خواطر عن مصر

– كل شيء هنا رتيب، النهر، الصحراء، الشريط الضيق من الأرض الخضراء بين النهر والصحراء، الآثار والرسوم المنقوشة والنحت البارز عليها. دائمًا أبدًا نفس الشيء، نفس الخطوط البسيطة الجلية، تتكرر على الدوام بلا كلل أو ملل على النقيض من اللون الأجرد والصخب الأجوف الذي يغرق هذا العالم الجديد، العالم الذي تحول كل شيء فيه إلى لافتة ختمتها التقنية (التكنيك) بخاتمها.

دائمًا وأبدًا نفس الشيء علامة الروح الصوفي الأصيل.

– السكون مدرسة التصوف؛ إذ لا وجد بغير سكون.

– الخطر الذي يتهددني أن تحول انطباعات الحياة — التي تتلاحق بسرعة مذهلة وتصل إلى حد التسطح — دون الوصول إلى بعض المناطق الباطنية الغائرة في أعماقي أو التمكن من ملامستها، أي إلى العجز عن بلوغ التغيرات الحقة.

ومع ذلك فلعل كل شيء قد جعل من أجل هذه التغيرات الأولية، ولعل الإنسان الذي يعجز عن تحقيقها لا يعجزه الحفاظ على ما وصل إليه فحسب، بل يتدهور شيئًا فشيئًا في هاوية التفاهة والابتذال.

– من عايش الطبيعة فترة كافية وجربها تجربة عميقة، فلا بد أن يتحد كيانه بكيانها. إن كانت طبيعة عارية أصبح هو نفسه عاريًا، وإن كانت عظيمة أخذ عنها العظمة، وإن كانت نقية استمد منها النقاء.

– كيف لإنسان أن يجد الصحراء موحشة؟ وكيف يتسنى لمثله أن يحس أدنى إحساس بالروح المصري الأصيل أو يلمسه أو يراه؟

– صوفية العري، لماذا؟ لأن العري انفتاح، والانفتاح في صميمه انفتاح على «الآخر».

– ما إن يصبك الشعور ﺑ «الأولى» الأصيل، حتى تحس أنك غير محتاج لشيء. من هنا تأتي المتاعب العصبية التي تعانيها الأنا المغلقة على ذاتها، فإذا أحسست بالعري زالت عنك كل هذه المتاعب.

– لأن النور في هذا البلد باهر، ولأن ضوء النهار فيه ساطع، فإن ظلام الليل وثقله — ككل شيء فيه — عظيم. هنا لا يزال فضاء النجوم واقعيًّا.

– ليس من قبيل المصادفة أن نكون ورثة الروح الهللينية والديكارتية، فنحن اليوم بكل ما لدينا من المفاهيم الحديثة والمسطحة والأبنية العقلانية عاجزون عن الاقتراب من الروح المصري القديم، نحن لم نعد نعرف شيئًا عن ذلك المركز الباطن الذي انبثقت منه كل هذه الأعمال والآثار، وكانت ذات يوم تفيض واقعية وحياة.

– كلما ازداد السر ازداد الكتمان، وكلما ازداد الكتمان ازداد الفهم. غير أن المصريين القدماء لم يتكتموا فحسب أكثر مما نتكتم اليوم، وإنما فعلوا ذلك على نحو آخر مختلف تمام الاختلاف، لهذا فنحن عاجزون كل العجز عن الرجوع إليها، بل إننا لا نريد ذلك على الإطلاق.

ومع هذا فإن اللقاء المباشر مع آثار حضارة ما زالت تشع حتى اليوم بالنقاء والقوة بما لا يقاس بأي شيءٍ آخر صنعته يد الإنسان، وتجربة الشعور بأن هذا كله قد تحقق يومًا على هذه الأرض، وكان واقعًا حيًّا، كل هذا يستطيع أن يحرر شيئًا كامنًا في أعماقنا، وينفخ فيه اللهب والنار.

– من التناقض البيِّن أن نحاول الاقتراب من حقيقة الروح المصرية القديمة، أو نحاول فهمها عن طريق الدراسات المصرية والأثرية بمعناها الدقيق، ذلك أن اللوجوس (العقل، المنطق، المعنى) هو الشيء الذي لم يعرفه المصريون، لقد كان غريبًا عنهم غربة النحت المرن الطيع (البلاستيك) الذي يحيط بالجسد البشري. هنا أيضًا نجد الخلط الذي فيه المحدثون بين الوصف والتفسير.

– اللوجوس — كما عبَّر أحد الكتاب — هو التقدم الهائل الذي حققه الإغريق، وسبقوا فيه المصريين لا أحد يجادل في هذه الحقيقة، لكن السؤال الوحيد الذي يجدر بنا أن نطرحه هو: إلى أين وصل هذا التقدم؟ ومن أين انطلق؟

– الملمح الآخر الذي يميز كل ما هو مصري، وترمز له الخطوة التي تتحرك في اتجاهٍ واحد كما تدل عليه الحركة المهيبة الهادئة بوجهٍ عام شيء غريب على الإغريق.

– هوميروس وهيزيود — على الرغم مما نحس في شعرهما من كثافة وقوة وعمق — لن نجد لديهما الروح الدينية الجادة حقًّا. الملاحظة التي يبديها هيرودوت — فيما كتبه في تاريخه عن مصر — من أن المصريين كانوا أشد الناس ورعًا وأكثرهم تقوى (الباب الثاني، ٣٧) وهربه في نفس الوقت من المشكلات الدينية الحقة (الباب الثاني، ٦٥).

– من هذه الناحية يكون نيتشه محقًّا فيما زعمه عن أفلاطون من أنه «كان بغريزته عدوًّا للروح الإغريقية»، وأن المصريين هم الذين «أفسدوه»، فلا شك أن هناك نوعًا من «عدم الوحدة» يسري في جميع أعمال أفلاطون، فنحن نجد لديه الطابع الصوفي والديني القوي من ناحية، كما نجد لديه من ناحيةٍ أخرى نزعة قوية إلى الأفكار والمفاهيم المجردة، وميلًا واضحًا إلى الاستمتاع بها، هذه الوحدة المفتقدة تتغلغل في تفاصيل محاوراته، بل إنها لتميز هذه المحاورات في مجموعها، ويمكن أن نقول أنها تسربت من أفلاطون إلى الفلسفة الغربية بوجه عام.

– هؤلاء السائحون المتعجلون، بأعصابهم الثائرة وكاميراتهم الفضولية، يتوهمون أنهم عرفوا سر ذلك العالم القديم، وسر العالم على وجه الإطلاق بمجرد سماعهم بعض الأخبار السخيفة المبتذلة، وإضافة بعض تعليقاتهم الفكهة إليها. لقد فقدوا القدرة على الإحساس بما ينطوي في أصغر قطعة من آثار ذلك الفن، وبالبعد السحيق الذي جاء منه.

– قاعة المومياوات في المتحف المصري بالقاهرة، يستطيع أي إنسان اليوم أن يتطلع إلى هؤلاء الملوك «وجهًا لوجه». يستطيع أن يرى شارة رمسيس الثاني المهيبة التي حرك بها يده، وهو على فراش الموت، ولن يكلفه هذا سوى خمسة وعشرين قرشًا فوق تذكرة الدخول، وهو مبلغ إضافي يتخوف أغلب الزوار من التورط فيه، وبهذا يجد الأموات على أقل تقدير ما يحميهم من التطفل والفضول.

– «قديمًا كان العالم يزخر بالأسرار» فهل خلا منها اليوم؟ ولكن ليس السبب في هذا أننا قد تمكنا من اكتشاف «السر»، بل إننا استبعدناه من عالمنا وشوهنا نظرتنا بالتفسير المزعوم للطبيعة، وأفسدنا إحساسنا به، حتى ضمر وأوشك أن يتلاشى.

– قديمًا على سبيل المثال كان المكان الذي تغرب فيه الشمس لا يزال سرًّا — ولا بد من التفرقة بين سر من الأسرار وبين السر — وكان انتقالها مرة أخرى من الغرب إلى الشرق لغزًا يحير القدماء. «وما من أحدٍ يعرف الطرق التي تأتي عليها أو تذهب منها» (نشيد الشمس لإخناتون)، يظن اليوم بعض الناس أن العالم لم يعد سرًّا بعد المعلومات الفلكية والفزيائية التي توصلنا إليها. قديمًا كان منبع النيل لا يزال سرًّا من الأسرار، وكذلك كان فيضان النيل في فصل الصيف، وهو أشد فصول السنة حرارة وجفافًا، أما اليوم — كما يتصور بعض الناس أيضًا — فلم يعد هذا سرًّا بعد ما حصلناه من معارف جغرافية وجيوفزيائية (عن طبيعة الأرض).

– من ذا الذي يجادل في أن الروح اليونانية هي أصل الروح الأوروبية ومبدؤها؟ ولكن من ذا الذي لا يساوره الشك اليوم في الروح الأوروبية؟ (بشرط ألا ننظر لهذا المفهوم بمعناه الجغرافي، ولا بمعناه السياسي، بل بمعناه الواسع الذي يضم الروح الأمريكية في بعض مظاهرها كما يضم كل ما تحدده التقنية الحديثة وتختمه بطابعها)

– بدأت «النزعة الإنسانية» مع بداية الروح الإغريقية الخالصة، أي إنها لم تبدأ مثلًا مع سقراط وأفلاطون أو مع السفسطائيين.

متحف الآثار الأهلي في أثينا، القطعة رقم ١٥١١٨ «تمثال إله هرميس أو شاب» من الصعب علينا أن نحدد ذلك من العمل الفني وحده، أصبح الآلهة بشرًا خالصين، ولكن على مستوى أكبر.

– عندما نرى قطار الأنفاق (المترو)، ونسمع قعقعته، وهو يعبر السوق الإغريقية القديمة (الأجورا) في طريقه إلى بيرايوس، بحيث يتعذر على الإنسان أن يجد السكينة التي تعينه على تأملها، وعندما تلاحظ أن «الأكروبوليس» يقع الآن وسط مدينة مخيفة ومزعجة، فلا بد من القول بأن هذا كله ليس من قبيل المصادفة، لقد كان منذ البداية كامنًا في البذرة …

– الأكروبوليس، وتلتقط الكاميرات الصور.

– واقع فن التصوير (الفوتوغرافيا) شيء، والواقع الذي يصوره تصورًا دقيقًا — وإن يكن في نفس الوقت تصويرًا زائفًا — شيء آخر. قد تبدو هذه ملاحظة تافهة، وهي بالفعل كذلك، لكن هل لا يزال الإنسان الحديث — الذي تتساوى عنده كل الفروق يومًا بعد يوم — يحس حقًّا بالفارق بينهما؟ ما عاد الناس يرون، إنهم يصورون.

– المعابد الإغريقية، لا شك أن الإغريق كانوا يحتفلون فيها بالعالم على نحو نادر وفريد، غير أنها لم تعد مكانًا قدسيًّا بالمعنى المباشر للقداسة كما كانت عند المصريين، ولهذا أيضًا خلت أعمدتها وجدرانها من الكتابة الدينية (التي لم تقتصر عند المصريين على الكتابة الهيروغليفية، بل كانت تشمل كذلك الرسوم والنحت البارز).

– الآثار والمباني المصرية لا تعد ضخمة على الإطلاق، أو هي على الأقل ليست كذلك بالمعنى الذي يفهم من ضخامة «الكولوسيوم الروماني». إنها على أقصى تقدير أعمال هائلة، وذلك إذا لم نفهم هذه الكلمة الأخيرة بالمعنى الذي يحضر في ذاكرة المتأمل إليها كما يقول رودلف أنتيس: العظمة الحقيقية لا تقاس بمقياس كمي. حتى القطع الضئيلة الحجم من الفن المصري القديم تشع منها في معظم الأحيان عظمة لا توصف.

– لماذا اتجهوا لكل ما هو عظيم وجليل؟ لا لأنهم كانوا يبحثون عما هو ضخم وهائل، بل لأنهم كانوا يريدون ما يزيد عن كونه مجرد شيء بشري (لا لكل يزيدوا من تأكيد أنفسهم كبشر كما يحدث الآن في المنشآت الصناعية الضخمة، بل لكي يتمثلوا ضآلة كل ما هو بشري محدود، ويصوروه لأنفسهم في صورة حية ملموسة).

– إن الإنسان وكل ما هو مجرد شيء إنساني يصغر ويتلاشى أمام أعمالهم في البناء. لهذا فإن الأرقام والأعداد لا تفلح في تقدير أبعاد هذه الأعمال، على عكس المتبع مع المنشآت الصناعية الحديثة والمساكن الضخمة، ذلك أن عظمتها تفوق كل تصور.

– يبدو أن «أبا الهول» الراقد في الجيزة هو أفضل مثل يصلح لتوضيح الفارق بين الجلال والضخامة، فمع أن أبعاده تتجاوز كل مقياس بشري، شأنه في هذا شأن الأهرام التي يتصل بها أوثق اتصال، فإن المتأمل له لن يحس أدنى إحساس بالضخامة أو الهول، بل سيشعر حياله بالعظمة الكونية.

– حتى التمثالان الجباران الجالسان على واجهة معبد أبي سمبل، لا يمكن وصفهما بالضخامة بالمعنى المألوف من هذه الكلمة، بل الأولى أن يقال أنهما أجل وأعظم من كل مقياسٍ بشري.

– من الخطأ أن نفتش عن أصل التقنية والنزعة التقنية عند المصريين، كما أن من الخطأ أن نبحث عن أصل الدين عند الإغريق. هذا على الرغم من أن المصريين قد نجحوا في حل أعوص المشكلات «التقنية» بطريقة لا تزال غامضة حتى اليوم. إنهم لم يتغلبوا أبدًا على المصاعب «التقنية» بوسائل تقنية.

وإذا كانت التقنية الحديثة قد التهمت هذه الآثار كما التهمت كل شيء على هذه الأرض، فيبدو أنها استطاعت أيضًا أن تصمد دونها.

– صحيح أن السائح الفضولي النهم إلى كل مثير يصل إلى غرفة الملك المنهوبة التي تسطع بأنوار النيون في الهرم الأكبر على طريق مريح وفوق سلالم مأمونة، ولكنه لا يصل إليها قبل أن ينحني ويحني رقبته بما يناسب المقام.

ولا زالت هناك غرف ملكية وقبور لا يهبط إليها الإنسان إلا بالجهد الجهيد على ضوء الشموع المرتعش.

– «… لقد خلقوا أعمالهم كما خلق عندنا جهابذة الفن في العصر الوسيط أعمالهم لكي تراها عين الله …» غير أن هذه التماثيل لم تخلق للرؤية على الإطلاق، لا من عين بشر ولا من عين إله.

– لم يكن هذا الفن استطيقيًّا — فالجميل شيء لم يبدعه إلا الإغريق — ولا كان كذلك دينيًّا، لم يكن «دينيًّا»؛ لأن غايته كانت غاية دينية مباشرة.

– «كان الفنان المصري كذلك صانعًا للشعائر والطقوس.» ولكن هذه العبارة وإن بدت قريبة من صميم الموضوع تمثل وجهة النظر الحديثة في التصور والتفكير. إن الفنان المصري لم «يصنع أو ينتج» شيئًا، فهذا شيء لا يقوم به إلا الإنسان الحديث الذي طبعته النزعة التقنية بطابعها. وهل يعني الكلام عن الشعائر والطقوس إزاء هذه الأعمال الفنية سوى محاولة تفسير المجهول بمجهول آخر، أي عدم قول شيء على الإطلاق؟

– لوح «نارمر» بين عصر ما قبل التاريخ والعصر التاريخي. الوحشان اللذان روضهما الإنسان يصوران برقبتيهما المتشابكتين دائرة العالم.

– أبدًا لا تنفصل التماثيل انفصالًا تامًّا عن كتلة الصخر التي نحتت منها، إنها تظل مغمورة فيها، بل ما أكثر ما تكون مدفونة فيها، على العكس من النحت الإغريقي المرن، ويتضح هذا بوجهٍ خاص حين يكون الارتباط بالصخر ظاهرًا للعيان، كما هو الحال في النحت البارز.

– كل الإشارات من الإنسان للإنسان، ومن الإنسان للرب، ومن الرب للإنسان إشارات حيية ومقتصدة. غياب كل انفعال وكل زخرف. التطابق بين الاعتدال والقوة.

– الأيدي التي تهب الهدايا والقرابين، وتتلقاها لا تضم وتمسك وتحمل، بل تلمس فحسب، لا تقبض على الشيء أبدًا ولا تتسلط، إنها تومئ وتشير، وتظل وتحمى، وتبقى على الدوام متزنة وديعة.

– لم يتصوروا الحيوانات تصورًا بيولوجيًّا (حيويًّا) ولا تصورًا تطوريًّا عقلانيًّا، بل إنهم لم يتخيلوها على صورة الإنسان، تماثيل الآلهة التي تعلوها رءوس الحيوانات لم يقدها الفنان على قد الإنسان، وإنما عبر بها وهو في طريقه إلى «الآخر»، إلى ما يزيد عن كونه مجرد إنسان.

– الكرنك، إنه باقٍ هناك، دائم وكل ما عداه يزول، مكتف بنفسه حقًّا، مرتفع فوق ذكريات التاريخ وأبنية العلماء.

– الكرنك، معابد فوق معابد، ردهات بعد ردهات، أحواش وراء أحواش، غابات من الأعمدة، بحيرات مقدسة مدينة كاملة من المعابد يستطيع الإنسان أن يتجول فيها، ويتوه عن نفسه ويفقدها، أعني يجدها، على العكس من الإكروبوليس في أثينا، حيث لم يقدر المرء على ذلك، على الرغم من امتداد رقعته، فكل شيء فيه مقدود على مقاس الإنسان، وكل جميل فيه متزن ومتناسب ومحسوب.

– الكرنك، هناك شيء أبدى يحوم فوقه، شيء عجيب يأخذك ويستحوذ عليك. وأنا أدور وأدور حول البحيرة المقدسة والمسلات المنكفئة بجوارها، والجعران الضخم الملقى في أحد أركانها.

من أين يأتي هذا الشعور بأن ثمة شيئًا يستحوذ عليك؟ لأن ما أبدع هنا لم يكن إلا تعبيرًا عما هو كامن في طبيعة هذه المنطقة من الأرض، وما كانت دائمًا تشير إليه إشارة كونية.

هذا هو سر الطاقة السحرية العجيبة التي لا يمكن أن تنبعث على هذه الصورة من أي عمل بشري بحت، ولا من أي عمل فني خالص. من لم يلمس هذا ويحسه، فلن يجد في هذه الأشياء جميعًا — كتماثيل الآلهة ذات الرءوس الحيوانية — سوى مسوخ «بشعة».

– مدينة الموتى في طيبة، مدافن الأشراف على حافة الصحراء، أما قبور الملوك ففي عمق الصحراء نفسها.

– الرسوم المنقوشة على جدران القبور. من العسير أن نقول أن الموت كان بالنسبة لهم عدمًا مجردًا، من الصعب أيضًا أن نقول إنهم غفلوا عن بشاعته، أو قللوا من شأنها.

– مركب الشمس، في مقبرة رمسيس السادس الفسيحة، على جدار الغرفة الخلفية الأخيرة — غرفة الموتى — ترفعه الربة الراكعة بذراعيها المفتوحتين، ويديها الممدودتين، بحيث يمكن أن يسقط ضوء النهار الذي ينفذ من باب المقبرة البعيدة فوق قرص الشمس المرفوع مباشرة على الرغم من أن الغرفة مدفونة في قاع الأرض، بينما يظل كل شيء، بما في ذلك تابوت الملك، غارقًا في الظلام.

– الدير البحري، كلما ارتقى الإنسان الدرجات العريضة لمعبد الملكة العظيمة الذي يسبح في نور الصحراء، وترف ألوانه الصفراء المائلة للبياض، ازداد إحساسه بجبروت الجبل الذي نحت في أحضانه، حتى يصل في النهاية إلى المصطبة العليا بالقرب من قدس الأقداس المؤلف من ثلاث غرف بنيت خلف بعضها البعض، ويرى نفسه في مواجهة الجدران الصخرية الوعرة كأنه وسط جبل عال، ولا يدري من أي شيءٍ يعبر عن ذهوله ودهشته، أمن الكتلة الصخرية المهشمة المهترئة في بطن الجبل الرائع، أم من الخطوط البسيطة الجليلة المجردة في معمار المعبد؟ أما أكثر ما يثير الدهشة، فهو التناغم بينهما.

هنا حقق الإنسان أسمى ما يمكن تحقيقه، طبيعة عظيمة وفنًّا عظيمًا بجوار بعضهما البعض مباشرة.

– صوفية الجبل الماثلة في أنقى صورها في معمار هذا المعبد مثل صوفية الصحراء المنبسطة في معمار الأهرام.

– سر التجريد في هذا المعمار، بأبعاده ومنافذه الكونية الخالصة الراقدة في الفضاء الكوني. من هنا يجيء تأثيرها المتزايد في ضوء القمر.

– في هذه الطبيعة، في حواف جبالها، في طابعها الفريد الذي لا يوصف، تعثر على سر أبي الهول الأكبر، سر الأهرام، سر المباني والتماثيل المصرية القديمة بوجهٍ عام. إنه سر لم يبتدعه بشر، بل كان دائمًا هناك. كان الفنانون القدماء يعملون بوحيٍ من هذا التلاحم والاتصال، لم يخترعوا شيئًا ولن يبتدعوا أي شيء من العدم، بل اكتفوا باستخراج السر الكامن فيه. ترى هذا أوضح ما تكون الرؤية في معبدي أبي سمبل، لم يصنع الإنسان هنا شيئًا ولم يضف أي شيء، وإنما نحت كل شيء من باطن الصخر.

«… يبدو المعمار والطبيعة من خلق فنانٍ واحد» (فلوبير)، بيد أن هذه العبارة تقوم على تصور شخصي للخالق، وهو تصور لا يلائم هذا المجال.

– ليس عليك إلا أن تستغرق في هذه الصخور المهشمة الناتئة من الجبل الصحراوي الشاخص المتلألئ بالأضواء، وهنالك تجده ليلًا على ظهر السفينة عبر النوبة. الشواطئ الجبلية الجرداء على الجانبين ماء النيل المخضر المائل للاصفرار ينساب كسولًا، من فوقه السماء السوداء المتألقة بالنجوم، الجو اللين الثقيل، كل شيء يبدو كأن الإنسان يعبر أحد أنهارهم المتجهة صوب العالم السفلي.

– أبو سمبل، تبدأ الرحلة النيلية من أسوان لتمتد بنا مسافة ثلاثمائة كيلومتر في عمق الجبل الصحراوي الرائع العاري، هذا وحده شيء يهز النفس، ويستحوذ عليها، ثم نلمح هذه المعابد الصخرية والشمسية التي يشع منها سحر قوي وعجيب، لكأن هذا كله وهم حقيقي في عالم كهذا العالم الذي نعيش اليوم فيه، أو بالأحرى وراء كل عالم …

– لماذا يختلف تأثير هذه المباني والتماثيل تمام الاختلاف عن تأثير أفضل الأعمال في الفن الغربي الكلاسيكي، ولماذا يفوقها عظمة وجلالًا إلى ما لا نهاية؟ لأن كل شيء قد نشأ عن إحساس كوني وعلاقة كونية مباشرة، مع العلم بأن صفة «الكوني» هنا قريبة ما وصفناه بأنه «سحري». كلاهما بالطبع من قبيل الأوصاف التي يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن حيرته وارتباكه، ولكن أين الكلمة التي لا تعبر في هذا المقام عن الحيرة والارتباك؟

– هذه التماثيل لا تجلس ولا تقف ولا تخطو في المكان الدنيوي أو «العالمي»، بل في الفضاء الكوني، إنها لم تعد في هذا العالم.

– عن فكرة العلو (الترانسندنس) في التكرار بمعناه الدقيق. ألا يقوم التأثير الهائل المنبعث من تمايل الملوك، الآلهة والحيوانات المتشابهة المتجاورة في نهاية الأمر على هذا التكرار الأصيل؟ ألا ينفرد به الفن المصري عن كل الفنون؟

– كلما أطال الإنسان التأمل في وجوه هؤلاء الملوك، الآلهة التي تشبه وجوه الرضع الذين شبعوا من أثداء أمهاتهم، ازدادت ابتسامتهم ألوهية، وسموا على العالم. من أي مكانٍ نظرت إليهم خيل إليك أنهم يشيرون إليك مبتسمين.

– التعارض الواضح بين السد الجديد بالقرب من أسوان ومعابد أبي سمبل يلقي ضوءًا على الصراع الباطني الذي يعانيه العالم الحديث. ذلك أن ماهية هذا الصراع تكمن في أنه لا يمكن أن يحل بهذه الصورة، فلا الإنسان بقادرٍ على التخلي عن التقدم التكنولوجي لصالح المعابد، ولا هو بقادر على التضحية بهذه الشواهد الفريدة على الشعور الديني. ويظهر القلق والارتباك أوضح ما يكون عندما يزعم البعض أن حل هذا الصراع لا يعدو أن يكون مشكلة تقنية ومالية. ولا مناص من القول بأن المعبد الذي ينقل من مكانه وتضاف إليه بعض الرتوش الجمالية لا بد أن يفقد قوته السحرية، إنه لن يكون أكثر من موضوع يصلح للدعاية السياسية والسياحية.

– دندرة، معبد متميز، مفعم بالأسرار، وإن لم يكن السر هنا بنفس القدر من الانفتاح والقوة اللذين كانت تتسم بهما أعمال البناء في العصور المصرية المزدهرة.

– دندرة، تسير الأقدام على طريق صاعد باستمرار من غرف الموتى المدفونة في باطن الأرض في ساحة المعبد، إلى سلالم ترتفع ارتفاعًا خفيفًا بين جدران المعبد الشامخة لتؤدي إلى المصطبة الخلفية تحت السقف، وفيها محراب «هاتور» المفتوح على السماء، حتى يصل المرء أخيرًا إلى أعلى الدرج الأمامي الواسع، ويجد نفسه وحيدًا مع الصحراء وجبالها.

– تتناغم مع هذا كله صور النجوم والنقوش السماوية المنتشرة في كل مكان، كل شيء يعبر عن الإحساس الكوني.

– الأهرام، هل وجد على هذه الأرض شعب اتجه مثل هذا الاتجاه الخالص الحاسم نحو «الآخر» كما فعل الشعب المصري عندما شيد الأهرام في قلب الصحراء؟

– الأهرام، أشكال كونية خالصة يلعب النور والظل على جوانبها لعبًا هندسيًّا، وترتفع سامقة في المكان، المكان الحقيقي، أي المكان المتعالي، لا المكان الأرضي المحدود الذي يقيم فيه الإنسان.

– بوجه عام لا يزال كل شيء عند قدماء المصريين يحمل طابع المكان، فهو مكاني في هندسته، مكاني في سكونه، مكاني في تعاليه.

– تكمن ماهية المكان في أبعاده، وفن التصوير المصري الذي يميل كما هو معروف إلى التسطيح لا يتخلى عن المكان، كما قد يبدو لأول وهلة، وإنما يتخلى عن كل وهم مكاني، الأولى أن يقال أنه يلجأ إلى العديد من مستويات الإسقاط؛ لكي يزيد من الإحساس بالمكان إلى أقصى حد.

– يبدو أن من أهم خصائص الأهرام أنها لم تكن مجوفة، بل كانت كتلة سميكة متماسكة. ومع هذا فإن كتلتها الصخرية لا تضغط على الأنفاس ولا تكتمها؛ إذ نشعر أمام سطوحها المائلة كأننا نواجه بحرًا هائلًا من الأحجار يجرفنا تياره الرهيب، ويحملنا بعيدًا.

ويتجدد ذهولنا ونحن نقف مشدوهين أمام هذه السطوح المستوية التي تندفع بقوة إلى أعلى، وكأنها رمز الهروب إلى الأعالي.

– هذه الومضات الرائعة — كاللمحات المتطلعة إلى أعلى — على الجدران المائلة للأهرامات، وبخاصة أضواء الليل. من تصور أن من الضروري تسلق الأهرامات أو «قهرها» فقد أخطأ بالغًا، وأدار فكره نحو هذا العالم. والتجربة التي يظن السائح الحديث أنه عاشها بعد مشاهدة هذه المحاولات السخيفة ليست تجربة مقطوعة الصلة بالروح المصرية القديمة فحسب، بل هي غريبة عليها، ومتعارضة معها، ولا تتصل أدنى اتصال بعلم الآثار.

– فالظاهر أن من أهم ما يميز الأهرامات، سواء كانت مدرجة أو مستوية، إنها لم تكن مهيأة للتسلق عليها، كما أنها كانت بطبيعتها عصية على البشر، أضف إلى أهم خصائصها أنه كانت تتبعها في الأصل منطقة واسعة تضم المعابد وأماكن تأدية الشعائر والطقوس.

– لم تجعل كل هذه الأشكال الهندسية البسيطة — كالأهرامات والمسلات والبوابات — من أجل الصعود إلى السماء، فلا أثر هنا لما كان يسمى في العصور الوسطى بالسلالم الصاعدة إلى الجنة، ولا من أجل الانتفاض عليها، بل جعلت — إن جازت هذه الفكرة — لتحويل القوى السماوية نحو الأرض وشدها إليها. إنها — كما يقول الأثري الفرنسي ساميفيل — مغناطيسات كونية.

– غرفة التابوت داخل هرم خوفو، مكان على شكل مكعب دقيق، مكون من كتل جبارة من الجرانيت ملصقة ببعضها البعض بلا أسمنت أو لحام ولا شيء غير هذا. أقصى حدود البساطة، ولكن أية عظمة وأي اقتدار وأي جلال:

رقد الميت هنا حرًّا من كل مشاغل العالم، ومن كل صخب أو صغار، رقد رقدة الملوك.

– وحده.

صحيح أنه لم يرقد في مكان حر مفتوح، ولكنه كان في مكان، وإن يكن مكانًا للموتى.

– نفس الشيء يتكرر هنا أيضًا عند الأهرامات. فالإنسان الحديث الذي يغلب عليه النزق والسطحية لا يمكنه أن يأخذ ذلك الشيء الأصيل الذي دفع شعبًا كاملًا إلى بنائها مأخذًا جادًّا — وأعني به المنبع الذي ينبثق منه الآخر — ولا يمكنه أن يفهمه على حقيقته، وإنما تستلفت انتباهه مختلف التصورات النفعية والغرضية من عقلية وتكنولوجية، وهي تصورات تخلع على الأهرامات بصور تتفاوت فيها البراعة والحذق.

غير أن أمثال هذه الأعمال لم تقصد لمنفعة أو غرض، بل لم يكن لها هدف فني أو جمالي، وهذا هو الذي يجعلها عديمة المعنى في نظر الإنسان الحديث. إنها لم تشيد من أجل شيء، أي لم تشيد من أجل شيء متصل بهذا العالم، ولكننا لا نتصور ولا نملك القدرة على تصور عمل ليست له غاية مرتبطة بشيءٍ يتعلق بهذا العالم. الدليل على هذا أن مشاعرنا الدينية المزعومة لا تكاد تخرج في معظمها عن أن تكون مشاعر دنيوية مقنعة.

– قوم تحركوا في اتجاه مختلف تمام الاختلاف عن الاتجاه الذي نتحرك فيه اليوم. من المستحيل — إن أذن القارئ بهذا الزعم الأحمق — أن نتصور ما كان يمكن أن يحدث لو أن الإنسانية سارت في ذلك الاتجاه.

– آثار الحضارة المصرية القديمة مهولة فيما بقي منها، أكثر هولًا فيما أصابها من دمار رهيب.

– نصيحتان تتكرران دائمًا فيما أثر من الحكمة المصرية القديمة:
اتبع قلبك.
احتفل بيوم جميل.

هذه النصائح قد تبدو لنا اليوم سخيفة، ولما كان القلب هو أشد الأعضاء خفاء في باطن الإنسان، فإن حقيقة ما يأمر به تظل خافية، كما أن الاحتفال الذي تتحدث عنه — لاحظ أنها تنصح بالاحتفال لا بالاستمتاع — يظل هو أصعب الأمور.

– أدهش المدهشات في هذا البلد هو أقدمها، الهرم المدرج في الصحراء بالقرب من سقارة.

– ما الذي يجعل الأهرامات المدرجة أقوى تأثيرًا من الأهرامات المستوية؟ لأن للهرم المدرج ذبذبة تجعله أشبه بنهرٍ من الأمواج الهائلة التي تتدفق نحو السماء. إنه يجمع بين السكون والإيقاع.

– أنصاف الأعمدة والأعمدة المتموجة وجدران السور الكبير المحيط بهذا الهرم — وإن كانت أقدم الأعمال التي شيدتها البشرية — لا يبدو عليها أي أثر للجهامة والشيخوخة، فأحجارها الجيرية البيضاء المائلة للاصفرار تبدو ناصعة، حتى ليخيل للمرء أنها بنيت حديثًا أو أنها تنتمي إلى حضارة كاملة سحيقة القدم هبطت على الأرض من عالم آخر.

من هنا أيضًا يأتي سر ذلك السحر العجيب المنبعث من هذه المنطقة.

– سقارة، ازدهار النور. رفيف الهواء والصحراء التي تقع فيها هذه الأهرامات بمعابدها وقبورها. هذا النور الوهاج الذي يحرر النفس.

– لحظات من الانفتاح الكوني، أي الانفتاح الأخير، جيشان المنبع: صفاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤