إلى أين يسير العالم؟

هبط الإنسان على سطح القمر مرتين.

وكان من حظنا — نحن أبناء هذا الزمان — أن نشهد تجربة رائعة ومخيفة في آن واحد. رائعة لأنها لا تقل في معناها عن غزو المحيطات في القرن الخامس عشر أو اكتشاف القارة الجديدة، أو الوصول إلى القطبين، أو الطيران في الفضاء. ومخيفة لأن هذه الانتصارات كان لها أثر كبير على حياة البشر؛ إذ وسعت المجال الذي يعيشون فيه، ويتنفسون ويزرعون ويحصدون ويستمدون الطاقة والغذاء، بينما الهبوط على القمر لا يمثل حتى الآن أكثر من انتصار علمي لا ندري هل ستكون نتيجته خيرًا أو شرًّا على الإنسانية. ومن سوء الحظ أن الجهاز الضخم الذي تولى إطلاق الصاروخ والمركبة القمرية لم يرسل مع روادها شاعرًا ولا فيلسوفًا ليعبر لنا عن عواطفه وأفكاره، وهو يخطو على سطح ذلك الكوكب الهادئ الشاحب الجميل، ومع ذلك فلا شك عندي أن رواد الفضاء سألوا أنفسهم وهم يطئُون بأقدامهم أرض القمر عن مصير أرضهم وجنسهم الذي يعيش ويتصارع عليها.

ولا شك عندي أيضًا أنهم في قمة فرحتهم واعتزازهم بهذا النصر العلمي قد سألوا أنفسهم بشكل واضح أو غامض هذا السؤال الذي يؤرق زميلًا لهم على الأرض يشغل نفسه بالتاريخ وفلسفة التاريخ: ماذا بعد؟ وإلى أين يسير العالم؟

والسؤال يرتبط بتاريخ البشرية العام، بهدفه ومصيره ومعناه. وليس أحق منا — نحن أبناء القرن العشرين الذين نعايش صراعًا عالميًّا لم يسبق له مثيل أيضًا — ليس أحق منا بطرح هذا السؤال الذي يتصل بمستقبل الجنس البشري على الأرض. والكلام عن تاريخ البشرية العام ومصيرها ليس مجرد كلام عن «يوتيوبيا» خيالية أو فرض علمي جذاب أو حلم جميل عن السلام. إنه ينبع من شعور عام يشترك فيه العالم والمؤرخ مع رجل الشارع الذي يقرأ الجريدة اليومية، أو يسمع الأخبار كل صباح ومساء. ففي الوقت الذي بلغ فيه العلم والتقنية (التكنيك) ذروتهما، وتطورت سرعة المواصلات ونقل الأنباء إلى حد مخيف، وتكاثر عدد السكان حتى وصل أو كاد إلى درجة الانفجار، وازداد في مقابل ذلك ضحايا الجوع أو المهددين به في وقت قريب أو بعيد، ووصلت الحرب الباردة أو الساخنة إلى مأزق لا يدري أحد كيف يكون المخرج منه، وتعددت التجارب النووية، حتى صارت أخطارها حديث كل يوم، وبلغ تأثير الإعلام والدعاية النفسية وغسيل المخ درجة تنذر بالقضاء على شخصية الفرد، وقدرته على النقد واستقلال الرأي، وكثر كذلك الكلام عن واجب التربية والمربين وأصحاب العلوم الإنسانية في إنقاذ حرية الإنسان وخلقه وتراثه أمام هذا الطوفان — في هذا الوقت المضطرب العصيب يزداد شعور البشر بطبيعة الحال بارتباط مصيرهم على هذه الأرض، وتصبح مسألة البقاء أو الفناء مسألة يطرحها الناس على أنفسهم كل يوم كما قلت — سواء في ذلك العالم الذي يشترك في صنع وتصميم القنابل والصواريخ، أو الخباز الذي يصنع رغيفنا اليومي، أو الأم التي ترضع طفلها الصغير، أو المفكر الذي يسأل عن معنى التاريخ. إن هذا المفكر يعلم أنه يجب عليه أن ينظر في الماضي والحاضر والمستقبل — لا لكي يخرج بفلسفة أو نظرية جديدة، بل لكي يوقظ الوعي بالأخطار التي تهدد الناس، ويجعل من السؤال عن معنى التاريخ العام مسألة تهم كل الذين يعيشون معه. إنه يجمع لهم حقائق الماضي، ويعرض عليهم أزماته وكوارثه ليفكروا معه في مخرج من الموقف الحاضر، هل يكون في عقيدة واحدة أو فكرة واحدة أو حكومة عالمية واحدة؟ هل يكون في مجتمع أخير تنتهي فيه كل تناقضات المصالح والطبقات كما قال «ماركس»، أم في الوصول إلى الشول والتكامل الذي تهدف إليه كل تربية إنسانية صحيحة كما قال «شيلر» وغيره من أصحاب النزعة المثالية؟ — وليس الحل هو المهم؛ لأن وظيفة المفكرين ليست هي إيجاد الحلول، بل المهم هو إيقاظ الضمير على وحدة البشر — وحدتهم من حيث الطبيعة والعقل، وحدتهم الباقية وراء اختلاف الديانات والحضارات والأجناس والمذاهب والألوان، وحدتهم من حيث النوع البشري نفسه، الذي تشغله الآن مشكلة واحدة: هل يبقى أم يفنى؟ هل يوجد أو لا يوجد؟

•••

إلى أين يسير العالم؟

سؤال ينصب على المستقبل. والمستقبل ابن الحاضر. والحاضر لا يفهم إلا من لحظات أخرى كانت حاضرة ثم انقضت، أي من الماضي. فلنرجع إلى الوراء قليلًا «وهو قليل بالنسبة لعمر الحياة، بل لعمر الإنسان نفسه على الأرض.»

«كل تاريخ فلسفة، وكل فلسفة تاريخ.» عبارة قالها هيجل، ولكن أليس من التهور أو الطموح الشديد أن نبدأ بهيجل؟ فلنكن أكثر تواضعًا، ولنحاول أن نبدأ من البداية، من الجذور.

ليست «فلسفة التاريخ» بالكلمة القديمة. إنها ترجع للقرن الثامن عشر، وتنسب فيما أعلم لفولتير. غير أن الموضوع الذي تدل عليه أقدم من ذلك بكثير. وإن شئنا الدقة قلنا الموضوعات؛ لأن الكلمة توحي بأكثر من معنًى، وأكثر من قضية …

ما من أحدٍ يتصدى لكتابة التاريخ لمعاصريه أو للأجيال اللاحقة إلا ويفعل ذلك عن قصد أو غير قصد في إطار فلسفة معينة، ومهما حاول أن يكون علميًّا وموضوعيًّا في تقريره للحوادث، فلا بد أن يواجه أسئلة ومشكلات تتجاوز حدود العلم، أسئلة ومشكلات عامة بطبيعتها، لا يمكن الإجابة عليها إجابة قاطعة، ومع ذلك فلا بد من مواجهتها لفهم التاريخ وموقف الإنسان: ما المصادفة وما الضرورة؟ هل هناك قوانين تحكم التاريخ؟ هل يعيد التاريخ نفسه؟ أيمكن التنبؤ بالأحداث قبل وقوعها؟ ما أثر الدور الذي قام به بعض الأفراد وهل ننسبه إليه أم إلى عصرهم؟ إلى أي مدى يمكننا أن نقارن عصرًا بعصر وتطورًا بتطور؟ ما الحرب؟ ما الثورة؟ ما الأزمات؟ كيف يؤثر الاقتصاد والحضارة والأديان والسياسة على مسار التاريخ، وكيف تؤثر هذه القوى على بعضها البعض؟ أسئلة كثيرة لا يستطيع المؤرخ أن يتجنبها، ولأنه لا يستطيع أن يتجنبها فلا بد أن يجد نفسه على حدود الفلسفة. ولأنه لا يريد أن يصبح فيلسوفًا، بل يحب أن يظل مؤرخًا، فلا بد أن يجد نفسه على حدود فلسفة التاريخ.

وهو يفلسف التاريخ أيضًا كلما أعاد النظر في منهجه، وكلما سأل نفسه: ماذا يمكنني أن أعرف وبأي طريقة أعرفه؟ ماذا أستطيع أن أعرف على وجه اليقين؟ وماذا يخرج عن هذه المعرفة؟ ما الذي يستحق أن أبحث عنه؟ وما الذي لا يساوي جهد البحث؟ أي كلما وضع علمه كله موضع السؤال، وحاول أن يقيمه على أساس وطيد. قد نستطيع أن نسمي هذا نظرية المعرفة في علم التاريخ — ونظرية المعرفة فرع من فروع الفلسفة … ومعرفة التاريخ أو نقده شيء لم يقم به الفلاسفة المتخصصون وحدهم — مثل ابن خلدون وفيكو وهيجل وكروتشه — بل قام به كذلك كثير من المؤرخين.

وأخيرًا نصل إلى المعنى المألوف من فلسفة التاريخ. إنها مجموعة الآراء والأفكار التي تتأمل تاريخ الإنسان ككل، سره الخفي، سياقه، حركته، قوانينه، القوى التي تتحكم في سيره. بهذا المفهوم تكون فلسفة التاريخ فلسفة بالمعنى الدقيق، فكرًا يتأمل الإنسان والعالم، لا لأجل التأمل، بل لأن تاريخ الإنسان أو وجوده في الزمان وتغيره وتطوره عنصر أساسي في بناء كيانه. من هنا يصبح لفلسفة التاريخ معنًى شامل. ومن هنا نجدها تنشأ غالبًا في عصور القلق والأزمات والاضطرابات. إنها تريد عندئذٍ أن تفهم الحاضر — سواء اعترفت بذلك صراحة أو لم تعترف به — وربما تحاول أن تتنبأ بالمستقبل، فترجع إلى الماضي كله لتسأله عن متاعب هذا الحاضر، وما الحاضر إلا ابن ذلك الماضي. هكذا فعل هيجل، وفلسفته في التاريخ أعمق الفلسفات وأغناها. لقد رأى عصره — عصر الثورة الفرنسية ونابليون — يمر بأزمة لم يسبق لها نظير، واستنتج من هذه الأزمة نتائج طبقها على الماضي كله، فكانت فلسفته في التاريخ فلسفة الأزمات. ويصدق هذا على كارل ماركس ويعقوب بورخارت، وكلاهما — على ما بينهما بالطبع من اختلاف — مفكر أزمات. كما يصدق أيضًا على أزفالد أشبنجار الذي وجد في الحرب العالمية الأولى أزمة تشبه الأزمة التي وجدها هيجل في حروب نابليون، وعلى أرنولد توينبي وما رآه في حربين عالميتين. وهو ينطبق كذلك على ذلك القديس الأفريقي الذي نستطيع أن ننظر إليه نظرتنا إلى فيلسوف للتاريخ، على القديس أوغسطين. لقد شعر أنه يحيا في عصر مضطرب حافل بالأزمات الخطيرة، ومن هذا الشعور نشأ كتابه المعروف عن مدينة الله.

هذه الأشكال المختلفة من فلسفة التاريخ يمكن أن تتداخل وتتشابك. غير أننا سنحاول أن نفرق بينها توضيحًا للأمور. فالمؤرخ — طالما كان له عقل، وكان لديه الاستعداد لاستخدام هذا العقل — لا بد أن يكون فيلسوفًا للتاريخ. وهو مضطر أن يفعل ذلك كما قلت سواء قصد إليه عن وعي أو لم يقصد إليه. إنه يواجه بالضرورة مشكلات تتصل بفلسفة التاريخ، ولا بد أن يدلي فيها برأي. هناك مؤرخون أصبحوا فلاسفة للتاريخ عندما وضعوا علمهم كله موضع السؤال، أي عندما حاولوا أن يقيموه على أسس جديدة. ثم هناك المؤلفات الكبرى في فلسفة التاريخ، أي التأملات النظرية في معنى التاريخ وغايته، أي ما يمكن أن نسميه ميتافيزيقا التاريخ.

•••

لننظر الآن نظرة سريعة فيما حققته وما فكرت فيه فلسفة التاريخ منذ نشأتها الأولى. إن كلمة التاريخ — مثلها في هذا مثل كلمة الفلسفة — ترجع من حيث اللفظ والمضمون إلى اليونان. فالتاريخ — أو الهستوريا Historia — كلمة تدل على البحث والفحص والنظر. واليونان الذين وضعوا أسس الفلسفة الغربية هم كذلك الذين وضعوا أسس التاريخ. ومع ذلك فإن اليونان لم يفهموا من التاريخ ما نفهمه اليوم منه، بل لم يكن من طبيعة الفكر اليوناني أن يفهمه. والسبب أنه كان يبحث دائمًا عن الوجود الخالد، والحقيقة الخالدة، والجمال والخير الخالدين، أي كان يبحث عن شيء، ثابت لا يتغير، في حين أن ماهية التاريخ، أي ما يحدث في الزمن، هي التغير. كان في استطاعتهم أن يعرفوا الرياضة والهندسة والأخلاق، أما التاريخ، هذا الذي يتغير ويتحول ويزول على الدوام، فلم يكن في استطاعتهم أن يعرفوه، ومِن ثَم فلم يكن في نهاية الأمر جديرًا بالمعرفة. قد يصعب علينا أن نصدق أن مفكرًا عظيمًا مثل أفلاطون لم يكن يهتم كثيرًا بالتاريخ، ولكن هذه هي الحقيقة. إن الدولة أو الجمهورية التي فكر فيها معزولة عن جيرانها بقدر ما هي معزولة عن التاريخ. لقد تصور أنها يجب أن تبقى كما هي، أو كما كانت في تفكيره وفي محاوراته المشهورة، وهو شيء يستحيل تصوره عن دولة تعيش في التاريخ، ولا بد أن تتغير بتغيره.

وجاء أرسطو فكان أوفر حظًّا منه في السياسة، أو كان — كما نقول اليوم وكما أراد هو لنفسه — أكثر واقعية من أستاذه. جمع في كتبه مادة تاريخية غنية، وقارن بين الدساتير المختلفة، ونظر في مزاياها وعيوبها كما يفعل اليوم أستاذ في العلوم السياسية، ولكن اهتمامه ظل منصبًّا على كل ما يبقى ويدوم ويتكرر كأنه قانون لا يتغير، ونظرته ظلت معلقة بالنظام الشامل المحدود المغلق على نفسه. وقل مثل هذا عن أعظم مؤرخي الإغريق، وهو الأثيني «توكيديوس»، الذي كتب عن الحرب البليبونيزية (وهي الحرب الأهلية التي دارت على ثلاث مراحل بين أثينا وإسبرطة من سنة ٤٣١ إلى ٤٠٤ق.م.) أروع تاريخ يمكن أن يخطه قلم. إنه ينظر نظرات عميقة في النشاط السياسي لبني الإنسان، في الحروب والثورات، في الصراع بين الدول والأحزاب والطبقات، في الكفاح من أجل تحقيق التوازن أو التسلط على الغير، في تأثير المصالح الاقتصادية على السياسة ودورها في التفوق في البر أو البحر. وهو كاتب موهوب، يملك القدرة على تصوير الناس والمشاهد في صور حية نكاد نراها ونلمسها، ولكن هذا المؤرخ العظيم يبحث أيضًا عما يبقى ويدوم ويتكرر. إنه رجل يائس محدود الأفق … يروي لنا تاريخ تلك الحروب البيلوبوينزية أو الحرب العالمية اليونانية، ويمر على ما سبقها مر الكرام، بل إنه ليصرح بأنه لم يسبق أن وقع حادث يمكن أن يقارن بهذا الحادث الخطير. لذلك لم يواصل أحد هذا التاريخ، ولم يكن من الممكن أن يواصله أحد. إنه كاللوحة التي لا تحتاج لمن يكملها؛ لأنها كاملة ومكتفية بذاتها، هو أقرب إلى «تاريخ معين» منه إلى «التاريخ». إنه يروي للأجيال المقبلة لكي تتهيأ لمواجهة تواريخ أخرى مشابهة قد تعرض لها؛ لأن ما حدث بين أثينا وإسبرطة سوف يحدث بين غيرها من المدن ويتكرر حدوثه طالما بقيت الطبيعة البشرية على حالها. وهل تتغير طبيعة البشر؟

إن كانت هذه فلسفة تاريخ فهي فلسفة يائسة، خالية من كل عزاء، بل هي لا تبحث عن معنًى ولا أمل ولا عزاء؛ لأن التاريخ في نظرها يتساوى مع الطبيعة، ولأنها لا تجد فيه غير حلقات مملة متكررة من آلام وكوارث، وميلاد ونمو وموت، وصراع من أجل الوجود، وغرور وانتقام واندثار.

•••

هذه الأفكار كلها تتردد في العصر الحديث. فكتابات شوبنهور عن التاريخ لا تختلف كثيرًا عن هذه المعاني، وفهمه له لا يكاد يفترق عن فهم أفلاطون. إنه يشبهه في ضعف إحساسه بالتاريخ، وقلة اهتمامه به، وعدم إيمانه بقيمته أو جدواه. ما من جديد عنده، فنفس الشيء يتكرر على الدوام، والاختراعات التي اكتشفت في حياته كالسكة الحديدية والبرق لم تغير من الأمر شيئًا. نفس الشيء دائمًا. شر كثير وخير قليل. نفس الشيء إلى الأبد ومنذ الأزل. سواء اختلف فلاحان على قطعة أرض أو تنازع ملكان على دولة. سواء تعلق الأمر بأثينا وإسبرطة، أو بروسيا وفرنسا، أو أمريكا وروسيا. من العبث أن نبحث في التاريخ عن حقيقة أو رجاء. نفس الرأي الذي قاله به شوبنهور منذ مائة وعشر سنوات، وتوكوديدس منذ ألفين وثلاثمائة وخمسين سنة. وهو أيضًا نفس الرأي عند الإغريق والرومان الأقدمين، مع فروق قليلة. صحيح أن الرومان أضافوا للوعي التاريخي أبعادًا جديدة في المكان والزمان. فقد امتدت حدود دولتهم من اسكتلندا إلى شواطئ الفرات، وأحسوا إحساسًا واعيًا بتاريخ دولتهم الطويل منذ تأسيسها — وهو مشروع جريء، لم يكن ليقدم عليه مؤرخ إغريقي، بل لم يكن ليتصوره أو يفكر فيه — وصحيح أيضًا أن إشبنجلر زعم أن الرومان لم يكن لديهم إحساس بالديمومة أو البقاء، ولم يكن يعنيهم الماضي ولا المستقبل، وذلك على عكس المصريين القدماء. وقد يتفق هذا الزعم مع تصور إشبنجلر لتاريخ الحضارة بوجه عام، ولكنه لا يتفق مع الواقع في شيء. فالأهرامات قد بقيت حقًّا إلى يومنا الراهن، ولكن ألم تبقَ كذلك قبور الرومان ومعابدهم على طريق آبيا (الفيا آبيا)؟ ألم تبقَ الكتابات والنقوش التي حفروها عليها؟ الرومان لا ينقصهم الإحساس بالبقاء، ولكن ينقصهم شيء آخر. شيء هو عكس البقاء تمامًا. ينقصهم الإحساس بالتغير، بالتحول، بالصيرورة، بالجدة، أي الإحساس بالتاريخ كما نفهمه اليوم. عجز الرومان عن فهم التاريخ وعن إدراك التغير كقوة حقيقية. وعاش مؤرخوهم وسياسيوهم الكبار — مثل بوليبيوس وشيشرون وسالوست وليكيوس وتاسيتوس وبلوتارك — في عصور شهدت تغيرات حقيقية، ولكن التغير في رأيهم كان معناه التدهور والخطر والفساد. والعصر الذهبي لا وجود له إلا في الماضي. وإحياء العادات والنظم القديمة التي أسسها الآباء هو واجب المؤرخ ورجل السياسة. كانوا محافظين في تفكيرهم، وحتى لو لم يكونوا كذلك في قرارة نفوسهم، فقد كانوا يؤكدونه في خطبهم وكتابات — هكذا حاول أغسطس أن يصور أعماله بأنها بعث للماضي وإحياء للقديم — وإن خالهم الشعور مرة بأنهم يعيشون في الحاضر أو في عصر يختلف كل الاختلاف عن العصور السابقة، فهو الشعور بأن الزمان فاسد، وأن العالم متدهور. يستوي في ذلك أن نسمع الشكوى المريرة في كتابات تاسيتوس، أو نجد الشك والارتياب في أعمال سالوست. هكذا صارت الأحوال، صار الحاضر (السيكولوم)، فما أعظم الفرق بينه وبين الماضي السعيد. لم يخطر على بال الرومان أن التغير ليس دائمًا دليلًا على التدهور والفساد، أو أنه ليس شيئًا يدعو للأسف والبكاء في كل الأحوال لم يدركوا أن التغير هو جوهر التاريخ، وأنه قد يحمل في أحشائه التطور والتقدم والأمل … تلك فكرة ظلت غريبة عن الرومان. نحن نختلف الآن عنهم في إحساسنا بالتاريخ، واستعدادنا للتغير، وقدرتنا على التكيف. وما أكثر ما تمكن السياسيون في العصر الحاضر من مواجهة التغيرات الحاسمة بالحكمة، والتخلي عن النظم القديمة أمام الواقع الجديد (تحول الإمبراطورية البريطانية إلى ما يسمى الآن بالكومونولث من أوضح الأمثلة على هذا). أما الرومان فقد عجزوا عن هذا التكيف. لذلك انهارت الجمهورية الرومانية القديمة، وسقطت الدولة الدستورية. اعتقد الجمهوريون أنهم يستطيعون أن يحكموا الدولة الواسعة المترامية الأطراف على أساس دستور دولة المدينة الصغيرة، بل إن الدكتاتورية العسكرية التي أقامها القياصرة ظلت تتدثر بالرداء الجمهوري القديم. أما الجديد (الريس نوفا Res nova)، فقد ظل بالنسبة إليهم شيئًا محرمًا، شيئًا غير جائز ولا مشروع.

مع هذا كله فقد أخرجت روما عددًا من أعظم كتاب التاريخ. وليست عظمة هؤلاء الكتاب في أنهم عرفوا ماهية التاريخ والتطور، بل في قدرتهم الرائعة على التصوير المعبر الحي، والأسلوب المؤثر الدقيق، في الرواية الموجزة الكاملة عند سالوست، وفي العرض النفسي المتشائم العميق عند تاسيتوس. انظر إلى هذه العبارات التي لا يقدر عليها إلا كاتب عظيم: «ما من أحد توصل إلى السلطة بالوسائل الشريرة، ثم استطاع أن يستخدمها في الأهداف الخيرة»، «من طبيعة القلب البشري أن يكره من ألحق به الظلم.» ما من مؤرخ حديث استطاع أن يكتب عن الطغيان بأصدق ولا أروع من تاسيتوس. ومع ذلك فكم من مؤرخ حديث تفوق عليه وهو أقل منه شأنًا. والسر بسيط أن المحدثين يحسون بالتحول في الزمن، بالتغير، بالاستمرار، بالتفرد، وكلها أشياء غريبة على الرومان.

•••

هذا الإحساس، هذه الفكرة، جاءت إلى العالم الغربي عن طريق المسيحية. وصلت إليها عن طريق العهد القديم، ثم تأكدت في العهد الجديد، وظلت زمنًا طويلًا تحتفظ بطابعها الديني. وأصبح العالم يؤرخ للزمن بظهور المسيح، وما زلنا نؤرخ له اليوم ونحن في بداية سنة ١٩٧٠م. فظهور المسيح أعطى للتاريخ معنًى، خلع عليه نظامًا لم يكن يعرفه في العصور القديمة. صارت السنون تحسب بين ظهور المخلص للمرة الأولى وظهوره للمرة الثانية. أصبح الزمن الذي امتد قبل ظهوره هو زمن الأمل والوعد والانتظار. أما الرومان فكانت طريقتهم في حساب التاريخ أن يسموا السنين بأسماء الماجستيرات والقناصلة، وكم كانت طريقة معقدة!

فرق كبير بين التاريخ عند الرومان وبينه بعد ظهور المسيحية. صحيح أن الوعي التاريخي في ظل المسيحية كان له وجهان مختلفان. كان هناك من آمن بأن أفعال الإنسان وأحداث العالم لا أمل فيها ولا نجاة — فالقديس أوغسطين مثلًا ومن بعده البابا جريجور السابع بستة قرون يحتقران الدولة والسلطة أشد الاحتقار — ولكننا لا ندري على وجه اليقين إن كانت المملكة الأخرى، مملكة الله أو مدينته، ستتحقق في رأيهما على الأرض أم في عالم آخر. وكان هناك الوجه الآخر. فالمسيحية هي التي جعلت لفكرة الزمن قيمة وشأنًا، هي التي جعلت التاريخ وكتابة التاريخ أمرًا ممكنًا. لا تاريخ مدينة أو دولة فحسب، بل تاريخ العالم، تاريخ البشرية «على الأرض السلام وبالناس المسرة». هكذا كانت بشارة الملائكة.

السلام على الأرض، والمسرة والمحبة للناس أجمعين. لا لشعب من الشعوب، أو دولة من الدول فحسب. هكذا كان أيضًا رأي فلاسفة القرن الثامن عشر، هؤلاء الذين انفصلوا عن التراث المسيحي، وراح بعضهم — مثل فولتير وكوندورسيه — يهزءُون بالكنيسة ويناصبونها العداء. المهم أن التأمل في التاريخ ككل، في منشأه وحركته وهدفه، صار أمرًا ممكنًا بعد المسيحية ومن بعدها الإسلام، ولم يزل كذلك إلى اليوم (والكتابة عن تصور المؤرخين المسلمين لفكرة الزمن يستحق دراسة مستقلة).

بلغ الوعي التاريخي ذروته الأولى في أوروبا في القرن الثامن عشر، أراد الإنسان أن يعرف مكانه في التاريخ، أراد أن يفهم إلى أين تسير البشرية. حاول أن يعرف سر الأحداث التي تجري حوله: كيف أصبحت فرنسا قوة ضخمة، كيف ظهرت روسيا على مسرح السياسة الأوروبية، كيف توغل الأوروبيون في العالم الأمريكي، كيف نشأ النظام البرلماني في إنجلترا. من هنا الإقبال على دراسة التاريخ الروماني (مونتسكيو وجيبون)، من هنا الاهتمام بدراسة الحضارات البعيدة كالحضارة الصينية. ومن هنا الخلاف الذي بدأ في القرن السابع عشر: لمن التفوق؟ للإغريق والرومان أم للمحدثين؟ وأخيرًا هذا النشاط الهائل في جمع الوثائق وتفسير الوقائع التاريخية بشكل لم يسبق له نظير. وكم يدهشنا اليوم أن ننظر في التاريخ الذي كتبه فولتير عن عصر لويس الرابع عشر! لم يقتصر هذا الكاتب الكبير على تدوين تاريخ سياسي، بل راح يضيف إليه التاريخ الحضاري والسياسي، ويربط بينها جميعًا.

صحيح أن فولتير — ومعه عدد كبير من معاصريه — قد وقفوا من الماضي موقف الرفض والاحتقار. كان من رأيهم أن ساعة الإنسانية الحقة قد بدأت، أو ستبدأ في مستقبل أفضل، ولكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين إلى معرفة الماضي معرفة تامة؛ لكي يستطيعوا التحرر من خرافاته وأنظمته البالية. لذلك فقد يدهشنا أن هؤلاء الكتاب الثائرين قد أسهموا في تجميع قدر كبير من المعلومات والحقائق التاريخية الحية، على الرغم من ازدرائهم للعصور الوسطى المسيحية، وتجنيهم عليها بصورة تبدو لنا اليوم ظالمة بعيدة عن الإنصاف.

على أن غرورهم واحتقارهم للماضي لم يبقَ بغير أثر. فإذا كان فولتير قد أسرف في السخرية بالعصور المظلمة، وخرافات رجال الدين، وإذا كان العصر الوسيط لم ينجُ من هجوم رجل حكيم مثل كانط الذي وصفه بأنه «ضلال غير مفهوم للعقل البشري»، فقد كان هناك من أنصف الماضي، وأحس بقيمته وجماله. كذلك فعل «جوته» في شبابه، وكذلك فعل الرومانتيكيون الإنجليز. من هذه الاتجاهات المتعارضة المتباينة من حركة «عصر التنوير»، التي أسرفت في ثقتها بالعقل، وفي عدائها للماضي، من الحركة الرومانتيكية التي أحبت ذلك الماضي، وعكفت على إحياء أدبه وجمع تاريخه، ومن الأحداث المهمة التي اضطرب بها العصر، انتصارات بروسيا على عهد فردريك الأكبر، حصول أمريكا على الاستقلال، الإصلاحات التي تمت في النمسا، وأخيرًا تلك الكارثة الرائعة — الثورة الفرنسية — من هذا كله انبثق عدد كبير من المؤلفات التي حددت الوعي التاريخي الأوروبي في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، نذكر منها كتاب «هردر» أفكار في فلسفة تاريخ الإنسانية، ومقال كانط «أفكار عن تاريخ عام من وجهة نظر عالمية»، ورسالة «شيلر» معنى التاريخ العام والغاية من دراسته، وأخيرًا أعمال ذلك الرجل الذي عرف هذه المؤلفات كلها، وأفاد منها وحقق في فلسفة التاريخ شيئًا لم يُسبَق إليه، وقد لا يلحق فيه، ونعني به هيجل.

كل هؤلاء المفكرين يتفقون في إيمانهم بمعنى التاريخ وبرسالة الإنسانية. ومع أنهم يختلفون في موقفهم من المسيحية، فلولا التراث المسيحي لما كان من الممكن أن يصلوا إلى هذا الإيمان، ولا إلى هذا الوعي التاريخي، إنهم جميعًا — وهردر يقل عنهم بعض الشيء — يعتقدون أن الحضارة الأوروبية هي الحضارة التي ألقى عليها القدر العبء التاريخي الأكبر، وهي التي ينبغي أن تنهض به في المستقبل.

•••

في سنة ١٧٨٤م ألف «كانط» مقاله الرائع السابق الذكر «أفكار عن تاريخ عام من وجهة نظر عالمية» (وقد ترجمه أستاذنا عبد الرحمن بدوي في كتابه عن النقد التاريخي)، ثم عالج الموضوع بصورة أوسع في كتابه عن السلام الدائم (وقد ترجمه أستاذنا عثمان أمين). والمقال والكتاب يتناولان مشكلة التاريخ البشري العام، ويبدو أن شيئًا غريبًا لا يكاد الإنسان يصدق أنه صدر عن مفكر وحيد وبعيد عن صراع المصالح ومشكلات السياسة والسياسيين في عصره، ولكنهما مع ذلك يبدوان لنا اليوم معاصرين إلى أقصى حد، حتى ليوشك الحكيم الطيب العجوز الذي لم يغادر مدينته كونجسبرج أن يكون قد تنبأ بمشكلتنا الكبرى التي نعاني منها صباح مساء. ويقوم المقال والكتاب على افتراض — لا مجرد حسن نية — أن الإنسان قادر على أن يصل بنفسه إلى الكمال الذي تحدث عنه شيلر والمثاليون الإنسانيون من قبل، كما يقوم على الثقة في الانتصار النهائي للإنسان، باعتباره الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يحكم عقله. اقترح كانط في مقاله أن يكون الهدف من تاريخ الإنسانية هو تحقيق الإنسان نفسه بكل ملكاته ومواهبه النبيلة، في ظل اتحاد أو عصبة أمم، ولغاية كبرى هي ضمان سلام دائم منظم وطيد الأركان. ولا تتحقق هذه الغاية إلا إذا توفرت للإنسان فكرة عن ماضيه بالمعنى الشامل، الذي لا يقف عند حدود الأمم والجماعات. وكانط يمهد لهذا التاريخ حين يبين الخط الصاعد، الذي سار فيه العقل الإنساني إلى مزيد من الوضوح، ومزيد من الإنجازات العلمية.

غير أنه يلاحظ — في حزن لا يستغرب من الحكماء — أن هذا التطور في الحضارة والمدنية لم يصاحبه تطور في الضمير والأخلاق نفس العلة التي نشكو منها اليوم، وتكاد تدفع بالشرية إلى حافة الهاوية. ولذلك فإن واجب الإنسان في المستقبل هو الوصول بالأخلاق إلى مستوى العلم، وإلا جاء اليوم الذي تضطره فيه الطبيعة أو على الأصح يضطره التاريخ إلى شيء كان من الممكن أن تعلمه إياه الأخلاق أو العقل العملي كما يسميه، أي يأتي اليوم الذي تتطور فيه أساليب الحرب المهلكة إلى الحد الذي تجد فيه الدول نفسها أمام اختيار واحد لا مناص منه، فأما فناء الحضارة وانتحار البشرية جمعاء، أو تنظيم الدول ذات السيادة على أساس العقل في عصبة أمم ترعى السلام العالمي.

ولكن ما هو موقف كانط من عذاب البشرية المتصل على مر التاريخ؟ ما رأيه في الكوارث والأزمات التي ألمت بها، وألوان الخراب والدمار التي لم تكف عن تدبيرها لنفسها؟ الجواب أنه ينظر إلى الإنسانية «ككل»، بحيث تبدو كل الكوارث والأزمات أشياء مؤقتة أو محلية. أما التقدم والتطور — تقدم العقل وتطوره — فهو ثابت ومستمر، بل إن العناية الإلهية قد شاءت أن تكون ألوان الدمار والعذاب التي عانتها الإنسانية وتعانيها هي الطريق الذي يصل بها إلى التبصر والتعقل، لا بل يفرضها عليها فرضًا، ولكن هل تقطع هذه الثقة في العقل كل أسباب الشك واليأس؟ هل صحيح أن الإنسان يتطور وينضج جيلًا بعد جيل؟ وما العمل إذا احتكم لغريزته الأصلية كما فعل في كل العصور؟ وما العمل إذا كانت الهوة لا تزال سحيقة بين العلم والسلوك، بين العقل والضمير، بين التقنية والأخلاق؟ الغريب أن هذه الشكوك ليست جديدة. لقد ثارت في نفوس الناس في حياة كانط. ففي سنة ١٨٠٠م رد أحد الصحفيين من أهالي برلين، ويدعى فريدريش جنس، على كانط بكتاب من تأليفه سماه «عن السلام الدائم»، وحاول أن يرد فيه على تفاؤله، فقال بالحرف الواحد: «… وحتى لو استطاع الجنس البشري بأسره أن يصل إلى أكمل دستور شرعي بين أعضائه، فإن المادة العدوانية الكامنة في الدوافع الغريزية الغلابة سوف تزعج هذا النظام في كل لحظة، وسوف تبقي على التناقض الأبدي بين قانون العقل الذي يوحي دائمًا بالسلام، وبين قانون الطبيعة والفطرة الفجة الذي يريد الحرب على الدوام.»

هذا التناقض القائم بين العقل والطبع أو بين العلم والخلق مسألة قديمة، وإن كان وعينا بها اليوم قد ازداد حدة. وتاريخ الحضارات المعروفة ليس في الحقيقة إلا سجلًّا عامرًا بالضعف والتهور والكذب والشر والغدر والاضطراب. وليس هذا كله كامنًا في الطبيعة أو الغريزة الفطرية وحدها كما يقول الصحفي البرليني، بل المشكلة أن «الدودة» كامنة في العقل نفسه منذ البداية … مهما يكن من شيءٍ، فلا يسع المتأمل للظروف التي نمر بها اليوم إلا الإعجاب بهذه الفكرة التي تعد من أعمق وأصدق ما عبر عنه حكيم كونجسبرج الطيب العظيم.

•••

فإذا انتقلنا إلى «شيلر» وجدناه يسير في أفكاره التاريخية في نفس الخط الذي سار فيه «كانط». لقد كان في شبابه أشد حماسة من هذا «الحكيم العالمي»، كما كان يسميه في نظرته إلى الحاضر السعيد، بل كان من رأيه أن الماضي كله لم يكن له هدف إلا الوصول إلى هذا الحاضر المنعم بالحرية والكرامة والأمل. فلما بدأ يكتب التاريخ بنفسه بدلًا من الاكتفاء بتأمله من بعيد، شغله الواقع الحي عن فكرته الكانطية الأولى، وأخذ يصور الناس والأحداث كما كانوا في الواقع، دون أن يعني نفسه بالأهداف والنتائج البعيدة. لم يكن كانط مؤرخًا. أما شيلر، فكان يملك الحاسة الدرامية القوية بالتاريخ، بالصراع الرهيب بين الدول، بالعواطف الرفيعة أو الوضيعة التي تتحكم في الأفراد، وربما استغرقه هذا الإحساس الدرامي بالماضي، فأنساه تأملاته المثالية في التاريخ العام. ويكفي أن نقرأ مسرحياته التاريخية — وفي مقدمتها ثلاثيته الكبرى عن فالنشتين — لنعرف أنه شاعر التاريخ الأكبر بغير نزاع.

•••

كذلك كان هيجل مؤرخًا أصيلًا، يملك النظرة الناقدة التي تلم بحقيقة الدولة الحديثة، وتميز بين روح عصر وعصر. وإذا كانت المثالية والواقعية لا تجتمعان دائمًا عند شيلر — فكثيرًا ما نسي تأملاته الفلسفية كما قدمت في غمرة انشغاله بالوثائق والوقائع — فقد تلاقى الجانبان تلاقيًا تامًّا عند هيجل، وكان المثال والواقع عنده شيئًا واحدًا. ولعل هذا هو سر مشروعه التاريخي والفلسفي الهائل الذي يأخذ النفس بطموحه وروعته، كما يحيرها بطموحه وتعقيده.

تاريخ العالم في رأي هيجل هو تاريخ العنف والقسوة.

وإذا كانت قد مرت به عصور عرف فيها السعادة والأمن والسلام، فإن هذه العصور لا تهم فيلسوف التاريخ في شيء. إن عصور السعادة هي أوراق التاريخ الجافة الذابلة. أما أوقات الرعب والهول، والحروب والثورات، وآلام الوضع ومتاعب النمو، وعذابات الاحتضار في تاريخ شعب أو حضارة. أما هذه فكانت هي المعقول، كانت هي الفكرة في تحققها.

سار تاريخ العالم دائمًا بمقتضى العقل. وكانت النتيجة دائمًا هي الصواب، انتصر من يستحق الانتصار، واندثر من وجب عليه الاندثار. القوة والحق هنا شيء واحد. العقل والواقع نفس الشيء.

كل أشكال السلطة والحكم والحضارة عاشت فترة من الزمن، ثم اختفت من المسرح عندما آن أوان اختفائها. كان المؤرخون وفلاسفة التاريخ الأوروبيون قبل هيجل يعتقدون في وجود أزمة واحدة كبيرة مرت بها الإنسانية الحديثة وتحررت. واعتقد هيجل أيضًا بوجود هذه الأزمة، وتأثرت أعمق التأثر بأحداث الثورة في أمريكا وفرنسا. غير أنه عمم هذه الفكرة الجديدة عن أزمة التاريخ على الماضي كله. فالتاريخ عنده هو تاريخ الأزمات، سواء أكانت أزمات سياسية أو عقلية أو أخلاقية. من خلال كل أزمة، وكل ثورة، وكل اندحار أصاب إحدى الحضارات لترتفع مكانها حضارة جديدة بلغ العقل البشري أو العقل الكلي درجة أعلى، والنتيجة أن العقل قد بلغ الآن — أي في عصر هيجل — أعلى درجة في تنظيم الدول الأوروبية — في الدولة الدستورية أو الدولة الليبرالية التي لم تصل بعد إلى الديمقراطية — كما بلغ أعلى درجات في التفكير الفلسفي (أي في فلسفة هيجل نفسه). انتهى الفيلسوف إلى هذه النتيجة دون أن يكشف لقرائه عن تصوره لما سيكون عليه المستقبل. ولم تكن فلسفته فلسفة مستقبل، بل كانت تحتقر كل تفكير مثالي (أو يوتوبي). فاليوتوبيا (بمعناها المشتق من الكلمة اليونانية) تدل على ما لا وجود له في أي مكان، أي ما لا وجود له إلا في رأس المفكر وحده. أما هيجل، فيريد أن يفهم ما هو موجود «فالموجود أو الواقعي هو العقل أو المعقول». ولا وجود في الواقع إلا للحاضر وحده، وللماضي الذي أدى إلى هذا الحاضر، ويمكن معرفته والإلمام به. وليس يليق بالفيلسوف أن يفكر فيما يمكن أن يصير إليه هذا الحاضر حين يصبح ماضيًا، أي لا يليق به أن يفكر في مستقبل ليس له وجود.

بهذا المعنى كان هيجل مفكرًا محافظًا إلى أقصد حد، مفكرًا تأمليًّا لا يريد أن يصل إلى شيء عملي. فالشيء العملي قد تحقق بالفعل، والمهم الآن أن يفهم ويوضع في الصيغة الفلسفية المناسبة. وبهذا المعنى أيضًا أحس هيجل أنه يمثل حضارة متأخرة، ناضجة، وجدت الراحة بعد أن أصابتها هزات عنيفة في الماضي القريب (وأعماله المتأخرة تعبر كثيرًا عن هذا الإحساس). ولعل هذا هو السر في أن هذا العمل الضخم لم يجد ولا كان من الممكن أن يجد من يواصله ويستمر فيه. أراد له صاحبه أن يكون خاتمة ونهاية. وقد كان بالفعل كذلك. ولهذا السبب اضطر تلاميذه — الذين لم يقف بهم طموحهم عند الشرح والتفسير — إلى البحث عن أدوات أخرى وغايات أخرى.

هكذا أصبحت فلسفة التاريخ بعد هيجل أكثر قلقًا وحدة مما كانت عليه قبله. إن كارل ماركس — وهو تلميذه الذي لا يمكن فهمه بدونه — لم يعد يكفيه أن يفهم العالم — أي الماضي — بل يريد أن يغيره بالفلسفة، أي يحدد صورة المستقبل، بحيث يصبح هذا التحديد المسبق قوة فعالة. وهو لا يصبح كذلك حتى يتطابق مع الواقع، ويعرف قانونه العلمي. كل ما كان قبله — وبالأخص عند هيجل — فلسفة ولا شيء غير الفلسفة، أي تأملات بغير أثر فعلي، أصبح عنده فعلًا سياسيًّا يستمد قوته من الفلسفة أو من العلم (فكلاهما شيء واحد في رأي ماركس). مِن ثَم نشأت وحدة جديدة من الفكر والوجود غير التي ذهب إليها هيجل. وصارت وحدة جديدة من الفكر والوجود غير التي ذهب إليها هيجل. وصارت فلسفة التاريخ — التي ظلت حتى الآن شيئًا لا ضرر منه — نظرية للثورة، وصار فيلسوف التاريخ ثائرًا ومعلمًا وداعيًا إلى الثورة.

هكذا كان ماركس وإنجلز، وإن خلت حياتهما مما يلفت أنظار رجال الشرطة. وهكذا كانت بعدهما حياة لينين وتروتسكي وستالين، الذين أضافوا إلى نظرية الثورة نظرية «الاستراتيجية الثورية»، والرعب والإرهاب، ثم طبقوها بالفعل عندما جاء الوقت المناسب. هؤلاء رجال ثلاثة ظلوا ينظرون للواقع أو يكتبون تاريخه بأنفسهم كما فعل تروتسكي. أهم ما يميزهم هو اعتقادهم القاطع بأنهم يعرفون دورهم التاريخي تمام المعرفة، وأن أعمالهم معصومة من الخطأ؛ لأنها مستمدة من العلم بقوانين التاريخ نفسه. كل من يحيد عن وجهة نظرهم فالويل له. كل من يخالفهم فهو مرتد وخائن وعميل.

الصراع العالمي الذي نعيش اليوم في ظله بين شرق وغرب، يرجع إلى طموح ماركس الضخم، إلى دعواه الهائلة رغم أنه عرف قوانين التاريخ العلمية، وحدد مسيرته وهدفه إلى الأبد. كل من يقسم عهد الولاء لماركس ولينين فهو على حق. وكل من يخالفهما فهو عدو وملعون ومطرود. تلك هي النهاية. لا نهاية فلسفة التاريخ بالطبع، فهذه لا تنتهي. بل نهاية جانب من تراثها الذي وصل به هيجل إلى الذروة. نهاية مؤلمة، أقل ما يقال فيها أنها مسئولة عن المأزق الذي نجد أنفسنا اليوم فيه، وليس أمامنا إلا الاختيار بين فناء مطلق أو سلام مضطرب. أيكون الإنسان قد حمل نفسه أكثر مما تستطيع أو ما ينبغي أن تحتمل، عندما زعم أنه عرف معنى التاريخ وحدد هدفه واكتشف قوانين حركته؟ هذا الزعم ليس جديدًا. والمحاولة كذلك ليست جديدة. لقد جرب الإنسان ما يشبهها القرن التاسع عشر. أحس أنه يحيا في عصر تاريخي فريد، يحمل في أحشائه الأمل أو الخطر أو كليهما، ولكنه على كل حال عصر لم يسبق له نظير، فالعواصف السياسية والاجتماعية تجتاح أوروبا، وانتصارات التقنية (أو التكنيك) والعلوم الطبيعية والبيولوجية تتوالى مؤذنة بانتصارات أكبر وأعجب، والدين يهتز في القلوب، والكنيسة تضعف بصورة واضحة، والتوسع والغرور الاستعماري يصلان إلى أقصاهما، كل هذه ظواهر قوت شعور الناس بأنهم يعيشون في عصر فريد، فأرادوا أن يعرفوه ويحددوه. أرادوا أن يسموا أبا الهول باسمه، ليأمنوا بعد ذلك شره. وأقدموا على المحاولة بجهاز مثير يعين للأبد قوانين التاريخ. هكذا فعل «أوجست كونت» مؤسس النزعة الوضعية الحديثة. أعتقد أنه اكتشف القانون الذي تسير كل الحضارات بمقتضاه في ثلاث مراحل: مرحلة يسودها الدين، وثانية تسيطر عليها الميتافيزيقا أو التأمل، وثالثة وأخيرة يحكمها العلم الوضعي. العالم الغربي — في رأي كونت — قد دخل هذه المرحلة الأخيرة بالفعل. معنى هذا أن العلميين والخبراء الفنيين قد احتلوا مكان الملوك والكهنة والعسكريين.

نفس الشعور بتفرد العصر، نفس الإحساس بأزمة تاريخية لم يسبق لها مثيل — نجده أيضًا عند هذا الفيلسوف الشاعر العجيب — عند نيتشه. إنه يثور على المعرفة التاريخية التي ازدحم بها عصره، حتى حجبت أكوام الوثائق والمعلومات عنه الرؤية، وشت إرادته، وقتلت فيه روح المخاطرة، وجعلت من المؤرخين أشباحًا ضعيفة متهاوية تفترس الكتب القديمة، وتضع النظارات على عيونها. فلنطرح هذه المعرفة التاريخية، ولنقبل على الحياة على اللحظة الراهنة لنحقق أنفسنا فيها بقوة وحرية، وبلا وساوس أو أحزان.

بيد أن هذه اللغة الغاضبة الجارفة لم تستطع أن تخفي الإحساس بأزمة تاريخية متوقعة، تنبأ نيتشه بأن القرن العشرين سيشهد حربًا طاحنة لن يعرف لها العالم مثيلًا من قبل. وزعم أنه سيفرح فرحة كبرى بهذه الحرب. وهو في هذا يخطئ تقدير نفسه النقية الطاهرة، كما ينسى أنه أعلن عن نفسه في كتابه الأكبر الذي لم يستطع أن يتمه (وهو إرادة القوة) أنه آخر العدميين. فكيف كان يرضى لنفسه أن يشهد ذلك العدم والدمار الرهيب الذي شهده العالم في حربين عالميتين؟ وكيف كان يتردد لحظة واحدة في التبرؤ مما اقترفه النازيون باسمه، وتحت شعار فلسفته التي أخطئوا فهمها وتجنوا عليها؟

ها هو ذا رجل آخر يأتي بعده — مؤرخ أصيل بحق — (يعقوب بوخارت) فيشك في معنى التاريخ، وييأس من هدفه الذي بحث عنه كانط وشيلر وهيجل، ويعود مرة أخرى إلى رأي العصور القديمة عند اليونان والرومان تعب الإنسان لا يتغير. موجة تعلو موجة تهبط. كما في الماضي كذلك في الحاضر والمستقبل. لا جديد هناك. لا أمل ولا نجاة. ومع هذا فلم يستطع بورخارت أن يخفي إحساسه بالأزمة. صحيح أن روح التشاؤم تظلل تأملاته في تاريخ العالم كالسحابة الهادئة القائمة، ولكن رؤاه القلقة على مصير الإنسان تلمح كالبروق في ثنايا رسائله وخطاباته الشخصية.

لم يختفِ الإحساس بالأزمة منذ ذلك الحين من فلسفة التاريخ، لم يختفِ من أي تفكير في مستقبل العالم والحضارة والإنسان. سواء بالأمل أو باليأس، سواء تنبأ بنهاية التاريخ كله، أو تنبأ بنهاية التاريخ الماضي، وراح يعلن عن بداية التاريخ الحق، التاريخ الحر العادل المجيد.

•••

لا نستطيع أن نختم هذا العرض السريع بغير أن نذكر اسم أزفالد إشبنجلر. قد تكون فلسفته اليوم خاطئة في بنائها العام، وهناك بالفعل أكثر من دليل على خطئها، ولكن لا شك أن إشبلنجر — الذي وضع كتابه عن تدهور الغرب تحت تأثير الحرب العالمية الأولى — قد خاطب جيله، وعبر عن عصره، ورسم صورًا تاريخية غنية رائعة تدل على نفاذ بصيرته، وقدم مجموعة من الملاحظات عن الحاضر والمستقبل أثبتت الأيام صدقها، وإن كان قد حشاها في ذلك البناء العام، الذي لا يتسع المجال لبيان خطئه. المهم أنه يثبت لنا كما أثبت كل من حاول ذلك قبله أن تصور التاريخ في صورة شاملة تامة مغلقة لم يعد أمرًا ممكنًا ولا مفيدًا، وأن محاول الإنسان أن يحدد معنى التاريخ وهدفه، ويتنبأ بمستقبله محاولة مقضي عليها بالفشل؛ ذلك لأنها تفوق طموحه وقدرته وطبيعته المحدودة الفانية، ولأنه — أي الإنسان — يحيا في الزمن ويرتبط به، ولذلك فلا يمكنه أن يحدد معناه وهدفه من داخله. إن فلاسفة التاريخ قد وضعوا لغز الوجود والإنسان في قلب الزمن، وأرادوا أن يلتمسوا التحقق التام — أي الوحدة الكاملة بين الوجود والفكرة، أو بين الواقع والواجب — في هذا الزمن المتحول نفسه، مع أن هذه الوحدة لا يمكن أن توجد على الأرض ولا في الزمن. قد يستطيع الزمن أو التاريخ — بأزماته وكوارثه، بانتصاراته وهزائمه، بأفراحه وآلامه — أن يكشف لنا عن معنى المطلق أو المتعالي أو الروح الكلي أو الفردوس الأخير أو ما شئنا من أسماء لا تسميه، ولكنه لن يستطيع أبدًا أن يوجده في الزمن، لن يستطيع أن يحققه على الأرض.

أدركت فلسفة التاريخ — منذ عهد القديس أوغسطين إلى اليوم — معنى الزمن، وعرفت أنه يكمن في التحول والتغير والتجدد. هذا كشف ضخم لن نفقده بعد اليوم. لا يمكن أن نرجع للوراء، لا يمكن أن نعود لتصور «توكيديدس» أو غيره من مؤرخي الإغريق والرومان. هؤلاء الذين اعتقدوا أن الخير كله في العصور الذهبية الماضية، وأن الزمن لا يأتي بجديد، ولكن لا يمكن أيضًا — بعد مسيرة ستة عشر قرنًا من أيام أوغسطين — أن يظل الإنسان يبحث عن المطلق في الزمن والتاريخ، مع أن المطلق نفسه — أيًّا كان الاسم الذي نعطيه له، وسواء وضعناه في عالم آخر أو قلبناه ووضعناه على الأرض — لا بد — بحسب اسمه نفسه — أن يظل خارج الزمن والتاريخ. كل ما يستطيع الزمن أن يفعله هو كما قلت أن يكشف عنه، أن يرينا لمحة منه، ويشدنا إليه، أما تحقيقه في التاريخ فهو المستحيل بعينه. وتحقيق هذا المستحيل — في ثوبه المقدس أو في أثوابه الأرضية — هو الذي جر الغرب ومعه بقية العالم إلى الأزمات المتوالية التي لاحظها فلاسفته ومؤرخوه، وجر البشرية اليوم — إزاء التقدم المذهل في العلم والتقنية وأسلحة الدمار والتأخر المذهل أيضًا في الضمير والأخلاق — إلى الاختيار المحتوم الذي تنبأ به كانط، فإما الفناء المطلق الذي يتساوى فيه الغالب والمغلوب في راحة القبر، وإما التعلم من دروس غاندي ومارتن لوثر كنج في العصر الحديث، ومن تعاليم الحكماء والشعراء في كل العصور، بل ومن مجرد النظر إلى براءة الطفل والحيوان، واحترام الحياة في كل مظاهرها الطبيعية المحيطة بنا، وإن كنا كالعميان لا نراها، أي بالتخلي عن القوة والعنف، وترويض الغرائز المظلمة العمياء، ومحاولة العيش في سلام، وتحمل المسئولية المشتركة عن حاضر الجنس البشري ومصيره.

•••

هل نستخلص مما سبق أن جميع المؤرخين الذين ذكرناهم مخطئون؟ بالطبع لا، ولا يمكن أن يصل بنا الغرور أو الغباء إلى هذا الحد. لقد أحسوا بأزمات عصرهم، وحاولوا أن يعبروا عنها أو يفسروها أو يقترحوا لها الدواء، أو يحملوا إلى أجيالهم بعض الراحة والأمل والعزاء. ولقد أصبح الإحساس بالأزمة بفضل هؤلاء الفلاسفة والمؤرخين جزءًا لا يتجزأ من فهمنا للتاريخ، بل إن هذا الإحساس قد زاد اليوم عنه في أي وقت مضى. فإذا قلنا أن البشرية تمر بمرحلة لا نظير لها في تاريخها الطويل لم يكن قولنا مجرد ترديد أو تأثر ساذج بما سبق، وأمكن أن يصدقنا الجميع، لا فرق في ذلك بين الفيلسوف ورجل الشارع. ألم يسر الإنسان على أرض القمر مرتين؟ ألا يدل هذا على أن العقل البشري قد بلغ أقصى درجات تقدمه، وأنه — وهذا هو الأهم — لا يزال يواصل تقدمه ولا نهاية للآفاق التي يتطلع إليها ولا للمفاجآت التي ننتظرها منه؟ ومع ذلك فلا يزال الألوف يموتون من الجوع أو التعذيب أو المذابح الجماعية في فيتنام أو العدوان البشع على شعب فلسطين والشعوب العربية، ألا يدل هذا من ناحية أخرى على أن نفس العقل البشري قد بلغ أقصى درجات تأخره؟ ألا يثبت أن التوازن الذي حلم به كانط أو غيره بين العقل والضمير وبين العلم والخلق قد اختل أفظع اختلال، وأن هذا العقل ينطلق الآن بسرعة الصاروخ، بينما الضمير يلهث على عكازه وراءه؟ ألم يأتِ اليوم الذي تنبأ به حكيم كونجسبرج يوم تجد البشرية نفسها أمام اختيار وحيد بين فناء مطلق بفعل الأسلحة المهلكة، أو تعايش في سلاح منظم دائم في ظل «جمعية من الأمم المستقلة»؟ ألا نعيش الآن في هذا اليوم؟

ولكن «جمعية الأمم» التي كان يحلم بها كانط قد وجدت واتحدت، والبشرية تتحرك كل لحظة — حقيقة لا مجازًا، واقعًا لا تشاؤمًا — على حافة الهاوية. فما بال الضمير العالمي لا يستيقظ؟ وإذا كان قد استيقظ لدفع ظلم بشع — كحرب الإبادة في فيتنام — فلمَ لا يتحرك بنفس القوة لدفع ظلم لا يقل عنه بشاعة كتشريد شعب من وطنه؟ أين ضمير الشباب النقي؟ وأين ضمائر علماء العالم ومفكريه ومثقفيه؟ وكيف لا تتفق على استنكار كل هذه الجرائم التي تتستر وراء الأكاذيب والخرافات المتعصبة؟ وإذا كانت أكاذيب الصهيونيين وخرافاتهم قد خدعت عددًا كبيرًا من الناس العاديين، فكيف استطاعت أن تخدع هذه الصفوة التي ينبغي أن تفكر لنفسها وبنفسها؟

•••

لا يستطيع المؤرخ أو الفيلسوف أن ينفصل عن عصره، ولا يملك — كما قال هيجل — إلا أن يكون تعبيرًا عن زمنه ومرآة له. وأقصى ما يطمع فيه المؤرخ أو الفيلسوف هو أن ينطق بلسان جيله، أن يصور أزمته، أن يخاطب ضميره، أن ينبه، ويوقظ، ويثير.

وليس كاتب السطور مؤرخًا ولا فيلسوفًا. إن أقصى طموحه أن يكون مجرد شاهد أمين، وهو يشترك في هذا مع كل من يكتب، وهو لا يستطيع مهما طالت به الرحلة بين العصور أن ينفصل عن عصره وجيله وأهله. ففي الوقت الذي يكتب فيه هذا الكلام، وفي الوقت الذي تقرءُونه يضحي إخوة لكم وله بحياتهم وينزفون دماءهم، لا لكي نكتب عن معنى التاريخ أو نتفلسف في أزمته. فالشيء الوحيد الذي يجدي في هذا الموقف الذي نعيشه اليوم هو نقطة الدم وطلقة الرصاص. وإن يقيننا وعزاءنا الوحيد هو أننا جميعًا نشترك في معركة واحدة كبيرة، وأننا — كما قال شكري محمد عياد في تعبير صادق جميل — نقف جميعًا في صف واحدٍ كبير، وننتظر دورنا. هؤلاء الإخوة يعطون للتاريخ بهذه الدماء التي يبذلونها معناه الحقيقي الدافئ، ويجسمون أزمته لكل من يرى، وكل من يحس. إنهم أيضًا يسألون بطريقتهم التي لا يوجد الآن سواها: إلى أن يسير التاريخ؟ وهم لا يسألون فحسب، بل يجيبون بالفعل، بالدم والشجاعة، بالمدفع والطائرة، بالعبور كل ليلة، بتثبيت العلم على الأرض التي يدنسها العدو. وهم أيضًا يخاطبون الضمير العالمي بطريقتهم: لماذا لا تستيقظ؟ أهناك دليل على أزمة الجنس البشري أوضح من هذه الأزمة التي نعيشها في هذه المنطقة من العالم؟ أهناك دليل على تقدم العلم والتقنية إلى أبعد حد وتأخر الخلق والضمير إلى أبعد حد أيضًا من هذه الدولة الصغيرة المغرورة التي تفكر تفكير العصابات، وتسرق وتنهب وتقتل كما تفعل العصابات؟

لقد استعارت التقدم العقلي والعلمي فجاءها جاهزًا من تلك الدولة الكبيرة التي تمثل النموذج الصارخ لتفوق العقل إلى أقصى حد وتخلف الضمير إلى أقصى الحدود. وإذا لم تستيقظ الآن يا ضمير العالم ويا مناط الأمل الوحيد الباقي للجنس البشري، فمتى تستيقظ؟! ألا تريد أن تفتح عينيك إلا والبشرية في قرار الهاوية؟

إلى أين يسير العالم؟

حقًّا، ما أخطره من سؤال.

وما أعظم وأنبل الجواب الذي يقدمه الأبطال.

والشهداء على أرضنا وفي كل مكان يشهد اليوم …

مأساة التطور العقلي المذهل والتخلف الخلقي البشع في آن واحد.

(١٩٧٠م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤