للصادقين أنعاك

عثمان أمين ورحلة عمر مع حكمة الأجيال

يخرج النعش في هدوء من مسجد الجمعية الشرعية. بنفس الهدوء والبساطة اللذين اتسمت بهما حياته (هل يدري شيئًا عمن يرقد فيه، الوجه الناصع كالمشكاة، والعقل الواضح كالبلور، والقلب السمح المفعم بالحكمة والإحسان؟) يمش وراءه رجال لهم لحى كثيفة ووجوه راضية بالقضاء. بعض الأقارب من الشباب والشيوخ. أطفال وصبية فقراء ينظرون للموكب الصغير في دهشة (هل يأتي يوم يدركون فيه أنه عاش ليعلم، أنه نذر حياته للشعب؟ هل سيسمعون عنه أو يقرءُون له؟) عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من أبناء الأجيال التي علمها حب الحكمة ومحبة الوطن. ربما كان لهم العذر، فلم يكن النعي قد ظهر بعد. والقيظ شديد لافح. «ومزغونة» الصغيرة نقطة ضائعة على خريطة الأرض. خطوات وتتصافح الأيدي وتتحرك الشفاه بالأصوات المألوفة. لحظات ويغيب عن الأنظار في طريقه إلى واحة السلام الأخيرة. عاش حياته المباركة في صمت. وها هو ذا يمضي في صمت. لا أكاليل زهور ولا مشاعل، ولا خطب رثاء. فالعالم مشغول عنه وعن أمثاله (يوم مات أحد أساتذة الأدب في البلد البعيد الذي تعلمت فيه. ما زلت أذكر كيف طافت مواكب الطلبة طول الليل بشوارع المدينة الصغيرة، حاملة في أيديها المشاعل وأكاليل الزهور. ليلتها عرف كل طفل وكل ربة بيت من هو الرجل الذي فقدوه).

•••

قبل شهور قليلة تحامل على نفسه ليحضر مناقشة رسالة عن معلمه وحبيبه مصطفى عبد الرازق، الفيلسوف الكامل كما كان يحب أن يسميه في أكثر من كتابٍ أهداه إلى روحه. كانت أعباء المرض قد ثقلت عليه، وكنا نشفق عليه ألا يتمكن من إخراج جملة واحدة. كان وجهه يفيض سعادة بوجوده بين أبنائه، وعيناه الزرقاوان الصافيتان يترقرق فيهما ندى الحمد والعرفان. لعله الإحساس بأداء الأمانة ووصل الأجيال، بالمعجزة وقد نضجت ثمرتها بعد جهاد العمر. إن الأستاذية أبوة. والتعليم — خلافًا لما يتصور الذين جعلوه حرفة كسب وتجارة، أو مسرح تسلط واستعراض وغرور — حب وعطاء بغير مقابل وبغير حدود. وها هو ذا المعلم الحق لا يضن على أحد أبنائه، حتى بآخر أنفاسه. هو فلاح زاهد صبور، يغرس بذوره ويرعاها، وينتظر في صمت. ما أسعده حين يراها تخضر، بينا تذيل شحرته وتجف وتسقط.

•••

كان عثمان أمين — وما أقسى فعل كان — مؤرخ الفلسفة بالمعنى الواسع الكريم لهذه الكلمة. أقام في صدره مأدبة للحكماء من كل العصور والشعوب، وجعل من عقله وقلبه بيت ضيافة يسع ديكارت وابن سينا، وكانط والغزالي، ويأنس فيه أفلاطون والرواقيون بصحبة الفارابي وإخوان الصفاء. ويجتمع نيتشه وبرجسون وهيدجر وياسبرز مع محمد عبده ومصطفى عبد الرازق وإقبال والعقاد. هؤلاء جميعًا «مواطنون في عالم واحد». هم رسل الوعي الإنساني وهداته. وقد كانت الفلسفة وستظل تهدي الإنسانية كلما ألمت بها المحن، وضاعت منها الحقيقة، وانخدعت بالمظهر، وتفتت أمامها الواقع، وتاهت منها «حكمة الكل»، وتنكبت طريق الاعتدال ومعرفة الحد.

كان منهجه أن يعرض مذهب العظيم من عظماء الفكر، كما لو كان مذهبه هو، وأن يصطنعه لنفسه مذهبًا، ولو في فترة البحث. ثم يتجه لنقده بعد أن يتم له الوقوف عليه والتمكن منه. ولم يكن شيء مما يكتب عن مذاهب الفلسفة ليعدل عنده الاتصال المباشر بالفلاسفة أنفسهم، ولا وسيلة لتحقيق هذا الاتصال أفضل من قراءة مؤلفاتهم في نصوصها الأصلية بلا واسطة، بحيث نتأملها بعيوننا وقلوبنا في تعاطف وحب. وقد علمنا — نحن أبناءه ومحبيه — أن الفكر تعاطف وحوار ومحبة. فليس ثمة معرفة صحيحة من غير مشاركة روحية، ولا عمل عظيم بغير عاطفة تحييه وتسري فيه. وأي مذهب من المذاهب لا يساوي في الحقيقة إلا ما يساوي صاحبه، وما وضع فيه من نفسه. وقد ضرب هو نفسه أصدق مثل على التعاطف مع الأفكار والمفكرين. ويكفي أن عشرته لديكارت قد دامت ما يقرب من نصف قرن، فكان محاميه وغارس أشجاره في قلوب العرب وعقولهم. ولو لم يكتب غير كتابه عن ديكارت — الذي تباهي به العربية أي لغة أخرى — لكفاه هذا الكتاب الذي لم يحظَ كتاب فلسفي مثله — فيما أعلم — بمثل ما حظي به من طبعات. وستبقى ترجماته لنصوصه (التأملات ومبادئ الفلسفة) من أجمل ما تعتز به المكتبة الفلسفية، ويهتدي به المترجمون.

أخذ عثمان أمين عن «أب الفلسفة» الكثير، واقتبس من «نوره الفطري» أشعة ظلت تضيء روحه، وتذكي فيه شعلة الثورة المتجددة. ولا يقف الأمر عند الوضوح والتميز، وإشراق الأسلوب وبساطته، والإيمان بالوعي أساس كل وجود، والاعتزاز بالعقل «أعدل الأشياء قسمة بين الناس»، وإنما تجاوزه إلى الحياة «الجوانية» المنصرفة إلى مشاغل الفكر، البعيدة عن التكلف والتعالم والتظاهر، المتعففة عن كل طموح مريض إلى الشهرة والجاه والبطولة الكاذبة. ولذلك عانى — كما عانى ديكارت — أيام محنة الفكر وبلاء الاستبداد. ولم تخلُ محاضراته أبدًا من الحديث عن الفلسفة «حارسة المدينة» وراعية الحرية.

لم تكن الفلسفة عنده محاضرات تلقى أو معلومات تملى على الطلاب، بل كانت في جوهرها تجربة حياة، عملًا أخلاقيًّا وفعلًا من أفعال المحبة الخالصة، سعيًا موصولًا يبذله الإنسان الناضج الواعي لمجاوزة نفسه بإطلاقها من أسر الأنانية ورق الشهوات، نغمة روحية تتردد في جوانب الحياة الإنسانية، فتشيع فيها السلام، وتضفي عليها الانسجام (مقدمة محاولاته الفلسفية، ١٩٥٣م). ولم يكن الفلاسفة في رأيه أناسًا غريبي الأطوار يقولون كلامًا لا يفهمه أحد، ولا يحتاجه أحد، ولا آلات مفزعة تفرز عقارب المفاهيم الصعبة والتصورات الغامضة، بل هم حملة لواء القيم الروحية، وبناة الحضارة بمعناها الإنساني الصحيح. إنهم المصلحون الحقيقيون، وكل إصلاح تم في الماضي، أو سيتم في المستقبل إنما هو أثر من آثار الفلاسفة وأحرار المفكرين (شخصيات ومذاهب فلسفية، ١٩٤٥م). ولهذا كان «رواد المثالية» في الشرق أو الغرب، كما كان المصلحون الملهمون في التراث الإنساني، أو في تراثنا القديم والحديث أقربهم إلى مزاجه العقلي الذي لم ينفصل أبدًا عن شعوره الوطني، ونزعته الإنسانية. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يضع رسالته في الدكتوراه (باللغة الفرنسية قبل نقلها إلى العربية، ثم ترجمتها إلى الإنجليزية منذ أكثر من ربع قرن) عن رائد الفكر المصري «محمد عبده»، فيبرز آراءه الدينية والفلسفية، ويبين أثر هذا الإمام المجدد في شئون الدين والأخلاق والتربية، وفي مجالات الإصلاح الاجتماعي والسياسي، وعلى رواد الحركة الفكرية المستنيرة في مصر، وفي بلاد العروبة والإسلام. ولم يكن من قبيل الصدفة أيضًا أن يحفزه على تأليفها، ثم يكتب مقدمتها أستاذه الروحي مصطفى عبد الرازق، وأن يصفها بأنها رسالة الحب والوفاء. وأي شيء في الدنيا — كما قال الشيخ ووعى التلميذ — أكرم من الحب والوفاء؟!

كان من الطبيعي أن يؤدي هذا الطريق «الجواني» في المعرفة إلى فلسفة «جوانية» تغلب الروح على المادة، والجوهر على العرض، والباطن على الظاهر، والفكر على اللغة، والقلب واللب على الصور والقشور. وظهور كتاب «الجوانية، أصول عقيدة وفلسفة ثورة» (١٩٦٥م)، فأثار حوله كثيرًا من الجدل الذي لم يخلُ من التندر والتهكم. كان الكتاب في الحقيقة مجموعة من المذكرات اليومية أضيفت إليها فصول متفرقة عن عددٍ من المفكرين والأدباء الذين أحبهم المؤلف، وصحبهم صحبة ائتناس وتعاطف، ومودة واستلطاف. وكان يفتقد البناء المنهجي المنشق الذي ينمي الفكرة ويشرحها، بدلًا من أن يدور حولها، ويحشد لها الشواهد والنصوص. وأخذ عليه البعض أحكامه المثالية المطلقة، مواقفه الروحية والأخلاقية النبيلة التي ثبتت في مكانها على الشاطئ، واكتفت بالتفرج على الأمواج الفكرية والاجتماعية والسياسية المتلاحمة والسخرية بالمدارس والمذاهب و«الموضات» الزاحفة. واندفعت الأقلام على الجانبين إلى شيءٍ من التطرف الذي لم يتعدَّ — والحق يقال — حدود الاحترام المتبادل، ولم ينزلق إلى ما نشهده اليوم كثيرًا من ألوان التطاول على كرامة الناس. وربما يجد المؤرخ المنصف الذي سيكتب عن هذه المرحلة أن موقف عثمان أمين وبعض أبناء جيله يعبر في وقتٍ واحد عن قوة المثالية، وعن ضعفها وعجزها عن متابعة التطور الاجتماعي والتاريخي الدائب، ولكنني أعتقد أنه لن يشتط في اللوم عليهم. فلعل ساعة الفلسفة العربية الأصيلة لم تدق بعد. ولعل المناخ الحضاري والنفسي والظروف المريرة المتقلبة التي فاجأته هو وجيله لم تساعد على ولادتها العسيرة. ولا شك أنه ظل صادقًا مع نفسه، مخلصًا لجذوره الروحية العميقة. ويكفي جيله وجيل الرواد السابق عليه، والجيل الحاضر أيضًا أنهم اجتهدوا في إخلاص، وما زالوا يجتهدون لتمهيد الطريق وتعبيد الجسر. ولا بأس عليهم أن تنساهم الأجيال القادمة، وتنسى سهرهم وعرقهم بعد أن تعبر هذا الجسر، وتضع أقدامها على الشاطئ! وكفاهم أيضًا أنهم تمثلوا ما قدموه، ووضعوا أنفسهم فيه، وأحسنوا القيام بدور الوسطاء أو «السماسرة» المخلصين (بالمعنى الذي يقصده زميل جهاده أستاذنا زكي نجيب محمود بارك الله في حياته وصحته)، ولم يتحولوا إلى سماسرة سوء يثيرون الضجيج حول بضاعة لم يتعبوا فيها، ويتباهون بأزياء غريبة ليست من صنعهم، ويسودون آلاف الصفحات في كل شيء، وأي شيء على طريقة «القص واللصق» و«الخطف والهبش» التي طالما حذر منها الفقيد (ومتى استطاع قطاع الطرق أن يزرعوا أرضًا أو يرعوا قطيعًا؟).

سئل أحد الفلاسفة المعاصرين أن يروي شيئًا عن تاريخ حياته. وتطلع المستمعون المتلهفون على الطرائف والأخبار، فلم يكن منه إلا أن قال: «ولد أرسطو، تعب ومات». ولقد ولد عثمان أمين، تعب وعلم، ثم مرض ومات. والفلاسفة — كما قال بنفسه — كغيرهم من أفراد الإنسانية مائتون. وأفكارهم وأعمالهم مؤقتة مرهونة بزمانها، ولكن الفكر الفلسفي نفسه خالد لا يموت. وليست «الفلسفة الخالدة» مذاهب مغلقة، ولا أنحاء نظر ضيقة ترضي رغبة الإنسان المتطلع إلى المعرفة أو إلى شهوة التعالي والتسلط على غيره، وإنما هي «طريق قويم في الحياة» كما أرادها اسبينوزا، ولقد بذل عثمان أمين غاية جهده ليكون للفلسفة مكانها المرموق ووظيفتها الفعالة في المجتمع. فهي حارسة المدينة، ويجب أن تقول كلمتها فيما يعرض للفرد والجماعة من أزمات الوجود ومشكلات الحياة والمصير (تعوزنا الفلسفة اليوم أكثر من ذي قبل، وعصرنا أحوج إليها من أي عصر سابق عن مقدمة شخصيات ومذاهب فلسفية، ١٩٤٥م). غير أنه قد أدرك جيدًا أن هذه الكلمة ليست بالضرورة عالية الصوت، وأن تأثيرها لا يقاس بمدى ما تحدثه من ضجيج. كما عرف جيدًا أن كثيرين من «صانعي الأفكار» قد أوذوا في أنفسهم أو اضطهدوا أو استشهدوا في سبيل ما صنعوا من أفكار.

حكم اليونان القدماء على اكسينوفان بالنفي، وحكم الأثينيون على سقراط بتجرع السم. أوشك أفلاطون أن يتعرض للموت أو قضاء حياته في الأسر جزاء تحمسه لتحقيق مدينته الفاضلة، وأرسطو اضطر للهرب لينجو بحياته من كيد الغوغاء. أهدر دم السهروردي في حلب، وصلب الحلاج في بغداد، ونكل بابن رشد في الأندلس. وكثير من رواد عصر النهضة قتلوا، أو انتزعت ألسنتهم من حلوقهم، أو أحرقوا في النار. في الشرق وفي الغرب تعرض أكثرهم لنفس المصير الفاجع، ولكنهم قاوموا الزيف والغباء والاستبداد؛ لأن الفلسفة تموت إذا تخلت عن النقد والمقاومة، ورفعوا لواء القيم، وأدوا للعقل والضمير ما ينبغي لهما من احترام، ودفعوا ثمن الحقيقة والحرية، وتصدوا للمتعالين والأدعياء والمهرجين. كان معظمهم من الثائرين، ولكنهم لم يكونوا أبدًا في الحقيقة من الأبطال الجوف، بل عاشوا في الخفاء (أبيقور، واسبينوزا)، ونسجوا تأملاتهم في غرفة دافئة وحيدة (ديكارت)، وقالوا ما قالوه في تواضع، وعلى استحياء (أفلوطين والفارابي وكانط). وقد عاش عثمان أمين متواضعًا كريمًا على نفسه، وأدى حق العلم والوطن في نزاهة وترفع وإخلاص. ربما شعر في أواخر أيامه بالمرارة التي لا بد أن تصيب المفكرين حين يواجهون في النهاية بواقع غير مفهوم، ويتساءلون عن جدوى الأفكار والكلمات التي عجزت عن إنقاذه. وربما شقي في بعض أيامه بجحود الجاحدين، ولكن المؤكد أنه كان يسعد دائمًا بمودة الأوفياء الصادقين.

زاره بعض مريديه وخلصائه قبل وفاته بأيام قليلة. تخافت الصوت الفضي المجلجل الذي طالما هزهم في الدروس والمحاضرات، وشحب الوجه الناصع، وغابت اللمحات التي كانت تلمع كالبروق. نظر إلى أحدهم وقال: أشعر باغتراب. اختلجت شفته المتقلصة، وعاد يطيل النظر إليه، ثم قال بصعوبة: أريد أن أرحل. عز عليهم أن يعجز سيد البيان عن إكمال عبارته. أخذوا يطردون عنهم طيور الخواطر السوداء. وتمنوا في هذه اللحظات لو أن الكتاب الذي اشتركوا في إهدائه إليه لم تعطله ظروف النشر السيئة، إذ كان من الممكن أن يرسم على وجهة ابتسامة أخيرة. واختفت الدموع وهم يودعونه، ويهبطون درجات السلم. ربي! هل يمكن أن يتداعى الهرم الشامخ أو ينضب نهر النيل؟!

أعط الصادقين القوة ليحملوا الأمانة، والقدرة على الحب ليواصلوا العطاء …

(١٩٧٨م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤