جوته وعصره١

أما عن جوته (فرانكفورت ١٧٤٩–فايمار ١٨٣٢م)، فهو شاعر الألمان الأكبر، صاحب فرتر وفاوست والديوان الشرقي وفيلهلم ميستر، وما لا حصر له من الأشعار الغنائية والقصصية والفلسفية والمسرحيات بأشكالها المختلفة والقصص القصير والطويل والكتابات العلمية عن الضوء والألوان، وتحولات النبات والمعادن بجانب آلاف الصفحات من الرسائل والأحاديث والمذكرات والمراجعات. لم يكن جوته مجرد ظاهرة فريدة في الأدب الألماني والأوروبي فحسب، وإنما كان ظاهرة إنسانية بالمعنى الشامل لهذه الكلمة. لهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يطلق اسمه على عصر بأكمله هو عصر ازدهار الأدب والثقافة الكلاسيكية في ألمانيا.

وأما جورج لوكاش فهو الناقد الماركسي وفيلسوف الفن والجمال المشهور الذي عرفت له اللغة العربية قبل هذا الكتاب كتبًا أخرى مثل «الرواية التاريخية» و«الواقعية الأوروبية المعاصرة» (من ترجمة الدكتور أمين العيوطي)، ودراسات في الواقعية الأوروبية (من ترجمة الدكتور أمير إسكندر ومراجعة كاتب هذه السطور) كما يعرفه كل المشتغلين بنظرية الأدب وفلسفة الفن. ولد لوكاش سنة ١٨٨٥م في بودابست، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعتها سنة ١٩٠٦م. ثم درس بعدها على يدي فيلسوف الحياة جورج زيميل وفيلسوف الاجتماع ماكس فيبر في هايدلبرج. ولم يلبث أن ذاع صيته كواحد من أهم نقاد الأدب في أوروبا بعد صدور كتابَيه الروح والأشكال (١٩١١م) «ونظرية الرواية» (١٩٢٠م). وعندما انضم إلى الحزب الشيوعي المجري عام ١٩١٨م عُيِّن مفوضًا للثقافة والتربية في حكومة بيلاكون الشرعية التي انهارت في أغسطس سنة ١٩١٩م. وفي سنة ١٩٢٣م أصدر الكتاب الذي عُرف به حتى اليوم وهو «التاريخ والوعي الطبقي». وقد أثار هذا الكتاب ثائرة النقاد الماركسيين الحرفيين، ووصفوه بالانحراف والخروج على المذهب مما أدى إلى طرده من الحزب وصحيفته. ولما استولى هتلر على السلطة لجأ إلى روسيا وشارك بالعمل في معهد الفلسفة للأكاديمية السوفيتية للعلوم من سنة ١٩٣٣ إلى ١٩٤٤م. ورجع إلى بلده بعد انتهاء الحرب الثانية، وأصبح عضوًا في البرلمان، وأستاذًا في فلسفة الجمال. وفي ١٩٥٦م شارك في الانتفاضة الشعبية التي سحقها الجيش الروسي، وعمل وزيرًا للثقافة في حكومة أمري ناجي التي لم تعمر طويلًا. ونُفي لوكاش إلى رومانيا ثم سُمح له بالعودة إلى بودابست، حيث اعتزل الحياة العامة، وعكف على تأليف كتابه الضخم في فلسفة الجمال إلى أن مات في سنة ١٩٧١م.

•••

صدر هذا الكتاب الذي نعرض له سنة ١٩٤٧م، في وقت اشتدت فيه النزعة القطعية المتزمتة أو الاتجاه الستاليني في النقد الأدبي الماركسي والواقعية الاشتراكية. فهل تناول لوكاش أدب جوته وعصره بهذه النظرة المتشددة — لا سيما بعد الحملات المتكررة التي تعرض لها، والاعترافات المتتالية التي اضطر إليها — أم عالجه من وجهة نظره الماركسية المتفتحة التي انطبعت منذ البداية حتى النهاية بطابع هيجلي وإنساني لم تتخلَّ عنه؟ سوف نناقش هذه القضية بعد أن نفرغ من عرض الكتاب عرضًا حرًّا نحاول فيه أن نقرب بعض إنتاج جوته للقارئ الذي لم يطلع عليه.

•••

يقدم لوكاش لكتابه بمقدمة يحلل فيها العوامل التاريخية والسياسية التي عاقت مسيرة الأمة الألمانية نحو الوحدة القومية والديمقراطية والثقافة التقدمية التي كانت قد بلغتها أمم أخرى في إنجلترا وفرنسا. وهو يتتبع هذا المسار التاريخي إلى ثورة الفلاحين في سنة ١٥٢٥م، عندما تسببت الهزيمة الساحقة التي منيت بها في كارثة قومية بقيت عواقبها ظاهرة لعدة قرون، وانبثقت عنها ملكية مطلقة أقامت عروشها المستبدة على الأرض الألمانية المفتتة إلى أمارات إقطاعية صغيرة. وعندما اندلعت الثورة البورجوازية أخيرًا (وهي ثورة مارس ١٨٤٨م التي قام الأدب الواقعي بدور كبير في إشعال وقودها) كان نصيبها كذلك الهزيمة وسحق الآمال التي تعلقت بالحرية والوحدة القومية. في ظل هذا التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وعلى أرض الواقع المقهور المجزأ، ازدهر العصر الذهبي للأدب والفكر الألماني الذي نسميه عصر جوته، وهو العصر الذي استمر أكثر من قرن من الزمان، وسطعت فيه كواكب أخرى دارت حول شمس هذا الشاعر الكبير، مثل شيلر وهيردر وياكوبي وأقطاب المثالية الألمانية من فشته إلى شلينج وهيجل. بل إن المؤلف يوسع من حدود هذا العصر، فيمده من لسينج إلى هايني، ويعده واحدًا من أهم العهود التقدمية والثورية في تاريخ التفكير «البرجوازي»، ويمجد اكتشافه للمنهج الجدلي على يد هيجل وجوته، ويعتبره دليلًا على انتصار تيار التقدم على نقيضه الرجعي، وسببًا كافيًا لإنصاف هذا العصر من تهم اللاعقلانية واللاتاريخية التي ألصقت به، وتسليط الضوء على جوانبه الإيجابية التي دفعت حركة التنوير للإعلاء من شأن العقل والنقد والتحرر من التسلط والجهل والخرافة. لهذا كله يمهد المؤلف لإنصاف جوته نفسه ومواجهة الأساطير التي افترت عليه ودمغته بالرجعية ومعاداة الثورة والتكبر على الشعب، وتأكيد مشاركته في حركة التنوير التي هيأت من الناحية الفكرية للثورة الفرنسية الكبرى والتقدم الديمقراطي بوجه عام، بجانب مساهمته في الحركة الواقعية للأدب الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

•••

يبدأ الفصل الأول من الكتاب بالحديث عن رواية «آلام فرتر» التي كانت سببًا في شهرة جوته الشاب شهرة عالمية.

والمعروف أن هذه الرواية قد كتبها جوته للخلاص من محنة حب فاشل لشارلوته بوف أو «لوته» التي كانت مخطوبة لأحد أصدقائه.

والمعروف أيضًا أن الرواية علامة بارزة على عصر أدبي قصير العمر، اصطلح مؤرخو الأدب على تسميته عصر العصف والدفع، ووضعوا فيه الأعمال التي كتبها جوته وشيلر في شبابهما الباكر، وتميزت بالتمرد البطولي والتدفق العاطفي، والانطلاق من كل قيود العقل والقواعد والتقاليد المرعية في الأدب والاجتماع. أثرت فرتر تأثيرًا عميقًا على الوجدان الأوروبي والأدب العالمي. فهل يمكن أن تعد هذه الرواية العاطفية (التي أعقبت ظهورها موجة انتحار أقدم عليها عدد كبير من الشباب الأوروبي) دليل أزمة عاطفية وعقلية تعبر عنها حركة العصف والدفع الأدبية أم علامة على حركة تنوير ألمانية أكدت انتصار العقل على العاطفة؟ إن المؤلف يؤكد الرأي الأخير، ويدافع عنه في وجه «الأساطير» التي روَّجها في زعمه مؤرخو الأدب «البرجوازيون»، وأنكروا بها كل صلة بين فرتر وحركة التنوير الثورية. فما حججه لرفض هذه الأساطير؟

أولها أن هؤلاء المؤرخين يرون أن «العقل» هو المظهر الوحيد للتنوير، وأن ثورة العاطفة والروح هي مظهره المضاد الذي عبرت عنه حركة العصف والدفع من ناحية، كما عبر عنه من ناحية أخرى روسو وريتشاردسون من قبل الحركة الرومانتيكية من بعده. والواقع أن أعلام التنوير مثل «ديدرو» و«لسينج» و«فولتير» لم يكونوا معادين للعاطفة، وإنما وقفوا في وجه الجوانب اللاعقلية وغير الإنسانية منها. والمثل الواضح على ذلك هو مقاومة لسينج لعاطفية كورني وضحالة فولتير في معالجتهما للإنسان في المآسي أو التراجيديات التي كتباها، وهو كذلك التفات بعض التنويريين أنفسهم إلى الجوانب الشعبية التقدمية في أدب روسو وريتشاردسون اللذين عبرا عن تناقضات الطبقة الوسطى في أيامهما.

المهم في هذا السياق أن فرتر وإنتاج جوته المبكر (مثل مسرحيته جوتز فون برليشنجن) هو استمرار للخط الذي سار فيه روسو، وأن ذلك الإنتاج تعبير عن «البؤس» الألماني، والتخلف الاجتماعي والاقتصادي الذي عانته الحياة الألمانية في ذلك الحين. صحيح أن جوته الشاب لم يكن ثوريًّا حتى بمفهوم شيلر في إنتاجه الدرامي المبكر (كمسرحيتيه اللصوص والحب والدسيسة)، ولكن النظرة التاريخية المنصفة إلى فرتر وربطها بالثورة والتنوير وتناقضاتهما تجعلانها ذروة التعبير عن نزعة ثورية طالبت بالتطور الحر المكتمل للشخصية الإنسانية في صراعها مع المجتمع البرجوازي المتخلف والحكم المطلق شبه الإقطاعي في الإمارات الصغيرة في عهده. إن فرتر قد جسد في ذاته جدل الصراع المحتدم بين الشخصية الإنسانية والمجتمع المتخلف الذي يعوق تطورها واكتمالها.

ولعل هذا التطور الحر المنبعث من الشخصية الموحدة أن يكون من أهم الهموم التي شغلت فرتر في تمرده على القوانين الأخلاقية المجردة، كما شغلت جوته نفسه في شبابه وطوال حياته. يؤكد هذا ما يقوله بعد ذلك في شيخوخته في كتابه «شعر وحقيقة» الذي عرض فيه جزءًا من سيرة حياته: «إن كل ما يحاول الإنسان تحقيقه سواء بالفعل أو القول أو بطريقة أخرى، يجب أن ينبعث من مجموع قواه المتحدة، وإن الضرر ليكمن في كل ما هو معزول، تلك قاعدة ممتازة، ولكن اتباعها أمر صعب.»

إن تمرد فرتر على القواعد الأخلاقية المتخلفة في ظل مجتمع إقطاعي متخلف ليعبر عن التناقضات الداخلية لنزعة إنسانية ثورية في عمل إبداعي عظيم. ويكفي مصداقًا لذلك أن يدافع فرتر دفاعًا حارًّا عن حق المواطن في الانتحار، وأن يقول لألبرت — خطيب حبيبته — في إحدى رسائله إليه: «بإمكانك أن تصف بالضعف شعبًا يئن تحت نير طاغية لا يطاق إذا انتفض أخيرًا وكسر قيوده؟» وهي عبارة بسيطة مباشرة تعبر عن ثورة جوته الشاب على المجتمع الاستبدادي والحكم الإقطاعي والرياء الاجتماعي، كما تشير إلى ملامح الإنسان الجديد الذي راح يتخلق في مجرى الإعداد للثورة البرجوازية، ويعلن عن التمرد الشعبي على عقم الطبقات الأرستقراطية وجهلها، وتفاهة الطبقة الوسطى، وركودها ونفاقها. ولعل إهابته المستمرة بأشعار هوميروس وأوسيان — بوصفهما شاعرَين شعبيَّين — وهروبه إلى الطبيعة العظيمة وإلى حياة الشعب البسيط، لعلها أن تكون تعبيرًا عن إيمانه بالشعب المنتج، ومثله الثورية الخلَّاقة. هذه الثورية الشعبية هي التي تجعل من «فرتر» وغيره من أعمال جوته في شبابه أعمالًا ثورية معبرة عن الأيديولوجية البرجوازية في فترة الإعداد للثورة الكبرى في العصر الحديث (الثورة الفرنسية) لا مجرد تعبير عن ثورة وجدانية أو فورة عاطفية عابرة تخلَّص منها جوته عندما سجلها في روايته. وحتى هذه الفورة وتلك الثورة هما في النهاية تعبير فني مكتمل عن مثل النزعة الإنسانية الثورية، وعن التناقض المأساوي في تلك النظم التي عاش في ظلها. ولهذا تعد فرتر أحد المعالم البارزة في أدب القرن الثامن عشر، ورائدًا للأدب الواقعي في القرن التاسع عشر (خصوصًا عند بلزاك وستندال ومانزوني) وهي في الحقيقة تعبير عن مأساة البرجوازية الألمانية في عصر الإقطاع والتجزؤ والاستبداد الملكي المطلق. ولهذا تحطم فرتر على صخور تناقضاته الباطنية التي هي نفسها تناقضات الشخصية المأساوية مع مجتمعها وعصرها. نعم إنها مأساة حب من أعظم مآسي الحب في أدب العالم، ولكنها تجسد مأساة عصر بأكمله وتناقضاته. وربما كانت مأساة فرتر الحقيقية كامنة في عدم تنازله عن مُثله الإنسانية الثورية، واختياره الحر للتحطم عليها بدل المساومة معها. وهذا هو سر جمالها الآسر الذي آذن بإشراق فجر الحرية مع الثورة الفرنسية التي تحطم أبطالها على مذبح أوهامهم، ومثلهم البطولية قبل أن يشدها نابليون إلى عجلة الاستبداد والتوسع الإمبراطوري.

•••

ينتقل المؤلف إلى الفصل الثاني من كتابه، فيتناول القسم الأول من رواية جوته «التربوية» عن «فيلهلم ميستر»، وسيرة حياته التي راح يبحث فيها عن نفسه، متجولًا بين آفاق عديدة، مشتركًا مع شخصيات وجماعات ونماذج بشرية مختلفة، هائمًا بين المسرح والحب والحكمة والتصوف. وقد اقتصر المؤلف كما قلت على القسم الأول من هذا العمل الفريد الذي يعد أهم نتاج أدبي في فترة الانتقال من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر، (إذ فرغ جوته من صيغته النهائية بين عامي ١٧٩٣–١٧٩٥م، في ظل الأزمة الثورية التي بلغت ذروتها في فرنسا في ذلك الحين، مكتفيًا بهذا القسم الذي سماه «سنوات التعلم» عن القسم الثاني «سنوات التجوال» الذي جمعه الشاعر بعد ذلك بسنوات طويلة، ولم يستطع أن يحقق فيه الإحكام والاتساق اللذين اتسم بهما القسم الأول). والجدير بالذكر أن أصول هذه الرواية ترجع إلى حوالي سنة ١٧٧٧م عندما كتب جوته مسودتها الأولى تحت هذا العنوان الدال «رسالة فيلهلم ميستر المسرحية» (وقد عثر على هذه المسودة بمحض المصادفة في سنة ١٩١٠م)، وخصص فصولها الستة لتصوير علاقة بطله فيلهلم بالمسرح الذي لجأ إليه ليلتمس فيه تحرير روحه الشاعرية القلقة من ابتذال العالم البرجوازي وضيق أفقه، وليجد في التمثيل والشعر الدرامي وسيلة لتهذيب شخصيته، والتطور بها نحو الكمال. غير أن الصيغة المتأخرة للرواية تجاوزت حدود المسرح، ووضعت البطل الناضج في مواجهة المجتمع البرجوازي بأسره. وإذا كانت قد أبقت على الفصل الطويل الذي تمثل فيه أجزاء من هاملت، وتدور فيه تفسيرات عديدة لشخصية الأمير الحزين ولعبقرية شيكسبير بوجه عام، فلأن شيكسبير في رأي جوته منذ خطبته المشهورة عنه في شبابه هو طبيعة كاملة رائعة، ومربٍّ عظيم للشخصية الإنسانية المتطورة. بيد أن المسرح قد أصبح في الصيغة الأخيرة لسنوات التعلم والطلب مجرد مرحلة انتقالية إلى الوصف الواقعي الشامل لمجتمع البرجوازية والأرستقراطية، وتصوير الحياة الإنسانية النموذجية على مسرح العالم نفسه. ولهذا نتجول في هذه الرواية وسط متحف كامل من الشخصيات المعبرة عن طبقات مختلفة، ونبحث بينها مع البطل عن مثال الشخصية الموحدة المنسجمة مع نفسها وفقًا للحكمة العريقة «كن نفسك»، ونلمس كافة الضغوط والقيود التي تشوه جمال الطبيعة البشرية في مختلف المراتب الاجتماعية. وإذا كان جوته قد تعاطف مع بعض الشخصيات من مجتمع النبلاء مثل شخصيتي «ناتالي» و«لوتاريو» فلم يكن ذلك عن تحيز أو ضعف، وإنما نظر إليهما على ضوء المُثل الإنسانية، وأشاد بالإمكانات التي يوفرها نبل المحتد والثروة الموروثة لتطوير الشخصية بصورة شاملة. هكذا كانت الرغبة في تحقيق المثل الإنسانية هي المقياس الذي نحكم به على الشخصيات، وهي القوة الدافعة على حركة الرواية بأسرها. كل ذلك في إطار نظرة إلى العالم مؤمنة بالفعل الذي يحرك الكون والإنسان منذ البدء إيمانها بضرورة أن يكون فعلًا محوريًّا يوجه حركته، حتى لا يتحطم أو يتحلل أو يتبدد أو يتحجر في جانب واحد من شخصيته، فتصاب بقية جوانبها بالضمور.

ما الجديد في رواية جوته؟ وما الذي يميزها عن غيرها من الروايات «التربوية» التي سبقتها في عصر التنوير وعصر النهضة؟ الجديد — فيما يرى لوكاش — هو تعبيرها عن المُثل الإنسانية للثورة الفرنسية. ولقد أدرك جوته بواقعيته الراسخة أن تحقيق هذه المثل في المجتمع الألماني المتخلف البائس على أيامه وهم مستحيل، ولكنه أدرك كذلك بوضوح وعمق أن هذه المثل هي النتائج الضرورية التي لا بد أن تنتهي إليها حركته الاجتماعية والتاريخية. ربما تكون هذه رؤية متناقضة للمجتمع، ولكنه استطاع أن يخلق بها ما يشبه أن يكون «جزيرة» داخل ذلك المجتمع المعادي بطبيعته وتكوينه لتلك المُثل، أو قل إنه استطاع أن يصور بها داخل المجتمع القائم مجتمعًا متفاعلًا يمكن أن يحوله نحو تحقيق تلك المثل. ولقد رسم شخوص هذا المجتمع من خلال تطورها الواقعي وتجاربها الواقعية الملموسة، ولم يهبط بها إلى صورة مثالية أو «طوباوية» جوفاء. ولهذا نجده يؤكد الاتجاه التربوي الواعي سواء في تلك الجماعة الغريبة، وهي جماعة «البرج» التي تشبه أن تكون مجتمعًا مثاليًّا أو نحلة سرية من الحكماء وإخوان الصفا، أو في الرسائل التعليمية المتناثرة عبر الرواية، أو في تطور بطلها فيلهلم نفسه تحت إشراف وتوجيه محددين، وبحرية وعفوية تستبعدان أي تأثير للقدر أو للأوامر الأخلاقية المطلقة التي أعلنها فيلسوف مثل كانط.

وعلى الرغم من وجود شخصيات رومانسية في الرواية تأسرنا بسحرها الخلاب وغموضها الموحي — مثل الصبية المسكينة مينون٢ وعازف القيثار الأعمى والكاهنة والراهب الذي يدلي باعترافات مفزعة عن قصة زواجه بأخته — وعلى الرغم من وجود شخصيات أخرى لا نتردد في وصفها بالنفعية والأنانية، فإن الرواية في مجموعها تهاجم الإغراق الرومانسي في الاستبطان الذاتي، كما تنفر القارئ من الفاعلية المحضة التي يمكن أن تبلغ حد الثورة العمياء، لقد وقف جوته في وجه هذين الطرفين المتناقضين، وأدان العاطفية الحالمة (التي سقط فيها فرتر من قبل) كما حذر من النزعة العملية المسرفة على حد سواء، واستطاع بحسه الواقعي المتأصل فيه أن يصوِّر لنا المُثل الإنسانية في صراعها مع الحياة، وأن يرسم صورة البطل الذي يربي نفسه شيئًا فشيئًا؛ ليكون إنسانًا يفهم الواقع الموضوعي على حقيقته، ويشارك في حركته مشاركة فعَّالة مثمرة، ويواجه «نثره» المحبط المعوق بشاعرية وجوده الإنساني الجديد. لقد طالما انغمس «فيلهلم» في حنينه العاطفي إلى المسرح، في صبواته المريرة وجولاته المخفقة، ولكن لم يربه إلا مواجهة الواقع القائم والصراع معه ومحاولة تفهمه وتغييره بشخصيته الفاعلة المتكاملة … إن رواية جوته تعبر عن المثل الإنسانية وأزمتها المأسوية في ظل البرجوازية المتخلفة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر. وهي تجسد مُثل الثورة الفرنسية في عصر الآمال العظام التي جاشت بها نفس جوته ونفوس معاصريه الكبار — على الرغم من تحفظاتهم على أساليب تلك الثورة نفسها وفظائعها الدموية — في مرحلة انتقالية لذلك المجتمع الذي صورت الرواية تناقضاته وتنبأت بحركته نحو مجتمع جديد، وإنسان جديد.

•••

ونأتي للفصل الثالث من الكتاب، فنطلع على حديث المؤلف عن الرسائل المتبادلة بين جوته وشيلر في فترة امتدت من سنة ١٧٩٤م حتى وفاة شيلر سنة ١٨٠٥م. والواقع أن هذه الرسائل التي تنضح بالحب والدفء والحوار الودي العميق حول مشكلات الأدب والفن والحياة تعد من أهم وثائق الأدب الألماني، بل لعلها أن تكون في الأدب العالمي كله من أبدع الآثار التي حافظت على صداقة عقلية نادرة، ربطت بين أديبين كبيرين، على الرغم من اختلاف مزاجهما ونظرتهما للعالم وأسلوبهما في الفن بين الحماس والاتزان، والمثالية والواقعية، والطبيعة والصنعة. أضف إلى ذلك أن هذه الرسائل هي شهادات تلقائية حميمة عن تجارب الشاعرين الخاصة في إبداعهما، وفي صراعهما مع المواد والأشكال الفنية المختلفة، ومحاولاتهما لإيجاد أساس نظري لإنتاجهما، وكل هذا يزيد من أهميتها، بحيث لا يمكن أن يستغني عنها مؤرخ الأدب وناقده، وفيلسوف الفن والجمال. ولا ننسى أن الرسائل كُتبت في ظل أوضاع تاريخية واجتماعية معينة، وأنها تعبر عند الشاعرين عن فلسفة للفن بلغت ذروتها النظرية في عصرهما «عصر المثالية الممتد من كانط إلى هيجل»، وانعكست بصورة أو أخرى على ممارستهما الأدبية؛ ولذلك فإنها تحتم علينا — شأنها في هذا شأن كل الوثائق الخاصة بحياة الفنانين العظام وتجاربهم الإبداعية — أن ندرسها من الناحيتين التاريخية والجمالية في وقتٍ واحد.

كُتبت هذه الرسائل في فترة تمت فيها نخبة من أعمال الشاعرين «الكلاسيكية» التي تميزت بالنضوج الأدبي والنظري، وكان لتعاونهما فضل كبير في إنجاز بعضها، والتوقف عند المسائل الجمالية التي تتعلق بشكلها ومضمونها. ففي هذه الفترة الزمنية كتب شيلر رسائله الفلسفية والتربوية عن الفن والجمال، كما أنشأ عددًا كبيرًا من أشعاره الغنائية المهمة ومسرحياته الكبرى من «ثلاثية فالنشتين» إلى مسرحية «ديمتريوس» التي تركها ناقصة. أما صديقه جوته، فقد أنجز قصيدته الملحمية «هيرمان ودورثيا» (ترجمها للعربية المرحوم محمد عوض محمد)، وكتب مسرحيته «الابنة الطبيعية» التي تمس موضوع الثورة الفرنسية، وأقبل على العمل في روايته الكبرى عن فيلهلم ميستر، وفي مشروع حياته الأكبر فاوست بتشجيع من صديقه المتفاني في حبه وإعجابه به، كما واصل جهوده العلمية وبحوثه عن النبات والضوء والألوان والمعادن.

أين تقع هذه الرسائل من الناحية التاريخية؟

إذا كان إنتاج جوته وشيلر في شبابهما يمثل آخر ذروة فنية لعهد التنوير السابق على الثورة الفرنسية، فإن أعمالهما التي أبدعاها في مرحلة النضج «الكلاسيكي» — ومن بينها هذه الرسائل نفسها — تعبر في رأي «لوكاش» عن الذروة الأولى للتطور الفني للبرجوازية فيما بعد الثورة، بينما تعبر أعمال بلزاك وستندال الروائية عن الذروة الثانية من هذا التطور الفني الذي طُبع بطابع الواقعية (وامتد في مرحلتيه بين اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى سنة ١٧٨٩م، وقيام ثورات التحرر الأوروبية في سنة ١٨٤٨م)، وكأن الأفكار والمشكلات التي شغلت الشاعرين الألمانيين، وقدما لها الحلول والإجابات الممكنة في خلقهما الأدبي وتنظيرهما النقدي والجمالي كانت خير جسر عبرت عليه الواقعية الأوروبية العظيمة التي اكتملت بعد ذلك في منتصف القرن التاسع عشر وأواخره.

من المعروف أن صداقة جوته وشيلر ظلت تشوبها بعض القيود والتحفظات على الرغم من التقدير المتبادل بينهما. وقد بدأت بلقاء تناقشا فيه حول «الظاهرة الأولية» التي اعتقد جوته أنها المبدأ والأصل الذي تتفرع عنه أشكال النباتات وتحولاتها حتى لقد زعم أنه رأى النبتة الأولية رأي العين في صقلية أثناء رحلته المشهورة إلى إيطاليا … ورد عليه شيلر بأن هذه الظاهرة الأولية ليست إلا فكرة أو مثالًا، وأجابه جوته بجفاء: ولكنني رأيتها بعيني! وكاد اللقاء أن يسفر عن قطيعة نهائية. وكتب شيلر إلى أحد أصدقائه في تلك الفترة قائلًا: «إن هذا «الجوته» يقف في طريقي!» غير أن الأيام والاهتمامات والهموم المشتركة حول قضايا الفن والإبداع ما لبثت أن قربت بينهما، ووجد كل منهما في زميله جانبًا يكمل ما يفتقر إليه الآخر، وبقي جوته على وعيه بالفوارق التي تفصل بينهما في الطبيعة والفن على السواء. فهو الشاعر المطبوع أو كما عبر شيلر إلى أحد أصدقائه في تلك الفترة قائلًا: إن هذا «الجوته» يقف بالجزئي الخاص، وترى فيه الكلي العام في مقابل صديقه الذي وصف نفسه في تلك الرسالة المشار إليها بأنه عاطفي أو مثالي يبدأ من الكلي العام، وقد يصل أو لا يصل إلى الخاص. وجوته قد تخطى مرحلة الشباب والحماس التي مر بها في فترة «العصف والدفع»، بينما بقي صديقه المثالي الثائر محتفظًا بالكثير من توقدها. والأول قد بلغ مرفأ الإنسانية المستنيرة الهادئة واستقر فيه، في الوقت الذي ما يزال فيه صديقه الذي يصغره بعشر سنوات مشتعلًا بالثورة على استبداد الإقطاع والحكم المطلق. غير أن كل هذه الأسباب التي كانت خليقة أن تبعد بينهما، وقد سجلها شيلر كما ذكرت في رسالته عن الشعر الساذج والشعر العاطفي،٣ كما عبر عنها جوته في شيخوخته في بعض أحاديثه المشهورة مع «أكرمان» لم تستطع في النهاية أن تحول دون اللقاء الذي يحقق التكامل، ويعمر بالود والتقدير والمحبة. وقد كانت الرسائل المتبادلة بينهما هي أنضج ثمرات هذا اللقاء الذي أكد أن عوامل التقارب والتجاذب بينهما كانت أقوى بكثير من عوامل التباين والتنافر. كل هذه أمور يعرفها قراء الأدب الألماني ومؤرخوه، لكن مؤلفنا — لوكاش — يحاول أن يثبت شيئًا آخر يدفعه إليه منهجه الواقعي الاجتماعي، وهو أن الأديبين الكبيرين كانا مؤمنين عن وعي أو غير وعي بالمضمون الاجتماعي والسياسي للثورة الفرنسية، وإن اتفقا على رفض أسلوبها الثوري والأساليب الثورية على وجه العموم. هذه الرابطة الاجتماعية والسياسية التي حددت نطاق التعاون بينهما هي في رأي المؤلف وراء محاولتهما خلق فن كلاسيكي برجوازي وجهودهما لتوضيح العديد من القضايا النظرية والعملية الكبرى للفن والأدب الذي «أدركا دائمًا أنه هو التعبير عن العصر العظيم الذي بدأ مع الثورة الفرنسية» (ص٦١).

هكذا انعكست الخلفية السياسية والاجتماعية على رؤية الشاعرين للمسائل النظرية والعملية في الفن، كما أثر إدراكهما للتناقضات المتزايدة في الحياة البرجوازية الحديثة على نظرتهما إلى قضية الشكل الفني والأنواع الأدبية، وتداخلها الملحوظ في كثير من الأعمال الشعرية إلى وضع الشاعر نفسه في مجتمع متخلف مختلط الأوضاع، مجتمع دخل مرحلة تقسيم العمل الرأسمالية قبل أن ينتهي من تصفية الإقطاع، وآمن مثقفوه بمثل الثورة الفرنسية مع شعورهم بعجزهم، وتفتت بلادهم إلى إمارات مجزأة يتحكم فيها طغيان الملكية المطلقة والنبالة المستبدة. ولهذا اعترف الشاعران بضرورة تداخل الأنواع الأدبية، واقتراب القصيدة الملحمية من المأساة، ونزوع الدراما نحو الشعر الملحمي، واستحالة المحافظة على نقاء الشكل الكلاسيكي، وصعوبة كتابة الملحمة والشعر الحكمي الموجز «الإبيجرام» على الشاعر الحديث، الذي لم يعد في مقدوره أن يلتزم بقواعد الفن الإغريقي أو يحاكي النماذج الأدبية الإغريقية. ولعل الشاعرين قد مهدا بذلك كله لضرورة تجاوز الكلاسيكية وأشكالها وقواعدها نتيجة لضغط المادة الجديدة وتناقضات الحياة الاجتماعية الحديثة. ولقد جاءت الحركة الرومانسية، فحققت التداخل بين الأشكال والأنواع الأدبية إلى حد الخلط والاضطراب اللذين حذرا منهما، ثم سرعان ما جاءت الواقعية، فاستوعبت الطرفين وتجاوزتهما معًا (والغريب أن بعض أعمال الشاعرين قد حققت هذا بالفعل قبل ظهور الرومانسية والواقعية كتيارين متميزين بزمن طويل، كما نرى مثلًا في رواية جوته «فيلهلم ميستر»، وفي فاوست، وفي مسرحية وليم تل لشيلر).

•••

ونصل أخيرًا إلى العمل «البربري» الذي لا يقاس به أي عمل آخر من أعمال جوته (كما قال عنه بنفسه!) إلى إلياذة الحياة الحديثة (كما وصفها الشاعر الروسي بوشكين) إلى القصيدة الكبرى التي خرجت عن حدود الملحمة والدراما والشعر الغنائي إلى فاوست … هذا الفرد الواحد الذي يلخص مصيره مصير البشرية كلها.

أدرك جوته منذ شبابه الباكر ما تنطوي عليه أسطورة فاوست الشعبية من إمكانات شعرية هائلة، وظلت تشغل عقله ووجدانه ما يقرب من ستين عامًا من عمره الطويل، فراح يعالج مادتها الزاخرة في صيغ ومقطعات وصور ومشاهد متفرقة يبتعد عنها سنوات طويلة ثم يعود إليها، حتى فرغ من كتابة القسم الثاني منها قبل وفاته بقليل. وكان من الطبيعي أن تنضج القصيدة الكبرى مع نضجه، وأن تعكس تحولات حياته وفكره كما تعكس التحولات الجذرية التي غيَّرت مجتمعه وعصره. ولم يكن الأمر مجرد تشخيص لمصيره الشخصي أو لذاتيته الخاصة في موضوع شعبي أسطوري، وإنما كان «تطويرًا مستقلًّا متميزًا للوعي الذاتي القومي، بل للوعي الذاتي للبشرية» (ص٩٠).

لقد سبق لجوته الشاب أن عالج أساطير شعبية (مثل فاوست الأصلية في مسودتها الأولى، واليهودي التائه وبروميثيوس) أو شخصيات تاريخية تحيط بها هالة من التراث والتقاليد الشعبية (مثل شخصية النبي محمد وشخصية قيصر)، إلا أن هذه الموضوعات جميعًا لم تكن لها جذور في الحاضر، ولهذا اقتصر تعبيره عنها على بعض الشذرات الغنائية أو المشاهد المسرحية الناقصة التي بقيت شخوصها أشباحًا غامضة مفتقرة إلى الحركة والفعل. فلما أن عالج موضوعًا من التاريخ الألماني من عصر الإصلاح الديني مثل ثورة «جوتز فون برليشنجن» في مسرحيته المعروفة بهذا الاسم ظل هذا الشخص التعس — كما سماه ماركس — بطلًا وهميًّا من أبطال الحرية الجوفاء، وتحتم عليه الاندحار والسقوط بسبب تشوش مفهومه عن الحرية والواقع والتاريخ. ولعل هذا أن يكون أيضًا هو السبب في بقاء الصياغة الأولية لفاوست — التي كُتبت في نفس الفترة الزمنية تقريبًا — شذرة ناقصة مفككة، واحتياج المشروع الكبير إلى عشرات السنين؛ لكي ينضج مع نضوج جوته نفسه وتطور تصوره للتاريخ والحرية وتناقضات مجتمع متخلف عاجز عن الثورة الحقيقية. فلما أن عكف على «فاوست» اتسعت فكرة «الفارس المعتمد على ذاته» وازدادت عمقًا، واستوعبت العالمين الكبير والصغير، وضمت الماضي والحاضر والمستقبل، وطرحت قضايا الطبيعة والمعرفة والخير والشر، والعلاقة بين الفكر والعمل، وتطور سعي الإنسان وجهده المحدود على الأرض بصورة شاملة، ومختلفة اختلافًا جذريًّا عن الصورة التي قدمها عصر الإصلاح الديني للأسطورة الشعبية.

ولعل الإحساس بجدلية الحياة والفكر والطبيعة والتاريخ — هذا الإحساس الذي نجده بصورة حدسية غامضة عند بعض أقطاب عصر التنوير الألماني مثل جوته نفسه وصديقه وراعيه هيردر، ومن قبلهما «هامان» قبل أن يكتمل في صيغته المثالية الرائعة لدى هيجل — لعله كان وراء هذا التطور في تصوُّر فاوست الذي أصبح يعكس بمتناقضاته تناقض الحياة والتاريخ والواقع الاجتماعي والإنساني جميعًا، كما يعكس تطور تفكير جوته الفلسفي، ونظرته إلى العالم في اتجاه هذه الجدلية الحيوية الشاملة. والتتبع التفصيلي للفوارق الأساسية بين فاوست الأصلية (التي ترجع إلى خريف سنة ١٧٧٥–١٧٧٦م) وشذرة فاوست (لسنة ١٧٩٠م)، وبين الصياغة النهائية للقسم الأول أتمه جوته سنة ١٨٠٦م يبين تأثير هذا التطور التاريخي والفكري والفلسفي الذي انعكس على بنية فاوست ومختلف قضايا المعرفة والحياة والخير والشر والحب والمصير … إلخ، التي عبرت عنها القصيدة الكبرى التي بين أيدينا اليوم.

إن فاوست في هذه القصيدة الشاملة الفريدة فرد تمثل تجاربه وتطوره ومصيره تقدم البشر كلهم ومصيرهم. ويكفي أن نقرأ معًا هذه الأبيات التي يقولها في حواره مع الشيطان مفيستو فليس (وقد وردت شذرة سنة ١٧٩٠م مؤذنة بالتعديل الجديد للقصيدة):

أود أن أتمثل في أعماق كياني
ما قدر للبشرية جمعاء.
أن أدرك بعقلي أسمى الأشياء في نظرهم وأعمقها،
وأجمع في قلبي سعادتهم وشقاءهم.
وبذلك أصل ما بين كياني وكيانهم.
وأتحطم في النهاية كما يتحطمون.
(القسم الأول حجرة الدرس ١٧٧٠–١٧٧٥)

نعم لقد نجحت هذه الإلياذة — أو بالأحرى هذه الأوديسة — الحديثة في أن تلخص في مسيرة فاوست من السقوط والبؤس إلى الارتفاع والخلاص مسيرة البشرية ذاتها، دون أن تضحي بالخصوصية والعينية التاريخية والبشرية للبطل، أو تقضي على الحيوية الشعرية التي تميزه كما تميز سائر الشخصيات والمواقف. ولا شك أن هذه المحاولة الموسوعية لتصوير العالم كله ومسيرة البشرية بأسرها كان من الممكن أن تتعرض لأخطار التعميم التي وقع فيها شعراء عظام قبل جوته (مثل ملتون في فردوسه المفقود والمستعاد وكلوبشتوك في قصيدته الملحمية عن المسيح)، ولعل هذا هو الذي جعل فاوست كما ذكرنا إنتاجًا لا يقاس به إنتاج غيره، وهو الذي أتاح للمؤلف أن يحاول — بمنهجه الجدلي التاريخي — تفهم علاقاتها الخفية وجذورها التاريخية.

ولعله كذلك قد شجَّعه على أن يعقد موازنة بين فاوست وظاهريات الروح لهيجل (التي اتفق الفراغ منها في سنة ١٨٠٧م وفي وقت واحد على وجه التقريب مع إتمام القسم الأول من فاوست)، وإذا كانت فاوست كما ذكرنا تلخص في حياة فرد نموذجي واحد وتجاربه ومصيره تطور البشرية كلها، وكانت الظاهريات تطورًا للوعي الفردي خلال مراحله المختلفة منظورًا إليه كتلخيص للمراحل التي قطعها وعي البشر في مجرى التاريخ، فإن الموازنة تصبح ممكنة ومشروعة على الرغم من الهوة الفاصلة بين عمل شعري وآخر فلسفي … وإذا كان هيجل في ذلك الكتاب — الذي يعد بجانب فاوست أهم المنجزات الفكرية في العصر الكلاسيكي في ألمانيا — إذا كان قد نظر إلى التطور التاريخي برمته بوصفه عمل الإنسان نفسه، وأدرك أن الإنسان الحقيقي يخلق نفسه من خلال عمله الخاص، فإن هذه على وجه التحديد هي الصياغة الفلسفية العامة لفاوست، كيف تنشأ قواه الباطنية وتتطور وتتخطى العقبات وتواجه مصيرها، وكيف يؤثر عليها العالم الموضوعي — الطبيعي والاجتماعي التاريخي — ويكون في نفس الوقت نتاجًا لها، أو ميدانًا لفعلها الخلاق لذاتها، من أين ينطلق كل هذا وإلى أين يؤدي …

ذلكم هو موضوع فاوست والبؤرة الفكرية الخفية التي تربط كافة علاقاتها وأجزائها وصورها ومواقفها (على الرغم من أن جوته قد أصر دائمًا على رفض الاعتراف بأنه قد سعى إلى تجسيد أية فكرة فيها)، ولهذا يمكن القول بأن مأساة فاوست هي في الواقع «ظاهريات» (فينومينولوجيا) شعرية للنوع البشري كما تتجلى في مسيرة وعي فاوست ومصيره الفرديين، بعيدًا عن أي منطق محدد أو فلسفة تعسفية. هي مأساة فرد كما وصفها صاحبها؛ لأن تطور النوع نفسه ليس مأساويًّا، وإنما يجري عبر مآسٍ فردية ضرورية لا يحصيها العد، مآسٍ جربها فاوست (مع روح الأرض، وحبيبته جريتشن التي تخلَّى عنها، ورمز الجمال المطلق هيلينا التي تزوجها وأنجب منها أعجوبة شبه بشرية عاجزة، وموته في النهاية عندما كان يحفر قناة لري الأرض المنتزعة من البحر، فإذا به يحفر قبره)، وكلها تؤكد أن خلاص النوع لا يتم إلا بتحطيم الفرد، وأن الكلي اللامتناهي لا ينتج إلا عن هلاك الجزئي المتناهي، وأن عجلة التطور المتصل للعالم الأكبر لا بد أن تمر فوق مآسي العالم الأصغر … ولعل هذا كما ذكرت من قبل هو الذي يجمعه (أي فاوست) بظاهريات هيجل، على الرغم من كل ما يفرق بين إبداع شعري وآخر فكري.

•••

آمن «جوته» بوجود نواة كامنة في باطن الإنسان، نواة لا تقبل الفساد مهما أغراه الشيطان، ومهما تورط في الذنوب والأخطاء، والصراع من أجل هذه النواة الطاهرة رغم الزلات والكبوات هو موضوع العقدة الحقيقية لفاوست، وموضوع الصراع الدائر بينه وبين الشيطان مفيستوفليس.

لقد أعلن مفيستو في مفتتح العمل الشعري كله، وهو «الاستهلال في السماء»، أنه سيجعل فاوست «يلتهم التراب بلذة». وهو لا يخفي رأيه في الإنسان، أو في عقله الذي يستخدمه عندما يخاطب الله سبحانه بقوله:
كان من الممكن أن يحيا خيرًا مما يحيا الآن
لو لم تنعم عليه بظل النور السماوي،
إنه يسميه العقل، ولكنه لا يستخدمه
إلا ليكون أكثر وحشية من كل الوحوش.
(الأبيات ٢٨٣–٢٨٦)

بهذا حدد فكرته عن العالم والاتجاه الذي تسير فيه إرادته، كما حدد ميدان نشاطه وقوته. فهدفه — كما كان في الأسطورة الشعبية — هو امتلاك روح فاوست، لكن جوته يخرج في عرضه الحي لتحقيق هذا الهدف خروجًا عن الأسطورة. فقد ظلت هذه تحمل طابع القرون الوسطى، وتعبر عن التضاد الحاد بين الخير والشر المتصارعين على كسب روح الإنسان. أما الآن فقد أصبح الصراع يدور بأكمله في الباطن كما أصبح «مفيستو» يمثل جانبًا من شخصية «فاوست»، وتطوره النفسي والتاريخي الخاص، بقدر ما يحتفظ بملامح وجهه المتميز إلى الحد الذي ينكر معه طبيعته الشيطانية، ويخلع عنه كل ملامحه العرضية والسحرية التي ألصقتها به الأسطورة، حتى ليعلن أن طريق فاوست إلى الخلاص أو اللعنة إنما يعتمد عليه وحده:

وحتى لو لم يسلم نفسه للشيطان
لكان قد هلك مع ذلك …

لقد فقد الشيطان طابعه المتعالي أو فوق الطبيعي بمثل ما أكد فاوست مكانه فوق الأرض، وحركته في التاريخ:

من هذه الأرض تنبع أفراحي،
وهذه الشمس هي التي تضيء أتراحي،
ولو أوتيت القدرة على البعد عنهما
فليحدث عندئذٍ ما شاء له أن يحدث.
(١٦٦٣–١٦٦٦)

وتتوالى المشاهد بعد هذا الحوار الرئيسي الأول بين فاوست ومفيستو. وتتحول الأسطورة الأصلية إلى صراع من أجل حماية النواة الباطنة من كل الإمكانات «الشيطانية» داخل الإنسان نفسه (أي داخل فاوست وجوته الذي يعبر الإنسان والشيطان كلاهما عن ذاته ومعتقداته) وهذا الصراع بين الخير والشر هو الذي يولد الاتجاه نحو التطور، وهو الذي يعبر عن «الاستقطاب» الدائم في نظرة جوته إلى العالم، كما يعبر عن إيمانه بمستقبل البشرية. فحتى الشر في هذا الجدل الطبيعي الحي يمكن أن يكون عجلة للتقدم الموضوعي، تشهد على هذه العبارة المشهورة التي يعترف فيها مفيستو بأنه جزء من تلك القوة التي تريد الشر دائمًا وتخلق الخير على الدوام (البيتان ١٣٣٥–١٣٣٦) أن بذور الخير يمكن أن تكمن في الشر، كما يمكن أن يكون ثمة شيء شيطاني في أسمى المشاعر. وهذا التأرجح على حد الموسي هو الذي يؤلف الدراما الداخلية في فاوست، التي تؤلف بدورها جزءًا من الدراما أو بالأحرى من الجدل الكلي. وهنا يحاول المؤلف أن يثبت أن جدل الخير والشر يعبر عن المرحلة التي شهدها جوته من تطور الرأسمالية، وأن جشع الشيطان إلى الذهب والمال والجنس بوصفها الخير الأسمى هي كذلك تشخيص حي للرأسمالية، ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن نجد مفيستو في القسم الثاني من فاوست يصبح هو مخترع النقود الورقية، ورمز سيطرة المال على أوضاع مجتمع إقطاعي مضمحل، وأن نراه يساعد فاوست على إخضاع البحر للفعل الإنساني، فيبني مرفأً وتزدهر تجارته، كما يعينه على إتمام سيطرته على أرضه ومملكته الجديدة بمصادرة قطعة الأرض الصغيرة التي كان العجوزان الطيبان «فيلمون وباوكيس» يقيمان عليها كوخهما الفقير، وطبيعي أن تكون مساعدته بالطريقة الرأسمالية المعتادة، أي بالنار والسيف! ومع ذلك فإن الصراع بين فاوست ومفيستو يتعدى هذا الجانب الرأسمالي الأساسي في شخصية الشيطان؛ لأنه صراع روحي وأخلاقي يمتد إلى قضايا الحياة البشرية، ويعكس في حركة صعوده وهبوطه تأثير الاتجاهات الشيطانية على روح الإنسان. ومسيرة هذا الصراع كله هي وحدها التي تقدم الجواب على الرهان بين الله والشيطان، وتبين انحلال العقيدة في مصير فاوست. والواقع أن اللقاء بين فاوست ومفيستو، حتى فيما يتعلق بالرهان ليس إلا لقاء على ساحة المعركة. وبالرغم من أنهما يوافقان معًا على الرهان الذي تم منذ البداية في «الاستهلال في السماء»، فإن كلًّا منهما يفهم معنًى مختلفًا لنفس الكلمات. إن جهد مفيستو الشيطاني يتركز في عرض الحياة على فاوست، ولكن فاوست يحمل في ذهنه شيئًا مختلفًا تمامًا عن التمتع بالحياة. إنه يريد تحقيق إمكاناته الفردية وتطويرها، بحيث يمكنه أن ينفذ إلى الواقع، ويعرفه ويسيطر عليه — كما حدث بالفعل في نهاية القسم الثاني عندما اتجه إلى خدمة المجموع بالعمل المثمر — تدل على هذا تلك الأبيات المشهورة التي لم يستطع مفيستو أن يفهمها أبدًا؛ لأنها لم تقصد الاستمتاع باللحظة العابرة، وإنما أرادت التحقق في واقع ما يزال يتمثَّل له رؤيا في المستقبل:

إن قلت للحظة يومًا:
تريثي قليلًا فما أجملك!
فبإمكانك أن تقيدني بالأغلال،
وسيكون الموت هو أقصى مناي!
عندئذٍ فلتقرع أجراس الموت،
ولتوقف عقارب الساعة،
فلقد ذهبت أيامي وانقضى زماني!
(الأبيات ١٦٩٩–١٧٠٤ حجرة الدرس)

كان فاوست يتطلع إلى الحياة بمعناها الإنساني الشامل لا إلى الاستمتاع الحسي بالحياة. ولهذا يبلغ الصراع بينه وبين الشيطان ذروته في مواقف يصعب الحديث عنها هنا بالتفصيل: في الرهان بينهما، وفي مأساة جريتشن، وفي نشاط فاوست العملي الأخير. في هذه المواقف كلها لم يلتهم فاوست التراب كما تصور الشيطان، ولم يستسلم لمتعة اللحظة العابرة؛ لأنه كان دائمًا ينتظر «السعادة العظمى في لحظة متناهية الجلال» لعلها أن تكون هي اللحظة التي تحقق وعد الله سبحانه في نهاية فاوست:

«من أخلص في مسعاه، كتبنا له النجاة» (البيتان ١١٩٣٦–١١٩٣٧)، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتسم المشاهد الختامية من القسم الثاني من فاوست بمزيد من المناجاة (المونولوج) العميقة في دراميتها ومأساويتها؛ ذلك لأن مفيستو لا يساهم في الصراع الداخلي الذي يخوضه فاوست ضده. لقد كرس فاوست نفسه للنشاط العملي، وراح يعمل على إخضاع الطبيعة للإنسان، وانتزاع اليابسة من البحر لخدمة المجموع. تجاوز مرحلة الاستمتاع الجمالي بالعالم (وإن ظل ينظر إليه كشيء متعالٍ خالد)، فأصبح بالنسبة إليه ميدانًا للنشاط العملي والسيطرة البشرية «وطريقًا وحيدًا للخروج من الفوضى الشيطانية والسحرية للعصور الوسطى» (ص١٤٣)، ولكنه جعل نفسه بذلك أكثر تعرضًا لتهديد مفيستو مما كان عليه عندما وقع في حبه الفردي لجريتشن. لقد سقط الطابع الفردي عن صراعاته الداخلية، وعذاب الندم الذي يعانيه بسبب موت العجوزين الفقيرين اللذين أشرنا إليهما قد صار عذابًا من أجل المجموع، وارتبط بالأسس الاجتماعية والإنسانية لطريقة تصرفه بأسرها. ويسلط عليه مفيستو «الهم» في صورة امرأة تطفئ نور عينيه، ولكنه يعجز عن فرض سلطانه عليه، وينجح في أن يعمي عيني جسده لا عيني روحه.

ويتجه فاوست كما قدمت إلى النشاط العملي الذي يحقق «التقدم للحشود البشرية»، ولكنه يتبين أن هذا النشاط مستحيل بدون مساعدة مفيستو الفعَّالة. لقد حلم بأن يشق طريقه نحو الحرية، ويطرد السحر من طريقه، ويقف أمام الطبيعة مجرد إنسان يجد سعادته في كونه إنسانًا قادرًا على التحقيق العملي لما يراه صحيحًا من خلال قوته الخاصة وفاعليته الخاصة وحدها، لكنه يدرك أن ذلك مستحيل بدون مساعدة مفيستو، وأن البديل عن السحر هو العودة اليائسة إلى غرفة دراساته التأملية الكئيبة (ولعله قد أدرك أيضًا — فيما يفسر لوكاش — استحالة تطور القوى المنتجة في المجتمع البرجوازي، إلا في ظل الرأسمالية التي يجسد مفيستو استغلالها وطغيانها بالذهب والمال والجنس، ولهذا السبب تظل محاولة فاوست للابتعاد عن السحر محاولة عقيمة، ويبقى حلمه بمستقبل مشرق للإنسانية مجرد حلم. ص١٤٨)، ومع أن فاوست — مثله مثل جوته — يحلم بهذا المستقبل؛ لأنه خصم لدود لكل الثورات، فإن محتوى حلمه بالغ الأهمية والدلالة على شخصيته. إنه لا يزال يسعى وراء الأهداف السامية للجنس البشري. ومع أنه قد اكتفى أيضًا حتى الآن بتحقيقها في تطوره الذاتي الباطن، فإننا نجده في ختام القصيدة الكبرى يعبر تعبيرًا واعيًا عن الرغبة في النضال الجماعي الحر من أجل هذه الأهداف. ولهذا نراه في مناجاته الأخيرة مصرًّا على حلمه العظيم، بينما الواقع يتناقض مع هذا الحلم تناقضًا مؤلم السخرية. ففي الوقت الذي يتصور أنه واقف مع الحشود على أرض حرة ذات شعب حر، إذا بأرواح الموتى تحفر قبره بأمر من مفيستو، وهو يظن أنها تحفر قناة تجري بالعنصر المخصب للرمال:
هكذا أفتح الآفاق لملايين كثيرة
تعمرها بحرية ونشاط،
وإن لم تكن آمنة مطمئنة،
ويصير الوادي أخضر خصبًا،
ويستريح الإنسان والقطعان
فوق الأرض الجديدة.
وهنا في الداخل تترعرع جنة،
وإذا ما عربد الطوفان في الخارج، حتى بلغ الحافة،
وراح يقرضها بأنيابه ويحاصرها بعنف،
سارع البشر سوية لسد الثغرات.
هذا هو فصل الحكمة والمقال.
لا يستحق الحرية والحياة
إلا من يصر على غزوهما كل يوم!
وهكذا يقضي الأطفال والرجال والشيوخ،
وقد أحاطت بهم الأخطار،
سنوات عمرهم الحافل بالنشاط.
ولكم أود أن أرى هذه الحشود
واقفة على أرض حرة مع شعب حر،
حينئذٍ يحق لي أن أخاطب اللحظة وأقول:
تريثي قليلًا فما أجملك!
وعندها لن تمحى في الآباد
آثار أيامي التي قضيتها على الأرض.
إني لأستشعر تلك السعادة القصوى،
وأستمتع الآن بأسمى اللحظات.
(القسم الثاني، الفصل الخامس، ١١٥٦٣–١١٥٨٦)

ولعل هذا التناقض يتناسب أخيرًا مع تلك الجدلية أو الثنائية الروحية التي ألح عليها المؤلف في تقييم جوته للتقدم البشري. لقد عجز في رأيه عن إدراك الحياة الاجتماعية والاقتصادية للرأسمالية الناشئة إدراكًا تصوريًّا واضحًا، فعبر بدلًا عن ذلك بحدسه الشعري عن دورها المتناقض في تطور الإنسانية. وإن حلم فاوست الأخير بالمستقبل ليصور بإيقاعه القاسي المدمر تصويرًا كافيًا نظرة جوته إلى هذا التناقض، الذي لم يحل أو لم يستطع هو نفسه أن يجد له حلًّا، وإن عظمته الشعرية لتكمن في طرحه لهذا التناقض (الذي جعل فاوست يضع تحقيق حلمه الكبير بالعمل من أجل المجموع بين يدي مفيستو كما يضع في يديه كذلك إمكانية تحطيمه)، ويكفيه صدقًا أنه صور لنا احتدام هذا التناقض في نفس فاوست، وكشف عن قدرة «نواته الباطنة» على الصمود والبقاء نقية في صراعها مع الشيطان. وهو صادق، حتى في عجزه عن أن يقدم أكثر من حلمه المشرق بالمستقبل، بل ربما بسبب هذا العجز نفسه (الذي كان في رأي لوكاش تعبيرًا أمينًا عن الوعي البرجوازي العاجز في عصره عن رؤية الواقع الموضوعي رؤية ثورية صحيحة)، ولعل صراع فاوست للحفاظ على نقاء نواته الباطنية أن يكون دليلًا شعريًّا حقيقيًّا على الإيمان بأن البشرية رغم مفيستو ورغم الرأسمالية لم يحكم عليها بالسقوط في أيدي الشيطان، ولا «أكل التراب» كالدودة الحقيرة! وهي لن تسقط ما بقيت على إيمانها بأن النجاة والخلاص من نصيب من يسعى بأمانة وإخلاص.

يشعر القارئ بعد هذا العرض الموجز لفصول الكتاب أن القضايا الجمالية البحتة لم تأخذ حقها الكافي، أو يشعر على الأقل بأنها التحمت بالمسائل التاريخية والاجتماعية، بحيث لا تنفصل عنها تأثيرًا وتأثرًا. ويأتي الفصل الأخير استجابةً لهذه الحاجة النظرية والجمالية، فيحلل المفاهيم الفنية الأساسية التي قامت عليها أعمال جوته الشعرية، وفي مقدمتها فاوست.

وفاوست من الناحية الجمالية إنتاج لا يقاس به غيره. إنها كما ذكرنا من قبل ليست دراما ولا ملحمة، وإن جمعت أفضل خصائص النوعين. فهل يكفي أن نصفها بأنها قصيدة كبرى عن تطور الجنس البشري من خلال تطور فرد ومصيره؟ أم يقتضي الأمر النظر في بعض أفكار جوته النقدية قبل التسرع إلى هذا الحكم؟

لقد حاول جوته وصديقه شيلر — في رسائلهما التي تحدثنا عنها — تمييز الدراما والملحمة وتحديد الطابع النوعي لكل منهما. ولم يأتِ حرصهما على ذلك بدافع نظري محض، وإنما كان الأمر ضرورة اقتضتها عملية الإبداع ذاتها عندما وجدا نفسيهما في مواجهة مضامين تتأبَّى على الشكل الدرامي أو الشكل الملحمي وحده، وتفرض عليهما التسليم بالتفاعل بينهما. وقد أخذ جوته على عاتقه تحديد المفاهيم الأساسية لكل منهما، وكان من أهمها أن كل شيء في الملحمة يصور كماضٍ، في حين أن كل شيء في الدراما هو حاضر. بهذا تكون فاوست بحق عملًا دراميًّا يقوم على الحضور المحسوس لأشكال الوعي التي يمر بها فاوست خلال اكتمال تطوره الروحي في مشاهد تصور الحقيقة الواقعية لكل مرحلة من مراحله، وكأن كلًّا منها — كما صرح جوته نفسه لصديقه وتلميذه أكرمان — عالم مستقل صغير، لا يتماس مع بقية العوالم، ولا يرتبط بالمجموع إلا بعلاقة رخوة مع الأحداث السابقة واللاحقة. والغريب أن هذا المبدأ الدرامي في التأليف هو الذي يخلق الطابع الملحمي للعمل ككل! فالعوالم الصغيرة المستقلة تفتقر إلى الترابط الضروري الذي تفترضه الدراما، ولهذا يبقى العمل في مجموعه غير قابل للقياس، ويظل مسألة مفتوحة وغير محلولة تحفز الناس باستمرار إلى التأمل فيه. ومعنى هذا أن فاوست تحقق التفاعل بين المبادئ الدرامية والملحمية؛ لأنها إذا كانت درامية في كل جزء منها، فهي ملحمية في استقلال هذه الأجزاء داخل تصور كلي (كما كتب إليه شيلر بحق). ويبدو أن جوته قد استفاد من هذه التأملات النظرية في طبيعة الدراما الملحمية عندما عاد إلى «عمله البربري»، وهو يائس من تحقيق صفته الدرامية أو الملحمية بصورة كاملة. ولهذا لا يفاجئنا قوله لصديقه إنه سيحرص على أن تكون الأجزاء ممتعة ومسلية، أما الكل فسيبقى دائمًا شذرة ناقصة … والواقع أن تداخل الدرامية والملحمية في بنية فاوست أمر يقوم — كما أشرنا من قبل — على موقف جوته من المأساة ونظرته الشاملة إلى العالم. فهو يرى أن المراحل النموذجية لتطور البشرية سلسلة من المآسي، ولكنها في مجموعها الكلي ليست مأساوية. ولا بد أن اعتقاده بالضرورة الكونية ووحدة الوجود التي تأثر فيها بفلسفة اسبينوزا قد أثرت بدورها على هذه النظرة العالمية، كما اقتضى التعبير عنها بصورة مكثفة وشاملة ذلك الشكل الدرامي الملحمي الذي يحقق ديناميكية الأجزاء وتوازن الكل. ولهذا يصبح من الخطأ أن نتصوَّر فاوست كما لو كانت ملحمية مكونة من درامات منفردة أو دراما كبرى مؤلفة من أجزاء ملحمية. فالتداخل بين الشكلين ملموس في كل جزء من أجزائها؛ لأن مصير نموذج إنساني (أي مرحلة من مراحل تطور البشرية)، يتقرر أمام أعيننا على أساس الجدل الكامن في تناقضاته الداخلية وبطريقة مأساوية في معظم الأحيان، كما أن كل جزء من جهة أخرى هو ملحمة؛ لأن الصدق الضروري لهذا النموذج أو النمط الإنساني أو هذه المرحلة من التطور البشري قد استلزم إعطاء الوسط الاجتماعي لهذه التناقضات امتلاءً ملحميًّا يتعدى ما هو درامي بحت. بهذا أمكن أن تصبح فاوست رواية تربوية من طراز «فيلهلم ميستر»، أو ملحمة هوميرية حديثة تتضمن سلسلة من الدرامات.

هكذا أدرك جوته وشيلر أن التفاعل والتداخل بين الدراما والملحمة من سمات «الأدب الواقعي» الحديث الذي بدأ في أواخر أيامهما وأعمالهما. وقد تأكدت هذه السمة المميزة، حتى صارت اتجاهًا عامًّا أبرزه «بلزاك» بعد ذلك بنصف قرن في مقدمته للكوميديا الإنسانية عندما شدد على العنصر الدرامي والطابع التاريخي للرواية الحديثة في القرن التاسع عشر (عند بلزاك نفسه وستندال ووالتر سكوت ومانزوني وغيرهم) خلافًا لما كانت عليه في القرن السابق عليه. ولا شك أن أعمال جوته قد أقامت «الجسر الجمالي» بين هذين القرنين، وعبرت عن ذروة اكتمال المفاهيم الفنية في عصر التنوير كما تخطتها في الوقت نفسه، ومهدت لعصر الواقعيين العظام الذين أشرنا إلى أهم أسمائهم. وإذا كانت «فترة فنية» قد انطوت بوفاته، فترة كان السعي فيها وراء الجمال والانسجام والكمال هو غاية الغايات، فإن تأثيره على واقعية العصر الحديث يثبت أن الجمال عنده لم يكن على الإطلاق جمالًا شكليًّا بحتًا (كما سيفعل الشعر الرمزي اللاحق واتجاه الفن للفن)، بل كان له محتواه الاجتماعي المعبر عن مشكلات العصر وتناقضاته التاريخية تعبيره عن الوعي بتقدم الإنسان وارتقائه نحو الكمال. ولهذا يمكن القول بأن إيمانه الثابت بالجمال الإغريقي أو الكلاسيكي لم يكن إيمانًا بمقاييس فنية أبدية، وإنما يرجع إلى أن جوهر الإنسان وعلاقاته في الحياة القديمة قد انعكست في التراث الفني والأدبي الكلاسيكي بصورة أنقى منها في حاضر الحياة التي خبرها. فكأن الأشكال الفنية ليست في نهاية الأمر «التراكيب الأكثر عمومية وتجريدية للجوهر الإنساني والعلائق الإنسانية»، وما نسميه موضوعات «فنية» هو على حد قوله ظواهر للروح البشرية تكررت، وسوف تتكرر، والشاعر وحده هو الذي يعرضها بوصفها ظواهر تاريخية، ويعبر عنها تعبيرًا فكريًّا وجماليًّا (ص١٧٥)، ولعل هذا كله أن يكون تعبيرًا عن النزعة الإنسانية لجوته وعصره في أكمل صورها، وعن دفاعه عن وحدة الوجود الإنساني — جسدًا ومجتمعًا وروحًا — ضد كل القوى التي كانت قد بدأت تشوهه وتجزئه تحت تأثير الرأسمالية الوليدة، وهو في النهاية — كما رأينا في فاوست — دفاع عن نقاء النواة الباطنة في الإنسان، ومحاولة لإنقاذ الجنش البشري من خلال التضحية المأساوية للفرد الذي يرقص رقصة الموت؛ لكي ينبعث المجموع في جلاله وكماله.

لا شك أن هذا الكتاب يثير قضايا ومشكلات عديدة متصلة بالنقد الأدبي الماركسي بوجه عام وتفكير «لوكاش»، ونقده وفلسفته الجمالية بوجه خاص. ولن نستطيع بطبيعة الحال أن نتوسع في الجانبين بما يبعد عن الكتاب نفسه، ولذلك فسوف نكتفي ببعض الملاحظات الأساسية التي لا تهملهما إهمالًا تامًّا، ولا تتعدى الحدود المرسومة لمثل هذا العرض النقدي. ولا ننسى قبل تقديم هذه الملاحظات أن نذكر القارئ بأمرين؛ أولهما: أن الكتاب قد وضعه صاحبه سنة ١٩٤٧م أيام اشتداد النزعة القطعية المتزمتة، وغلبة النظرة الاجتماعية المبسطة التي ألفناها طويلًا في تلك الفترة من النقد الأدبي الماركسي (الذي أصبح اليوم نقدًا تقليديًّا بالقياس إلى الجهود والاجتهادات الحديثة والمعاصرة في هذا النقد نفسه). وثانيهما: أن الاتجاه الذي يمثله لوكاش هو اتجاه مثالي (هيجلي) إنساني، وقد حافظ على هذا الاتجاه الذي يمكن أن نتتبعه إلى المرحلة التي سبقت تبنيه للماركسية، وذلك على سبيل المثال في مقاله المبكر عن تطور الدراما الحديثة (١٩٠٩م)، وكتابه عن نظرية الرواية (١٩١٨م)، وإن توسع فيه بعد ذلك، وتعرَّض بسببه لمحن كثيرة لم يكن أقلها هو مصادرة كتبه ونفيه عن بلده! صحيح أنه كان في المرحلة الباكرة من إنتاجه يؤكد الجانب الذاتي الباطن، بل الجانب الفردي اللامعقول، ويتصور أن مهمة الأدب هي التعبير عنه في مواجهة مجتمع معادٍ ومغترب ومن خلاله، وصحيح أنه تعلم من الماركسية أن الفرد والمجتمع وحدة واحدة، وأن العلاقات الاجتماعية هي أساس الأدب والفن والجمال، ولكن هذا كله لا يمنعنا من القول بأن «لوكاش» لم يتحول كثيرًا عن بعض «الثوابت» المنهجية والنظرية التي يمكن أن نبلورها في اعتقاده بالوحدة الجدلية التي تؤلف بين الذات والموضوع في المجتمع، وإيمانه بالخلاص من الاغتراب عندما يصل المجتمع عن طريق الطبقة العاملة إلى الوعي بذاته، وفكرته عن الحقيقة من حيث هي كلٌّ شامل ما يزال على الإنسان أن يكافح ويصارع في سبيل بلوغه. وتقترن بهذه الثوابت ثلاثة مفاهيم نقدية أساسية يلح عليها «لوكاش» على الدوام، وهي الوحدة الشاملة (التي يؤلف بها العمل الأدبي بين العام والخاص، وبين التصوري والحسي، وبين الاجتماعي والفردي، ويصلها وصلًا جدليًّا حيًّا، بحيث يصبح العمل صورة مصغرة من الوحدة الشاملة المركبة للمجتمع)، والعامل التاريخي والاجتماعي (وهو المضمون الذي يحدد الشكل الفني، بحيث تصبح الأشكال على اختلافها تركيبات وتكثيفات معقدة لذلك المضمون التاريخي والاجتماعي — إذ لا يوجد ثمة مضمون لا يكون الإنسان نفسه هو بؤرته — وبحيث يصر لوكاش باستمرار على رفض النزعات الشكلية على اختلافها في الأدب والفن بوصفها نزعات فاسدة منحلة)، ثم تأكيده «للنمطي» على اعتبار أن مهمة الأدب هي إبرازه من خلال الفردي والاستثنائي، أي إن الشخصية النمطية أو النموذجية هي التي تجسد القوى التاريخية دون أن تفقد شيئًا من خصوصيتها الحميمة وثرائها الفردي المحسوس.

ننتقل بعد هذه المقدمة الضرورية إلى بعض الملاحظات التي تتصل بالكتاب الذي نناقشه كما تتجاوزه من بعض الجوانب:
  • (١)

    يقسِّم «لوكاش» إنتاج جوته تقسيمًا يثير التساؤل، ولا يستند إلى هذا الشاعر وشخصيته الباطنة وتصوراته النظرية وتجاربه الإبداعية والعملية. فهو يميز فيه قسمين كبيرين يقع الأول منهما — وهو الذي أنتجه الشاعر في شبابه وجزء من رجولته — قبل قيام الثورة الفرنسية، ويعبر فنيًّا وفكريًّا عن آخر ذروة بلغها عصر التنوير الذي مهَّد لتلك الثورة. أما القسم الثاني — الذي يقع في مرحلة النضوج «الكلاسيكي» ثم مرحلة الشيخوخة — فيعبر في رأي المؤلف عن الذروة الأولى للتطور الفني للبرجوازية بعد الثورة الفرنسية، هذه الذروة التي أكملتها ذروة أخرى بلغها الأدب البرجوازي كما رأينا مع نضج الواقعية الأوروبية على أيدي بلزاك وستندال ومانزوني بوجه خاص، وكذلك ولترسكوت وزولا وتولستوي وغيرهم.

    لا شك أن هذا التقسيم قد ساعد لوكاش على تأكيد الطابع الواقعي في أدب جوته كله، كما ساعده على أن يطبق عليه مفاهيم الأيديولوجية السائدة مع استثناءات قليلة وعلى درجات مختلفة. بيد أن التقسيم نفسه لا يخلو من التعسف، كما أن كلمة الواقعية نفسها كلمة ضخمة مطاطة، أشبه بالقدر التي تتسع لكل شيء: لفيرتر وفيلهلهم ميستر، وبروميثيوس وفاوست، وجوتز وهيرمان ودوروثيا، والرسائل المتبادلة بين جوته وشيلر، على الرغم من تفاوت درجات «الواقعية» في هذه الأعمال، ومن تردد القارئ ومؤرخ الأدب في وصف بعضها بالواقعية، ولنناقش هذه المسألة على ضوء تفسير المؤلف للجزء الأول من رواية فيلهلم ميستر، سنوات الطلب، ثم للجزأين الأول والثاني من فاوست.

  • (٢)

    يؤكد المؤلف أن «فيلهلم ميستر» تعبر عن مُثل الثورة الفرنسية التي كان تحقيقها مستحيلًا في المجتمع الألماني المتخلف أيام جوته. والواقع أن هذه قضية لا يمكن قولها بهذه الصورة المبسطة، وبخاصة إذا تذكرنا موقف جوته المتحفظ من هذه الثورة، وعرفنا مدى استهجانه لأساليبها البشعة التي أثارت نفوره واشمئزازه من أية «نظرية كوارثية» تحاول تحطيم الترتيب الاجتماعي والنظام الأخلاقي والروحي. وإذا كان قد استحسن «المحتوى الاجتماعي» للثورة الفرنسية، فإن هذا لا يكفي لكتابة رواية كاملة تعبر عن مُثلها الثورية. أضف إلى هذا أن شخصية بطلها فيلهلم شخصية تبحث عن وحدتها وانسجامها مع نفسها وعالمها وسط طبقات ونماذج إنسانية متباينة. وإذا كان يعبر عن تناقضات المجتمع «البرجوازي» في عصر جوته، فليس من الضروري أن تكون مُثله تعبيرًا عن مُثل الثورة الفرنسية، بل يمكن أن تكون مستمدة من النزعة الإنسانية التي طبعت تفكير جوته ومفكري عصره جميعًا، مثل هيردر والأخوين فيلهلم وألكسندر فون همبولت وشيلر وفيلاند، ومن قبلهم ليسينج وفنكلمان. إن تفسير الشخصيات والصور والنماذج الشعرية بما يقابلها من صور ودلالات اجتماعية وتاريخية (أيديولوجية) أشبه بالسير على حد الموسي أو المشي فوق حبل مشدود فوق هاوية. فقد يهبط بالتفسير إلى التعسف والفجاجة، وقد يضيء حنايا العمل الفني، ويزيد من غناه. والمهم في رأيي ألا يسرف الناقد في لي أعناق الحقائق الشعرية ناحية الحقائق الاجتماعية، والواضح من الكتاب أن لوكاش قد أجهد نفسه؛ ليثبت أن فيلهلم شخصية نمطية تجسد القوى التاريخية، دون أن تضحي بثرائها الفردي، وأن جوته تبعًا لذلك كان «تقدميًّا» وواقعيًّا واصل الخط الواقعي والتقدمي الطويل الذي يمتد في رأيه (أي رأي مؤلف الكتاب) من الإغريق إلى شيكسبير وعصر النهضة حتى بلزاك وستندال. ومع أن محاولة لوكاش جديرة بالإعجاب، إلا أن قراءته للنص، كما يقول المعاصرون من النقاد الذين جاءوا بعده، تحتمل السؤال والمراجعة، أي تحتمل هي نفسها قراءة وتفسيرًا مختلفًا … والدليل على هذا أنه يفسر الشيطان خصوصًا في القسم الثاني من فاوست — أو ما يعرف بفاوست الثاني — بأنه تجسيد للرأسمالية الناشئة، ويؤكد هذا بمسئوليته عن اختراع النقود الورقية وتمثيله للجشع الرأسمالي وقتله هو وأعوانه عجوزين مسكينين (وهما فيلمون وباوكيس اللذان اشتهرا منذ العصور القديمة بحبهما النادر، وفقرهما النادر أيضًا) قتلة فظيعة تكشف عن أنانية الرأسمالي ووحشيته، ولكن المؤلف يعترف من ناحية أخرى بأن الصراع بين فاوست ومفيستو يتعدى هذا الجانب الرأسمالي في شخصية الشيطان؛ لأنه صراع روحي وأخلاقي يمتد إلى كل قضايا الحياة البشرية، ويعكس في حركة صعوده وهبوطه تأثير الاتجاهات الشيطانية على روح الإنسان.

    كل هذا يدل على أن المؤلف لم تغب عنه أوجه الدلالة المختلفة في هذا العمل الشعري الذي لا تنفد كنوزه، ولكن القارئ يشعر بأنه يكاد يسخِّر كل شيء فيه لخدمة قضية اجتماعية وأيديولوجية ثابتة، وهي قضية التقدم في الوعي بتناقضات الواقع والتمهيد للثورة عليه. فهل كان جوته نفسه سيقبل هذا التفسير، وهو الذي تنصل دائمًا من أي تفسير فكري أو فلسفي لأعماله الشعرية وسخر من كل الذين حاولوا استكناه معانيها وأسرارها العميقة؟ وإذا صح أن الناقد لا يهمه رأي المؤلف؛ لأن مهمته هي أن ينطق العمل بما لم ينطق به، ولم يقصد إليه قصدًا هو أو صاحبه — وهو صحيح على اختلاف مناهج التفسير أو الشرح والتأويل — فستبقى المشكلة هي درجة هذا النطق ونسبته، ومدى تعبيره عن تفكير المؤلف أو العصر أو الناقد نفسه، وإلا أمكن أن يصبح العمل الواحد نهبًا لكل تفسير ومطية لكل «أيديولوجية» حسب الهوى والمقدرة والظروف … ولا شك أن خصوصية الأدب متشابكة مع الأمور العامة والسياسية والتاريخية، وتطويع الأمور الخاصة بالبنية الفنية والشعرية لها بأي ثمن، هو في تقديري شيء بالغ الخطأ والخطورة كما أن نقيضه على الطرف الآخر أمر بالغ الخطأ والخطورة. ولو أن لوكاش التفت إلى جوانب التفاوت والصراع والتفرق والتعدد والتغير في معاني ومستويات هذين العملين الكبيرين من أعمال جوته، وأعني بهما «روايتيه» الملحميتين الدراميتين في آن واحد وهما فيلهلم ميستر وفاوست، بدلًا من محاولة تأكيد وحدتهما الشاملة، وتجسيدها للقوى والعوامل التاريخية والاجتماعية ونمطية شخصياتهما بأي ثمن، ولو انتبه إلى «أيديولوجية» الشاعر فيما لا يقوله بدلًا من عناء البحث عنها فيما يقوله، ولو حاول أن يبتعد قليلًا عن «أيديولوجيته» هو نفسه، ولم يفرضها بكل وسيلة على الشاعر الذي نعلم نفوره من الأفكار، واستغراقه في الموضوعات؛ لأمكنه أن يلمس مفارقات العملين وثغراتهما وتشتتهما وعدم اكتمالهما، بل «صمتهما» في كثير من الأحيان، مما يدل على علاقة التوتر والصراع في موقف جوته المعقد من «أيديولوجية» عصره، ومن كل تفكير أو تفلسف بوجه عام، ويؤكد كذلك إيثاره للأشكال المفتوحة على المغلقة، وللصراع بدلًا من الحل، وللصور والمشاهد والمواقف الملموسة الحية المتقطعة بدلًا من التعميمات المجردة.

  • (٣)

    كان لوكاش متسقًا مع نفسه في حديثه عن قضية الشكل الملحمي الذي تناقش حوله جوته مع صديقه شيلر في رسائلهما الرائعة، كما لجآ إليه في بعض أعمالهما المتأخرة كما بيَّنا من قبل. ولقد أكد لوكاش في مرحلة مبكرة من إنتاجه (كما في مقاله عن تطور الدراما الحديثة الذي يرجع إلى سنة ١٩٠٩م) أن الشكل هو العنصر الاجتماعي الحقيقي في الأدب، أي إن الأشكال الفنية — كما رأينا من قبل — هي الحوامل الفعلية للأيديولوجيا في الفن. وقد حاول أن يثبت أن التطور المهم في شكل المسرح الملحمي والرواية الدرامية الملحمية عند جوته وشيلر قد نتج عن تغيرات مهمة في الأيديولوجيا السائدة، وجسد طرائق جديدة في إدراك هذين الشاعرين للواقع الاجتماعي (حتى ولو لم يكن إدراكهما واعيًا بصورة كافية).

    والحق أن العلاقة بين الشكل والأيديولوجيا علاقة معقدة يصعب الخوض فيها في هذا المجال المحدود، وهي على كل حال ليست علاقة تماثل بسيطة، ولا هي علاقة استقلال مطلق. فالشكل بنية مركبة من عناصر ثلاثة على الأقل؛ لأنه يتشكل بواسطة التاريخ الأدبي للأشكال، ويتبلور من أبنية أيديولوجية سائدة، ويجسد وضعًا معينًا من العلاقات بين المؤلف والمتلقي٤ — ناقدًا كان أو قارئًا متذوقًا — فإذا أضفت إلى ذلك أن للناقد، وهو هنا لوكاش، أيديولوجية، وأن لهذه الأيديولوجية تأثيرًا لا شك فيه على نظرته النقدية، عرفت أن مشكلة الشكل في الحقيقة أعقد بكثير من الصورة المبسطة التي عرضها بها المؤلف. ومع أنه لم يهمل عناصر أخرى غير العنصر التاريخي والاجتماعي في اختيار «جوته» مثلًا في فاوست للشكل الذي تتداخل فيه الدراما والملحمة، وعلى الرغم من إنصافه وحساسيته الشديدة في حديثه عن الدوافع الباطنة والعوامل الإبداعية التي ألجأته إلى اختياره، بالإضافة إلى رؤيته الكونية والميتافيزيقية ورغبته الخاصة في الوفاء بمعايير الجمال الكلاسيكية، وبمقتضيات المادة الحديثة والحياة الجديدة في آن واحد، على الرغم من هذا كله، فقد وظف كل هذه العوامل والعناصر في تأكيد وجهة نظره الثابتة عن «اجتماعية» الشكل وأيديولوجيته. والأخطر من هذا أنه فرض هذا التفسير الأيديولوجي على أعمال جوته دون تفرقة. وإذا افترضنا أن من الممكن أن نصرف النظر عن نفور جوته من السياسة وأحداثها المربكة بوجه عام، وعن صعوبة القول بأن «أيديولوجيته» — إن صح هذا التعبير الحديث عن نزعته الإنسانية ورؤيته الكونية الحيوية التي يمكن أن نصفها بأنها وحدة وجود متطورة كانت أبعد ما تكون عن الثورة والجدلية بمعنيهما المحدد عند هيجل أو ماركس فيما بعد — إذا صرفنا النظر عن هذا كله، فكيف يمكن أن نطبق «قراءة» سياسية واحدة على كل أعماله مهما تفاوتت ظلالها ودرجاتها؟ ربما أمكن قراءة مسرحياته عن «جوتز» و«أجمونت» و«الابنة الطبيعية» قراءة سياسة حديثة تستنبط منها دلالاتها الاجتماعية والتاريخية، ولكن هذه القراءة تصبح أمرًا متعذرًا مع نصوص أخرى مثل «فيرتر» و«فاوست». وحتى لو سلمنا بأن النسق العقائدي والفكري (أي الأيديولوجية) يشكل داخل العمل أفقًا محددًا لمبدعه، سواء أكان واعيًا بذلك أم لم يكن، فلا بد أيضًا من التسليم بأن المبدع الحقيقي يمكنه أن يخترق هذا النسق أو يكسره في مواضع عدة أو يغيره، ويستبدل به أفكارًا ومعتقدات أخرى خلاقة لا تجعله مجرد «انعكاس» لنسق عصره (ولا ننسى أن نظرية الانعكاس الماركسية، سواء في المعرفة أو الفن، قد أصبحت اليوم نظرية واضحة التهافت)، ولا مجرد انعكاس لأيديولوجية الناقد نفسه الذي يحاول أن يقترب من حقيقة النص ويقربنا منها! وقد يمكن في النهاية أن نقبل تحليلات «لوكاش» لو توسعنا في مفهوم الأيديولوجية، بحيث لا تعني نسقًا شموليًّا موحدًا، بل مجموعة من الأفكار والمعتقدات بينها تشابه أسري (على حد تعبير فتجنشتين في كتابيه الأزرق والبني)، إن هذا الفهم يتيح للمبدع فرصة التحرر والتعبير عن خصوصيات لا تندرج في أيديولوجية محددة، كما يتيح للناقد أن يتحرر في ضم عناصرها واستشفاف رؤية موحدة منها، قابلة للتقطع والتكسر والاختراق والتحرر من الشمولية المجردة لتستجيب لخصوصية تجاربه ورؤاه الإبداعية نفسها،٥ ويقتضيني الإنصاف أن أقول إن لوكاش قد حاول شيئًا من هذا فهي مواضع كثيرة من كتابه، ولكن بدرجة أقل من المتوقع مع أديب مثل «جوته» طغت مُثله الإنسانية والروحية على مُثله السياسية والاجتماعية المفترضة (وليته قد اهتم اهتمامًا حقيقيًّا بالتفرقة الأساسية المعروفة التي أقامها العالم اللغوي دوسوسير بين اللغة والكلام).

    خلاصة القول إن المقولة الرئيسية في النقد الأدبي الماركسي قديمه وحديثه (وهي أن الأدب نتاج الأوضاع التاريخية) لا يصح أن تتحول إلى طوق حديدي يلتف حول النصوص، ويخنق أنفاسها (وخصوصًا نصوص العباقرة الذين عبروا عن عصورهم بقدر ما تجاوزوها)، ولا يدع لها ولا لأصحابها مجالًا للإيماء واللمح والإشارة إلى آفاق أبعد من التربة التاريخية والاجتماعية، ولا يتيح النظر في نسيجها الفني نظرًا كافيًا. ثم إن تفسير لوكاش أو غيره لا بد أن يتأثر بأوضاع المفسر التاريخية، ولعله أن يفرض على جوته أو غيره جزءًا غير يسير من أيديولوجيته هو نفسه. ولهذا فإن دراسة لوكاش لتاريخية جوته وعصره يجب أن تكملها كما أشرت إلى ذلك من قبل دراسة أخرى لتاريخية نقد لوكاش، والعوامل التي شكلته والدوافع والرغبات التي حركته. ويمكنني في النهاية أن أتمثل بالعبارة الشهيرة التي قالها «إنجلز» في كتابه عن «فويرباخ» ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية (١٨٨٨م)؛ لكي أؤكد أن أدب جوته، كما يثبت كتاب لوكاش نفسه لمن يقرأ ما بين سطوره وينطقه بما لم ينطق به إلا على نحو غير مباشر! ليس مجرد انعكاس لأيديولوجية عصر لم يكن قد أدرك أيديولوجيته بعد بصورة كافية واعية. وسواء غير جوته عنها أم عن بعض عناصرها أو تحداها وخرج عليها في مواضع كثيرة، فإنه قد أكد الاستقلال النسبي لأدبه وفكره. تقول عبارة إنجلز التي أشرت إليها: «إن الفن أكثر غنًى وصعوبة من النظرية السياسية والاجتماعية؛ لأنه أقل منها أيديولوجية»، وإذا كان لوكاش لم يتذكر هذه العبارة، أو لم يستفد منها تمامًا في تأليف كتابه، فإن أصالته لا تكمن في تطبيق المنهج الاجتماعي التاريخي على أدب جوته وعصره — لأن هذا شيء مألوف ومكرر عنده غيره — وإنما تكمن في فهمه الثوري لهذا الأدب، ولمجموع الأفكار والقيم والمثل والمشاعر التي قدمها لنا في صورة غنية حية مؤثرة.

  • (٤)

    بقيت ملاحظات أخيرة أسوقها على بعض أفكار المؤلف الجزئية المنثورة في الكتاب أتبعها بملاحظات أخرى عن الترجمة العربية. فالمؤلف ينسب اكتشاف المنهج الجدلي (الديالكتيك) إلى هيجل وجوته معًا. والواقع أن هذا القول ينطوي على تجاوز أو تسامح كبير. فلا يمكن أن يوصف تفكير جوته بالجدلية إلا بصورة عامة شديدة التعميم. قد يمكن القول بأن لديه نوعًا من «الاستقطاب»، الذي ألح عليه في كثيرٍ من أشعاره الفلسفية، وبعض قصائد الديوان الشرقي، وفي بحوثه العلمية في الضوء والألوان ورؤيته الكونية بوجه عام (فقد حاول مثلًا أن يفسر ظاهرة اللون بالرجوع إلى أصلها في التقابل بين قطبي النور والظلام، كما فسر تحولات النبات بالتعاقب الدوري للقبض والبسط الواضحين، كذلك في التنفس وفي الإيقاع الكوني القائم على التجاذب والتنافر والتضاد بين قوى الخير والشر، بحيث تتخلل الوجود كله عملية أبدية تراوح بين الفصل والتوحيد) من الممكن أن نسلم بوجود نوع من الثنائية أو التضاد والصراع بين هذه العوامل الكونية في إطار وحدة الوجود الشاملة لديه، ولكن من الصعب أن نقول بجدلية من النوع الذي قاله به هيجل، حتى ولو ذهبنا إلى أن هذا الأخير قد قال بها في إطار وحدة وجود منطقية شاملة.

  • (٥)

    يذكر المؤلف اسمي نيتشه وإشبنجلر بوصفهما «السلفين الروحيين للإنسانية الألمانية الحديثة». والواقع أن هذا القول لا يمكن أن يصدق على الفيلسوفين، إلا إذا صدقنا تفسير النازيين أو بالأحرى إساءة تفسيرهم لهما واعتمادهم على اقتباسات غبية معزولة عن سياقها أخذوها عن نصوصهما، ووقفوا عند ظاهرها البلاغي البراق. أما أفكارهما الميتافيزيقية الأصيلة، وخصوصًا أفكار نيتشه، فلم يكن من المتوقع منهم أن يرتفعوا إليها، أو يضعوها في إطار رؤيتهما الكونية والتاريخية والفنية. وكما أننا نظلم ماركس إذا حاكمناه على الجرائم التي ارتكبها «ستالين»، فمن الظلم أن نأخذ «نيتشه» أو إشبنجلر وغيرهما من فلاسفة الحياة بذنوب النازيين ووحشيتهم، أو نحاسب الفلاسفة على بشاعة الجلادين والموظفين.

  • (٦)

    يذكر المؤلف أن ترجمة رد الفعل النظري أو الأيديولوجي في ألمانيا إلى ممارسة عملية كان أمرًا نادرًا جدًّا، ويستشهد على ذلك بإنتاج «جورج فورشتر» وحياته الثورية (ص٥٧)، ولعل المقصود هو الطبيب والكاتب المسرحي الشاب «جورج بشنر» (١٨١٣–١٨٣٧م) الذي ألف جمعية ثورية من العمال الحرفيين والفلاحين أخمد أنفاسها الحكم الإقطاعي في مقاطعة «هسن»، وارتاب فيها المثقفون وجبنوا عن الوقوف معها. وهو معروف بمسرحياته الواقعية ومآسيه الاجتماعية التي لم تقدر قيمتها إلا في القرن العشرين على يد كتاب مثل هويتمان وفيديكند وبرشت (ومن أهم هذه المسرحيات مسرحيته عن موت دانتون التي تعبر عن خيبة آماله في الثورة الفرنسية ومسرحيتاه فويسيك وليونس ولينا، وقد نقلها جميعًا كاتب السطور إلى العربية).

  • (٧)

    أما عن ترجمة الكتاب، فلا بد من إزجاء الثناء الخالص على جهد المترجم الفاضل. فنقل كتاب عن جوته ليس بالمهمة الهينة؛ لأنه يفترض قدرًا غير يسير من الإلمام بحياة هذا الشاعر الكبير، وإنتاجه الزاخر الفياض. ولا يقلل من هذا الجهد الطيب أن المترجم الفاضل لا يعرف الألمانية، فما أكثر الترجمات الأمينة لأعماله في اللغات الحية، وما أسعد حظه في هذه اللغات والآداب إذا قورن بحظه البائس في اللغات العربية!

    وقد انعكس عدم إلمام المترجم بالألمانية على طريقة رسم الأسماء مثلًا — كما يفعل إخوتنا في الشام لسبب لا أدريه — على إبدال الجيم التي ينطق بها الاسم في الأصل بالغين (كما في جوته نفسه ولسينج وهيجل وشيلنج وميرنج)، وأحيانًا بالكاف (كما في كلاجيس الذي تحول إلى كلاكيس، وهو فيلسوف الحياة المعروف، أو في جوتزفون برليشنجن، بطل مسرحية جوته المبكرة المعروفة بهذا الاسم الذي تحول إلى كوتز … وبقدر ما سعدت بسلامة ترجمة الأشعار وجودتها وإشراقها (وإن لم يمنعني هذا من مضاهاتها على الأصل، وإعادة النظر فيما اقتبسته منها).) فيؤسفني القول بأن الترجمة في مجموعها قد وقعت في خطأ التصور بأن الأمانة مرادفة للحرفية، حتى ولو أدى الأمر إلى الركاكة. أضف إلى هذا القصور في لغة المترجم أنه تعمد تركيب بعض الصيغ المصدرية غير المستساغة (مثل قوله إن مفيستوفليس ليس طيفًا قروسطيًّا أو قروسطويًّا، ص١١٨ و١١٩. أو قوله ديالكتيك وحدي وجودي بدلًا من أن يستخدم صيغة الإضافة، فيقول طيف من القرون الوسطى أو جدل وحدة الوجود) كما استخدم بعض الكلمات الأجنبية التي استقرت ترجمتها العربية، بحيث تغني عنها (مثل ديالكتيك بدلًا من جدل، والبلاستيكية بدلًا من النحت أو الطابع النحتي والفينومينولوجيا بدلًا من الظاهريات والشظية بدلًا من الشذرة). بجانب استخدامات أخرى غريبة كوصفه محاولة موسوعية بأنها متنطعة (ص١٠٨) والمنطق والاكتمال بأنهما تنطعيان (ص١١١)، ولعله يقصد أنها مفتعلة أو مصطنعة أو متعسفة.

  • (٨)
    يتكرر في الترجمة مصطلح «العاصفة والتأزم» ترجمة للأصل الألماني، Sturm und Drang وترجمته الإنجليزية Storm and Stress والأصح هو العصف والدفع عنوان الحركة الأدبية التي ذكرناها في سياق هذا العرض. كذلك يترك المترجم المصطلح اللاتيني الذي يدل عند اسبينوزا على أسمى الانفعالات الأخلاقية وغايتها، وهو المحبة العقلية لله بدون ترجمة Amor Dei Intellectualis (ص٣٨)، كما يتحدث عن فلسفة هيجل عن خداع العقل وصحتها دهاء العقل (الذي يصور لعظماء التاريخ وأبطاله أنهم يحققون أهدافهم، بينما هم يحققون أهداف العقل أو الروح المطلق نفسه)، ويتكلم عن «ندوة» أفلاطون (ص١٦٨) وصحتها محاورة «المأدبة» لأفلاطون (السيمبوزيون أو المشرب) وهي المحاورة التي تدور حول الحب وتورد حديثه على لسان الكاهنة ديوتيما. وأخيرًا فإن الترجمة تقتبس أول الأبيات الأربعة التي تختتم بها فاوست بأكملها على هذه الصورة: كل شيء عابر ليس إلا شكلًا وصحتها ليس إلا مثلًا، والأنثى الخالدة تسحبنا إلى أعلى وصحتها تجذبنا.
  • (٩)

    وختامًا كنت أتمنى لو أضاف المترجم الفاضل بعض الحواشي المهمة للتعريف بأعمال جوته التي لم تترجم بعد إلى العربية وتنبيه القارئ إلى ما تُرجم منها للعربية. وما زلت كذلك أتمنى لو اتجهت «دار الطليعة» وغيرها من دور النشر العربية إلى نقل الأعمال الكبرى لعظام الأدباء وأمهات التراث العالمي وعيونه قبل التفكير في ترجمة بحوث نقدية عن نصوص لم يعرفها القارئ العربي وشعراء ومفكرين لم يلتقِ بنصوصهم نفسها بصورة كافية. وأحسب أن هذه هي المهمة الحقيقية الملقاة على عاتق دور النشر العربية الكبرى، حتى لا تزيد عن غير قصد منها في التشوش والخلط المسيطرين على حياتنا الثقافية وعلى ناشئة الكُتَّاب والأدباء الذين التقطوا قطرات متناثرة من تراثنا وتراث العالم، فظنوا أنهم قد ارتووا من المنابع التي لم يهدهم أحد إلى طريقها …

(١٩٨٦م)
١  عرض نقدي لكتاب الفيلسوف المجري جورج لوكاش، ترجمه للعربية الأستاذ بديع عمر نظمي، ونشرته دار الطليعة في بيروت.
٢  راجع لكاتب السطور مقالًا عن «مينون» بعنوان: هل تعرف البلد البعيد؟ في كتابه البلد البعيد، دار الكاتب العربي، القاهرة، ١٩٦٧م.
٣  راجع لكاتب السطور مقالًا بنفس العنوان في كتابه السابق الذكر «البلد البعيد»، وكذلك مقالًا عن فاوست بعنوان: تريثي قليلًا فما أجملك!
٤  انظر دراسة الناقد الإنجليزي تيري إيجلتون عن الماركسية والنقد الأدبي من ترجمة وتعليق الدكتور جابر عصفور، مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد الثالث، ١٩٨٥م، ص٢٠–٤٣.
٥  يوزف بيتر شتيرن، حول الأدب والأيديولوجيا، ترجمة الدكتور باهر الجوهري، مجلة فصول، العدد السابق الذكر، ص١٢–١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤