هذه الخواطر …

ما أجمل أن نرى بلادنا بعيني الغريب، وما أندر هذه التجربة في حياتنا. تمر الأيام بعد الأيام ونحن ندور وندور، معصوبي الأعين، مؤرقين بلقمة العيش، غارقين في دوامة الأضواء والألوان والأصوات والأنباء، ضائعين في زحام الهموم الصغيرة والمشاغل والصراعات الحقيرة، بعيدين عن أقرب الأمور إلينا، عاجزين عن الخروج من الدائرة والارتفاع فوقها والبعد عنها. ونحاول في لحظات نادرة أن نخلص أنفسنا، فنكون أشبه بذلك البطل الروائي المسكين الذي أراد أن ينتشل نفسه من المستنقع فراح يشد شعر رأسه بكل ما أوتي من قوة! فإذا زارنا الغريب بضعة أيام رأى ما لا تراه أعيننا واندهش من أقرب الأشياء إلينا، واستطاع أن يبصر «الغابة» دون أن يتوه في زحمة الأشجار، وأن ينظر نظرة الطائر بغير أن يضيع بين النتوء والتضاريس. وندهش لرؤيته ونعجب لصدق نظرته. ونتعلم أن البعد شرط القرب، وأن العلو فوق كل شيء لا غنى عنه للوصول إلى قلب أي شيء.

فإذا كان هذا الغريب العزيز إنسانًا أحب بلادنا وتعاطف مع شعبنا، وزارنا مرتين ليلتقي لقاء حيًّا مع آثار حضارتنا وشواهد تاريخنا وضميرنا، واقتفى آثار فيلسوفنا — «الأسيوطي» — أفلوطين — الذي كدنا أن ننساه على الرغم من أثره العظيم على تصوف الغرب والشرق، إذا كان هذا الغريب القريب أستاذًا للفلسفة، وعالمًا في الفيزياء والرياضيات، ومتصوفًا رقيق الحس دقيق العبارة، توقعنا أن تكون رؤيته أوضح وأتم، وأن يكون حوارنا معه متعة للقلب والعقل.

وفولفجانج شتروفه هو أستاذ الفلسفة في جامعة فرايبورج — وهي نفس الجامعة التي علم بها إدموند هسرل صاحب الظاهريات ومارتن هيدجر فيلسوف الوجود — وقد شرفت بالدراسة على يديه كما شرفني بإهداء هذه الخواطر إليَّ. وهو رجل دأب على القيام برحلات فلسفية طاف فيها معظم أنحاء العالم، صحاريه وغاباته وجباله وسفوحه والثلجية، بحثًا عن السكينة والوحدة التي تمكنه من تسجيل خواطره بعيدًا عن كل صوت وكل إنسان. وهذه الخواطر التي قرأتها الآن هي أحد فصول كتابه «الملمح الآخر» الذي نشره سنة ١٩٦٩م، وسجل فيه — كما سجل في كتبه الأخرى الثلاثة «نحن وهو»، الانتقال إلى الواقع، و«الواقع الذي لا يصدق» — مجموعة كبيرة من الخطرات والأفكار المفعمة بالعاطفة الجياشة والمفارقة اللماحة والتجربة الحية التي تحاول أن تصف ما لا يوصف، وتقول ما لا يقال. فالخاطرة الدقيقة الحادة، والحكمة القصيرة الموجزة، واللمحة الشفافة الذكية هي الجسر الوحيد الذي يستطيع أن يعبر عليه إلى «الواحد» الذي يحيا وحيدًا معه — كما تقول عبارة أفلوطين الخالدة — ولأنه هو «الآخر» المختلف عن كل شيء؛ إذ ليس كمثله شيء، تجده يبتعد عن لغة التفسير والوصف والتحليل بتحديداتها الضيقة، وأوعيتها الجاهزة إلى لغة الخاطرة المتقدة والفكرة الخاطفة. وهو بهذا يؤصل تراثًا عريقًا تلقاه في أمثال الشعوب، وأقوال الحكماء الشعراء من بوذا ولاوتسي وكونفوشيوس إلى الفلاسفة قبل سقراط، ومن ابيكتيت وماركوس أورليوس إلى متصوفة المسيحية والإسلام، ومن باسكال ومونتني والأخلاقيين الفرنسيين إلى جوته ولشتنبرج ونيتشه. وهذه الخواطر شواهد على تجربته الكبرى التي يعيش ويخلص لها منذ أكثر من ثلاثين سنة. وهي جميعًا — إلى جانب كتابه «الأكاديمي» الوحيد الذي حاول فيه أن يتناول تجربته من خلال التراث الفلسفي (وأقصد به كتابه «فلسفة العو» الذي تشرفت بنقله إلى العربية، وأرجو أن يرى النور عن قريب)١ — تسجل مجاهداته المتصلة في سبيل الوصول إلى الواحد، أو وصول الواحد إليه، وتصف مختلف السلالم الجدلية التي لم ينقطع عن تجربة الصعود عليها لعله أن يمسك شعاعًا من بريق «الآخر»، وهذه التجربة التي أشار إليها عرضًا في خواطره عن «مصر» هي تجربة «العلو» (أو ما يعرف في المصطلح الفلسفي باسم الترانسندنس) والمجال لا يتسع لشرح هذه التجربة، أو الحديث عن أبعادها وأعماقها وظلالها، فهي تجربة كما قلت.

والتجربة لا تريد منك إلا أن تجربها وتعانيها. وكل وصف أو شرح أو تحليل لها لا بد أن يشوهها ويسطحها ويخنق نبضها الحي. وكل «كلام» عنها يهددها بالضياع؛ لأن اللغة التي خلقت بطبيعتها للتخاطب اليومي، ووصف الأشياء لا يمكن أن تصف ما لا يوصف أو تقول ما يقال. وكل محاولة لفهمها عن طريق العقل ومفاهيمه وتصوراته تظل قاصرة عن لمسها والاقتراب منها. هل معنى هذا أن نعطل اللغة أو الفكر؟ بالطبع لا. فهما كل ما نملك، ولا بد أن نواصل الرحلة معهما إلى أقصى الحدود التي يطيقانها، ثم نتخلى عنهما — كما تقول عبارة فتجنشتين — كما نتخلى عن السلالم بعد الوصول إلى السقف. هناك تكون الرؤية بعد أن يعجز الفكر، تكون المشاهدة بعد أن يقصر العقل، وتحق المفارقة والتناقض وجدل العاطفة المعذبة بعد أن تيأس أجنحة المنطق المألوفة واللغة المألوفة.

لنقل باختصار أن تجربة العلو هي صميم تجربة التفلسف. وإذا كان التفلسف — أي السؤال المتصل عن المعنى والكل والقيمة والمصير — هو الذي يضمن للإنسان إنسانيته ويعصمه من التدهور إلى درج الحيوان والآلة والرقم، فإن العلو يصبح ضرورة يحتمها الوقوف في وجه الأخطار التي تهدد الإنسان اليوم، الآلية والتسوية والتسطيح والغرور العلمي والمذهبي والثرثرة والضجيج والابتعاد عن سر الواقع وضياع الجانب الأبدي الخالد فينا ضحية التشتت والنهم إلى المنفعة والجشع إلى التصارع والتظاهر. لا بد إذًا من العلو فوق كل شيء على الإطلاق. كيف؟ عن طريق التغلغل في كل شيء إلى الأعماق. قد تبدو هذه مفارقة، ولكنها تجربة المتصوف في كل العصور، أن تتخلى عن كل شيء لكي تجد كل شيء، أن تترك العلائق وتتمسك بالحقائق، أن ترتفع فوق العالم وكل ما يمت له بسبب؛ لكي ترجع إلى «العالم»، أن تعلو فوق الواقع الحسي الملموس؛ لكي تستطيع بعد ذلك أن تلمس سر «الواقع»، وتراه بعين الدهشة التي كانت أصل الفكر، وتتحول إلى «الآخر» المختلف عن كل ما هو شيء، وتحتمل أقصى ما يمكنك من الصبر والمشقة والجهد؛ لكي تستطيع بعد ذلك أن تحس بواقع كل شيء، لكي يعود «الأخضر أخضر» والواقع واقعًا. والتجربة شاقة وطويلة، لا بد أن تكابدها بنفسك، لا يمكن أن ينوب عنك أحد في تحملها، لا تنمو إلا على أرض السكينة والتوحد، لا تثمر إلا إذا سرت على أشواك الجدية والصبر. قد تعود منها خالي اليدين، وقد ترتد عنها بلا شيء، ولا بد أن تعيد الكرة، وتعاني التحول من الباطن، وتصمد «للهجوم» عليها من جديد كما يصمد الفارس العنيد للقلعة الغامضة المنيعة. هناك بعد تجارب وتجارب، قد تلمس «الآخر» أو بالأحرى يلمسك، قد تحس بالمعنى والحرية الشخصية والواقع، قد تعيش في ماضٍ لم يعد له وجود، ومستقبل لم يوجد بعد. وحين تجد «اللحظة» — فاكهة الأبدية — ستحس أن الماضي أصبح حاضرًا كان، وأن المستقبل حاضر لم يأتِ، وترتفع «الأنا أو الذات» الحقيقية من تحت ركام الأنا أو الذات الغارقة في المحسوس، المشتقة بين الصغائر، الجزعة الموزعة بين الرغبات والآمال والمنافع والغايات. هناك تتعلم أنك تقدر على العلو فوق نفسك وفوق العالم؛ لكي تكتسب نفسك الحقيقية والعالم الحقيقي. هناك تعرف أن فيك شيئًا أبقى من الكواكب والنجوم، وتكتشف أن الواقع الحقيقي — الذي طالما أخفته المفاهيم العقلانية المسطحة والتفسيرات العلمية أو شبه العلمية — أقرب إليك مما كنت تتصور، بل هو ماثل في كل شيء حولك، مهما صغر حجمه وضؤل شأنه. ليس معنى هذا أن تنكر «العلم» أو تلغي «المنطق» أو تزهد في «العمل» — فهي الأسس التي لا غنى عنها لحياتنا — ولكن معناه أن نرتفع إلى المستوى الذي تفترضه كل هذه المستويات كما يفترضها، والذي لم يخل منه فكر حقيقي ولن يخلو منه. وما أشد حاجتنا إلى هذا العلو في زمن يحاربه ويلغيه، زمن أصبح الكلام فيه عن السكينة، والوحدة، والمعنى، والشخصية، والحرية كلامًا يثير الشبهات. والعلو هو الذي يضمن لنا — ولو للحظات — أن نطل على العصر لنرى إلى أين يسير ويجرفنا معه، ويتيح لنا أن نستوضح المفاهيم التي تشوهت من كثرة التكرار والترديد والتجريد، ويضيء أحوال وجودنا ومسائله وهمومه الكبرى، ويعيدنا إلى التفكير في المعنى والحرية والشخصية والأبدية والأصالة والتراث وغيرها من الأفكار التي نرددها صباح مساء، لا هروبًا من الواقع، بل عودة إلى قلب الواقع، لا زهدًا فيه، بل بهجة واندهاشًا لسره المعجز المتجدد، لا تعاليًا فوقه، بل علوًّا عن طريق التحول الباطن إليه والتغلغل في كل تفاصيله وأشيائه والانفتاح على معنى كل شيء فيه. ولن يتم هذا إلا من خلال الاتصال بالآخر المختلف عن كل شيء، أو بالأحرى من خلال التهيؤ بالصبر والسكينة للمسته النادرة الخاطفة، هناك في حضن الطبيعية العظيمة النقية، أو في آفاق المكان الباطني الذي لا يعرف حدود المكان الهندسي والفيزيائي، أو في خضم عمل جماعي وإنساني عظيم.

بهذه التجربة زارنا الضيف الغريب، ومن خلالها نظر إلى أهرامنا ومسلاتنا ومعابدنا وآثار فننا وحضارتنا. كان هذا — إن لم تخني الذاكرة — في سنتي ١٩٦٠ و١٩٦٦م. لقد وجدها جميعًا تتحرك حركة واحدة إلى أعلى، حركة مهينة رزينة ساكنة، كأنها تحاول أن تنفذ إلى أسرار السماء، أو تحاول أن تشدها إلى الأرض، هنا لمس الحقيقة العالية، ورآها تتحقق في صورتها الخالصة لأول مرة على هذه الأرض: «أين وجد على هذه الأرض شعب تحرك هذا الاتجاه الحاسم نحو الآخر كما فعل شعب مصر عندما شيد الأهرام في قلب الصحراء؟» هنا وجد الطبيعة العظيمة والفن العظيم. وجد العري والنقاء والانفتاح والتحرر الذي لا يأتي إلا من باطن الإنسان حين يسلم نفسه لما يعلو فوق الإنسان.

وتسأل نفسك اليوم — وبعد انقضاء ما يزيد على خمسة وعشرين قرنًا على انهيار الحضارة القديمة، وبعد أن فقدنا كل صلة حية بها — هل لا تزال لدينا القدرة أو الرغبة في الاتصال بالحقيقة العالية أو التحرك — النابع من أعمق أعماق الباطن — نحوها؟ لا شك أننا أمة متدينة بالفطرة. شهد بهذا أبو التاريخ في كتابه عندما قال إننا أشد الناس ورعًا. وشهد به غيره حين قال إننا تعلمنا الصلاة قبل أن نتعلم الكلام، وتعلمنا السجود قبل أن نتعلم المشي على الأقدام. ولا شك أن إيماننا بالدين السماوي يختلف عن إيمان أجدادنا الأقدمين. مع هذا يبقى السؤال: هل نحن مؤمنون حقًّا؟ هل نحاول — بكل عذاب المؤمن وعاطفته وجذور فرديته وأعماق شخصيته الصميمة الحميمة — أن نتجه لمن لا يصح أن نتجه إلى سواه، أم تحول بيننا وبينه العادة والتقليد، وتحجبنا عن نوره سحب الكهنوت التي تراكمت منذ عصور التدهور والانهيار، فأصبحت تتدخل في علاقتنا به؟

إن محاولات التجديد وربط الدين بالحياة لم تنته ولن تنتهي. فمتى تتجه إلى إحياء «الذات المؤمنة» التي أشارت بها الآيات الكريمة، وطالبتها بالتفكير والتدبر، وعرضت عليها — وحدها — الأمانة؟

ومتى نوجه جهودنا إلى الذات المؤمنة وعذابها وفرحها وعلاقتها الحميمة الصميمة بالله بمثل ما نوجهها إلى «المظهر» و«التشريع» و«القانون» والتطبيق؟

إن الفكر المعاصر يضع الإنسان في موضع القلب من اهتمامه. فهل آن الأوان لكي نهتم بالإنسان، بكيانه العيني الحي الدافئ، بدلًا من الاختناق في قبضة المجردات الهابطة علينا من أعلى؟

إلى متى نبقى على تجاهلنا للفرد والشخص والذات — وهو منبع كل مبادرة وأصل كل حياة — ونظل نحاول «تركيبه» بالمجردات والتصورات؟

وتسأل نفسك: ونحن اليوم نقيم قاعدتنا الكبرى للصناعة، ونحاول أن نوجهها إلى ضرورات الشعب، بدلًا من كماليات طبقة واحدة (أو بالأحرى شريط نحيل متطفل عليها) كيف نوفق بين السر الذي ورثناه، وما يزال في دمنا وبين اللوجوس؟ كيف نناغم بين التراث والتقنية التي لا غنى عنها؟ كيف نتطور في العلم والقوة دون أن نفقد «العظمة» و«الجلال» الذي أكدته هذه الخواطر؟ كيف نتجنب آفات الروح الغربي من ضياع «الروح» والانغماس في روتين الآلة والعمل، وانكماش الضمير مع تضخم العضل، ونظل مع ذلك معاصرين ومستعدين لتحدي العصر؟ كيف نجانس بين قيمنا وآمالنا؟ وكيف نتيح لقيمنا — التي نكثر من الحديث عنها — أن تنفذ من السطح إلى الأعماق، وتصبح حقائق نحياها ونجسدها في سلوكنا اليومي، ونواجه بها قلق العصر وضجيجه الذي بدأ طوفانه يغزونا؟ إن الضيف الغريب يلوذ بالسر والعظمة والجلال والعلو الذي تصوره عندنا. فهل هو عندنا حقًّا؟ أليس من واجبنا أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال؟ وإذا كان قد ضاق بالعقل وحساباته وتصوراته وآلاته، فكيف نحافظ عليه — وما عندنا منه جد قليل — دون أن نقع في أزماته؟ كيف نعتصم بقيم الإيمان والأخلاق الموروثة، فنحييها حقًّا، ونواجه بها أخطار العصر بدلًا من التخفي وراءها هربًا منه، وخوفًا من مواجهته؟ وإذا كان النموذج الغربي — اللوجوس — قد أصبح ملزمًا للعالم كله، ولا مفر منه، فكيف ندعم صلتنا بالحقيقة العالية؛ لكي تحمينا من شروره وأخطاره وتمكننا من تمثل خيراته؟

نقول بالحرية. ونحن اليوم قد بدأنا نسير خطوات جادة على طريقها الطويل. والمناقشات التي جرت في الآونة الأخيرة شيء طيب وجميل، ولكن الكلام عن الحرية يظل تجريدًا أو ثرثرة، حتى يتحرر كل منا، ويحرر نفسه بنفسه، كيف؟ بممارستها وتجربتها و«غزوها» في كل مسلك نقوم به، وكل موقع نعمل فيه. (ما زلت أذكر هذا البيت النادر من فاوست الثانية: لا يستحق الحرية والحياة إلا من يغزوهما كل يوم …) في كل لحظة … في كل فعل، ولكن كيف؟ بالمشاركة. فالحرية الحقيقية ليست حرية من … بل حرية لأجل … لأجل ماذا، ونحن أمة فقيرة مريضة متخلفة متخلفة (ولا بد أن نكون شجعان، ونعترف بهذا حتى نجد الحافز للتقدم)، بالمشاركة في عمل كبير يستوعب جهد الأمة، وتتحرك نحوه حركة رجل واحد وقلب واحد.

بهذا يتأكد القول المعروف: الحرية مسئولية. بهذا تزداد حرية من يزداد إحساسًا بالمسئولية. وكلما ازدادت مسئوليتنا نحو الأغلبية العظمى ازدادت حريتنا. مرة أخرى كيف؟ بالانغماس في جهد ضخم نقتحم به أسوار التخلف، كلٌّ على قدر جهده.

(تعمير سيناء، القضاء على البلهارسيا وغيرها من أمراضنا القومية، التصنيع والمزيد من وحدات التصنيع في كل قرية وكل نجع، حملة كبرى على الأمة، اتجاه حاسم وأخير بالإنتاج إلى الجموع الصابرة الصامتة في الريف والحارة والكوخ، منخفض القطارة …) بهذا يكون للحرية معنًى. بهذا لا تتحول إلى ثرثرة مترفة.

وتسأل: وهذه الرتابة التي يتحدث عنها الزائر الغريب، هذا الركود والملل الخانق المحيط بنا إحاطة السور الشائك بالسجين؟ ماذا نفعل فيه؟ أهو من طبيعتنا المستوية التي لا تعرف شيخوخة الشتاء ولا أعراس الربيع؟ أهو من حياتنا المطردة المنسابة انسياب نيلنا الطيب العجوز؟ أهو من الروتين — هذا الداء القديم قدم بلادنا نفسها — الذي أوشك أن يحولنا إلى جيش من السخرة؟ أهو من غياب كل مغامرة وكل تجربة تهز شجرة حياتنا الساكنة. إن السكون هو طابعنا منذ القدم، فهل يتعارض حقًّا مع الوجد والعذاب؟ وإذا كنا — في المدينة المزعجة على الأقل — قد فقدنا هذا السكون، فهل الضجيج المزعج والصخب الأجوف والثرثرة والاستعراض والتظاهر والبطولات الزائفة التي منينا بها في كل مجال وصناديق الضوضاء — التي نسميها باسم مهذب هو أجهزة الإعلام — من أسباب هذا الملل الأزلي؟ كيف يمكن أن تعود الحياة حياة؟ كيف نندهش لها ونبتهج بها ونعمل على تطويرها ونتعذب منها، فتأتي الدهشة والبهجة والعمل والعذاب من أعماقنا نحن، ولا نسمح لشيء أن يهبط علينا من أعلى؟

سبق الجواب، بالحرية حين نفهم الحرية بمعنى التحرر الذي يأتي من الباطن، ولا يأتي هبة من أحد. وحين تفهم بمعنى المشاركة في الرأي والفعل، لا من أحل نفسي، بل من أجل الأغلبية الساحقة، لانتشالها من ليل الفقر والجهل والتعاسة والتخلف الأزلي. (وهذه الأغلبية هي التي تؤكد في كل المحن ملامح وجهنا الأصيل، وفطرتنا التي كادت أن تتشوه، الشاب الذي لف حزام الديناميت حول جسده؛ لينسف تحصينات العدو جاء منها. الرجل الذي ألقى نفسه على دبابة العدو منها — الشهيد الذي أهدى دمه لرمال سيناء في صمت وصبر منها — ترى لو بعث واحد منهم، ورأى الذين يتاجرون باسمه، ويزيدون أرقام حساباتهم على حساب موته وجراحه، فماذا كان يقول؟) والحرية بكل هذه المعاني المسئولة لا بد أن تكون حرية «الشخص». وما أقل ما نهتم به في بلادنا، فهو إما مجهول في طابور، أو رقم في بطاقة، أو رسم على استمارة. (يندر أن تجد من يحس بك، من ينظر في عينيك) وكيف يتحقق وجود هذا الشخص؟ كيف ينتزع من فراغ «المجهول» وضباب «الناس»؟ كيف نحترمه في كل مكان ونقدره دائمًا وأبدًا كغاية في ذاته لا كوسيلة كما تقول عبارة «كانط» الجليلة الخالدة؟ كيف نضعه أو بالأحرى كيف يضع نفسه في خضم التاريخ بعد أن انزوى عنه أجيالًا بعد أجيال؟ كيف نعيد «الوعي التاريخي» إلى ضمير كل فرد منا قبل أن تسحقه طاحونة الخرافات والغيبيات، ويحاصره أخطبوط المجردات المتزمتة القاسية المتسلطة؟ كيف نجعل تراثه «الماضي» حاضرًا يحياه في لحظته الراهنة، ومستقبلًا «حاضرًا» يشكله، ويعيد صياغته في كل يوم وكل ساعة بالعمل والأمل، بالثقة وحب النفس (وهو أصعب أنواع الحب كما قال أفلاطون في قوانينه)؟

لسنا بحاجة إلى تنبيه كل مصري وعربي إلى الخطر الأكبر الذي يهدد وجودنا الجسدي والمعنوي، ويريد أن يجتثه من جذوره، لسنا بحاجة إلى توجيه نظره إلى «التحدي البشع» الذي كتب على جيلنا وعلى أجيال أخرى أن تواجهه، فدولة السفاحين واللصوص التي تعيش في أوهام الخرافة والأسطورة والتعصب والكذب على التاريخ الحي من أهم الأسس التي يقوم عليها وعينا التاريخي، وتخلفنا العلمي والحضاري عنها من أهم حوافزه.

لكنني أشير إلى أساس آخر لا غنى عنه في هذا التحدي الذي لا بد أن يعمق وعينا بالتاريخ، ويعلو بنا فوقه في آن واحد. وأقصد به باختصار أن «نحيي» تاريخ «الضمير» في أمتنا، منذ أن ولد في ظل الفراعنة (تذكر حكاية الساحر العجوز المعجز في قصة خوفو مع السحرة، لقد سمع عنه فرعون أنه يقدر على إعادة الرقبة المفصولة إلى مكانها. وأمر بالعبيد والمساجين فما كان منه إلا أن رفض وطلب أوزة! هل يمكن أن يولد الضمير أعظم من هذه الولادة؟) إلى ثورات المصريين المتجددة في الدولة الوسطى وشهداء المسيحية في العصر الروماني وثورة الصعيد في عهد المأمون وثوراتهم على التتار والصليبيين والعثمانيين والفرنسيين والإنجليز والصهاينة، وعلى استبداد الإقطاع والتخلف في ثورتنا الأخيرة. لا مفر من أن «تحضر ثورات الضمير» في نفس كل صبي وشاب وشيخ، وكل صبية وفتاة وعجوز.٢

(ترى ماذا نعلمهم اليوم من تاريخنا؟ وإذا استمر الحال على هذا فهل يبقى — بعد سنواتٍ معدودة — من يذكر منهم اسم عرابي أو مصطفى كامل أو سعد أو محمد عبده أو النديم، ولا أقول اسم سقننرع أو أحمس أو الصالح أيوب؟ وكيف يتحقق لنا الوعي التاريخي — ومِن ثَم القدرة على التحدي التاريخي — إن لم نستوعب تاريخ ضميرنا، ونحمله أمانة في صدورنا وفوق أكتافنا، إن لم نتفتح — بحكم سماحتنا الفطرية — على كل وقفات القلب والضمير في تاريخ الإنسان؟)

الجواب فيما قلت. فما هذه كلها إلا أعضاء كيان حي واحد.

الحرية تؤكد التحرر من الباطن. والمسئولية هي صميم التحرر، والاتجاه إلى مشكلات أمتنا الكبرى هو لب المسئولية، والشخص الحي المشارك الواعي بتفرد لحظته التاريخية هو حامل هذا كله.

والطريق الوحيد — الذي اهتدينا إليه في الشعار الذي نردده، ولم يصبح بعد حقيقة حية متجددة — هو العلم والإيمان. العلم بمعنى الأسلوب المنظم الملتزم بالواقع، وهو وحده الكفيل بتخلصينا من مظاهر الارتجال والفوضى والتخبط، ومن أمراض التظاهر والاستعراض والثرثرة والإزعاج في كل مجالات حياتنا (بدأنا نعطي العيش لخبازيه، وليتنا نواصل هذا بكل ما نملك. وبدأنا نفطن لما فطن إليه أفلاطون في جمهوريته منذ أكثر من أربعة وعشرين قرنًا، الملاحة للبحار لا للطبيب، والطب للطبيب لا للملاح) والإيمان بمعناه الحق النابع من أعماق الشخصية لا الهابط من أعلى كالألواح الأزلية — بهذا يمكننا أن نحقق بعض ما ألمحت إليه هذه الخواطر — الإنسانية التي تسترد معناها وأصالتها وحريتها من اهتدائنا بالعلم والوعي في حياتها العلمية وواقعها اليومي، ثم تجاوزها لهذا المستوى وترتفع إلى «العالي» من خلال علاقتها الأولية الأصيلة به. هل يمكن أن نحقق هذا؟ لن تجدينا اللوائح والقوانين والوصايا، فهي تجربة كما قلت، والتجربة بمعناها العميق لا يقوم بها سواك، ولا ينوب فيها أحد عنك. وكلما كابدتها وصبرت على مشاقها انفتحت لك مغاليق «المعنى» و«الحرية» و«الشخصية» و«الواقع» و«التاريخ»، واستطعت أن تشارك في الأبدية (لأن ذاتك الحقيقية المطمورة تحت ركام المشاغل والتوافه والرغبات والمنافع جزء منها، وهو — لو علمت — أخلد من النجوم وأبقى من كل النظم الكونية التي ستندثر وتنطفئ لا محالة في يوم من الأيام). هناك تشارك الآخرين وتحبهم وتجل «الأبدي» فيهم. وهناك تتعلم أن تكسب نفسك حين تفقدها، وأن تحررها حين تساعد على تحرير غيرك.

أسئلة وهموم كثيرة. انهمرت قطراتها — المثقلة بحزن الليل وهمس الفجر — على رأسي بلا نظام. وقد أثارتها خواطر أخرى انبثقت كالشلال النوراني من نبع تجربة بعيدة عميقة. لعلك تعذرني فيما قلت. فإنما الشجي يبعث الشجي. وما كان لي أن أنقل إليك هذه الخواطر عن روح مصر، ثم أغفل الهموم التي أثارتها في نفس مصرية تحمل أحزان الماضي والحاضر والمستقبل، وتحاول أن تصنع لحظة صدق، فلعل النور يكون …

(١٩٧٤م)
١  فلسفة العلو (الترانسندنس)، وقد ظهر الكتاب سنة ١٩٧٥م (القاهرة، مكتبة الشباب).
٢  خصوصًا بعد أن استفحلت أزمات الضمير الميت أو الغائب في ظل تلك المرحلة المظلمة المهلكة، التي بدأت بعد كتابة هذه الصفحات، وأقصد بها مرحلة الفساد واللصوصية والدجل والركود التي سميت ظلمًا باسم الانفتاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤