أمضي كل الأيام

أمضي الأيام على درب غير الدرب،
حينًا للشجر الأخضر في الغابة،
حينًا آخر للنبع،
للصخرة حيث الأزهار مفتحة الأكمام،
انظر من فوق التل إلى السهل،
لكن لا أجدك أبدًا يا حبي،
في أي مكان لا أجدك أبدًا في النور،
تتطاير مني الكلمات وتذروها الأنسام،
كلماتي الطيبة وكانت في ماضي الأيام …
حقًّا كم أنت بعيد، ناءٍ يا وجه النعمة.
يخبو نغم حياتك،
وأنا لا أملك أن أنصت …
يا أيتها الألحان الساحرة الصوت،
يا من أفرغت على قلبي الراحة من نبع الخلد،
ومن كف الأرباب العلويين،
طال العهد وغاب. شب الولد وشاب.
حتى الأرض — وقد كانت تتبسم لي —
عابسة الوجه.
الآن أقول وداعًا، عيشي في خير.
روحي كل نهار ترحل عنك تعود إليك،
عيني تبكيك، تريق الدمع،
تتمنى يومًا أن تصفو كي ترنو لك
فتراك هناك وتهنأ بك …

الأغنية التي قرأناها أغنية لم تتم، فقد اختنقت في صدر الشاعر مع غصة الفراق. إنه يتلفت بقلبه وعينيه إلى حيث تقيم المحبوبة، ولكنه لا يستطيع أن يخدع قلبه ولا يعنيه عن بعد الشاطئ واستحالة اللقاء. ومع ذلك فهو لا يزال يناجيها ويتعلق بها كما يتعلق الغريق بطوق النجاة. كيف يصدق أن حبيبته «ديوتيما» التي جسدت حلم حياته بالجمال الإغريقي وعالم الآلهة المباركين، بل أوشكت أن تتمثل أمامه واحدة من تلك القوى العلوية التي طالما حن إليها، وناشدها العودة إلى الأرض المعذبة والبشر الفانين، كيف يصدق أنه حُرم منها إلى الأبد، وأنه سيهيم بعدها كما تهيم الظلال:

أنت يا من أشرت لي قديمًا، وأنا على مفترق الطرق،
يا من علمتني بصمتك، وأوحيت لي في هدوء
أن أرى العظمة وأغني للآلهة الصامتة،
أنت يا ابنة الآلهة …
هل تتجلين لي وتحيينني كما كنت تفعلين،
وهل تلهمينني الحياة والسلام من جديد؟

هل ستفعل «ديوتيما» ذلك حقًّا، فتدب فيه الحياة، ويحلق جناحاه، ويهتف بفرحته لعودة الربيع واخضرار الأرض، أم تتركه في يأسه وحيرته، يحاصره شتاء الاكتئاب، وتطبق عليه جدرانه المظلمة الخرساء، في سجن الجنون الذي سيبقى فيه طوال الأربعين سنة الأخيرة من عمره؟ ولكن مَن هي هذه المحبوبة التي أطلق عليها الشاعر اسم الكاهنة الإغريقية القديمة «ديوتيما» التي أجرى أفلاطون الحكمة على لسانها في محاورة «المأدبة»، وجعلها تعلم سقراط ما لم يكن يعلم من أسرار الحب الفلسفي؟ ومن هو هذا الشاعر الذي ساقه القدر إلى طريقها كما ينساق المتجول في النوم، واندفع إليها حين تصور أن الرؤيا تتحقق والنبوءة والحلم؟ إنه فريدريش هلدرلين (١٧٧٠–١٨٤٣م) الذي وهب الشعر كل شيء، فأعطاه بعض أسراره الغامضة. شاعر الغربة الذي عاش غريبًا في عصره وبين أهله وعلى الأرض التي اغترب عنها الآلهة الخالدون، فراح يتغنَّى بهم، ويحتفل بموكبهم المنتظر، ويناشدهم العودة للبشر المعذبين، وينشدهم ما ألهموه من أشعار مثقلة بالرموز والتنبؤات والإشارات، فاجتمع في شخصه ما اصطلح القدماء على فهمه من كلمة الشاعر؛ فهو الذي باركته الآلهة بوحيها، فأصبح العراف الناطق بلسانها، والوسيط بينها وبين الفانين من أبناء الإنسان، وهو الساحر والمتنبئ بالمستقبل والمنشد بصوت الشعب وآلامه، ولهذا لا نعجب أن سماه البعض شاعر الشعر أو شاعر الشعراء.

•••

ولد هلدرلين في العشرين من شهر مارس سنة ١٧٧٠م في بلدة «لاوفن» على نهر «النيكر» في منطقة «أشفابن» المعروفة بغاباتها وجبالها الغامضة التي غرست في سكانها حب الوطن والحنين الدائم إليه مثل حنينهم الصوفي إلى عالم مثالي موغل في البعد والخفاء والطموح.

مات أبوه وهو طفل صغير، وتردد على مدارس الأديرة قبل أن يدخل المعهد الديني في مدينة «توبنجن» تحقيقًا لرغبة أمه الطيبة المسكينة. واحتمل مرارة الحياة الخشنة الصارمة بين جدران هذه الزنزانة اللاهوتية التي تعرَّف فيها على صديقَي صباه وفيلسوفَي المثالية الألمانية الكبيرين هيجل وشيلنج. ولم تلبث الصداقة والمحبة أن جمعت بين الثلاثة، كما جمع بينهم الطموح إلى عالم مثالي تتحقق فيه الحرية، ويتم الخلاص من الظلم والركود والاستبداد الجاثم على صدر شعبهم. واشترك الأصدقاء في قراءة أفلاطون وروسو وكانط وشيلر واسبينوزا الذي عبرت الكلمة اليونانية القديمة «الواحد والكل» عن مذهبه في وحدة الوجود، وأثرت بعد ذلك على حياة هلدرلين، وظلت هي شعاره الناطق بحضور الإله في كل ما يتجلى لعينيه. وكان من الطبيعي أن يتأثر الشاعر مع شباب جيله بالثورة الفرنسية التي تأججت نيرانها فجأة، فبدت كأنها فجر الخلاص والأمل في الحرية والتقدم والكرامة، وأن يتأثر كذلك بحركة بعث الروح الإغريقية ومحاكاة روائعها محاكاة خلَّاقة. لقد كان مؤرخ الفن القديم «فنكلمان» هو باعث هذه الروح التي تمثلت فيها «البساطة» النبيلة والعظمة الساكنة. ثم ازدهر الأدب والفلسفة الألمانية على يد «ليسنج» و«هيردر» و«كانط» و«جوته» و«شيلر»، فأمدتها بدماء جديدة، وأكدت مثلها الأعلى الذي تراءى لعيون هذا الجيل، وهو الإنسان الحر الجميل، المتحد بالطبيعة والآلهة والأبطال الأسطوريين في وحدة حية متجانسة لم تجرب التمزق والتصدع الذي كانوا يعانونه. وقد كان هلدرلين أكثر أبناء جيله انفعالًا بهذا العالم المقدس الرائع، وكان أشدهم حنينًا إليه في كل أناشيده وأغانيه … تغلغلت هذه الرؤية الدينية والكونية في أعماقه يومًا بعد يوم، وراح يغوص في متاهتها، ويستغرق في أسرارها مع كل تجربة جديدة تؤكد عجزه، وإخفاقه في الحب والحياة. ومع كل يوم يزداد بعدًا عن الوعي وعن الناس، ومع كل عذاب تزداد لغته كثافة وغموضًا، وتصبح كلمته الشعرية كإشارات الوحي المثقلة بالرهبة والجلال والجمال، وتشتد قسوة قدره المعذب الوحيد، فينحني له راضيًا مطمئنًا، وتستجيب له نفسه الوديعة في خشوع وانكسار:

«أيتها الروح! أيتها الروح! أنت يا جمال العالم! يا من لا تتحطمين! أيتها الساحرة الفاتنة بشبابك الأبدي! أنت حية باقية، وما الموت وكل عذاب البشر إذا قورن بك؟ آه! كثيرة هي الكلمات الجوفاء التي صنعها هؤلاء المدهشون. ومع ذلك فكل شيء يصدر عن الفرح، وينتهي إلى السلام. وما مظاهر الشذوذ في العالم إلا كالخلاف بين الأحباب. إن الصلح قائم في قلب التنازع والشقاق، وكل ما تفرق سيلتقي من جديد. والشرايين تتشعب، ثم تعود فتصب في القلب، وتظل الحياة الواحدة الخالدة المتوهجة هي الكل.»

تخرج هلدرلين في المعهد الديني سنة ١٧٩٣م، وقرر أن ينفض عنه أغلال اللاهوت والوظائف الكنسية ليتفرغ لموهبته الشعرية. واضطره ذلك أن يعيش عشر سنوات مليئة بالحرمان والسعي الخائب من بيت لبيت في سبيل لقمة العيش. كانت مهنة التعليم وإعطاء الدروس الخصوصية لأبناء الأسر الثرية هي الباب الوحيد الذي يمكن أن يطرقه المثقفون والأدباء الذين بخل عليهم الحظ، فلم يرعهم ملك ولا أمير. وكان عليهم في كثير من الأحيان أن يتحملوا المهانة والهوان، ويُعامَلوا معاملة الخدم والأتباع. وتوسط له الشاعر «شيلر» للعمل في أحد هذه البيوت المرموقة التي كانت على صلة بالحياة الأدبية، ولكنه أخفق في مهمته التربوية، وتأكَّد له إخفاقه في الحياة العملية عندما حاول بعد ذلك أن يستقر في مدينة «يينا» — كعبة المثالية في ذلك الحين — ويعمل بتدريس الفلسفة في جامعتها. وتبيَّن له عجزه عندما سعى للاتصال بفشته — رائد المثالية وباعث القومية — والتقرب من «جوته» أمير الشعر وعملاق الأدب، فتجاهله الفيلسوف، وأعرض عنه الشاعر، ولم يستطع أن يقدر موهبته التي اتهمها بالغموض والاضطراب. ولم يبقَ له غير مواطنه شيلر الذي كان مثله الإنساني والشعري الأعلى. وقد أشفق عليه الشاعر في البداية ورعاه، ونشر له الصيغة الأولى من روايته «هيبريون» في مجلة «ثاليا» التي كان يصدرها، ولكنه لم يلبث أن ضاق به وانصرف عنه. وكانت هذه التجربة من أمر التجارب التي ذاقها في حياته. وعاد يجرب حظ المعلم الخصوصي البائس، فالتحق سنة ١٧٩٦م ببيت رجل من رجال المال والأعمال والبنوك يدعى جونتار في مدينة فرانكفورت. هنالك لقي من المهانة ما لا تحتمل نفسه الحية الوديعة، وصبر ثلاث سنوات على النزيف المستمر من جرح الكبرياء، ولكن القدر عوَّضه عن ذلك بالنعمة الوحيدة التي عرفها في حياته الوحيدة. أحب ربة البيت «سوزيته جونتار»، وبادلته السيدة الرقيقة حبه اليائس، ومدت يدها الحنون إلى روحه الغريقة في ظلمات الاكتئاب. وجد فيها مثال الإنسانية الجميلة الطاهرة التي قربته من الروح الإلهي الخالد، بل جعلته يشعر بأنه تجسد حيًّا فيها. إن الروح الإلهي لا يؤمن به إلا من كان هو نفسه إلهيًّا.

وهو لا يتمثل له فحسب في الطبيعة الحية، والسماء والأثير، والأرض والنهر، بل يحيا كذلك في «ديوتيما» التي يعيش الآن بقربها ويعبدها ويقدسها. كانت «سوزيته» هي مثال الجمال والانسجام والحكمة الذي طالما داعب أحلامه ورؤاه، وكانت هي الروح الإغريقية نفسها التي اشتاق إليها، وانتظر ميلادها وتعزَّى بها عن محنة وجوده وسط الظلم والتجاهل والفساد والطغيان، ولكنه اضطر أن يغادر البيت الذي تحققت فيه الرؤيا، غادره مهانًا مدحورًا، وافترق عن المحبوبة التي لم تجد حيلة في الفراق، فحبست حبها في صدر عشش فيه السل، وافترس حياتها بعد ذلك بسنوات قليلة. ها هو ذا يناجيها بعد رحيله عنها في قصيدة عنوانها «ديوتيما»:

تسكتين وتصبرين، وهم لا يفهمونك،
يا أيتها الحياة الغالية
تذبلين في صمت؛ لأنك واحسرتاه
تبحثين عبثًا بين البرابرة
عن أهلك في نور الشمس،
عن تلك الأرواح النبيلة الحنون،
التي ما عاد لها وجود.
غير أن الزمن يسرع الخطى،
ولا زالت أغنيتي الفانية ترى اليوم
الذي تسميك فيه، يا ديوتيما،
بعد الآلهة ومع الأبطال.

لكن ديوتيما قد غابت عنه إلى غير رجعة، وصار الفراق عنها هو مأساة وجوده كله:

آه! أين أنت الآن يا حبيبة؟
أخذوا مني عيني، وقلبي فقدته بفقدها؛
لهذا أهيم هنا وهناك،
مقضيًا عليَّ بأن أعيش كما تعيش الظلال،
وكل شيء يبدو بلا معنًى.

بدأ الشاعر طريق العذاب. لم يعزه قليلًا عن فراقه عن حبيبته إلا قدرته على الحب والأمل والعرفان، أي قدرته على قول الشعر. ففي هذه الفترة التي امتدت من سنة ١٧٩٨م، حتى حوالي سنة ١٨٠٤م، ولم تكد تزيد على الخمس سنوات كتب عددًا كبيرًا من أناشيده الغنائية الكبرى، وأتم روايته الوحيدة «هيبريون»، وترجم مسرحيتي سوفوكليس «أوديب ملكًا» و«أنتيجونا»، وعددًا من قصائد بندار الأوليمبية ترجمة شاعرية رائعة. كما عكف على مسرحيته الشعرية «موت أنبادوقليس». والواقع أنها ليست مسرحية تصلح للتمثيل، بل هي قصيدة درامية عن ذلك الفيلسوف الطبيعي والكاهن والساحر والطبيب والمصلح الثائر الذي ولد في مدينة أجريجنت عاصمة صقلية حوالي سنة ٤٩٠ قبل الميلاد، ثم طرده أهلها بعد أن أوشكوا أن يؤلهوه ويتوجوه على عرش مدينتهم، ونسجوا عن موته تلك الحكاية العجيبة التي ألهمت العديد من الشعراء. فقد رووا عنه أنه ألقى بنفسه في فوهة بركان «أتنا» وترك حذاءه بجانبها ليدل على موته أو انتحاره الأعجب، هل استجاب الفيلسوف لنداء الأرض الأم فاتحد بالطبيعة الإلهية، أم لجأ إلى حيلة ماكرة أراد منها تخليد اسمه وذكره؟

لقد كتب عنه هلدرلين إحدى قصائده قبل أن يكتب المسرحية. وهو يمجده فيها ويتمنَّى لو يتبعه إلى أعماق الأرض لولا أن قوة الحب تمنعه:

أنت تبحث عن الحياة، تبحث عنها فتنبثق وتلمع
نار إلهية من أعماق الأرض،
وأنت بالشوق الواجف
تلقي بنفسك في لهيب «أتنا»،
لكنك مع هذا مقدس عندي،
مثل قوة الأرض التي اختطفتك
أنت أيها المقتول الجسور!
ولكم تمنيت أن أتبع البطل إلى الأعماق،
لولا أن الحب يمنعني …

لكن الحب ومعه الرؤيا والتجربة الكبرى قد انهار، والانتحار البطيء باسم الاكتئاب يفترسه ليل نهار. وبعد أن كان هبوط الفيلسوف القديم في فوهة البركان تكفيرًا عن ذنبه عندما وضع نفسه في مصاف الآلهة، أصبح في الصياغة المتأخرة للمسرحية تعبيرًا عن شوق صوفي إلى رحم الأرض، وحنين إلى أحضان الطبيعة المباركة والأصل المقدس:

عندما ينوح الآن قلب الأم
في وحدته الأليمة،
وتنشر الأم المظلمة
— وهي تذكر الاتحاد القديم —
ذراعها النارية للأثير،
ويأتي ملك الشمس في هالة إشعاعه،
هنالك نغوص في اللهب المقدس
علامة على قرابتنا له.

وبدأ هلدرلين يغوص في هاوية اللهب الأسود المقدس، وراح الاكتئاب المميت يحاصره من كل ناحية، ويضطره للتسليم. ولكم حاول أن يتشبث بذكرى الحب ورؤياه الشعرية لتحميه من السقوط. فطفق يناجي القوى السماوية، ويستنجد بها من لعنة الوحدة التي تطبق عليه:

بلا قدر كالرضيع النائم
يتنفس الإلهيون،
أعفاء مصونين
في البرعم الطيب
تزدهر أرواحهم أبدًا،
وعيونهم المباركة
تطل في هدوء وصفاء خالد.
أما نحن فكُتب علينا
ألا نهدأ في موضع.
والبشر المعذبون
يتلاشون يسقطون
كالعميان من ساعة لأخرى،
كما تندفع المياه على مر السنين،
من صخرة لصخرة،
إلى الهاوية الغامضة.

أخذ الشاعر يندفع إلى الهاوية الغامضة التي لن يخرج منها. وبدأ ظلال الجنون تلتف حوله يومًا بعد يوم. وعاد يهيم في البلاد بحثًا عن لقمة العيش، فعمل فترة قصيرة في سويسرا، ثم هجرها وقام برحلته الأخيرة إلى مدينة «بوردو» الفرنسية ليتولى تعليم أبناء القنصل الألماني المقيم فيها، ولكنه لم يلبث أن ترك عمله وعبر الحدود على قدميه، حتى وصل إلى وطنه، وقد ظهرت عليه أمارات الاضطراب النفسي والعقلي. هل تعرض في أثناء رحلته لضربة صاعقة من رب النور «أبوللو»؟ أم انفجر فيه جرح الحب الذي ظل سنوات ينزف في صمت؟ هل تأكد له أن العالم الذي يحيا فيه قد صار حطامًا لا موضع فيه للتجانس والجمال، وأن السماويين المباركين قد تخلوا عنه إلى غير رجعة؟ لقد صور له الأمل أو الشعر أنه يمكن أن يحلم بهم على الرغم من قسوة الواقع، وأن يناجيهم ويتغنَّى بهم ويتحدى القبح المتفشي من حوله، فهل اقتنع الآن بما قاله في أشهر قصائده المتأخرة وهي قصيدة «الخبز والنبيذ»:

لكننا يا صديق قد أتينا جد متأخرين،
صحيح أن الآلهة حية،
لكنهم يحيون فوق رءوسنا، هناك في عالم مختلف،
ولا يبدو عليهم أنهم يحفلون كثيرًا بوجودنا …
لقد حولوا وجوههم عن البشر، وبدأ الحداد
— كما يقول في المقطع الثامن تلك القصيدة —
يخيم على الأرض.

ولهذا يسأل قبل ذلك مباشرة:

ولمَ الشعراء في الزمن الضنين؟

وكأنه قد تشكك في جدوى الشعر والشعراء في زمن المحنة، بعد أن آمن بهما من قبل، وقال بيته المشهور:

وما يبقى يؤسسه الشعراء …

لا لم يعد في طاقته أن يأمل أو يتشبث برؤياه، حاصره الشتاء، وها هو ذا يعلن صرخته للريح:

ويلي لو جاء شتاء
أين سأقطف أزهاري
وألاقي نور الشمس
وظل الأرض؟
تبدو الجدران أمامي
باردة خرساء،
والرايات ترفرف في الريح.

كان المريض الذي عبر جبال الألب على قدمَيه قد لجأ إلى أمه، وعاش معها في بلدته الصغيرة «نورتنجن» حتى سنة ١٨٠٤م، لكن المرض ألح عليه، فغادر البيت وعاد يتنقل بين البلاد، حتى استقر في مصحة الأمراض العقلية في مدينة «توبنجن». ولما يئس الطب من شفائه تسلمه نجار طيب آواه في بيته، فعاش فيه نصف عمره الأخير أشبه بالظل الهادئ والشبح الهائم في الليل الطويل:

ما عاد صوت يتردد من أجلك
أنت أيها الرائي المسكين!
عينك المشوقة تنطفئ
والنعاس يجرفك إلى الأعماق،
فلا يذكرك أحد ولا يبكيك إنسان …

وأقبل الموت فخلصه من حلمه أو من رؤياه في اليوم السابع من شهر يونيو سنة ١٨٤٣م.

وتمت دورة الحياة التي غناها قبل ذلك بأكثر من أربعين عامًا، فقال:

تطلعت روحي إلى السماء،
غير أن الحب جذبها إلى الأرض،
والعذاب قهرها بقوة.
هكذا أعبر قوس الحياة،
وأعود إلى حيث جئت …
(١٩٨٣م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤