفسه يقول هذا. إنه يعبر بالرسم كما يعبر غيره بالفلسفة. أي إن الرسم عنده هو كل شيء. قد يرى غيره أن الرسم فن خاص بالنسبة للفكر، أو أنه أبعد ما يكون عن إرضاء كل رغبات العقل، ولكن ليوناردو يفكر تفكيرًا آخر. فالرسم في نظره غاية أخيرة، هدف نهائي لجهد عقلي كلي. باختصار: إنه يفعل بالرسم ما يفعله الفيلسوف، بل يزيد عليه أنه يتعمق الأشياء بكل وسيلة، طبيعتها وتكوينها العضوي ونفسيتها، هندستها وتشريحها وبنيتها الخفية ولغتها السرية — الرسم عنده عمل يستلزم كل المعارف وجهد يحتضن كل الأساليب على وجه التقريب: الهندسة، والديناميكا، والجيولوجيا، والفسيولوجيا — تصوير معركة حربية يقتضي منه معرفة قوانين حركة الأعاصير وحركة الغبار المتطاير، تصوير شخص يستلزم منه بحوثًا في تحليل حركاته وتشريح ملامحه وقسماته الفسيولوجية والنفسية، ودراسة التوافق بين العضو ووظيفته.

– إن العلم والفن والفكر تمتزج في أعماله امتزاجًا تامًّا. فالرسم عنده معرفة بكل شيء، تعبير عن جميع الظواهر، حتى الظواهر غير المنظورة. الصنعة عنده ملازمة للمعرفة، الفعل ضمان للفكر، العمل لا ينفصل عن الكلمة. اللغة عنده أداة مثلها مثل غيرها من الأدوات، كالعدد مثلًا أو التخطيط الكروكي، إنه لم ينتهِ أبدًا إلى ما انتهت إليه معظم الفلسفات في عصرنا، فصارت كلمات بلا فعل، إنه باختصار يجد في العمل الفني المرسوم كل المشكلات التي يمكن أن يوحي بها للعقل نظام فكري أو فلسفي عن الطبيعة.

– هل ليوناردو فيلسوف أم ليس فيلسوفًا؟

المسألة ليست مسألة اختيار أو تردد في إطلاق هذا الوصف الجميل على هذا الرسام الذي اشتهر بأعمال عديدة غير مكتوبة. إنها مسألة تتصل بعلاقة النشاط الكلي لعقل ما بوسيلته التي اختارتها للتعبير أو بنوع الأعمال التي تجعله يحس بقوته أعمق إحساس وأشده. وحالة ليوناردو الخاصة — التي تجعلنا نلمح الفيلسوف وراء اللوحة — تقتضي منا إعادة النظر في كثير من عاداتنا العقلية، وتدعونا للانتباه إلى الأفكار التي تطل من وراء الخط والظل وبقعة اللون. وإذا كانت الفلسفة تقاس في حياة العقل بمدى ما تشهد عليه من عمق النظرة، والميل إلى التعميم وعدد الظواهر التي تتمثلها وتحتويها، والعطش الدائم للبحث عن الأسباب الخفية، فإن رسوم ليوناردو تنطوي على هذا كله.

– لعل مثال ليوناردو أن يدعونا إلى مراجعة تفرقتنا المألوفة بين الفلسفة والفن، بين الفكر والشعر. ولعله أن يصحح نظرتنا القديمة في تقسيم الطبيعة الإنسانية، وكأن الفلاسفة بلا أيدٍ ولا عيون، وكأن الفنانين رءُوس خلت من كل شيء إلا من الغرائز والانفعالات؛ لأننا لو تشبثنا بهذه النظرة العرجاء، لأصبح رجال مثل ليوناردو أشبه بكائنات خرافية وحوش أو قنطورات (كائنات خرافية تقول الأسطورة اليونانية إن نصفها إنسان والنصف الآخر حصان).

– لو قصرنا أنفسنا على النظر إلى الظواهر الحميمة الباطنة، على لحظات الحياة النفسية المتدفقة الدافئة، فلن نقدر على التمييز بين فيلسوف وفنان، إن الفروق بينهما ستكون غير محددة، بل قد لا تكون موجودة.

أما إذا التفتنا إلى الجانب الموضوعي من التعبير عند كل منهما، فسيكون الفارق هائلًا. سنجد الفلسفة لا تنفصل عن اللغة التي هي غاية كل فيلسوف ووسيلته، ولهذا سنحكم بأنه ليس فنانًا، وسنجد أن الرسم هو كل ما عند الرسام، فنحكم بأنه لا يمكن أن يكون فيلسوفًا. وبهذا نظلم الاثنين معًا. مع أن الإحساس المباشر يدلنا على الفن عند كثير من الفلاسفة، ويهدينا إلى الفلسفة عند كثير من الفنانين.

– قد نرى هذا لأول وهلة، وقد ننساق مع النظرة السطحية فلا نشك في أن الفيلسوف يصف ما فكر فيه. والمذهب الفلسفي يمكن تلخيصه في تصنيف للكلمات أو قائمة من التعريفات. والمنطق هو طريقة استخدام هذه القائمة، أو هو الإطار الذي يضم الأنفع والأكمل من التفكير العادي، إن التفكير الأعمق لا بد أن يجرنا إلى أبعد من اللغة. ونحن لا نستطيع أن نفكر أو نحافظ على فكرنا، أو نوجهه، أو نتنبأ به بغير اللغة. اللغة هي وجودنا نحن. غير أننا لو نظرنا للمسألة عن قرب لوجدنا الأمر مختلفًا. فكلما حاول فكرنا أن يتعمق نفسه وموضوعه، وأن يقترب من موضوعه — لا من الرموز والاصطلاحات التي تثير أفكاره عن هذا الموضوع — عشنا هذا الفكر، وأحسسنا أنه ينفصل بنفسه عن كل لغة متواضع عليها. هنالك نحس أن الكلمات تنقصنا، أو لا تستجيب لنا، أو تحاول أن تتدخل بيننا وبين الموضوع، أو تنوب عنا. صحيح أنها تخدمنا خدمة لا تقدر حين تقربنا من الموضوع الذي نفكر فيه ومن فكرنا نفسه حين تنظم هذا الفكر وتكرره، ولكن التفكير، التفكير «العميق» ليس هو التفكير الأدق. إن الفكر المعاش — الحميم والصميم — يحس أن اللغة تبعده عن نفسه، أنها عاجزة في ميدانه، إنها تثبت ما لا يثبت، إنها تستبدل شيئًا بشيء، تستبدل الجامد البارد المحدد العام بالحي الشخصي الدافئ.

– أترانا نظلم الفلاسفة؟ لا شك أنهم حاولوا دائمًا أن يربطوا لغتهم بأعماق فكرهم وحياتهم. وحاولوا دائمًا أن يعيدوا تنظيمها، أن يكملوا نقصها لتستجيب لحاجات تجربتهم الوحيدة، أن يجعلوا منها أداة أدق وألطف، وأقدر على المعرفة، بل على معرفة المعرفة! ربما استطعنا أن نتصور الفلسفة موقفًا، أو اتجاهًا، أو وجهة نظر، أو وعدًا، أو انتظارًا، أو قيدًا يقسر به بعض الناس أنفسهم على أن يفكر حياته أو يحيا فكره، في نوع من التعاون أو الانعكاس بين الوجود والمعرفة، إنهم يحاولون أن يوقفوا كل تعبير تقليدي أو مصطلح عليه لدى شعورهم بأن «الواقع» يقدم نفسه لهم، أو بأنهم سيستقبلونه، وأنه سينتظم ويتضح في تأليف أو مركب جديد أثمن وأدق من كل مركب آخر مطروق أو مسبوق إليه (وفي هذا العناء يشاركهم الشاعر والكاتب والرسام ويزيد عليهم).

– غير أن طبيعة اللغة (التي خلقت أصلًا للإشارة إلى الأشياء الثابتة والكائنات المحددة) لا تمكن من إنجاح هذا الجهد الذي يبذله كل الفلاسفة (وإن كان إحساسهم بخيبة الأمل فيها لا يبلغ من العمق والألم قدر إحساس الشاعر والأديب!) إن أقدر القادرين منهم قد استنفد جهده في محاولة دائبة لترجمة فكره، أو جعله ينطق ويتكلم. من هنا يضطر أغلبهم إلى نحت كلمات جديدة من كلمات قديمة أو تحويل معانيها عن المألوف المعتاد (لهذا يصدم الرجل العادي دائمًا في لغتهم. وهذا أمر طبيعي، فهم لا يستخدمون لغة أخرى غير لغته؛ إذ إن هذا محال، فلا بد أن تأتي لغتهم من نفس الطبيعية حتى يتمكنوا من فهم أنفسهم وإفهام غيرهم. ولكنهم يحولون بعض الكلمات عن معناها المألوف، يرتفعون بها إلى مستوى آخر. خذ مثلًا كلمات كالوجود أو العدم أو الواقع أو الأنا أو المثال أو الفكرة … إلخ، وستجدها في لغة الفيلسوف، وقد تحولت تحولًا تامًّا، وإن لم تفقد بطبيعة الحال كل صلتها بالأصل الذي نبعت منه) لكن معظم جهودهم تذهب في النهاية هباءً. فهم لم يستطيعوا نقل «حالاتهم» إلينا. إن أفكارهم التي يحدثوننا عنها كالطاقة أو الإمكان (ديناميس) أو الوجود أو النومين (الشيء في ذاته) أو الكوجيتو (أنا أعرف أو أفكر) … إلخ ليست إلا «شفرات» لا يحدد معانيها إلا السياق الذي وردت فيه. وينبغي على القارئ أن يلجأ إلى قدرته على الإبداع الشخصي؛ لينفض أنفاس الحياة في أعمال تلوي عنق اللغة العادية للتعبير عن أشياء لا يستطيع الناس أن يتبادلوها فيما بينهم، أشياء لا وجود لها في المجال الذي تتردد فيه الكلمة الجارية (تأمل ما سبق هل يختلف موقف القارئ من عبارات الفلاسفة عن موقفه من قصائد الشعراء إلا من حيث الدرجة؟ ألا يشارك الفيلسوف والشاعر في الخلق والإبداع؟)

– معنى هذا أن قصر اللغة على صيغ التعبير اللغوي — الذي يتميز به الفلاسفة بطبيعة الحال عن غيرهم من أصحاب القول — سيظلم الفلسفة ويحرمها ألوانًا من الحرية، بل ألوانًا من المتاعب التي تتمتع بها مختلف الفنون. ولكي نتصور هذا الظلم نقول إننا لن نشهد أبدًا، ولا يمكن أن نتصور فلسفتين متطابقتين تمام التطابق. ولم نشهد ولا يمكن أن نتصور تفسيرًا وحيدًا خالدًا لأي مذهب أو نسق فلسفي. ما من مشكلة أمكن التعبير عنها بطريقة «نهائية» أو بطريقة تقضي على الشك حتى في وجودها (من هنا تبقى الفلسفية صورة الفكر الإنساني الحر المتغير، كما تنعكس على صفحة نهره المتدفق أبدًا أو بالأحرى تعكسه … من يملك القدرة على تثبيت الصورة على الماء؟ من يملك تثبيت الماء في صورة أو إطار؟)

– الفلسفة تواجه الآن خطرًا جديدًا: اكتشاف أبعاد جديدة للغة، بل اكتشاف لغات عديدة أصبحت تضيق من حدود آفاقها التقليدية (لغة الشكل التي تجرب ثورات التجريد الجسورة، لغة الموسيقى التي كانت وستظل أدق اللغات وأنقاها وأقدرها على التعبير عن أمواج العواطف والأفكار والأحاسيس، لغة الحساب والرياضة التي تقاوم التباس اللغة العادية وغموضها) بيد أن الفلسفة قد حاولت دائمًا، وستحاول باستمرار أن تؤكد أنها لا تسعى إلى هدف لفظي بحت. صحيح أن العلوم انتزعت منها آفاقًا عديدة كانت طيورها ترفرف فيها على هواها، لكن الفنون أصبحت تجرب التعبير المجسم عن كثير من مشكلاتها المجردة. ولهذا نشهد غلبة المزاج الفني على العديد من الفلاسفة المعاصرين، سواء في الموضوع أو الأسلوب. كما نجدهم يطرقون ميادين شاسعة ومناطق مظلمة ويتغلغلون في دروب خطرة لم يكن يحلم بها الأقدمون. إن «الوعي بالذات» (الذي كان دائمًا — على اختلاف أسمائه وصفاته — وسيلتها الأساسية إلى الوجود، كما كان كذلك سبب انزلاقها إلى الشك والضياع والضلال) يدلها اليوم على حيويتها المتجددة، وضرورتها الباطنة والملازمة لوجود الإنسان، ولكنه يدلها في نفس الوقت على مصدر عجزها وكل ضعفها، ألا وهو الاعتماد على القول، بل على نوع معين منه. لهذا نلاحظ حرص جميع الفلاسفة على وجه التقريب على تمييز فكرهم عن كل فكر تقليدي أو مألوف كما نجد بعضهم — وبالأخص المهتمين بعالمهم الداخلي، ورصد تحولاته وحالاته — يتطلعون إلى ما وراء اللغة، إلى تلك الأرض البكر المجهولة التي يسميها بعضهم «الحدس» أو «الوجدان»، وينفذون إليها أو تنفذ إليهم بطريقة تلقائية، فتهديهم «نورًا» مباشرًا، وإجابات مفاجئة، وقرارات وذبذبات وإيحاءات غير متوقعة. وبعضهم الآخر يوجه انتباهه إلى ما يبقى ويثبت، ويحاولون أن يلتمسوا في اللغة نفسها سندًا يؤيد مواقفهم الفكرية. إنهم يثقون في القوانين الصورية والعلاقات المنطقية الخالصة، يرون فيها بناء المعقول أو العقل نفسه، يكتشفون فيها الأشكال الأولية التي تستمد منها بقية اللغات أنماطها المختلفة في التعبير (لنذكر المحاولة الطموح التي بدأها ليبنتز لاكتشاف لغة رياضية كلية أو علم كلي، ومحاولات المحدثين لتكوين نسق صوري محكم يلخص الهيكل الخالد للفكر!)

الفريق الأول تجذبهم ميولهم «الباطنة» إلى طرق الفن، إنهم فلاسفة شعراء أو فلاسفة موسيقيون. والفريق الثاني يفرض على اللغة طوق العقل الجاد، ويخضعها لنير الاستدلال المحدد. إنهم فلاسفة «مهندسون»، يبنون قصورًا شامخة؛ ليسكنها كل إنسان، ولا يسكنها أي إنسان (وغالبًا ما ينزوون — كما يقول كيركجورد عن هيجل — في كوخ بائس مجاور لذلك القصر الساحر المخيف).

ترى ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الفريقين استلهما نموذج ليوناردو دافنشي الذي استبدل الرسم بالفلسفة؟

هذا العبقري الذي رسم الفلسفة وفلسف الرسم؟!

(١٩٧٤م)
١  بتصرف عن بول فاليري، في كتابه ألوان، Variétés الجزء الثالث، ص١٤٣–١٩٤، باريس، جاليمار، ١٩٣٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤