ما التنوير؟

تقديم

هذه مقالة مشهورة لكانط — أعظم فلاسفة العصر الحديث — يحدد فيها معنى التنوير الذي عاش هو نفسه في عصره، وكان بفلسفته النقدية الحرة الشامخة أنضج تعبير عن ذروة نضجه وازدهاره. وقد ظهرت هذه المقالة في عدد ديسمبر سنة ١٧٨٤م من «مجلة برلين الشهرية»، ردًّا على ملاحظة جاءت في هامش مقال دافع فيه قس بروتستنتي مغمور من أهالي برلين (ويدعى يوهان فريدريش تسولنر ١٧٥٣–١٨٠٤م) عن الزواج الديني ضد الأصوات التي يبدو أنها كانت قد ارتفعت — باسم التنوير — للدعوة إلى الاكتفاء بالزواج المدني والاستغناء عن بركة الكنيسة. وقد ظهر المقال الأخير بما حواه من هجوم شديد على التنوير وأدعيائه في عدد ديسمبر سنة ١٧٨٣م من المجلة المذكورة، وكان أهم ما فيه هو تعبير ذلك القس عن حيرته إزاء مفهوم التنوير، وبحثه عبثًا عن إجابة على هذا السؤال المهم: ما هو التنوير؟! وانبرى الفيلسوف اليهودي موسى مندلسون (١٧٢٩–١٧٨٦م) للرد عليه بمقال نشر في عدد سبتمبر سنة ١٧٨٤م من المجلة نفسها تحت هذا العنوان: «حول السؤال: ما هو التنوير؟» وقبل الحديث عن هذا المقال الأخير نود أن ننبه القارئ إلى أن كانط كتب مقاله قبل أن يطلع على مقال صديقه مندلسون، وأن التشابه في عنوان المقالين لم يأتِ بمحض المصادفة، وإنما كان تعبيرًا عن قضية شغلت العقول في ذلك العصر، ألا وهي قضية تحديد معنى التنوير ومفهومه، ومِن ثَم الدفاع عن القضية الأساسية التي عاش لها عصر التنوير كله، ودعا إليها مفكروه وأدباؤه وعلماؤه ومصلحوه، وهي قضية حرية الإنسان وتفكيره المستقل الخالص من كل قيد، بجانب الإيمان بانتصار العلم، بعد الانتصار الذي حققه العقل في تأسيس المنهج العلمي (الطبيعي الرياضي)، وترسيخه والوصول إلى قوانين واكتشافات مهمة أحس رجل الشارع نفسه بأهميتها، وخطرها على حياته — والتفاؤل بمستقبل البشرية الحرة العاقلة التي خلصتها أنوار التنوير — التي أشعها العقل النقدي الحر الذي بنى المذاهب الفلسفية الشامخة والنظم العلمية المتسقة من ظلمات الخرافة والجهالة والخوف والاستعباد.

قلنا إن مقالَي كانط ومندلسون نشرا في «مجلة برلين الشهرية» التي صدر أول عدد منها سنة ١٧٨٣م، وظلت صامدة وفية لرسالتها في تنوير العقول والقلوب، حتى توقفت سنة ١٧٩٦م. وتستحق هذه المجلة أن نذكرها بكلمة وفاء وعرفان. فقد كانت أهم المجلات التي عبرت عن عصر التنوير، واشترك في تحريرها عدد كبير من ألمع العقول الحريصة على الحرية والمعرفة والتقدم والاستنارة، سواء في ألمانيا نفسها أو في البلاد الأوروبية بوجه عام. كان الهدف الذي وضعه الناشران (الكتبي إريش بيستر والمربي فريدريش جيديكه) هو إشاعة «الغيرة على الحقيقة» والحث على «التنوير النافع، وطرد الأخطاء المفسدة» مع الحرص على تنوع المادة التي تجمع بين التعليم والتسلية. وسرعان ما بدأ الهجوم على المجلة ممَّن أساءُوا فهم التنوير، وحقدوا على الداعين إليه في هذه المجلة، فسموهم «عصابة التنوير» ولا نستطيع أن نذكر أسماء الأدباء والفلاسفة الذين أسهموا في تحريرها؛ إذ يكفي أن يكون بينهم كانط (الذي نشرت له خمس عشرة مرة) وجوته وشيلر وفيلهلم فون همبولت، وغيرهم من أدباء الألمان ومفكريهم إلى جانب ميرابو وبنيامين فرانكلين وتوماس جيفرسون من أعلام الثورتين الفرنسية والأمريكية.

قلنا إن الإجابة على هذا السؤال المهم: «التنوير» قد كانت وليدة المصادفة البحتة، التي وقعت في مناسبة عارضة وتافهة. وذكرنا القس المغمور الذي حيره الشعار الرائج على كل لسان فهتف: ما هو معنى التنوير؟ ولا بد أن نشكر لهذا الرجل الطيب حسن نيته، وأن نذكر له فضوله المحمود؛ إذ يكفي أنه دفع اثنين من أهم فلاسفة القرن الثامن عشر إلى محاولة تقديم الإجابة على سؤاله. وليس المهم هنا هو السؤال والجواب، بل هو الموقف الذي اتخذه كانط ومندلسون وغيرهما من مفكري هذا العصر وأدبائه (ومن أشهرهم ليسينج وهيردر وفيلاند وشيلر) من حقيقة الإنسان وحقه في التقدم على طريق النور والمعرفة والتحرر، بل حقه في الثورة المتجددة على طواغيت الجهل والخرافة والنفاق والاستبداد. والغريب أن هذه الطواغيت كانت لا تزال تنفث سمومها، وتنشر ظلمات عدواتها للتنوير بعد مرور قرن على بداية عصر التنوير! ولعل انتشارها في ألمانيا بوجه خاص أن يكون دليلًا على ما يؤكد نيتشه في كتابه الفجر (١٨٨١م) من عداء الألمان للتنوير (على الأقل حتى انهيار النازية وأواخر النصف الأول من القرن العشرين).

ينطلق موسى مندلسون في مقاله القصير «حول السؤال عن معنى التنوير» من الاستعمال اللغوي للكلمة التي لا تنفصل عنده عن كلمتي الثقافة والحضارة، ثم يحاول تقديم الجواب من وجهة نظر إنسانية تجعل الإنسان هو الهدف والمقياس، وتلقي الضوء عليه من حيث هو إنسان على الإطلاق، ومن حيث هو مواطن في مجتمع ودولة. وهو يرى أن الثقافة Bildung هي المفهوم الكلي الذي يندرج تحته مفهومان جزئيان هما الحضارة Kultur «التي جاءت كما هو معروف من زراعة الأرض وتعميرها» والتنوير Aufklarung والحضارة تتعلق بالجانب العملي من حياة الإنسان (المهارة والدقة والجمال في الفنون والصنائع وآداب السلوك وعاداته)، أما التنوير فينصب على الجانب النظري منها، أي على المعرفة العقلية، والقدرة على تأمل العالم والأشياء والحياة الإنسانية. وتوضح اللغة طبيعة المفهومين، فتستنير أو تصل إلى درجة التنوير عن طريق العلوم، وتبلغ مستوى التحضر عن طريق «التعامل الاجتماعي والأدب والفصاحة».

هكذا تكون علاقة التنوير بالحضارة كعلاقة النظر بالتطبيق والممارسة. فإذا كانت الحضارة تهم الإنسان باعتباره «عضوًا في المجتمع»، فلا غنى له من حيث هو إنسان عن التنوير. إن الإنسان بحاجة إلى التنوير. هذا مطلب أساسي لتحقيق إنسانيته وحقيقته، ولكن مندلسون يفرق مرة أخرى بين تنوير الإنسان كإنسان وتنويره كمواطن، وعضو حي مسئول من أعضاء المجتمع. ولعل هذه التفرقة أن تكون قريبة من تفرقة كانط في مقاله هذا بين الاستخدام العلني العام للعقل (أي حقه في النقد والتفكير الحر المستقل في كل شيء)، والاستخدام الخاص أو المحدود لهذا العقل في الأمور المتصلة بالوظيفة التي يؤديها الإنسان في ظل المجتمع والدولة والقوانين والأعراف المرعية.

إن تنوير الإنسان — كما يؤكد مندلسون — يتعلق بماهيته كإنسان، أما تنوير المواطن فيتصل بمطالب الوظيفة التي يؤديها، والوضع الاجتماعي الذي يشغله. والواقع أن هذين الجانبين المتكاملين من التنوير يمكن في بعض الظروف التاريخية والاجتماعية أن يبلغا حد الصراع والتناقض. وهنا ينتقل مندلسون إلى الجانب السياسي والاجتماعي من المشكلة، فيقول في وضوح: «شقية هي الدولة التي تحتم عليها الظروف أن تعترف بأن حقيقة الإنسان ومصيره فيها كإنسان لا ينسجم مع حقيقته ومصيره كمواطن، بأن التنوير — الذي لا غنى للبشرية عنه — لا يمكن أن يعم جميع الطبقات في الدولة بغير أن يتعرض دستورها للانهيار.»

وكان من الطبيعي أن يتعرض مندلسون (ولو من بعيد وبأسلوب فلسفي مجرد) لأعداء التنوير الذين هم في الواقع أعداء الحرية والمساواة والعدالة، وانتشار المعرفة بين الناس. ولذلك نجده يدين الأفكار المغرضة، والأحكام والتصورات المتحيزة في مجال الدين بوجه خاص، مع ما يرتبط بها من تعصبٍ وتطرف ونفاق. نقول إن هذا كان أمرًا طبيعيًّا؛ لأن الدعوة إلى التسامح وتأكيد وحدة الأديان في جوهرها الأصيل قد كانت من الأعمدة الأساسية التي قام عليها التفكير في عصر التنوير (وأروع من عبر عن التسامح ووحدة الأديان هو ليسينج في مسرحيته ناتان الحكيم، وفي كتابه الصغير عن تربية الجنس البشري)، ويكفي أن مندلسون قد تنبه إلى «جدل التنوير» وإمكان تدهوره وفساده وهو في قمة مجده وازدهاره، وذلك قبل «لوكاتش» في كتابه عن جوته وعصره، وقبل تيودور أدورنو وماكس هوركهيمر في كتابهما المشهور عن جدل التنوير، ويكفيه أنه أشار إلى أخطار إساءة فهم التنوير، وسوء استخدامه، وحذَّر منها تحذير الملهم الذي تنفذ رؤياه من أستار الحاضر لتكشف عن كوارث المستقبل. وهل بعد محنة الجهل والتعصب والتطرف التي بلغت ذروتها المدمرة في كابوس النازية، وما أعقبه من كوابيس تزحف على بلادنا العربية من كارثة؟! لنقرأ هذه السطور التي يختم بها مقاله محذرًا من مغبة سوء استخدام التنوير التي لا بد أن تؤدي إلى إضعاف الحس الأخلاقي، وخلق التصلب والأنانية والكفر والفوضى: «كلما زاد الشيء نبلًا وكمالًا، زادت بشاعة فساده وتحلله. فالخشب الذي يفسد ليس في بشاعة الوردة التي تفسد، وهذه لا تثير الاشمئزاز بقدر ما تثيره جثة حيوان متعفن، كما أن هذه بدورها ليست بأبشع من جثة إنسان تعرضت للفساد. والأمر كذلك مع الحضارة والتنوير. فكلما ازدادا نبلًا في حالة ازدهارهما، زادت بشاعة تحللهما وفسادهما. إن إساءة استخدام التنوير يضعف الشعور الأخلاقي، ويؤدي إلى التصلب والأنانية والكفر والفوضى. وإساءة استخدام الحضارة يفضي إلى الترف والنفاق والطراوة والخرافة والعبودية. وكلما تقدم التنوير جنبًا إلى جنب مع الحضارة، كانا أفضل وسيلة لوقف الفساد، والثقافة التي تسود في أمة من الأمم نتيجة امتزاج التنوير بالحضارة تجعل هذه الأمة أقل عرضة للفساد.»

•••

إذا كان «مندلسون» قد استقرأ في مقاله معنى التنوير وأبعاده، والأخطار التي يمكن أن يتعرض لها، فإن كانط يتبع في مقاله منهجًا استنباطيًّا يبدأ من مسلمة أو تعريف قاطع للتنوير. إنه في رأيه هو خروج الإنسان من حالة الوصاية المفروضة عليه. وهو يخرج أو بالأحرى يخرج نفسه منها عن طريق التفكير الحر المستقل أي عن طريق النقد! يشرح كانط في السطور التالية مفهوم التنوير، ويختمها بترديد الشعار الذي رفعه العصر كله في عبارة «هوراس»: «تشجع على المعرفة!» وهو شعار يمكن أن يكون بداية وخاتمة، بل لعله أن يكون «أمرًا مطلقًا» يتوجه به فيلسوف الواجب إلى ضمير القارئ. ويواصل شرح التعريف الذي وضعه في البداية مع تكرار صورة الوصي والقاصر التي يبدو من حديثه أنها صورة موفقة في التعبير عن عصر التنوير بقدر ما هي محببة إلى قلب «حكيم كونجزبرج»، الذي كانت فلسفته النقدية دعوة للتفكير والوجود الحر المستقل، بعيدًا عن الفرض والوصاية التي عاناها في طفولته وشبابه وعانتها معه طبقات الأرقاء من الفلاحين والعمال وصغار الموظفين المضطهدين في ظل الإقطاع والاستبداد البروسي الصارم.

وينتقل كانط بعد ذلك من تنوير الفرد إلى تنوير الرأي العام، فيشترط وجود الحرية في الحالين. وعندما تتوفر هذه الحرية يصبح التنوير أمرًا لا مفر منه، ولا غنى عنه، ولكن من ذا الذي سيقوم بالتنوير؟ من سيؤدي دوره في توجيه «الجمهور»؟ إنهم القلة أو الصفوة كما نقول اليوم، هم علماء الشعب وكتابه الذين يتجهون إليه، ويفتحون عيونه على العيوب والأخطاء والأحكام المغرضة التي تفسد عليه شئون حياته السياسية والاجتماعية والدينية والعلمية … إلخ.

ويتطرق كانط إلى موضوع الثورة — التي نادى بها، وعمل لها الكثيرون في أيامه متأثرين بالثورة الفرنسية — فيرفضها من حيث المبدأ. فالثورة في رأيه تعجز عن إحداث «الإصلاح الحقيقي في أسلوب التفكير». ولهذا يستدل بهذا الإصلاح، أي تربية العقل الإنساني تربية تحفزه على التفكير النقدي الحر بنفسه ولنفسه، وترتفع به إلى الإنسانية المستنيرة المسئولة. ولا يصح أن نستنتج من هذا أن رفضه للثورة هو رفض للثورة الفرنسية. فقد رحب بها، واستبشر بفجر الخلاص على يديها عندما شبت نيرانها، واعترف صراحة بوقوفه إلى جانب أفكارها الأساسية عن الحرية والإخاء والمساواة، على الرغم من الأخطار التي كان يمكن أن يتعرض لها — وهو المعلم البروسي المتواضع الحال — بإدراج اسمه في القائمة السوداء! ولقد عبر عن موقفه الثابت من الثورة الفرنسية في أحد كتبه الصغيرة التي كتبها في أواخر حياته (وهو نزاع الكليات الذي صدر سنة ١٧٩٨م)، وذلك بعد سنوات من انتهاء المجزرة التي أثارت سخط كبار الإنسانيين، وجعلتهم يتحفظون في حكمهم عليها (ومن أهمهم جوته وشيلر). يقول كانط في هذا الكتاب: «إن ثورة شعب ذكي، نراها في هذه الأيام دائرة أمام أعيننا، يمكن أن يكتب لها النجاح أو الإخفاق، ويمكن أن تمتلئ بالشقاء والفظائع، بحيث يستحيل على إنسان حسن الطوية لو قُدِّر له أن يقوم بها مرة أخرى، وينفذها بطريقة يرجى منها الخير — يستحيل عليه أن يقرر إجراء هذه التجربة مع كل التضحيات التي كلفتها — أقول إن هذه الثورة لتصادف في وجدان جميع المتابعين لها (الذين لم ينخرطوا في لعبتها) مشاركة حارة توشك أن تبلغ درجة الحماس، كما كان التصريح بها مرتبطًا بالخطر، وليس لها من سبب إلا الاستعداد الأخلاقي المغروس في طبيعة الجنس البشري.»

الحرية إذًا وقبل كل شيء! فهي الأساس الذي يقوم عليه التنوير، والشرط اللازم لوجوده وانتشاره بين الناس. والمقصود بهذه الحرية عند كانط هي حرية الكلام، وحق إبداء الرأي الحر قولًا وكتابة، ولكنه يؤكد أقل أنواع الحريات ضررًا، ألا وهي حرية الاستخدام العلني للعقل، أو حرية ممارسته صراحةً في كل ما يمس الصالح العام، ولكن من الذي يملك هذا الحق؟ يعود كانط فيحدد مفهومه للاستخدام العلني للعقل، ويقصر حرية الكلام على الحرية الأكاديمية، أو حرية العلماء في استعمال عقولهم وعرض آرائهم على قرائهم. ويبدو أن كانط يعتمد في هذه الفكرة على ما يمكن أن نسميه دهاء العقل (وهو هنا شيء مختلف عما يقصده به هيجل!) فهو يصف هذه الحرية العلنية التي يطالب بها بأن تكفلها الدولة للعلماء بأنها «أقل الحريات ضررًا»، وكأنه يريد أن يطمئن السلطة، ويهدئ خاطرها، ثم لا يلبث أن يضع ثقته في العقل الذي يبدأ عمله بإقناع المتخوفين بأقل الحريات ضررًا؛ لكي ينتقل بعد ذلك إلى تبصيرهم بضرورة حريات أخرى أخطر وأكثر ضررًا.

ويرتبط مفهوم الاستخدام العلني العام للعقل بمفهوم آخر استحدثه كانط في لغته، وهو مفهوم الاستخدام الخاص الذي يقتصر فيه العقل على مجال الوظيفة أو المهنة أو ما نسميه اليوم ﺑ «الدور الاجتماعي». ويمثل كانط لذلك بالضابط ودافع الضرائب ورجل الدين الذين يسمح لهم — باعتبارهم علماء فحسب — أن يوجهوا النقد الحر كما يشاءُون، ويحرم عليهم هذا النقد في دوائر عملهم وواجباتهم الوظيفية التي تفرض عليهم طاعة الأوامر، حتى لا يضطرب نظام الدولة وأمنها واستقرار نظمها ومؤسساتها … والسؤال الذي يلح على الخاطر في هذا الصدد هو هذا السؤال: هل يمكن أن ينفصل «الشخص العاقل» عن «الموظف» في إنسان واحد؟ إن أحد الفلاسفة المعاصرين يرجع هذا الفصل العجيب إلى جذوره التاريخية عند لوثر، كما يجد نظيرًا له عند روسو الذي فرق بين «الإنسان» و«المواطن»، وقابل بينهما مقابلة الضد للضد (هربرت ماركوزه، السلطة والعائلة، ١٩٣٦م) والأسباب التي دعت كانط — سليل الفقراء الكادحين والمعلم المسكين في ظل التنين — إلى الاقتصار على الثورة العقلية أسباب متعددة ومتشابكة. فهو إذا كان يرفض الثورة من حيث المبدأ، فإنه ينادي بالإصلاح، ويؤكد إمكانه وضرورته عن طريق النقاش العلمي العلني الذي يبصر الحاكم أو الأمير بحقائق الأمور، وبحثه على تغيير الفاسد والمعوج منها. وطبيعي أنه لن يقدم على شيء من هذا، إلا إذا كان حاكمًا أو أميرًا مستنيرًا يتوفر لديه الاستعداد «لتوحيد الإرادة الشعبية بأكملها في إرادته». وكأن الفرصة الوحيدة للإصلاح في ظل الاستبداد المطلق — الذي عاش كانط نفسه في قبضته وواجهه بثوريته الحكيمة ولم ينج في النهاية من غضبه وتهديده — تكمن في خضوع صاحب السلطة الفعلية لأصحاب السلطة الفكرية والعلمية، ولكن متى خضع أولئك لهؤلاء؟ وهل يكفي أن يكون الحاكم مستنيرًا ليستجيب لنور العقل الحر؟ أم أن هذا العقل الحر يحتاج إلى إرادة شعبية تنقل أفكاره إلى قلب الواقع، وتغير به وجهه الكئيب؟! كما أن هذه الإرادة الشعبية بحاجة هي الأخرى إلى الاستنارة، حتى يفرض التنوير نفسه، وينطلق من أسفل إلى أعلى، لا من أعلى إلى أسفل، كما حدث ويحدث في معظم الأماكن والأزمان، وخصوصًا في الشرق المسكين منذ آلاف السنين؟!

نكتفي بعد إلقاء هذه الأسئلة بأن نقول إن لكانط عذره أو أعذاره التي ألمحنا إليها، وأنه لم يذكر في مشروعه هذا أي ضمانات قانونية أو دستورية لنشر التنوير من أسفل إلى أعلى، اللهم إلا صدق الأمير المستنير وحسن نيته. إنه يرسم صورة الإصلاح الممكن في مجتمع أبوي كان يرفضه من صميم قلبه، ولكنه لم يجد حيلة أمام ضعف حيلته، فقرر في النهاية — وبحكم إيمانه بالنظام والواجب والعقل — أن يقف في صف الأمن والنظام والاستقرار. ويبقى السؤال آخر المطاف قائمًا: ألا يؤدي الوقوف مع استقرار الدولة الغاشمة إلى تقويض فكرة التنوير العام لسائر طبقات الشعب، وتدمير التنوير نفسه؟ مهما يكن من شيء، فإن لموقف كانط جذوره وأسبابه التاريخية، التي ما تزال فعالة ومؤثرة، بحيث يمكن أن نتتبع خيوطها المتصلة من كانط — بل من لوثر وروسو كما ذكرنا — إلى شروح هربرت ماركوزة عن «التسامح المكبوت»، الذي يدفع بعض أنظمة الحكم إلى السماح لأعدائها بحرية الكلام والتعبير، بشرط ألا يجاوزوهما إلى السلوك والفعل (ماركوزة، نقد التسامح الخالص، فرانكفورت، ١٩٦٦م، ص٩٧) ويبدو أيضًا أن الظروف التاريخية جعلت كانط يركز في مقاله على التنوير على «أمور الدين» التي جعلها محور حديثه. وحديثه في هذا السياق جدير بأن ننتبه إليه، ونتعلم منه، خصوصًا في أيامنا هذه التي يحتدم فيها النقاش حول تطبيق الشريعة، ويتدخل فيه العلماء الأجلاء جنبًا إلى جنب مع الجهلاء والأدعياء. إن عدم بلوغ الرشد والقصور في الأمور المتصلة بالدين هو في رأيه أشد أنواع القصور ضررًا وأكثرها إهانة للإنسان. وأهم ما يهمه في هذا الشأن هو إعلان استقلال الإنسان — إن جاز هذا التعبير — والدفاع عن طبيعته وحقيقته، وحقه المقدس في التقدم على طريق التنوير. ولقد جاءت العقبة الكبرى أمام التنوير (في القرن الثامن عشر) من بعض رجال الدين الذين أساءُوا فهم الدين نفسه، وتصوروا أو صوروا للناس أن التنوير مرادف للكفر ومعادٍ للكنيسة، ولم تأتِ أبدًا من جانب العلوم والآداب والفنون، ولا من جانب العلماء والأدباء والفنانين الذين لم تقيد حرياتهم، ولم يخضعوا للرقابة الصارمة إلا في القرون التالية،١ ولا عجب أن يصف كانط عصره بأنه عصر فريدريش؛ إذ كان هذا الملك البروسي المستنير مقتنعًا تمام الاقتناع بحرية كل إنسان في أن يلتمس خلاصه الروحي بالطريقة التي يراها، ولكن الأحوال لم تدم لأحد؛ إذ سرعان ما تغيرت بعد موت فريدريش الثاني هذا، واصطدم كانط نفسه بالسلطة التي حذرته سنة ١٧٩٤م (على إثر صدور كتابه عن الدين في حدود العقل وحده) من التعرض لأمور العقيدة المقدسة، وبدأ الهجوم الضاري على التنوير وعصره.

يختتم كانط مقاله بالتعرض لمشكلة التنوير من الناحية السياسية والاجتماعية. والواقع أن من يقرأ الفقرات الأخيرة من المقالة، لا يستطيع أن يقرر إن كان الباعث عليها هو خوفه من الفوضى والتمرد، أو حرصه على بيان الاعتراضات والحجج التي يبديها أنصار الأمن والاستقرار وأعداؤه على السواء، فالصورة التي يلجأ إليها عن القشرة والبذرة توحي بأنه يساند المفارقة القديمة المتجددة التي تدعي أن التنوير لا ينتشر، ولا يزدهر إلا في حماية جيش منظم كبير العدد «يضمن الأمن العام»، هل يلجأ كانط مرة أخرى إلى «دهاء» العقل؟ إنه يقدم في العبارات الأخيرة من المقال نوعًا من «جدل التنوير» الزاخر بالمفارقات العجيبة؛ إذ يمكن في النهاية أن تؤثر بذرة التنوير أو الميل الفطري إلى التفكير الحر على الشعب، فتزيد حريته الفكرية، وربما أثرت على المبادئ والأصول التي يرتكز عليها نظام الحكم نفسه. ويكفي كانط شرفًا أنه أكد أن هذه البذرة لا بد أن تشق القشرة الصلبة المحيطة بها، ولا بد أن يستنير الشعب، ويخترق الوصاية المفروضة عليه، ويحقق حريته الحقة في النقد والتفكير بنفسه؛ لكي يتسنى له تغيير نفسه وواقعه ومجتمعه.

•••

توالت المقالات في المجلة السابقة الذكر — قبل أن تصادر نهائيًّا ويرحل أصحابها من برلين — وشارك في إلقاء الأضواء على التنوير مختلف الأدباء والمفكرين. وقد أسهم في الدعوة إلى التنوير — قبل كانط ومندلسون وبعدهما — رجال من أمثال ليسنج وهيردر وشيلر وفيلاند، كما هاجمه وحمل عليه رجال آخرون — مثل هامان وياكوبي — مهدوا لظهور حركة مضادة اتهمت حركة التنوير بالسطحية والضحالة، وتبلورت في النهاية في الحركة الرومانتيكية. ومن الصعب أن نتابع كل ما كتب في هذا المجال، وما يزال يكتب إلى يومنا الحاضر. ويكفي في هذا المجال المحدود أن نسجل لحركة التنوير أنها اهتمت بتقدم الإنسان على طريق العقل، والعلم، والحقيقة، والديمقراطية، والإنسانية، والتسامح، والإخاء البشري، وأن الهجوم عليها واتهام أصحابها بالكفر والخروج على نظم الجماعة وتقاليدها لم يستطع أن يلغي تراثها العظيم في تأكيد إنسانية الإنسان، وحقه المقدس في الحرية والتطلع إلى مستقبل لا تلبد سماءه خفافيش الجهالة والتعصب وظلمات الخرافة والوصاية. وليتنا — نحن العرب وأبناء العالم الثالث بوجه عام — نتعلم من درس التنوير، ونرفع راياته؛ لنواجه بها جحافل الجهل والتطرف والتخلف الزاحفة علينا. ليتنا نقتنع أخيرًا بأن تنوير عقول الناس لا غنى عنه للحياة الجديرة بأن يحياها الإنسان، وأن التنوير نفسه لا يستغني عن نظام الحكم الحر الذي يحقق إرادة الشعب في التقدم. وأخيرًا ليت هذا المقال يساعد على السير خطوة واحدة على هذا الطريق.

١  يكفي أن نستشهد على هذا بما حدث للناقد والأديب المفكر ليسينج. فالنزاع المشهور الذي دار بينه وبين الراعي الكنسي في هامبورج (يوهان ملشيور جوتزه) حول أمور اللاهوت وهجومه على تزمت الكنيسة أدى إلى مصادرة كتابه (ضد جوتزه، ١٧٧٨م)، أما مسرحيته الكبرى «ناثان الحكيم»، التي عالجت موضوع التسامح الديني ووحدة الأديان، وعبرت عن أفكار التنوير فلم يتعرض لها أحد بمنع ولا مصادرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤