الإجابة على سؤال: ما هو التنوير؟

أمانويل كانط

التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه. وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر. ويجلب الإنسان على نفسه ذنب هذا القصور عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل، بل إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر. لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك،١ ذلك هو شعار التنوير.
إن الكسل والجبن هما علة رضاء طائفة كبيرة من الناس بأن يبقوا طوال حياتهم قاصرين، بعد أن خلصتهم الطبيعة٢ منذ أمد بعيد من كل وصاية غريبة عليهم، وهما كذلك علة تطوع الآخرين بفرض الوصاية عليهم. ويبدو الأمر وكأن كل واحد منهم يقول لنفسه: إن الوصاية عليَّ لمريحة! وما دمت أجد الكتاب الذي يفكر لي، والراعي الروحي الذي يغني ضميره عن ضميري، والطبيب الذي يقرر لي نوع الطعام الصحي الذي أتناوله، فما حاجتي لأن أجهد نفسي؟ ليست هناك ضرورة تدعوني للتفكير، ما دمت أقدر على دفع الثمن، وسوف يتكفل غيري بتحمل مشقة هذه المهمة الثقيلة. أما أن أغلب الناس (وفيهم الجنس اللطيف بأكمله) يشفق على نفسه من التقدم خطوة واحدة على الطريق إلى الرشد، ويعدونه أمرًا شديد الخطر عليهم بجانب صعوبته ومشقته، فقد تكفل بإقناعهم بذلك أولئك الأوصياء الذين تكرموا بالإمساك بزمام أمورهم، وتفضلوا بفرض رقابتهم عليهم. فبعد أن دمغوا بالغباء حيواناتهم الأليفة، وحرصوا كل الحرص على أن يحولوا بين هذه المخلوقات الوديعة، وبين التجرؤ على القيام بخطوة واحدة خارج «المشاية»،٣ التي حبسوا فيها خطاهم، أخذوا يبينون لهم هول الخطر الذي يتهددهم لو حاولوا السير بمفردهم. بيد أن هذا الخطر ليس كبيرًا كما يدعون؛ لأنهم سيتعلمون في النهاية كيف يسيرون على أقدامهم بعد أن يتعثروا عدة مرات، ولكن مثلًا واحدًا يضرب لهم على بعض من سقط في الطريق كفيل بأن يخيف الناس، ويصدهم عن الشروع في أية محاولة أخرى.

من العسير إذًا على أي إنسان أن يتمكن بمفرده من التخلص من هذا القصور الذي أوشك أن يصبح طبيعة ملازمة له. بل إن الأمر قد وصل إلى حد أن يعشق هذا القصور، بحيث أصبح عاجزًا عجزًا حقيقيًّا عن استخدام عقله؛ لأن أحدًا لم يتح له أبدًا أن يقوم بهذه المحاولة. وبقيت التعليمات والقواعد — هذه الوسائل الآلية لتلقينه كيفية الاستخدام المعقول لمواهبه الفطرية — بقيت هي أغلال القصور المستديم، وكل من تمكن من التحرر من هذه الأغلال لم يستطع أن يقفز فوق أضيق الحفر إلا قفزة غير مطمئنة؛ وذلك لأنه لم يتعود على مثل هذه الحركة الحرة. ولهذا لن نجد إلا قلة ضئيلة استطاعت بفضل استخدامها لعقولها أن تنتزع نفسها من الوصاية المفروضة عليها، وتسير بخطًى واثقة مطمئنة.

ومع ذلك، فإن قيام الجمهور٤ بتنوير نفسه هو أولى الأمور وأقربها إلى الاحتمال، بل إنه — إذا أوتي الحرية التي تمكنه من ذلك — لأمر لا مناص منه تقريبًا. إذ سيتوفر في هذه الحالة — حتى بين أولئك الذين عينوا أوصياء على عامة الناس — عدد ممن يفكرون بأنفسهم وينشرون حولهم، بعد أن ينفضوا عن كاهلهم نير الوصاية، روح التقدير العقلي لقيمة كل إنسان وواجبه في أن يفكر بنفسه. والأمر الجدي بالنظر في هذه الحالة أن الجمهور الذي سبق أن وضعوا هذا النير على كاهله سيجبرهم بنفسه بعد ذلك على البقاء تحته، عندما يحرضه على ذلك بعض أوصيائه الذين تعوزهم القدرة على التنوير، ولهذا كان غرس الأحكام المتحيزة أمرًا بالغ الضرر؛ لأنها تثأر في النهاية، حتى من أولئك الذي تسببوا هم أو أسلافهم في غرسها. ولهذا السبب أيضًا لا يمكن أن يصل الجمهور إلى التنوير إلا ببطء شديد. وربما نجحت ثورة في القضاء على الاستبداد الفردي والقهر القائم على الجشع والتسلط، ولكنها لا يمكن أبدًا أن تؤدي إلى إصلاح حقيقي لأسلوب التفكير، بل إن ما يستجد من أحكام متحيزة لن يستخدم — شأنه في هذا شأن الأحكام القديمة — إلا في تضليل عامة الناس وجرهم وراءه.

لكن مثل هذا التنوير لا يتطلب شيئًا غير الحرية، وهو في الحقيقة لا يتطلب إلا أبعد أنواع الحرية عن الضرر، ألا وهي حرية الاستخدام العلني للعقل في كل الأمور.

بيد أنني أسمع أصوات المنادين تتردد من كل جانب: لا تفكروا،٥ فالضابط يقول: لا تفكروا، بل تدربوا. والخازن يقول: لا تفكروا، بل ادفعوا. ورجل الدين يقول: لا تفكروا، بل آمنوا (إلا سيدًا واحدًا في العالم٦ يقول: فكروا ما شئتم وفيما شئتم، ولكن أطيعوا!) إن في كل هذا تقييدًا للحرية. فأي هذه القيود يقف عقبة في سبيل التنوير؟ وأيها لا يعرقله وإنما يسانده؟ أجيب على هذه الأسئلة بقولي: إن الاستخدام العلني العام للعقل٧ ينبغي أن يبقى حرًّا في كل الأوقات، وهو وحده القادر على نشر التنوير بين الناس، أما استعمال العقل استعمالًا خاصًّا، فيجوز في أحيان كثيرة أن يقيد تقييدًا شديدًا، دون أن يؤدي هذا بالضرورة إلى إعاقة تقدم التنوير بصورة خطيرة. ولكني أقصد باستعمال الإنسان لعقله الخاص، ذلك النوع الذي يمارسه العالم قبل جمهور قرائه. وأما الاستعمال الخاص للعقل، فأعني به حق هذا العالم في استعماله في منصب يشغله أو وظيفة عهد إليه القيام بها في المجتمع المدني. والواقع أن هنالك بعض الأعمال المتصلة بالصالح العام للمجتمع يتطلب تدبيرها نوعًا من الآلية التي تفرض على بعض أعضاء هذا المجتمع أن يكونوا في سلوكهم سلبيين، حتى يتسنى للحكومة — من خلال الإجماع الذي تصطنعه اصطناعًا — أن توجههم نحو تحقيق الأهداف العامة، أو تمنعهم على أقل تقدير من تدمير هذه الأهداف. ومن الطبيعي ألا يسمح في هذا المجال بالتفكير (العقلي المستقل)؛ إذ إن الطاعة هنا واجبة. فإذا ما نظر هذا الجزء من أجزاء الآلة إلى نفسه باعتباره عضوًا في مجتمع، وإذا توسع في هذه النظرة، فاعتبر نفسه عضوًا في المجتمع العالمي بأسره، واتخذ صفة العالم الذي يتجه بكتاباته التي تحمل رأيه الخاص إلى الجمهور، فإن في إمكانه في هذه الحالة أن يفكِّر تفكيرًا حرًّا مستقلًا دون أن يكون في هذا إضرار بالأعمال التي أسند إليه القيام بها، وحكمت عليه وظيفته من هذه الناحية أن يكون سلبيًّا إلى حدٍّ ما. ولو أن أحد الضباط العاملين عمد إلى إثارة الجدل حول الهدف من أمر صدر إليه من رئيسه، وحول المنفعة التي يمكن أن تترتب على هذا الأمر لكان في ذلك الضرر أشد الضرر؛ لأن الواجب سيحتم عليه الطاعة. ومع ذلك فلا يصح — إن كان من العلماء الملمين بالأمور — أن يحرم من حقه المشروع في إبداء ملاحظاته على الأخطاء التي تقع في الخدمة العسكرية، وأن يعرض هذه الملاحظات على جمهوره ليحكم عليها. وليس من حق المواطن أن يمتنع عن سداد الضرائب المفروضة عليه، بل إنه ليستحق العقاب لو تعمد توجيه الانتقادات إلى هذا النوع من الضرائب الذي ينبغي عليه تسديده باعتبار ذلك فضيحة يمكن أن تتسبب في خلق متاعب عامة. ومع ذلك فإن هذا المواطن نفسه لن يخلَّ بواجبات المواطن إذا ما استغل حقه كعالم في التعبير علنًا عن رأيه في خروج هذه الضرائب عن الحدود المعقولة، أو مجافاتها للعدالة. وقل مثل هذا عن رجل الدين الذي يفرض عليه واجبه أن يجعل عظاته لتلاميذه والمؤمنين من أتباع ملته على مذهب الكنيسة٨ التي عين في خدمتها بناءً على هذا الشرط.

أما من حيث هو عالم فله الحرية الكاملة، بل عليه واجب نشر أفكاره — التي وصل إليها بعد فحص دقيق وبنية خالصة — عن الأخطاء التي يرى أنها لحقت بالمذهب، كما يقضي عليه الواجب كذلك بأن يعرض على الجمهور اقتراحاته لإصلاح أمور العقيدة والكنيسة. وليس في هذا أي شيء يمكن أن يكون عبئًا على ضميره؛ لأن ما يعلمه بحكم منصبه كقائم بأعمال الكنيسة إنما يقدمه باعتباره شيئًا لا سلطان له عليه ولا حرية له في تعليمه حسب ما يتراءى له؛ إذ إنه يتولى تقديمه للناس نزولًا على التعليمات، وباسم جهة أخرى عينته لهذا الغرض. سوف يقول: إن كنيستنا تعلَّم هذا أو ذاك، وهذه هي الأدلة والبراهين التي تعتمد عليها. ثم إنه يستخلص للمؤمنين من جماعته كل فائدة عملية يمكنه استخلاصها من التعاليم التي قد لا يكون مقتنعًا بها تمام الاقتناع، ومع ذلك يبذل كل ما في وسعه لكي يقدمها لهم؛ إذ ليس من المستحيل أن تكون منطوية على حقيقة كامنة، وليس من المستبعد في كل الأحوال أن تكون خالية مما يناقض الدين في صميمه. فلو خالجه الظن بأن فيها ما يتناقض مع الدين لما أمكنه أن يؤدي عمله بضمير مستريح، ولتحتم عليه عندئذٍ أن يعتزله. وإذن فاستخدام معلم الدين المعين في هذه الوظيفة لعقله قبل جماعته المؤمنة ليس سوى استخدام خاص؛ لأن هذه الجماعة تظل على الدوام جماعة عائلية مهما زاد عدد أعضائها، ولهذا الاعتبار لا يكون رجل الدين، بوصفه قسًّا، حرًّا في تصرفاته، ولا ينبغي له أن يكون كذلك ما دام ينفذ تكليفًا عهد به إليه من جهة أخرى. أما بصفته عالمًا يتحدث من خلال كتاباته إلى الجمهور الحقيقي، أي إلى العالم كله، أي بصفته رجل دين يستخدم عقله بصورة علنية عامة، فإنه يتمتع بحرية كاملة ولا يقيده أي قيد في استعمال عقله الخاص والتعبير عن شخصيته. ذلك أن تحويل الأوصياء على الشعب (في أمور دينه) إلى قُصَّر يحتاجون بدورهم إلى فرض الوصاية عليهم، إنما هو تناقض سخيف، يمكن أن يؤدي إلى سلسلة لا نهاية لها من التناقضات السخيفة.

ولكن ألا يحق لجماعة من رجال الدين كالمجمع الكنسي أو الطبقة الجليلة (كما يسميها الهولنديون)٩ أن تلتزم فيما بينها بمذهب ثابت يخول لها أن تفرض على كل واحد من أعضائها، ومِن ثَم على الشعب، وصاية عليا مستديمة تجعلهم يرسخونها إلى الأبد؟ أجيب على هذا السؤال فأقول: إن هذا لأمر مستحيل تمام الاستحالة. فمثل هذا التعاقد الذي يهدف إلى القضاء قضاء مبرمًا على كل محاولة لمواصلة تنوير الجنس البشري لا بد أن يكون تعاقدًا باطلًا كل البطلان، مهما أيدته أعلى السلطات، وأقرته المجالس الشعبية، وروجته لجان السلام. فلا يجوز لعصر من العصور أن يجمع على التآمر على العصر اللاحق، بحيث يزج به في وضع يستحيل عليه فيه أن يوسع معارفه (وبخاصة الملحة منها)، وينقيها من الأخطاء، وأن يتقدم بوجه عام على طريق التنوير. إن ذلك لو حدث لكان جريمة تُرتكب ضد الطبيعة البشرية التي تقوم ماهيتها الأصلية على هذا التقدم، وسيكون من حق الأجيال التالية أن تدين تلك القرارات التي اتخذها قوم ليسوا من أهل الاختصاص، وتعدوا فيها حدودهم بصورة آثمة. والواقع أن محك النظر في كل قانون يقرر على شعب من الشعوب يتمثل في هذا السؤال: هل يمكن أن يفرض الشعب على نفسه مثل هذا القانون؟ قد يكون هذا أمرًا ممكنًا، في انتظار قانون أفضل ولفترة محدودة بغية الأخذ بنظام معين، وذلك بأن يترك لكل مواطن، وبخاصة لرجل الدين بوصفه أحد العلماء، أي عن طريق مؤلفاته، حرية إبداء ملاحظاته عن عيوب النظام السابق، بحيث يستمر النظام المأخوذ به ساريًا إلى أن يبلغ التبصر بهذه الأمور عند الرأي العام حد التأييد والإقرار، فتجمع الأصوات (وإن خرج البعض على هذا الإجماع) على التقدم باقتراح إلى العرش، فيكون في ذلك ما يعوق أولئك الذين يرون الإبقاء على القديم عن التمسك برأيهم. أما الاتفاق على مفهوم ديني ثابت لا يسمح لأحد بانتقاده علنًا، حتى لو اقتصر ذلك على فترة تبلغ عمر إنسان واحد، والقضاء بذلك على مرحلة من مراحل تطور البشرية، وتقدمها نحو أوضاع أحسن، وجعلها مرحلة عقيمة، وبالتالي ضارة بالأجيال التالية، فذلك أمر غير جائز على الإطلاق. ربما كان لفرد واحد من الناس أن يؤجل التنوير فيما يتصل بشخصه، ولفترة مؤقتة فحسب، وفيما يلزمه العلم به، أما أن يتخلى عنه تمامًا سواء بالنسبة لشخصه أو بالنسبة للأجيال القادمة، فذلك معناه انتهاك الحقوق المقدسة للبشرية ووطؤها بالأقدام. وما لا يجوز أن يقرره شعب على نفسه لا يجوز بالأولى أن يقرره ملك على شعبه. ذلك أن هيبته التشريعية إنما تقوم على أن الإرادة الشعبية في مجموعها تتحد في إرادته. وإذا كان حريصًا على أن يكون كل إصلاح حقيقي أو مزعوم متجانسًا مع النظام المدني، فما عليه إلا أن يدع رعاياه يفعلون ما يجدونه ضروريًّا لخلاص أرواحهم، إن هذا أمر لا شأن له به، وإنما شأنه أن يحول دون أن يتجرأ مواطن على منع مواطن آخر بالقوة من أن يعمل على تحقيق خلاصه الروحي بقدر ما في طاقته. وإن صاحب الجلالة ليسيء إلى نفسه بتدخله في هذه الأمور، وذلك بأن يضع المؤلفات التي يشرح رعاياه آراءهم فيها تحت رقابة الحكومة، سواء استند في هذا على رأيه السامي الخاص به، فعرض نفسه للوم وفقًا للمثل القائل بأن القيصر ليس فوق النحاة،١٠ أو عمد إلى ما هو شر من ذلك فحط من سلطته العليا بحماية الاستبداد الديني لبعض الطغاة في مملكته الذين يتسلطون على سائر رعاياه.
لو سأل سائل: هل نحيا اليوم في عصر متنور؟ لكان الجواب: لا، بل في عصر التنوير. ولو قسنا الأمور بالأوضاع الراهنة في مجموعها لقلنا أن الناس ما يزالون بعيدين عن استخدام عقولهم المستقلة في أمور الدين استخدامًا صالحًا واثقًا بدون توجيه من غيرهم، وأنهم ليسوا على استعداد لذلك، ولا هُيئوا للقيام بهذه المهمة. ومع ذلك يمكن القول بأن هنالك من الدلائل ما يشير إلى أن المجال قد فتح أمامهم للسعي نحو تحقيق هذا الهدف بحريتهم، وأن العقبات التي تقف في وجه التنوير العام أو في وجه الخروج من حالة القصور التي اقترفوها في حق أنفسهم قد بدأت تقل بالتدريج، ومن هذه الناحية يحق لنا القول بأن هذا العصر هو عصر التنوير أو عصر فريدريش.١١
إن أميرًا لا يستنكف أن يقول إنه يعتقد أن من واجبه ألا يفرض على الناس شيئًا في أمور الدين، وإنما يترك لهم الحرية الكاملة في هذا الشأن، حتى ليبلغ به الأمر حد الترفع عن أن يطلق على نفسه تلك الصفة المتكبرة، وهي صفة التسامح، مثل هذا الأمير رجل مستنير يستحق ثناء العارفين بالجميل في عصره، وفي العصور التالية؛ لأنه أول من خلص الجنس البشري من القصور، على الأقل من ناحية الحكومة، وترك لكل إنسان حرية استخدام عقله في كل ما يتصل بالضمير. وفي ظل هذا الأمير يتاح لرجال الدين الأجلاء بغير مساس بواجبات وظائفهم أن يعرضوا على الجمهور — باعتبارهم من العلماء — علنًا وبحرية أحكامًا وآراء تخرج في هذا الجانب أو ذاك عن نصوص العقيدة التي يتفقون على الإيمان بها، وذلك لكي يفحصها الجمهور ويمحصها بنفسه، بل إن هذا ليتاح بصورة أوسع لكل رجل دين لا تقيده واجبات وظيفته. وإن روح الحرية هذه لتنتشر كذلك في الخارج، حتى في تلك البلاد التي تجد نفسها مضطرة لمناهضة المعوقات التي تضعها حكومة تسيء فهم نفسها.١٢ ذلك أن مثل هذه الحكومة لا بد أن يتضح لها من المثل السابق أن الأمن العام ووحدة المجتمع لا خوف عليهما على الإطلاق في ظل الحرية. إن الناس هنا يسعون من تلقاء أنفسهم إلى الخروج من حالة الفظاظة؛ إذ لم يكن هناك تدبير متعمد للإبقاء عليهم فيها.

لقد حرصت على أن أحدد النقطة الأساسية في التنوير — وهو خروج البشر من حالة القصور التي يتحملون مسئوليتها — بالأمور الدينية بوجه خاص؛ لأن ولاة الأمر فينا لا يهتمون بأن يقوموا بدور الوصي على رعاياهم في شئون الفنون والعلوم، فضلًا عن أن الوصاية في أمور الدين هي أشد أنواع الوصاية ضررًا وامتهانًا لكرامة الإنسان. ومع ذلك فإن تفكير رئيس الدولة الذي يساند التنوير في أمور الدين، يمضي إلى أبعد من ذلك، ويقتنع بأن تشريعه لن يتعرض لأي خطر إذا سمح لرعاياه أن يستخدموا عقولهم في الأمور التي تتصل بالصالح العام، وأن يقدموا للناس اقتراحاتهم عن صيغة أفضل لذلك التشريع القائم مصحوبة بالنقد الحر النزيه، وملكنا الذي نجله يقدم على هذا كله المثل الرائع الذي لم يفقه فيه ملك آخر من قبل.

ولكن حتى ذلك الملك (أو الأمير) المستنير، الذي يخاف الأشباح، ولديه في الوقت نفسه جيش كبير منظم لضمان الأمن العام، يمكنه أن يقول ما لا تجرؤ على قوله دولة حرة: فكروا ما شئتم فيما تشاءون، ولكن أطيعوا! وهكذا يظهر هنا مسار غريب غير متوقع للأمور البشرية، على نحو ما يظهر في ميادين أخرى، فيبدو كل شيء فيه، إذا نظرنا إليه في مجموعه، عجيبًا زاخرًا بالمفارقات. فإتاحة درجة أكبر من الحرية المدنية أمر يبدو في صالح حرية التفكير العقلي عند الشعب، وإن كان يفرض عليها قيودًا لا فكاك منها، وكلما قلت درجة تلك الحرية (المدنية) عمل هذا على إفساح المجال للحرية الفكرية عند الشعب؛ لكي تزدهر بقدر ما في وسعها. وإذا كانت الطبيعة قد أظهرت، من تحت هذه القشرة الصلبة، بذرة تتعهدها بالرعاية والحنو الشديد، ألا وهي بذرة الميل إلى التفكير الحر والإخلاص والتفاني في سبيله، فإن هذه البذرة ستعود وتؤثر من جديد على وجدان الشعب (بحيث يصبح بالتدريج أكثر قدرة على السلوك الحر)، بل إنها ستؤثر على الأصول والمبادئ التي ترتكز عليها الحكومة التي سيرضيها أن تعامل الإنسان — الذي ليس مجرد آلة١٣ — معاملة تليق بكرامته.
(١٩٨٥م)
١  في الأصل باللاتينية، Sapere aude وهي عبارة مأخوذة من رسائل الشاعر هوراس، الرسالة الأولى ٢، ٤٠ وترجمتها تشجع على المعرفة، أو العزم على العلم والتبصر! وقد استخدم هذه العبارة وأذاعها أعضاء جماعة محبي الحقيقة، وهي جماعة تأسست سنة ١٧٣٦م لنشر فلسفة ليبنتز وفولف. وقد استعانوا على ذلك بصك عملة نقش على أحد وجهيها تمثال نصفي للربة أثينا ربة الحكمة عند الإغريق، وعلى خوذتها نقشت صورة رأسي ليبنتز وفولف يحيط بهما عبارة تشجع على المعرفة التي صارت شعارًا معبرًا عن روح عصر التنوير.
٢  هنا يضع كانط بين قوسين هاتين الكلمتين اللاتينيتين naturaliter maiorennes وترجمتها أولئك الراشدون بحكم الطبيعة والسن، بينما هم ما يزالون قاصرين من الناحية العقلية والفكرية أو minorennes.
٣  هكذا في الأصل Gängel Wagen وهي المشاية التي يحبس الطفل داخل «سلتها» الحديدية أو الخشبية وتجرها عجلات تدفعه إلى المشي دفعًا.
٤  كلمة الجمهور في هذه العبارة، وفيما يلي من عبارات النص تعني ما نعنيه اليوم بالرأي العام أو عامة القراء أو قراء مؤلف معين أو العالم أو الناس الذين يشاركون في العيش في مجتمع معين أو يلتقون علنًا في مكان يناقشون فيه أمورهم. وقد كانت كلمة Publikuw تدل على أحد هذه المعاني أو عليها مجتمعة في اللغة الألمانية في القرن الثامن عشر.
٥  الفعل الأصلي في صيغة الأمر râsoniert مأخوذ عن الفرنسية، ويقصد به التفكير العقلي والاستدلال بمعناه الدقيق في علم المنطق. والمراد به هنا هو التفكير المستقل بوجه عام.
٦  المقصود بالسيد الواحد وبالملك والأمير فيما بعد هو فريدريش الثاني ملك بروسيا (١٧٤٠–١٧٨٦م).
٧  يتردد هذا التعبير «الاستخدام العلني» أو «الاستخدام العام للعقل»، وقد أبقيت عليه كما هو، ويريد به كانط استعمال الإنسان لعقله النقدي المستقل لمناقشة الأمور التي تتصل بالصالح العام مناقشة حرة، على نحو ما يفكر الكاتب والمؤلف فيما ينتجه من كتب يعرضها على جمهور القراء، وذلك باعتباره عالمًا وشخصًا له خصوصية. أما الاستخدام الخاص فيتعلق بأمور الوظيفة التي يعهد للمرء أداء الواجبات التي تلزمه بها، وينطبق هذا على رجل الدين والضابط والموظف … إلخ.
٨  كلمة المذهب هنا وفيما يلي من عبارات النص لا ترادف الكلمة الأصلية Symbol التي لا يمكن ترجمتها في هذا السياق بمعناها المعروف وهو الرمز. فالواقع أنها مصطلح من لغة اللاهوت المسيحي متعارف عليه في جميع الكنائس، وتدل على صيغة المعتقد المعترف بها (من الاعتراف) عند جميع المؤمنين، وقد كان رجال الدين على المذهب البروتستنتي يقسمون قبل تولي مناصبهم على الالتزام بالكتب التي تسجل مذهبهم بالمعنى السالف الذكر.
٩  في الأصل باللاتينية، Classis وهو المجمع الكنسي الذي يعبر عن التشريع الكنسي في هولندا أو يصدره.
١٠  في الأصل باللاتينية Caesar non est supra Grammaticos أي القيصر ليس فوق النحاة، ومصدر هذا المثل غير معروف، ومعناه على كل حال أن ليس للقيصر سلطان على النحاة وعلماء اللغة، وليس له أن يصدر لهم أوامره، فما بالك إذًا بالمفكرين والمصلحين والمبدعين.
١١  إشارة إلى ازدهار التنوير في عهد فريدريش الثاني ملك بروسيا. وقد أكد أحد رجال عصر التنوير — وهو عالم اللاهوت أندرياس ريم Andreas Riem — هذا المعنى، وأثنى ثناءً مستطيبًا على هذا الملك العادل المستنير. وعلى العكس من ذلك كان موقف الناقد الفيلسوف والكاتب المسرحي المشهور ليسنج في رسالته التي كتبها في الخامس والعشرين من شهر أغسطس سنة ١٦٧٩م إلى فريدريش نيقولاي.
١٢  أي حكومة تحاول تدبير أمور لا تدخل في اختصاصها.
١٣  إشارة إلى الكتاب المشهور الذي ظهر في لندن سنة ١٧٣٨م للفيلسوف الفرنسي جوليان أوافراي لامتري (١٧٠٩–١٧٥١م) Julien Offray Lamettrie وهو كتاب: «الإنسان الآلة» الذي يلخص مذهبه المادي والميكانيكي (الآلي) المتطرف. وكان لامتري قد طُرد من وطنه متهمًا بالإلحاد، ولجأ إلى برلين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤