الله والفتوات والعلم

عن أولاد حارتنا لنجيب محفوظ
بقلم الأستاذ فرتس شتيبات
إذا كان نجيب محفوظ هو أعظم روائي معاصر في مصر — ولعله أن يكون أعظم الروائيين في العالم العربي بوجه عام — فإن هذا يرجع في المقام الأول إلى ثلاثيته بين القصرين وقصر الشوق والسكرية التي رسم فيها — على طريقة المدرسة الواقعية — لوحة عميقة بالغة التأثير لتاريخ بلاده في النصف الأول من القرن العشرين.١ وقد ظهرت أجزاء الثلاثية في سنتي ١٩٥٦ و١٩٥٧م. ولكن المؤلف انتهى من كتابتها في شهر أبريل سنة ١٩٥٢م، أي قبل بداية الثورة المصرية، ثم لم يمد يده إلى القلم لسنوات طويلة. وقد أوضح في وقتٍ لاحق أن رغبته في نقد المجتمع القديم قد زالت بزوال ذلك المجتمع، ولهذا لم يكن لديه ما يقوله أو يكتبه.٢ غير أنه لم يلبث أن بدأ سنة ١٩٥٧م في كتابة رواية جديدة نشرت من ٢١ سبتمبر إلى ٢٥ ديسمبر سنة ١٩٥٩م،٣ في جريدة الأهرام القاهرية في شكل متواضع هو شكل الرواية المسلسلة، وكانت الرواية تحت عنوان «أولاد حارتنا».٤ والواقع أن الرواية لم يقدر لها الصدور في مصر حتى اليوم على هيئة كتاب، كما أن السلطات المصرية قامت بمصادرة الطبعة التي نشرتها دار الآداب البيروتية في يناير سنة ١٩٦٧م.٥

إذا كانت هذه الظروف والملابسات الخارجية تثير الانتباه، فسوف يتبين للقارئ الذي يطلع على الرواية أن نجيب محفوظ يقدم في الحقيقة عملًا غير عادي. فهذه «الرواية» — وهو الوصف المثبت على صفحة الغلاف — تتناول موضوعًا جبارًا، ألا وهو تاريخ البشرية من حيث هو تاريخ البحث عن النجاة والخلاص، بدءًا بخلق العالم وطرد آدم وحواء من الجنة، ومرورًا بظهور الأنبياء، وانتهاءً إلى مشكلات العصر الحاضر. وهي في تناولها هذا تنقل تاريخ النجاة إلى نطاق حي من أحياء القاهرة، وبهذا تخلصه من البعد الأسطوري لتقربه من جمهور القراء قربًا مباشرًا.

وأولاد حارتنا تدل على الناس الذين يعيشون في حارة تقع على الحدود الفاصلة بين القاهرة القديمة وصحراء جبل المقطم. ففي الصحراء في «الخلاء الخرب»، استطاع الجبلاوي «بقوة ساعده ومنزلته عند الوالي» (ص٥ وما بعدها) أن يقيم لنفسه ملكًا واسعًا، ويشيد بيتًا كبيرًا ذا حديقة مترامية. ويريد الجبلاوي أن يوقف هذا الملك على أبنائه وذريتهم من بعدهم ليكفل لهم حياة مستقرة آمنة، ولكنه يطرد اثنين من أبنائه من أصحاب الأولاد: إدريس (= إبليس) لأنه لا يوافق أباه على إسناد إدارة الوقف لأخيه الأصغر أدهم (= آدم)، وأدهم لمحاولته الاطلاع على حجة الوقف التي يحافظ أبوه على سريتها. ويحاول الجبلاوي أن يسترد أحد أبناء أدهم، وهو همام (= هابيل)، ليعيش معه في البيت الكبير، ولكن محاولته تخفق بعد مقتل همام بيد شقيقه الغيور قدري (= قابيل). وعلى أثر ذلك يعتكف الجبلاوي في البيت الكبير، ويكل الإشراف على الموقف للناظر، ولا يحرك ساكنًا عندما يعبث هذا الناظر بريع الوقف، ويغش ذرية الواقف، أي سكان الحارة التي تنشأ في هذه الأثناء.

وتسقط الحارة في هاوية البؤس والظلم. وتذوق الأمرين من الفتوات الذين يسيئون معاملة الناس، ويبتزونهم الإتاوات، ويجعلون من أنفسهم أدوات لتأييد سلطة الناظر. ومن حين إلى حين ينهض رجل لرفع البؤس عن الناس وقهر الظلم. فجبل (= موسى) يستخلص نصيب آلة من ريع الوقف بالقوة. ورفاعة (= يسوع) يرفض اللجوء إلى القوة، ولا يهتم بريع الوقف؛ لأنه يسعى إلى تحرير الناس من عفاريت شهواتهم، ولكن نجاحه في مسعاه، والتفاف الناس حوله، وزعمه التحدث بلسان الواقف، كل هذا يوغر عليه صدور الفتوات والناظر، فيحسون بخطره ويقتلونه. وقاسم (= محمد) ينجح في تحطيم نفوذ الفتوات بالقوة، ولكنها القوة التي تجمع إلى البراعة السياسية موهبة التنظيم. إنه يتجه ببصره مرة أخرى إلى الوقف، ويأمر لأول مرة بتوزيع ريعه على جميع سكان الحارة دون تفرقة بينهم في العشيرة أو الجنس، ولكن الذي يحدث بعد موته، مثلما حدث بعد موت سلفيه، هو عودة الناظر والفتوات إلى سلطتهما القديمة، ورجوع الظلم والبؤس سيرتهما الأولى؛ لأن البشر سرعان ما ينسون تعاليم روادهم الكبار.

إن الصور التي تتوالى في الظهور على شاشة العرض تختلط فيها مستويات مختلفة من المعاني والدلالات، مما يضفي على هذا العرض طابعًا سحريًّا متميزًا. والبيئة التي تدور فيها الأحداث بيئة مألوفة لكل إنسان يعرف الأحياء الفقيرة في المدينة الشرقية، الزحام، والقذارة، والضوضاء، والتنازع والصراع المضني في سبيل لقمة العيش اليومية. بل إن أخبار الفتوات تقدم لنا مادة بحث — ما زلنا نفتقده إلى اليوم — عن هذه الصورة الحديثة المشوهة من مثل أعلى قديم، وتنظيم جريء كان يحقق — في مدن العصور الوسطي الإسلامية التي كانت تفتقر إلى المؤسسات الشرعية — وظائفه الإيجابية في حفظ النظام والأمن، بل إننا لا نزال نلمح هنا ظلالًا باقية من هذه الوظائف، فلم يكن الجبلاوي نفسه في بداية أمره إلا «سيد الخلاء والفتوة الرهيب» (ص١١، ١٥، ١٨)، ولكن من الواضح أن الفتوات الحاليين لا يعملون لحسابهم فحسب، وإنما يرمزون لكل سلطة قائمة على القوة والبطش. أضف إلى هذا أن الإدارة الفاسدة للأوقاف ليست على اليقين هي السبب الرئيسي في سوء الأحوال الملحوظ في هذه الرواية، وإنما هي كذلك رمز لنظام اجتماعي مضطرب. وأخيرًا يأتي مستوى التاريخ الإلهي — تاريخ النجاة والخلاص — في صورته الأسطورية. لقد نهل المؤلف في معظم الأحيان من التصورات الإسلامية لهذا التاريخ، وإذا كان قد استعان أحيانًا بالمصادر التوراتية،٦ فمن المؤكد أن القارئ المسلم يعرف سلفًا الخطوط الأساسية التي تقوم عليها الأحداث. ولهذا فإن التوتر لا ينصرف إلى ما يحدث بقدر ما ينصرف إلى كيفية حدوثه. وهذه منظومة فنية تدفع القارئ إلى ألوان من التدبر والتفكير.

ما الذي يريد له المؤلف أن يتأمله ويفكر فيه؟ إن العثور على إجابة هذا السؤال تفرض علينا تناول ذلك الجزء من الرواية الذي يعقب عصر الأنبياء، وهو الجزء الذي لا يعتمد فيه المؤلف على أصول مستمدة من التاريخ الموروث.

هنا نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة رجل يحتل مركز الأحداث، وهو الساحر عرفة. ولما كان مجهول الأب، فإنه لا ينتمي إلى أية جماعة من الجماعات أو الأحياء الثلاثة التي تنقسم إليها الحارة وهي: الجبلية (لليهود)، والرفاعية (للمسيحيين)، والقاسمية (للمسلمين)، بيد أنه يختار أن يقيم مع الرفاعية. ولا شك في أنه يمثل العلم الذي لا ينتسب لدين أو وطن، وإن يكن قد ازدهر في بلاد الغرب المسيحي. ويستأنف عرفة الصراع الذي بدأه جبل ورفاعة وقاسم مع الفتوات لكي يوفر لأولاد الحارة حياة بشرية لائقة. إنه يريد أن يحقق الشروط العشرة التي تنص عليها وصية وقف الجبلاوي (الوصايا العشر)، وإن لم يكن في الواقع من رجال الجبلاوي (ص٤٧١)، بل يتشكك في وجوده على قيد الحياة. وعندما ييأس من بلوغ هدفه، يتسلل إلى بيت الجبلاوي الكبير لكي يكتشف سر وصية الوقف. ويتورط عن غير قصد في قتل الخادم العجوز الذي يحرس الوصية، ويلوذ بالفرار مذعورًا. ثم يتبين بعد ذلك أن الواقف المسن كان لا يزال على قيد الحياة، ولكنه مات متأثرًا بالصدمة. ويطارد الفتوات عرفة، فيتمكن من إنقاذ نفسه بإلقاء الزجاجة السحرية التي اخترعها على مطارديه، وهي سلاح متفجر يفوق كل ما عداه من أسلحة. غير أن الناظر يسخره لخدمته. ويتخلص الناظر من الفتوات بفضل الزجاجة السحرية، ولكنه يفعل هذا لصالحه لا لصالح الحارة، وهكذا يصبح عرفة فتوته الجديد. وفي النهاية يتمكن عرفة من الهروب، ولكن أتباع الناظر يلقون القبض عليه ويقتلونه قتلة فظيعة.

ويتجه أولاد الحارة في البداية إلى إدانة عرفة، فيتهمونه بأنه هو الذي قتل الجبلاوي، وأن سلاحه العجيب هو الذي جعل من الناظر طاغية لا يقهر، ولكن بعد موت عرفة يشيع الأمل في الصدور، فقد تمكن شقيقه حنش من النجاة بنفسه، ولعله أيضًا أن يكون قد تمكن من إنقاذ كراسة عرفة السحرية. وكلما اشتدت حملة الناظر على عرفة، وقوي اتهامه له بقتل الجبلاوي مضى الناس يقولون: لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خُيِّرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر (ص٥٥١). وأخذ بعض شبان الحارة يختفون تباعًا لكي يتعلموا السحر على يدي حنش استعدادًا ليوم الخلاص الموعود.

الجبلاوي إله، وهو إله يظل جبروته وامتناعه عن الناس وعدم اكتراثه بمواجهة الإدارة الظالمة لميراثه أمرًا غامضًا محيرًا، «إنه لا يسمح باجتماع القوة والضعف في نفس إلا نفسه هو». حقًّا أن نجيب محفوظ يضع هذه العبارة على لسان إدريس-إبليس (ص٥٦ وما بعدها)، ولكن الابن الساقط للجبلاوي لا يقوم هنا بدور الشرير المطلق الذي تنطوي أقواله بالضرورة على نفسها، إنه إنسان كسائر الناس، وينبغي أن تُفهم أقواله من وجهة نظر إنسانية. أضف إلى هذا أن جبل-موسى (ص١٣٥، ١٧١). ورفاعة-يسوع (ص٢٣٠–٢٣٤)، وقاسم-محمد (ص٤١٠) تنتابهم لحظات شك في الجبلاوي. وليس عجيبًا بعد هذا أن نجد عرفة الساحر العالم يطلق العنان لشكوكه «لكن ماذا أفدت من الحكايات يا حارتنا؟» (ص٤٦٠).

وعلى الرغم من هذا كله يقتحم عرفة بيت الجبلاوي، فلا تعقب هذه الخطوة إلا أسوأ النتائج: مقتل الخادم — الذي لم يقصد إليه عرفة — موت الجبلاوي، تسخير عرفة في خدمة الناظر، وانتصار هذا الناظر انتصارًا مطلقًا. ماذا يريد نجيب محفوظ من هذا كله؟ هل أخفق عرفة لأنه لم يتحرر من إيمانه بالجبلاوي؟ أم أخفق لأنه أراد أن ينفذ إلى ميدان الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) الذي ليس للعالم أن يبحث فيه عن شيء؟ أم يرجع إخفاقه في النهاية إلى تجرؤه على المساس بأقدس المقدسات؟ وعندما يصل عرفة في خدمته للناظر إلى الدرك الأسفل، تظهر امرأة تحمل إليه الرسالة الوحيدة التي وجهها الجبلاوي إليه: «اذهبي إلى عرفة الساحر، وأبلغيه عني أن جده مات وهو راضٍ عنه.» (ص٥٣٨) وتبقى حقيقة هذه الرسالة غامضة، ولا نستطيع أن نقطع بأنها لم تكن إلا حلمًا من أحلام السطل، ولكنها على كل حال هي التي تشجع عرفة على اتخاذ قراره بالهرب من خدمة الناظر كما تمهد بذلك للتحول النهائي الذي تسوده روح التفاؤل. لقد وثق من رضاء جده عنه، واطمأن إلى أنه لم يغضب لاقتحامه بيته وقتل خادمه، ولكنه يفهم كذلك أن رضاه ينطوي على سخطه من عمله في خدمة الناظر (ص٥٤٢). وقد يجوز لنا الآن أن نفك هذه الرموز، مات الإله، ولكن العالم — وهو صاحب الحق في المستقبل — يعترف بالقيم والمعايير الأخلاقية التي وضعها الإله، ومن هذا الاعتراف يأتي الاتجاه إلى الخير.

لا يتخلى نجيب محفوظ عن البعد الميتافيزيقي الذي يضفيه على موضوعه، ولكنه في نفس الوقت لا يقتصر عليه وحده. إن نقل التاريخ المقدس — تاريخ النجاة والخلاص على يد الرسل والأنبياء — إلى مستوى الحارة هو الذي يهيئ الشروط الملائمة «لعلمنته»، وإضفاء النزعة الدنيوية عليه، وتصغير مقاييسه. فأدهم-آدم بعد طرده من بيت أبيه يسعى في سبيل رزقه في شوارع المدينة، وهو يدفع عربة يبيع ما عليها من الخضر (ص٥٤ وما بعدها). وجبل-موسى لا يعثر عليه طافيًا على ماء النيل، بل يرى طفلًا عاريًا يستحم في حفرة مملوءة بمياه الأمطار (ص١٣١). والفتوات الذين يضطهدون آله ويطاردونهم لا يموتون في البحر غرقًا، بل في فخ حفر لهم في دهليز (ص١٩٦). ورفاعة-يسوع لا يتعلم من كتبة المعبد، بل من شاعر ضرير يروي الحكايات وزوجته «كودية الزار» (ص٢٢٨ وما بعدها) وبدلًا من أن يؤسس قاسم-محمد أمة نجده ينشئ ناديًا للرياضة البدنية (ص٣٦٦). هذا التصغير للجليل السامي يؤثر في معظم الأحيان تأثير الصدمة، ولكنه يقرب إلى القارئ أحداث تاريخ النجاة. وليس من المستطاع أن تعرض الأعمال التي أنجزها الأنبياء وشجاعتهم الشخصية، واستعدادهم للتضحية بالحياة المريحة في سبيل رسالتهم أمام جمهور القراء في أيامنا بمثل هذا النجاح، الذي وفق إليه نجيب محفوظ في روايته. والأهم من هذا كله أن المؤلف يوضح على هذه الصورة رأيه الذي يقتنع به، لا يمكن أن يقتصر تاريخ النجاة على خلاص الروح الفردية، ولا بد له كذلك من أن يهدف إلى سعادة البشر في هذه الدنيا، أي إلى تحقيق نظام اجتماعي مرضٍ. إن كل طموح أولاد حارتنا يدور حول بيت الجبلاوي الكبير وحول الوقف. أيعبر هذا عن نزعة مادية كريهة؟ يبدو في بعض الأحيان — وبخاصة في تقرير رفاعة-يسوع — أن هذا السؤال وارد، ولكن نجيب محفوظ يختار ألا يضع حدًّا يفصل ببساطة بين طيبات الدنيا وطيبات الآخرة. فالبيت الكبير يرمز للجنة، والاطلاع على حجة الوقف يعبر عن الأكل من شجرة المعرفة. ورسالة الجبلاوي إلى قاسم-محمد، خاتم الأنبياء، تصل إلى ذروتها في إبلاغه بأن تصير الحارة امتدادًا للبيت الكبير (ص٣٥٣)، أو قل في جعل الأرض امتدادًا للجنة.

وإذا كان نجيب محفوظ قد قرر في مواضع أخرى من أحاديثه وكتاباته أنه اختار الوقوف في صف الاشتراكية — وإن لم يخلُ موقفه منها من النقد والتحفظ٧ — فإنه في هذه الرواية لا يتعرض لشكل النظام الاجتماعي الذي يمكنه أن يحيل الأرض إلى جنة. ومن الواضح أنه لا يريد أن يضع تخطيطًا محددًا أو يروج لعقيدة جامدة، فحسبه أن يعبر ببساطة عن شوق أبدي في نفس الإنسان. فأدهم لا تطيب له سعادة أكبر من أن ينفخ في الناي في حديقة أبيه الغنَّاء (ص١٨ وما بعدها، ص٣٠ وما بعدها) والناس بعد طردهم من الجنة يتشبثون بهذا الحلم بحياة صافية لاهية بلا عمل (ص٧٢، ١١١، ١٦٨، ١٧٠، ٢٠٢، ٢٤٩، ٣٤٤، ٣٦٨، ٤٤٢، ٥٣١) بلا عمل؛ لأن العمل من أجل القوت لعنة اللعنات (ص٦١ وما بعدها). هذا على كل حال هو شعور الرجال، أما النساء فيبدو أن من الأسهل عليهن أن يجدن معنًى في العمل (أميمة-حواء ص٦٣، شفيقة-صورة ص١٦٩)، والحياة التي تنعم بها عواطف، زوجة عرفة، بلا عمل أشبه بتلك التي تحسر عليها أدهم، حياة ثقيلة وعذاب متصل، سجن مليء بالمخاوف يطوقه السقوط والزلل. (ص٥٢٥) وعرفه نفسه يصف حلم أدهم بحياة يفرغ فيها للسعادة والغناء بأنه حلم جميل، ولكنه مضحك، ويرى أن الأجمل حقًّا أن نستغني عن العمل لنصنع الأعاجيب (ص٤٦٣)، وهو يوضح رأيه حين يقول إن الحياة الجديدة ستأتي إذا تحققت العدالة، إذا نُفِّذت شروط الواقف، إذا استغنى أكثرنا عن الكد، وتوفروا على السحر (ص٤٨٤).

ما هي هذه «العجائب»، وما هو هذا «السحر» الذي تتوقف عليه الحياة الجديدة؟ لا بد أن يكون شيئًا يزيد عن العلم الطبيعي الخالص الذي ينتج الأقراص المنشطة والأسلحة العجيبة. يقول عرفة: «حجرتي الخلفية (= المعمل) علمتني ألا أؤمن بشيء إلا إذا رأيته بعيني وجربته بيدي.» (ص٤٨٧)، فالأمر إذًا يتعلق في المقام الأول بالمعرفة العقلية والعينية للأشياء والمشكلات.

ولكن الروح العلمية والنزعة العقلانية لم تكد تقوم حتى الآن بأي دور في حياة الحارة. فالناس يأخذون معارفهم في أغلب الأحيان عن «الحكايات القديمة». وهذا وحده شيء يدعو للارتياب؛ لأن الذين يروون هذه الحكايات هم «الشعراء» أو الرواة المحترفون الكذابون نهازو الفرص، الذين يخدمون الناظر وينافقون الفتوات (ص١١٧، ١٢٠، ١٧٩ وما بعدها، ١٨٧، ١٩٦، ٢٢٦ وما بعدها، ٣١٠، ٣١٨، ٥٥١)، بل إن عرفة ليتشكك في قيمة الحكايات التي تُروى عن الجبلاوي وجبل ورفاعة وقاسم (ص٤٦٨، ٣٧١).

والعقبة الأخرى التي تقف حجر عثرة في طريق المعرفة العقلانية هي الحشيش. فهذا المخدر يظهر كأنه عنصر بديهي في حياة الحارة، وهو يعود دائمًا إلى الظهور، فيعبق به الجو في زفة أدهم قبل طرده من بيت أبيه (ص٢٧)، وجبل-موسى يتجاذب الجوزة مع الحاوي العجوز (البلقيطي) الذي يعلمه أصول فنه (ص١٧١)، ورفاعة-يسوع لا يطيقه حقًّا (ص٢٤٦، ٢٥٩)، ولكن أباه يتناوله بانتظام (ص٢٢٥)، وقاسم يحبه ويقدمه لأصحابه (ص٣٢٢، ٣٣٠، ٣٣٨ وما بعدها، ٣٤٢).

وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن المؤلف يعتبر الحشيش وسيلة لا ضرر منها لنسيان هموم الحياة، ومنغصاتها الصغيرة والكبيرة. صحيح أن تجارة المخدرات يرد ذكرها كسبيل للإثراء غير المشروع (ص٢٠٩)، ولكن القارئ سيصدم بغير شك حين يعرف أن قاسم يعرض في جلسة خططه التي تهدف إلى تحقيق رسالته في الحرية والكرامة والسعادة (ص٣٦٢ وما بعدها)، والرجل الوحيد في الحارة الذي لا يقبل على الحشيش هو «الساحر» عرفة الذي يحتاج عمله إلى اليقظة والانتباه، ولكنه لا يلبث أن يصبح حشاشًا بعد دخوله في خدمة الناظر (ص٥٢٥، ٥٣٠ وما بعدها) هنا يتبين من جديد أن اللوحة التي يقدمها لنا نجيب محفوظ متعددة الأبعاد والمستويات، فالحشيش شر في ذاته بطبيعة الحال، ولكنه هنا رمز يدل بجانب ذلك على التفكير غير الدقيق، والتأمل غير الواقعي، والهروب من الحقيقة، كما يدل على الاستسلام الأعمى للشهوات، وعلى كل ما يتعارض مع الروح العلمية المأمولة.

إن مهمة السحر، أي العلم، هي أن يقضي على الفتوات، ويطهر النفوس من عفاريتها، ويجلب الحياة الصافية اللاهية التي حلم بها أدهم (ص٤٩٨). أما الهدف الأسمى الذي يلوح لعيني «الساحر» عرفة فهو قهر الموت. عند هذه النقطة يعود المؤلف، فيتجه إلى الميتافيزيقا. وهو لا يكتفي بالتعبير عن الخوف من الموت الذي يشترك فيه الناس كافة، وإنما يثور على حاجز القوة الذي وضع هنا أمام الإنسان، فلا يمكنه أن يقهره أو يبلغ مداه. إن قدري- قابيل يقول لنفسه أمام جثة أخيه المقتول: «ما دمت لا أستطيع أن أرد الحياة، فلا يجوز أن أدعي القوة أبدًا (ص٩٦)، وعرفة الذي يعتقد أنه تسبب في موت الجبلاوي ينتهي إلى أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكفر عن جريمته هو إعادة الحياة إلى الجبلاوي٨ (ص٥٠٢)، وليست هذه النية مجرد محاولة يائسة لإلغاء حادث وقع، فيصبح وكأنه لم يكن، وإنما تزيد عن ذلك وتصدر عن اقتناع بأن الخسارة التي وقعت يتحتم التعويض عنها كما يمكن أن يتم هذا التعويض، إن كلمة من جدنا كانت تدفع الطيبين من أحفاده إلى العمل حتى الموت، موته أقوى من كلماته، إنه يوجب على الابن الطيب أن يفعل كل شيء، أن يحل محله، أن يكونه.» (ص٥٠٣) معنى هذا أن الإنسان يجب أن يحل محل الإله، وعندما يفعل ذلك يكون قد حقق المقصد الإلهي. وهكذا تكون إعادة الحياة إلى الإله هي الرمز الذي يدل على أن العالم أو الإنسان الذي يسلك سلوكًا عقلانيًّا هو الذي يتولى عن الإله تنظيم العالم.

ولكن ماذا عن مكافحة الموت البشرية؟

يقول عرفة: «الموت يكثر حيث يكثر الفقر والتعاسة وسوء الحال.» ويسأله الناظر: وحيث لا يوجد منها شيء يا أحمق؟ فيرد عليه عرفة بهذا الجواب: نعم؛ لأنه معدٍ مثل بعض الأمراض … إذا حسنت أحوال الناس قل شره، فازدادت الحياة قيمة وشعر كل سعيد بضرورة مكافحته حرصًا على الحياة السعيدة المتاحة … سيجمع الناس السحرة ليتوفروا لمقاومة الموت، بل سيعمل بالسحر كل قادر، هنالك يهدد الموت الموت. (ص٣٥٤ وما بعدها) إن الثورة على الموت ليس لها طابع ميتافيزيقي فحسب، وإنما هي كذلك رمز متطرف على الكفاح العقلاني والواقعي من أجل حياة أفضل، وهو كفاح يعنيه نجيب محفوظ بكل ما لهذه الكلمة من قوة.

كل هذا يلقي مزيدًا من الضوء على مفهوم المؤلف عن الروح العلمية التي يتوقع منها كل شيء لنفسه وللناس. إنها — رغم أنف الشفرة التي يستعملها — ليست لونًا من ألوان «السحر» الذي تسقط نتائجه في حجر الإنسان، وإنما تتطلب كفاحًا وتحتاج لأقصى جهد ممكن، وحتى إذا صح أن العلم ليس له نهاية (ص٤٩٧، ٥٤٢) فإن جهد العالم الواحد لا يكفي؛ لأن الواحد بمفرده لا يقدر إلا على القليل، ولأن العالم الواحد عرضة للانحراف عن الطريق الصحيح. وإذا كانت لجبل ورفاعة وقاسم جوانب ضعفهم الإنسانية، فلم يبلغ أحد منهم من الفساد مبلغ عرفة. إن نجيب محفوظ لا يمجد العلم تمجيدًا أعمى، فهو يدرك الأخطار التي يتسبب فيها بابتعاده عن القيم الأخلاقية والاجتماعية. ولهذا نجده يؤكد اعترافه بالمعايير الأخلاقية وينبه إلى ضرورة إيجاد حل اجتماعي للمشكلة: يجب أن يصير أغلبنا سحرة!

هذا التحول من الفرد إلى المجتمع ملمح أساسي آخر من ملامح هذه الرواية. وليس معنى هذا أنها تصور «أولاد حارتنا» في صورة الممثلين القائمين بالأدوار الفعلية. صحيح أن آل حمدان يتمردون على الناظر والفتوات (ص١١٨، وما بعدها)، ولكن تمردهم يبوء بالإخفاق الذريع، حتى يتبنى جبل قضيتهم. والشعب يتضامن مع رفاعة ويقف وراءه، وهو الذي لا يطمع في ريادة ولا يطمح إلى زعامة (ص٢٧٦ وما بعدها)، ومع ذلك فهو الذي فجر الحركة التي عانت بسبب دعوته نفسها من الانقسام بين أتباعه حول أهدافها، وهل تكون مادية أو روحية خالصة؟ (ص٣٠٢ وما بعدها) مهما يكن من شيء، فإن جبل ورفاعة وقاسم هم الذين يحددون شكل حركاتهم وغايتها، وتنهار هذه الحركات بعد موت روادها، فلا يلبث البؤس القديم أن يرجع بخطوات مسرعة. فإذا بلغنا عرفة وجدناه طوال حياته يواجه التعاسة والظلم مواجهة العاجز؛ لأنه لا يجد بين «أولاد الحارة» سندًا يستند إليه.

ويوشك القارئ أن يخرج بانطباع يوحي إليه بأن هذه المراجعة الحزينة للتجارب التاريخية تفعم نفس المؤلف بالتشاؤم، أو بأنه يذكر نفسه بنفسه ويحذرها عندما نراه يعارض التواكل والقدرية معارضة صريحة (ص٤٤٨)، ربما بدا للفرد أن من الممكن أن يحتفظ لنفسه بركن صغير من السعادة والسلامة وسط الشقاء المحدق بالمجموع، ولكن أدهم لا يجد مفرًّا من أن يناجي نفسه قائلًا: لا يهدد السلامة مثل طلبها بأي ثمن (ص٢١ وما بعدها). ولقد تعلم عرفة في النهاية أن الفعل الذي يحدده الخوف من الموت فعل عقيم لا يجدي شيئًا، فالخوف لا يمنع من الموت، ولكنه يمنع من الحياة. ولستم يا أهل حارتنا أحياء، ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت. (ص٥٤٦)، والتسليم هو أكبر الذنوب جميعًا (ص٤٧٦)، وليس أولاد حارتنا هم أبطال الرواية، وإنما هم المقصودون بحديثها إليهم. فلا بد لهم أن يعرفوا أن الجهد المبذول لتأمين السلامة والعدالة تمهيدًا لخلق الحياة الجديدة جهد يسعى إلى نجاتهم وخلاصهم، وأن نضال الموت نفسه — الذي لا بد أن يعانيه كل إنسان بمفرده — له من ناحية أخرى معنًى اجتماعي. ففي مقدور الفرد أن يستمد الشجاعة من تضامنه مع الآخرين. وهكذا تنتهي الرواية نهاية واعدة تفيض بالأمل في المستقبل، هذا إذا تيسر كسب الأغلبية لمتابعة الطريق الذي بين لهم عرفة معالمه.

ويتضح من البناء الشكلي للرواية أن نجيب محفوظ لا يتجه بحديثه إلى صفوة مثقفة أو دائرة صغيرة من أصحاب الاهتمامات الأدبية، وإنما يتجه به إلى الشعب. وهل كان من الممكن أن ينشرها على صورة رواية مسلسلة في صحيفة يومية لو كان الأمر على خلاف ذلك؟ إن الأسلوب موضوعي. وكل وصف يؤدي وظيفته أداءً مباشرًا في سياق العرض، لا تحليق مع الخيال، ولا إغراق في سرد المعلومات التاريخية (قارن بين ما فعله نجيب محفوظ وبين ما فعله توماس مان بموضوع موسى في قصته المعروفة باسم «القانون») ويندر أن تبدو التأملات صادرة عن المؤلف، فهو بوجه عام قد وضعها في أقوال شخصياته وأفكارهم. هذه الشخصيات لا تجسد بالدرجة الأولى أناسًا من لحم ودم، وإنما تجسد أفكارًا وآراءً، هنا يتذكر القارئ روايات فولتير الفلسفية والرمزية، كما أن نجيب محفوظ ذاته يقارن نفسه بسويفت (وإن يكن في الحقيقة يميز نفسه منه، ففي رأيه أن سويفت — في رحلات جليفر — قد نقد الواقع عن طريق الأسطورة، أما هو فقد نقد الأسطورة من خلال الواقع).٩

ومع هذا فلن نجد في الرواية وعظًا — على الرغم من الجانب التعليمي المقصود — كما أن الحيوية التي تفتقدها الرواية عن طريق الصنعة الواضحة في بناء الشخصيات والأحداث تعوضها إلى حد كبير واقعية المشكلة الأساسية، وتصوير البيئة تصويرًا حيًّا ملموسًا. إن القارئ يجد الحياة مرسومة أمامه على النحو الذي يألفها عليه (ويكفي أن نفكر في تدخين الحشيش)، غير أنه يفاجأ ببعض المواقف التي تدفعه دفعًا إلى أن يسأل نفسه إن كانت هذه الحياة المألوفة هي الحياة السليمة الطيبة التي يمكن قبولها على المدى الطويل.

إن الحدث المشوق هو الذي يحتل مركز الصدارة، وإن كان التشويق، كما ذكرنا، لا يكمن فيما يحدث، بل في كيفية حدوثه. ومن الواضح أن المؤلف يريد أن يشد اهتمام القارئ البسيط، ويأسره ليتمكن بعد ذلك من إثارة تفكيره.

ربما تبادر إلى الظن أن كتابة الحوار على الأقل باللغة العامية، إن لم نقل كتابة الرواية كلها، كانت تكون أقدر على تحقيق هذا الهدف، ولكن نجيب محفوظ يقصر استخدامه للعامية على الأغنيات والأمثال الشعبية التي يقتبسها، بالإضافة إلى بضع كلمات ومصطلحات تجري على الألسنة في الحياة اليومية، ولو نقلت إلى اللغة الفصحى لبعدت عن هذه الحياة بُعدًا كبيرًا (فالمائدة تظل طرابيزة، والأريكة كنبة، والعرب التي يجرها حصان عربة كارو … إلخ) وكل ما خلا ذلك مكتوب باللغة الفصحى التي يتردد فيها أحيانًا إيقاع قرآني (مثل التعبير الوارد على صفحة ٣٤٤ يؤدي الإتاوة صاغرًا) أو في صيغ عتيقة مثل «فوه» بدلًا من «فمه»، و«فيه» بدلًا من «فمه»، و«فاك» بدلًا من «فمك» (ص٥٥، ٦٩، ٦٧، على عكس الصيغ المألوفة التي ترد على سبيل المثال ص١١٩، ٥٠٧)، وقد نعجب أيضًا لوجود تعبير عامي مألوف مثل «ما فيش فايدة» على هذه الصورة ما فيها (أي الدنيا) فائدة (ص٤٤٨، وربما كانت هنا إشارة إلى تعبير منسوب لسعد زغلول)، ولكن النص في جملته — بصرف النظر عن هذه المواضع القليلة — نص سهل ومقروء، وهذا أمر يتفق مع من يقصده المؤلف. لقد طالما وجَّه اللوم إلى نجيب محفوظ بسبب تمسكه باللغة الفصحى، ولكنه لم يحد عن رأيه أبدًا، ولم يحاول أن يجعل منه مذهبًا متزمتًا. لقد وجد لغة الكتابة التي أمامه هي اللغة الفصحى، ووجد من طبائع الأمور أن يستعملها فيما يكتب. والواقع أن استعمال العامية يمكن أن يصدم كثيرًا من القراء، بدلًا من أن يؤثر فيهم تأثيرًا مباشرًا؛ إذ ليس من المألوف أن تتناول الموضوعات الجادة. أضف إلى هذا دور الفصحى بوصفها وسيلة التفاهم في العالم العربي كله، ونجيب محفوظ لا يكتب لمواطنيه المصريين وحدهم. وأخيرًا فإن اللغة الدارجة تعد في رأيه علامة على الجهل، وهي لن تصلح للاستعمال في عمل فني يهدف إلى نشر الروح العلمية.١٠
أما عن الأثر الذي تركته أولاد حارتنا، فيحتمل أن تكون ظروف النشر قد قللت منه إلى حدٍّ كبير. حقًّا إن نشرها في «الأهرام» قد قربها لجمهور عريض من القراء، ولكن لا شك في أنها قد عانت من تقسيمها إلى حلقات عديدة لم يُراعَ فيها دائمًا أن تكون مطابقة لتسلسل المعنى.١١ ولقد أثار مضمون الرواية — قبل أن يتم فهمه كاملًا — عاصفة من الاهتمام والاتهام. ويقال إن الدوائر الأدبية راحت تتنافس في تأويلاتها المثيرة، بينما عبرت القوى المحافظة، وفي مقدمتها الأزهر، عن استنكارها وسخطها على التجرؤ على المقدسات الذي تصورت وجوده في الرواية.١٢ والحق أن الحكومة لم تقف من الاتجاه العام للرواية موقف الرفض، وإلا ما سمحت بنشرها في أهم جريدة يومية، ولكن ردود الفعل بلغت من الحدة والقوة درجة جعلت المسئولين يفضلون عدم نشرها في كتاب، بل ويزيدون على ذلك تحريم الحديث عنها. ولم أستطع أن أعثر على أي نقد مستقل للرواية في مصر، وإن كنت قد وقعت على بحث لغالي شكري، وهو بحث تفصيلي متعمق ضمنه كتابه عن نجيب محفوظ «المنتمي»، بجانب بعض الملاحظات التي أبداها محمود أمين العالم في سياق إحدى مقالاته التي مس فيها «أولاد حارتنا» مسًّا سريعًا.١٣ وهناك كتاب آخر عن المؤلف وصل به الأمر إلى حد تجاهل الرواية بحجة أنها لم تصدر في كتاب.١٤
ولكننا لو تطلعنا خارج حدود مصر، فلن نجد كذلك — كما كنا ننتظر — عددًا كبيرًا من الدراسات المنشورة عن «أولاد حارتنا». وإذا كانت مجلة الآداب البيروتية قد نشرت عنها أكثر من مقال، فإن هذا أمر لا ينفصل عن حقيقة أن دار الآداب هي التي أصدرت الرواية في كتاب مطبوع، وغني عن الذكر أن هذا لا يقلل من أفضال سهيل إدريس على الرواية، وهو صاحب هذه الدار ورئيس تحرير المجلة.١٥  بالإضافة إلى أنه هو نفسه كاتب مرموق. والحقيقة المؤكدة على كل حال هي أن عددًا كبيرًا من الناس يعرفون الرواية حق المعرفة، ولكنهم يجفلون من التعبير عن رأيهم فيها صراحة. أيكون التحدي أكبر من طاقتهم؟ ربما تكفي هذه الإشارة للدلالة على الموقف الذي نحن بصدده، فيبدو أن من العسير على الكثيرين أن يفصحوا عن المقصود بالجبلاوي، وإذا لم يتحاشَ النقاد الخوض في هذه المسألة، وجدناهم يتحدثون عن المطلق (غ شكري، ٢٣٣، ٢٤٥) أو عن «الإله»، وكأنه ينتمي لديانة غريبة (م. البطوطي، ٨١)، ويندر أن نجد من يتحدث صراحة عن «الله» (ج طرابيشي، ١٨).

إن تحليل هذه الآراء والتعليقات يستحق الجهد المبذول فيه، ولكننا مضطرون في هذا المجال للاكتفاء ببعض الإشارات. فغالي شكري — وهو ناقد شاب ينحدر من أصل قبطي، ويعتنق الاتجاه الماركسي — يفسر مفهوم نجيب محفوظ عن التاريخ تفسيرًا يتفق تمام الاتفاق مع مفهوم المادية التاريخية، والواقع أنه يبالغ في ذلك مبالغة شديدة، ويبدو أنه هو نفسه قد شعر بذلك عندما اعترف في ختام دراسته القيمة بأن نجيب محفوظ يتجاوز الماركسية، ويطرح أسئلة تتخطى مجال الماركسية (ص٢٥٥). وماهر البطوطي يركز في نظرية للرواية على الجانب الميتافيزيقي؛ إذ يرى أن المشكلة الأساسية فيها هي مشكلة الصراع بين الخير والشر. ومحمود أمين العالم — وهو مثل غ. شكري كاتب ماركسي معروف — يبحث عن نوع من التوازن عندما يقرر أن نجيب محفوظ قد أقام في روايته «وحدة جدلية حية» بين العلم والدين وبين النزعة المادية والنزعة الروحية (ص٨٣ وما بعدها)، والواقع أنه بقوله هذا قد أنصف المؤلف أكثر مما فعل النقاد الذين سبق ذكرهم. وناجي نجيب يؤكد بحق العلاقة الوثيقة بين أفكار المؤلف وبين التطور التاريخي في مصر، فمن رأيه أن المجتمع القديم لم يكن قد اختفى سنة ١٩٥٢م كما تصور نجيب محفوظ، كانت الثورة قد بدأت، وكان من الضروري أن تتابع طريقها، وهذه هي القضية التي يدافع عنها نجيب محفوظ في روايته.

أما عن الاستشراق والمستشرقين، فقد نشر جاك جومييه — الذي ندين له بدراسة رائدة عن الثلاثية — بعض الملاحظات القليلة عن «أولاد حارتنا». وتكمن قيمة هذه الملاحظات قبل كل شيء في أنها تعكس الشعور السائد عند نشر الرواية على حلقات مسلسلة. ويرجع الفضل إلى ل. و. شومان في أنه كان أول من نبه الغرب إلى عظمة هذه الرواية عندما وفاها حقها من التقدير في محاضرته التمهيدية التي ألقاها بجامعة أمستردام، وكانت بداية انضمامه إلى هيئة التدريس بها. هذا فضلًا عن دراسة الناقد العبري ساسون سوميخ الغنية وتأملات ب. ج. فاتيكيوتيس عن مفهوم الفتوة في الرواية، ولا يمكنني على كل حال أن أوافق الدارسين الأخيرين على تفسيرهما المفرط في التشاؤم.

لست أعرف في الأدب العربي الحديث عملًا تناول مثل هذه المشكلات المهمة على هذا النحو المثير الذي تناولته به «أولاد حارتنا»، ولا شك أن السؤال الأساسي الذي يحتل منها مكان القلب هو مدى تأثير الدين على الحياة. هل ينكر نجيب محفوظ وجود الله؟ إن تعدد المعاني والإيحاءات أمر مسموح به للأديب، وهو يلجأ إليه هنا كما فعل في مواضع أخرى كثيرة. والحجة التي يسوقها لتبرير ذلك هي أن على الميتافيزيقا أن تتراجع وراء الضرورات الأرضية. إن حياة الإنسان، كما صرح بذلك في أحد أحاديثه، تتألف من مأساة الوجود وعدم الوجود كما تتكون من مآسي اجتماعية أخرى عديدة، كالجهل والفقر والعبودية والبطش. ولا بد للإنسان أن يتحرر من المآسي الاجتماعية التي صنعها بنفسه، وهو قادر على التحرر منها. فإذا فرغ من هذا أمكنه بعد ذلك أن يلتفت إلى مأساة وجوده. وقيام نجيب محفوظ بطرح هذه القضية على بساط البحث أمام الجمهور العريض، لا على نحو سري أو خفي، هو في الواقع من أهم النتائج التي أدى إليها التطور العلماني في الإسلام. ويبدو لي في نفس الوقت أنه قد ساهم بذلك مساهمة طيبة في الأدب العالمي بالمعنى الذي قصده «جوته»، فقد قدم عملًا يستحق أن يضاف إلى الرصيد العقلي والروحي الذي تعتز به البشرية. ولا شك أن ترجمة هذه الرواية إلى اللغات الأوروبية ستظل أملًا نتطلع إليه ونتمناه.

(١٩٧٨م)

ملاحظات

أود أن أقدم شكري للسيد يوسف الشاروني، القاهرة، والسيد الدكتور ناجي نجيب، برلين، على إرشاداتهما القيمة.

  • (١)
    قارن الدراسة الكبيرة التي قام بها الأب جاك جومييه عن الثلاثية تحت عنوان: حياة أسرة قاهرية في ثلاثية نجيب محفوظ، وقد نشرت في مجلة ميديو Mideo، العدد الرابع (١٩٥٧م)، ص٢٧ وما بعدها.
  • (٢)

    فؤاد دواره: عشرة أدباء يتحدثون (القاهرة) دون تاريخ، حوالي سنة ١٩٦٥م، ص٢٨٣ وما بعدها، وراجع كذلك ماهر البطوطي ص٨١، وناجي نجيب ص٣٤ وما بعدها. أما عن المعلومات الببليوجرافية الكاملة عن التعليقات التي صدرت عن أولاد حارتنا، فانظر فيها الملاحظة رقم ١٣ فيما بعد.

  • (٣)

    غالي شكري، ص٢٣٠ وما بعدها، ومجلة ميديو، العدد ٨ (١٩٦٤–١٩٦٦م)، ص٣٤٣، الملاحظة رقم «١».

  • (٤)

    يبدو أن اللهجة العامية في نطق أولاد حارتنا تقتضي وضع كسرة تحت الراء على صفحة الغلاف، وهذا هو الذي افترضه «شومان» في رسمه للكلمة بالحروف اللاتينية. غير أنه من الواضح أن هذا التصرف لا يتفق مع قصد المؤلف، الذي سنتعرض لتحفظاته على اللغة العامية في نهاية هذا المقال. أضف إلى هذا أن التشكيل الكامل «أولاد حارتنا» سيكون له رنين طنان.

  • (٥)

    نجيب محفوظ في حوار مع سمير الصايغ، مجلة مواقف، العدد الأول (أكتوبر–نوفمبر ١٩٦٨م) ص٨٥ وما بعدها. وقد ظهرت الطبعة الثانية للرواية عن دار الآداب سنة ١٩٧٢م. (الآداب السنة العشرون، العدد الرابع، ص١٨، الملاحظة الأولى).

  • (٦)

    راجع بعض الإشارات إلى هذه المسألة لدى شومان ص١٨ وما بعدها.

  • (٧)
    يشير شومان (ص١٦ وما بعدها) وطرابيشي (ص١٩ وما بعدها) إلى احتمال أن يكون نجيب محفوظ قد فكر في فعل جبل (شكل، وصور وإبداع) عند صياغته لاسم الجبلاوي. والواقع أن كثيرًا من أسماء الأعلام في «أولاد حارتنا» ترجح أن تقوم معاني الألفاظ بدور معين في سياق العمل الروائي، ويكفي أن ننظر في اسم عرفة الساحر-العالم (من يعرف). ومع ذلك فإنني أشك في تفسير شومان لاسمي ولدي أدهم (ص١٦)؛ إذ يرى أن «قدري» مشتق من «قدر» (تقدير الله)، وأن اسم همام يأتي من حمَّال الهموم (هم)، ألا تكفي ملاحظة التناظر في الحروف التي تبدأ بها أسماء قدري وقابيل، وهمام وهابيل؟ إنني أفضل قراءة الاسم الأخير هكذا «همام»؛ لأنه اسم شاع استعماله في العصر الأخير. والأرجح أن يكون اسم همام أقرب إلى معنى الإرادة والطموح منه إلى معنى الهم والغم (وقد جاء في «المنجد»: من إذا هم بشيء أمضاه، كما جاء معجم «بيلو» Belot أن الهمام هو الذي ينضج مشروعاته وينفذها). وليس من المستبعد على كل حال أن يكون المؤلف قد استخدم اسم همام وفي خاطره معنى الهم (وقد جاء في اللسان: عظيم الهمة، كما جاء فيه إذا هم بأمر أمضاه لا يرد عنه، بل ينفذ كما أراد)، والغريب أن تطلق أسماء بعض الشخصيات الجانبية مثل كعبلها على رجل وتمر حنة وأم بخاطرها على النساء (والتشكيل هنا غير مؤكد).
  • (٨)

    راجع تصريحه المهم الذي أعلنه في مجلة مواقف، العدد الأول، ص٨٤.

  • (٩)

    انظر حواره مع غالي شكري في مجلة حوار، العدد ٣ (مارس–أبريل ١٩٦٣م) (٧٢، وانظر كذلك ناجي نجيب، ص٣٥).

  • (١٠)

    راجع فؤاد دواره ص٢٨٦ وما بعدها، ومجلة حوار، العدد ٣، ٦٧، وكذلك الأب جومييه في مجلة «ميديو» العدد ٤، ٨٧ وما بعدها.

  • (١١)

    محيي الدين محمد ٧٣.

  • (١٢)

    محيي الدين محمد، غالي شكري، ص٢٣٠ وما بعدها، ٢٥٧.

  • (١٣)

    المراجع التي سبق ذكرها في الهوامش هي التي بلغت إلى علمي عن رواية أولاد حارتنا.

١  أحمد شريف الرفاعي في «الأيام»، عدن، ٢٣ يناير ١٩٦٠م، وقد ذكرها غالي شكري (٣) على صفحة ٢٥٣ من دراسته عن نجيب محفوظ.
٢  محيي الدين محمد، رواية نجيب محفوظ الأخيرة، في الآداب ٨ / ٢ (فبراير ١٩٦٠م)، ص٧٣ وما بعدها.
٣  جاك جومييه، في «ميديو» ٧ (١٩٦٢–١٩٦٣م)، ص١٣٢ وما بعدها، انظر أيضًا لنفس المؤلف في مجلة «ميديو» ٨ (١٩٦٤–١٩٦٦م)، ص٣٤٣ الملاحظة (D).
٤  غالي شكري، المنتمي، دراسة في أدب نجيب محفوظ (القاهرة، ١٩٦٤م)، ص٢٣٠ وما بعدها، وقارن جاك جومييه، غالي شكري والنقد الأدبي، في «ميديو» ٨ (١٩٦٤–١٩٦٦م)، ص٣٣٣ وما بعدها.
٥  محمود أمين العالم، من أولاد حارتنا إلى الشحات، في «الهلال»، يوليو ١٩٦٥م، وقد أعيد نشر المقال في كتابه تأملات في عالم نجيب محفوظ (القاهرة، ١٩٧٠م)، ص٨٢ وما بعدها.
٦  ل. و. شومان، رواية عربية حديثة، أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، (ليدن، ١٩٦٥م).
٧  ناجي نجيب، نجيب محفوظ على أرض الواقع المصري، في مجلة «فكر وفن»، العدد ١٨ (١٩٧١م)، ص٣٣ وما بعدها.
٨  ماهر البطوطي، أولاد حارتنا ومشكلة الشر، في الآداب ١٥ / ٧–٨ (يوليو–أغسطس ١٩٦٧م)، ص٨١ وما بعدها.
٩  ساسون سوميخ، مدينة الألف عام الحزينة، دراسة عن أولاد حارتنا نشرت في MES مجلة دراسات (الشرق الأوسط)، العدد ٧ (١٩٧١م)، ص٤٩ وما بعدها وأعيد نشرها في كتاب نفس المؤلف: دراسة عن روايات نجيب محفوظ (ليدن، ١٩٧٣م)، ص١٣٧ وما بعدها.
١٠  ب. ج. فاتيكيوتيس، فساد الفتوة، تأملات عن اليأس في أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، نشرت في مجلة، MES العدد ٧ (١٩٧١م)، ص١٦٩.
١١  جورج طرابيشي، نجيب محفوظ يعيد كتابة تاريخ البشرية، في الآداب، ٢٠/  ٤ (أبريل ١٩٧٢م)، ص١٨ وما بعدها.
١٢  سامي خشبة في نقده لجورج طرابيشي (٢)، الآداب ٢٠/ ٥  (مايو ١٩٧٢م)، ص٧٤ وما بعدها.
١٣  نبيل راغب، قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ، دراسة تحليلية لأصولها الفكرية والجمالية (القاهرة، ١٦٩٨م)، ص٩.
١٤  راجع مجلة «حوار» ٣، ص٧٣ وما بعدها.
١٥  أذكر هنا للحقيقة التاريخية وحدها أن الصديق الكريم الدكتور سهيل إدريس صاحب «الآداب» ورئيس تحريرها قد اعتذر عن نشر هذا المقال في حينه، وأن شجاعة الناقد المصري الدكتور عبد العزيز الدسوقي هي التي سمحت بنشره في مجلة «الثقافة» التي كان يرأس تحريرها (وكان ذلك — على ما أذكر — في عدد نوفمبر سنة ١٩٧٩م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤