«أنجارتي» وغموض الشعر الحديث

من مفارقات الشعر الحديث أن يكون الغموض من أوضح مظاهره، يشترك في هذا جانب كبير من الشعر الأوروبي والشعر الجديد في بلادنا. ومع أنني أعلم عن نفسي أن «أوضح» عيب فيَّ هو الوضوح، فسأحاول في السطور القادمة أن ألقي شيئًا من الضوء على هذه الظاهرة التي طالما عذبت القراء، وحيرت النقاد، وتعجب منها الشعراء أنفسهم. وأحب قبل أن يتشعب بي القول في هذه المشكلة العويصة أن أقدم للمقال بمجموعة من الملاحظات العامة، تمهيدًا للحديث عن ظاهرة الغموض في الشعر الأوروبي في القرن العشرين، وبخاصة عند واحد من أكبر شعرائه، وهو جوسيبي أنجارتي أعظم شعراء إيطاليا المعاصرين الذي يعده بعض النقاد من أكثرهم غموضًا، بل يزعمون أنه من الداعين إليه والمؤسسين لنزعة قوية فيه …

  • (١)

    يعبر الشاعر الجديد عن تجربة جديدة. هذه التجربة الجديدة تجعله يتناول اللغة تناولًا خاصًّا، يقوم بدوره على فهم خاص للحياة وظواهر الوجود.

  • (٢)

    في عروق اللغة يعيش نبض العصر، وينعكس وجهه المظلم أو وجهه المضيء. وإذا كان عصرنا يختلف عن العصور السابقة، فكيف لا تختلف لغتنا عن لغة الآباء والأجداد؟ وإذا كان عصرنا يتمزق بالقلق والخوف والتشتت والصراع بين الدول والمذاهب، وسيطرة الآلة على الإنسان وبعد هذا عن نفسه وعن العالم بقدر محاولته السيطرة عليها والتحكم فيها، فكيف لا تكون لغتنا مرآة لكل هذه الغرائب والمتناقضات؟ وإذا جاز القول بأن لكل منا عالمه، فكيف نستبعد على شاعر اليوم أن يكون له عالمه أو قل غابته الكثيفة المظلمة؟

  • (٣)

    ليس لكل عصر لغته فحسب، بل لكل شاعر لغته أو قاموسه الشعري الخاص به. وقد يكون من أسباب حكمنا بالغموض على طائفة كبيرة من نماذج الشعر الحديث راجعًا إلى آفة الكسل والتعود، أو عجزنا عن بذل الجهد الواجب للتخلي عن القوالب والصيغ التعبيرية التقليدية لنستطيع استكشاف القوالب والصيغ الجديدة التي تحمل نبض العصر. وكيف لا نشكو من غموض أدونيس أو خليل حاوي أو البياتي ما دمنا نقرؤهم، ونحن نرتدي زي الجاهليين أو الأمويين أو العباسيين، لا بل زي البارودي وشوقي وحافظ؟ ثم إن الشعر معبود لا يحب أن يُشرَك به، فإذا دخلت إلى معبد شاعر، فعليك أن تقدم له كل تضحية، وتفنى فيه كل الفناء. وهل يصح إيمانك إن صليت في المسجد أو الكنيسة وقلبك مشغول بآلهة المجوس والفراعنة والبابليين؟

  • (٤)

    ينبغي أن نلتزم الحرص في استخدام كلمة الغموض. صحيح أن الشعر الجديد — وأقصد نماذجه الممتازة التي تستحق هذه التسمية — يتصف عامة بالغموض غير أن هناك، إن جاز هذا التعبير، غموضًا أصيلًا، وغموضًا زائفًا. والغموض الأصيل ينتج عن التحام لغة الشعر وقلبه بالحياة والوجود. فحياتنا اليوم تحفل كما قلت بالتناقض والتمزق والغرابة، وتموج بظواهر من الظلم والرعب والتفتت التي تزيد من غربة الشاعر عن العالم، وغربة العالم عنه، وتجعلنا عاجزين عن فهمها أو تفسيرها مهما حاولنا أن نصطنع منطق أرسطو أو نفزع إلى طبائع الأشياء. وهناك إلى جانب هذا غموض زائف يزور لغة كاذبة، فيأخذ إطار الشعر الجديد وشكله، ولكنه يحشده بتعبيرات سخيفة أو استعارات كاذبة أو صور ورموز وأساطير يكدسها إلى جانب بعضها البعض كيفما اتفق.

    وقد يسأل القارئ: ولماذا لا يكون الشعر الجديد بسيطًا واضحًا، وهناك قدر هائل من الشعر البسيط الواضح الذي يؤثر علينا ويهز مشاعرنا؟

    والرد على هذا أن الغموض ليس مقصورًا على الشعر القديم دون الجديد، وأن الشاعر الجديد لا يبحث عن الغموض حبًّا في الغموض أو التعقيد لذاته. فليس كل الشعر المعقد شعرًا غامضًا، ولا كل الشعر الغامض شعرًا معقدًا. ثم إن الشعر الغامض يمكن أن يهزنا ويؤثر فينا مثل الشعر الواضح البسيط، بل قد يكون الغموض من أقوى أسباب هذا التأثير.

  • (٥)

    لا بد أن نفرق بين الغموض والإبهام، فالشيء المبهم المستغلق ليس هو بالضرورة الشيء الغامض؛ لأن الإبهام صفة نحوية قبل كل شيء أي ترتبط بتركيب الجملة، في حين أن الغموض صفة خيالية تنشأ قبل مرحلة التعبير والصياغة اللغوية النحوية، فالغموض إذن هو غموض الرؤية أو التجربة نفسها. وما دام الشاعر صادقًا، فهو ينقل لنا تجربة وجود يزداد كل يوم غموضًا، أي يزداد اضطرابًا وقلقًا وتفتتًا، ويبتعد بأحداثه المروعة المفاجئة عن النسق التقليدي المتكامل المنسجم. وإذن فالغموض ليس صفة سلبية تأتي من عجز الشاعر أو فشله في الوضوح، بل هو صفة إيجابية تفرض ضرورتها على الشاعر؛ لأنها كامنة في التفكير الشعري نفسه، أي متصلة بجوهر الشعر وطبيعته الأصلية. ولذلك تزداد عند الشاعر بقدر ما يزداد نصيبه من الأمانة والصدق في التعبير.

  • (٦)

    الشعر وليد الخيال، والخيال تعبير آخر عن الاختراع. لذلك فلا عجب أن نجد الشاعر يخترع المعاني والألفاظ والاستعارات والصور الجديدة، محاولًا أن ينقل إلينا تجربته أو رؤياه الجديدة للكون والحياة، أو يشكل بها تلك الوحدة الشعورية أو الصورة اللغوية والموسيقية التي تظل تعتمل في باطنه قبل أن تتجسد في الكلمات. وليس عجيبًا كذلك أن نجد كلماته تبتعد عن معانيها الاصطلاحية، أو دلالاتها العادية المألوفة في حياتنا اليومية، بحيث نستطيع أن نقول إنه يزداد غموضًا بقدر ما يزداد اقترابًا من جوهر الشعر الحقيقي. وغني عن القول أن الغموض لا يعني أبدًا الألغاز أو السخف أو التعقيد.

  • (٧)

    كل إنسان منا يعيش في التراث، فمن لم يكن له ماضٍ فلا حاضر له ولا مستقبل. والشاعر العصري يتخذ بالضرورة موقفًا من تراثه، وسواء حاول أن يخرج عليه أو أن يرفضه رفضًا تامًّا، كما فعل بعض غلاة الرمزيين والسرياليين من دعاة العصرية المطلقة في النصف الثاني من القرن الماضي وأوائل هذا القرن، أو قبل منه شيئًا ورفض شيئًا آخر، فهو على كل حال يريد أن يتجاوزه أو يغير النظرة إليه، ولكننا نحن القراء العاديين أميل إلى المحافظة أو قل إلى التعود، ولذلك يشق علينا أن نحسن الظن بمن يثور على التراث، ونتصور أنه يثور علينا، ونسارع إلى وصفه بالغموض والإغراب. ولو تذكرنا أن الثورة على التراث لا تعني معاداته ولا البصق عليه، بقدر ما تدل على الارتباط العميق به، ومحاولة إثرائه بتجارب وأبعاد جديدة، فربما يزول سبب من أهم أسباب الغموض الذي نتصوره في الشعر الجديد. وقد نستطيع أن نضيف سببًا آخر، وهو أن الشاعر الجديد، مهما يكن موقفه من التراث المحلي والإنساني، يحيط علمًا بخفايا هذا التراث، ويتفنن في استغلاله واستلهامه. ونظرة إلى شعر البياتي وأدونيس وصلاح عبد الصبور مثلًا، أو إليوت وأزرا باوند وجوتفريد بن، تؤكد أن الشاعر الجديد قد أوغل إلى حد مخيف في معرفته بالتراث الإنساني، مخيف لنا نحن قراءه العاديين كما قلت. فإذا رأيناه يكثر من استخدام الرموز والأساطير والمواقف والأبطال المستمدة من التاريخ القديم والحديث، والشرقي والغربي، وإذا رأينا شاعرًا مثل إليوت يتنقل بحرية في آفاق الثقافة العالمية، ويعيد صياغة المواقف والرموز والشخصيات القديمة بما يوائم رؤياه الشعرية والنفسية، وإذا رأينا شاعرًا آخر مثل باوند يتطرف في هذا الاتجاه، فيكتب بعض الكلمات والجمل الشعرية بلغاتها ورسمها الأصلي — كالهيروغليفي والصيني — فإننا نصاب كما قلت بالخوف والفزع، لا من معرفة الشاعر بالتراث، بل من جهلنا نحن به. ولعل هذا أيضًا أن يكون أحد الأسباب التي تجعلنا نتهم الشعر الحديث بالغموض.

  • (٨)

    وأخيرًا قد يقع ذنب الغموض على الشاعر نفسه لا على قرائه، فهو قد يستخدم الرموز والأساطير استخدامًا تقريريًّا مباشرًا، دون أن يستوحيها أو يستلهمها، وقد يكدسها بجانب بعضها البعض دون أن ينجح في ربطها بحالته النفسية، أو بسياق القصيدة، أو يعجز عن تناولها التناول الشعري الحق الذي يبعث الحياة فيها، ويربط معناها الخاص بالمعنى الإنساني العام. وقد يفتعل من الاستعارات والمعاني والكلمات ما لا تقتضيه طبيعة الموقف الشعوري الذي يريد أن ينقله إلينا. لذلك لا يصح أن نظلم القراء دائمًا، ونتهمهم بالجهل والغباء، فكثيرًا ما يتحمل الشعراء أنفسهم مسئولية الغموض.

بعد هذه المقدمة التي اهتديت فيها بالكتاب القيم «الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية» للدكتور عز الدين إسماعيل، أنتقل إلى الكلام عن ظاهرة الغموض في الشعر الأوروبي المعاصر بوجه عام، تمهيدًا للكلام عنها عند أحد أعلامه.

والغموض من أهم الخصائص التي تميز الشعر الحديث. فهو يلقي على اللغة مهمة عسيرة وغريبة معًا، ألا وهي أن تفصح عن المعنى وتخفيه في آن واحد. إنه يعزل القصيدة عن وظيفة اللغة الأساسية في النقل وتوصيل المعاني، ليعلقها فيما يشبه الفراغ، فتبتعد عن القارئ كلما حاول الاقتراب منها. وقد يبدو في بعض الأحيان كأن الشعر الحديث ليس إلا محاولة لتسجيل إحساسات مبهمة، وتجارب مضطربة يحتفظ بها الشاعر لمستقبل قريب أو بعيد، يتمكن فيه من التعبير عن إحساسات أوضح وتجارب أنجح. ولهذا يدور ويدور حول إمكانات لم تثبت أو تتحقق بعد.

ولكن من أين يأتي هذا الغموض؟

قد يأتي من المضمون أو الأسلوب الذي يلجأ إليه الشاعر. فالقصيدة تتكلم عن أحداث أو كائنات لا يعرف القارئ شيئًا عن مكانها أو زمانها أو أسبابها، ولا يخبره الشاعر بشيء عنها، وعباراتها لا تتم ولا تكمل، بل تنقطع فجأة لسبب لا يدريه، كأنما حاولت أن تقطع الصمت المطبق فلم تفلح. وقد لا يتألف المضمون إلا من مواقف لغوية، تختلف بين الخشونة والنعومة والسرعة، بحيث لا تكون الموضوعات والعواطف التي تتحدث عنها سوى مادة لا معنى لها. ومن أبرز وسائل الأسلوب التي تسبب الغموض تغيير وظيفة الحروف والصفات والظروف وصيغ الأفعال، وترتيب الجملة العادية ترتيبًا غير مألوف، والميل إلى ما يمكن تسميته بالجمل المفتوحة، كأن تتألف الجملة من أسماء لا يرتبط بها فعل، أو نجد جملة رئيسية بلا جملة جانبية أو العكس، أو جملة شرطية بلا جواب شرط، أو بإسقاط أدوات التعريف عن الأسماء واستخدامها بطريقة تزيد من الغموض بدلًا من أن تعمل على التحديد والتعريف. أضف إلى هذا أننا قد نجد قصائد بلا عنوان، أو بعناوين لا توافق موضوعها، فتزيد بذلك من تعدد المعاني المختلفة التي توحي بها. وقد يكون السبب في التخلي عن العنوان هو رغبة الشاعر أن يخلي مضمونه من أية صلة تربطه بالواقع والمألوف. ويذكرنا هذا ببيكاسو الذي اشتهر عنه أنه لا يضع عناوين للوحاته، بل يتولى ذلك عنه تجار اللوحات ومنظمو المعارض الفنية.

ويطول بنا الأمر لو أردنا أن نتتبع أقوال الشعراء التي يطالبون فيها بالغموض أو يحاولون تبريره. فالشاعر «ييتس» يتمنى أن يكون للقصيدة من المعاني بقدر عدد قرائها. وإليوت يقول إن القصيدة شيء مستقل يقف بين المؤلف والقارئ، كما أن العلاقة بين المؤلف والقصيدة تختلف عن العلاقة بينها وبين القارئ. فالقصيدة التي يكتبها الشاعر تخرج من يده إلى الأبد. وقد يستشف القارئ فيها معاني لم تخطر على بال المؤلف، أي إن من حق القارئ أن «يؤلفها» من جديد. والشاعر البرتغالي بيدرو ساليناس يقول في هذا المعنى: «إن الشعر يرتبط بشكل عالٍ من التفسير يكمن في سوء الفهم. فالقصيدة تنتهي بعد كتابتها، ولكنها لا تتوقف، بل تبحث عن قصيدة أخرى في نفسها أو في المؤلف أو القارئ أو في الصمت.» أي إن القوى الكامنة في القصيدة أو في اللغة التي كتبت بها لا تنتهي بمجرد الفراغ من تأليفها، بل تطلق قوى جديدة في نفس الشاعر والمتلقي.

وقد «يوضح» ما نريده بهذا الغموض في الشعر الحديث أن نضرب له مثلًا بإحدى قصائد الشاعر الإسباني «جين» وعنوانها «أغمض عيني»، ويمكن أن نجد فيها تصويرًا لخفايا هذا الغموض أو نوعًا من التبرير له:

أغمض عيني، والسواد يطلق شرارات
هي القدر السعيد.
الليل يفض أختامه ويجلب من الهاوية
ضوءًا يرتفع فوق الموت،
أغمض عيني، فيقوم عالم عظيم يعشيني،
عالم خالٍ من الضوضاء،
يقيني أبنيه على الظلام،
وكلما زاد البرق عتمة، كان ملكًا لي.
في السواد تطفو زهرة.

وليس من العسير فهم معنى القصيدة. فالظلام أو الغموض الذي يتحدث عنه الشاعر يأتي من احتمائه بنفسه من العالم الخارجي والابتعاد عن أضوائه وضوضائه. إنه يغلق عينيه، فينفتح عالمه الداخلي، ويتحرر من ضجة الحياة، ويحول الظلام — أو اختفاء الواقع الخارجي — إلى نور، ويطلع تلك الزهرة التي لا تتفتح إلا في نور الظلام (والوردة هنا رمز الكلمة الشاعرة). أي إن الشعر لا يكتمل إلا في عالم «اللاواقع» الذي يجبره على الغموض والإظلام.

وقد نشأت في إيطاليا منذ حوالي أربعين عامًا حركة أدبية راحت تنادي بالغموض في الشعر، حتى سميت بحركة الغموض والإلغاز، وكان من بين ممثليها الشعراء بونتمبللي، ومونتاله، وسابا، وكوازيمودو، وأنجارتي الذي سنتحدث الآن عنه بشيء من التفصيل. وقد تأثرت هذه الحركة بشعراء البارناسية والرمزية في القرن التاسع عشر (رامبو، مالارميه، فاليري) فراحت تسعى إلى تأكيد طابع الغموض والسحر والإيحاء في الشعر، وتقدم نغمة الكلمة وقيمتها الشعورية على معناها، ولكن هل تنطبق حقًّا صفة الغموض على أنجارتي؟ لنحاول الآن أن نتعرف عليه، فقد يهمنا أن نعرفه لأسباب كثيرة، ليس أقلها أنه ولد في بلادنا، وقضى صباه في أجمل مدننا، وحوت أشعاره كثيرًا من ذكرياته وانطباعاته عنا.

•••

ولد جوسيبي أنجارتي Giuseppe Ungaretti في العاشر من فبراير سنة ١٨٨٨م في الإسكندرية، من أبوين مهاجرين من مدينة لوكا. وفي الإسكندرية التي أصبحت على حد قوله: «حلمًا مألوفًا» لديه، قضى طفولته وشبابه المبكر. فهو لم يغادرها إلى إيطاليا لاستكمال دراسته إلا بعد أن أتم الثامنة عشرة من عمره. ثم ذهب إلى باريس، واستمع إلى محاضرات السوربون، واكتشف عن كثب ما يجري من تيارات جديدة في الأدب والفن. وتعرف على رواد الثورة الوليدة في الشعر والرسم، أمثال أبوللينير وماكس جاكوب وديران وبيكاسو وبراك وبيجي، كما استمع إلى محاضرات برجسون الفلسفية في نهم وحماس، وشارك في الحوار آنذاك حول الفن الجديد، وتأثر بقراءاته لمالارميه وفاليري وسان — جون — بيرس الذي ترجمه إلى لغته.١

غير أن الحرب شاءت أن تضع حدًّا لسنوات التعلم. فما كادت تشتعل نيران الحرب العالمية الأولى حتى جند أنجارتي في كتيبة المشاة التاسعة عشرة، وقضى معظم الوقت في الجبهة النمسوية. وبينما الحرب في عنفوانها، ظهرت مجموعته الشعرية الأولى سنة ١٩١٦م في مدينة «أودين». لم تكن أشعار حرب ما حوته هذه المجموعة الصغيرة، بل قصائد إنسان «وجد نفسه فجأة يسير في شارع الحرب الذي لم يكن يعلم عنه شيئًا»، إنسان يسأل لماذا، فيردد سؤال كثيرين مثله، كتب عليهم أن يتساقطوا واحدًا بعد واحد كأوراق الخريف. إنهم إخوته الذين يتحدث على لسانهم في هذه القصيدة البسيطة المصفاة:

من أية كتيبة أنتم
يا إخوتي؟
كلمة ترتعش
في الليل،
ورقة لم تكد تولد
في الهواء المثير،
تمرد غير مقصود
لرجل
يعرف ضعفه،
إخوتي.

وفي هذه السنة أيضًا، في لهيب الحرب، نشأت هذه القصيدة العجيبة «جنود». أربعة أسطر، تسع كلمات. لا شيء غير هذا. فالشاعر لا يقول إلا القليل، بل أقل من القليل؛ لأنه لم يبقَ أمام الكارثة من شيء يقال:

يقفون
كما في الخريف
على الأشجار،
ورقة ورقة.

وانتهت الحرب فأقام أنجارتي في روما، وعمل في وزارة الخارجية مشرفًا على تحرير نشرة باللغة الفرنسية. وتوالت دواوينه واحدًا بعد الآخر: الميناء المدفون، فرحة الغارقين، وعاطفة الزمن. واشتهر أنجارتي وكثر قراؤه المعجبون والساخطون. فها هو شعر فريد وجديد، يضع حدًّا للبلاغة والزخرف والتكلف الذي ساد الشعر الإيطالي زمنًا طويلًا. وها هم الناس يتحمسون في الترحيب به كما يتحمسون في الحرب عليه. بل لقد وصل الأمر في تلك السنوات إلى حد تأسيس مجلات لا يشغلها شاغل سوى الهجوم على أنجارتي أو الدفاع عنه، غير أن الشاعر كان يقف بعيدًا ووحيدًا، لا يجد ما يقيم به أود أسرته. وبدأ يعمل مراسلًا لجريدة الشعب في مدينة تورين، ويسافر من بلد إلى بلد في سبيل لقمة العيش، ويكتب مقالات يرسلها إلى جريدته من الجنوب الإيطالي، ومن معظم البلاد الأوروبية، ولكنه برغم هذه الظروف لم ينقطع عن كتابة الشعر، وهو أمر لا نعطيه في الغالب ما يستحقه من التقدير والإجلال.

لنقف لحظة عند هذه الفترة من حياة الشاعر قبل أن ننتقل إلى ما بعدها. وليطمئن القارئ، فلن تطول وقفتنا؛ لأن قصائد شاعرنا أقصر من نفس واحد بين شهيق وزفير. ولنقتصر على هاتين القصيدتين اللتين جعلهما عنوانًا للديوانين اللذين أشرت إليهما. فلنحاول معًا أن نعرف — أو بالأحرى نتعلم — من هاتين القصيدتين القصيرتين المكثفتين. يقول في قصيدة «الميناء المدفون»:

هناك يصل الشاعر
ثم يلتفت إلى النور بأغانيه
وينثرها
من هذا الشعر،
يبقى لي
ذلك العدم
الذي لا ينفد سره.

وتقول القصيدة الأخرى «فرحة الغارقين» أو فرحة السفن الغريقة:

وفجأة
نستأنف الرحلة:
كما يفعل،
دب البحر
بعد غرق السفينة.

ومن الصعب نقل الإحساس الذي توحي به القصيدة في الأصل، لا لأن الترجمة — وكل ترجمة — تفقد الإيقاع والجرس في لغتها الأولى، بل لأنها تعيد كذلك ترتيب السطور والكلمات، وهذا أمر بالغ الأهمية في الشعر الحديث بوجه عام.

•••

مهما يكن من شيء، فقد رحل أنجارتي في سنة ١٩٣٦م إلى البرازيل؛ ليقوم بتدريس الأدب الإيطالي في جامعة «سان باولو». ويبدو أن تأثيره على الوسط الأدبي هناك كان كبيرًا، كما أتيح له أن يعقد أواصر صداقة ثبتت عراها إلى اليوم. غير أن موت ابنه أنطونيو ذي التسع سنوات جعله يعود إلى وطنه، حيث راح يكتب أغانيه للأطفال الأموات تحت عنوان «يومًا بيوم».

ويظهر أن الموت كان يتربص بإيطاليا على نحو آخر. فقد بدأت أسود سنواتها بعد أن نشرت الفاشية العسكرية كفنها المظلم فوق سمائها وأرضها. ثم احتلت جيوش الألمان روما، وخمدت أنفاس المدينة الخالدة تحت أقدام البرابرة الشقر.

ولم تلبث هذه الكارثة أن غيرت شعر أنجارتي. إنه حزين على بلاده، حزين لفقد أحبابه. وها هو ديوان جديد يظهر للشاعر، العذاب عنوانه، والعذاب محتواه. فلنقرأ بعض قصائده لنعرف مدى العذاب الذي يقاسيه شاعر ينطق بلسان شعبه العجوز المقهور. تقول قصيدة «لا تصرخوا بعد الآن»:

كفوا عن قتل الموتى
لا تصرخوا بعد الآن، لا تصرخوا،
إذا كنتم لا تزالون تريدون أن تسمعوهم،
إن كنتم ترجون ألا تفنوا،
همسهم لا يحس
ما عادوا يحدثون ضجيجًا
إلا كنمو العشب
الذي يسعد حين لا يمشي عليه إنسان.

فالقتلى ما عادوا في حاجة إلى القتل مرة أخرى. لقد استسلموا وانتهى الأمر. لمَ إذن تملئُون الدنيا هتافًا وصراخًا؟ إن صراخكم سيغطي على أنينهم. وماذا يبقى لكم لو حُرمتم حتى من سماع هذا الأنين؟ وكيف تعرفون أنكم ما زلتم أحياء، لو أضعتم هذه الفرصة أيضًا من أيديكم؟ لا تصرخوا، فهم لا يسمعون. أليس هذا ما أردتم؟ لمَ تحرمونهم حتى من متعة الموت على انفراد؟ إنهم يهمسون، وهمسهم لا يُسمع. إنهم لا يضجون. وإن تصورتم أن همسهم ضجيج، فهو لا يعلو على صوت العشب الذي ينمو، العشب الذي لم تبقَ له سوى فرحة واحدة ألَّا تمشي عليه قدم إنسان.

ولكن هل ضاع كل أمل؟ هل يزداد اليأس كل يوم بلا انقطاع؟ أتصبح الحياة عنده، كما يقول في إحدى قصائده، صخرة جمدت فيها الصرخات؟ إن الكهنة السود ما زالوا يصرخون ويهتفون ويطلقون بخور البشاعة والظلم في المعبد الخراب. ولكن الأمل معقود على ملاك الفقراء الذي سيهبط ذات يوم ليخلصهم ويواسيهم:

الآن حيث يغزو العقول المطموسة
إشفاق غليظ بالدم والطين،
الآن حيث يثقلنا مع كل نبضة قلب
صمت كل هذا العدد من الموتى والمظلومين،
الآن فليستيقظ ملاك الفقراء،
رقة الروح التي لا تزال على قيد الحياة …
بتلك الإشارة التي لا تمحى على مر الأزمان،
فليهبط على رأس شعبه العجوز
وسط الأشباح …

ويشرق الأمل من أعماق اليأس … ويقسم بينه وبين نفسه أن يقبل على العمل. وينتظر أن تتفتح العيون المغلقة على نور الشمس، ويعانق الفقراء الفقراء، وتتصافح الأيدي المغلولة، وتبعث الحياة في الأجسام والأرواح التي قتلها الذل:

بلا لهفة على الإطلاق سوف أحلم،
سوف أقبل على العمل
الذي لا ينتهي أبدًا،
وشيئًا فشيئًا، بقرب النهاية
تمتد الأذرع للأذرع،
وتبسط من جديد
أكف تبذل العون،
وفي كهوفها تعود للحياة
عيون تعطي النار من جديد،
وأنت، فجأة لم تمس،
سوف تبعث، وسوف يهديني صوتك
مرة أخرى،
وإلى الأبد أراك.

ولكن يبدو أن هذه الآمال كانت وهمًا أو حلمًا. فالنكبة كانت أكبر مما يتصور عقل. وحتى بعد أن انجابت سحابة الظلم الفاشي عن سماء بلاده، ظلت حالة كالشلل أو الكابوس تخيم على الرءوس وتكتم الأنفاس. ولذلك لا عجب أن تكون خاتمة الديوان هي هذه الخاتمة:

ما عاد يرعد، ما عاد يهمس البحر،
البحر.
يثير الشفقة أيضًا، يثيرها البحر،
البحر.
سحب غافلة تحرك البحر،
البحر.
الدخان الحزين يترك الآن فراشة البحر،
البحر.
هو أيضًا مات، انظر، البحر،
البحر.

يبدو أن الحزن قد سرى منذ ذلك العهد المظلم في دم الشاعر ونخاعه. صحيح أنه أصبح الآن من أشهر شعراء بلاده، إن لم يكن أشهرهم جميعًا. وصحيح أن جامعة روما تستدعيه للتدريس فيها، وتجعل له كرسيًّا خاصًّا به، وأنه يؤسس هناك مدرسة أدبية تسمى باسمه، ويتخرج فيها عدد كبير من كُتَّاب إيطاليا وشعرائها وأساتذتها المرموقين، ولكن التعب لا يزال ثقيلًا على كتفيه، والحزن لا يزال يسري في دمه وصوته، فيخرج ديوانه الذي يعلن به خاتمة مؤقتة لحياته الشعرية، ديوان «مفكرة رجل عجوز».

إن كل دواوين أنجارتي تحمل هذه العبارة «حياة رجل». والشاعر نفسه يشرحها في مقدمة ديوانه «الفرح»، حيث يقول: «هذا الكتاب مذاكرات يومية». والمؤلف لا يطمح، ويعتقد أن الشعراء الكبار لم يكونوا يطمحون إلى أبعد من أن يتركوا وراءهم سيرة حياة جميلة. ولذلك فإن القصائد هي عذاباته الشكلية، أو سجل عذابه مع الشكل، ولكنه يريد أن يفهم عنه للمرة الأولى والأخيرة أن الشكل يعذبه؛ لأنه يطالبه بملاءمة التغيرات التي تطرأ على فكره ووجدانه. وإذا كان كفنان قد حقق أي تقدم يذكر، فهو يتمنى ألا يكون لهذا سوى معنى واحد، وهو أنه كإنسان قد استطاع أن يبلغ شيئًا من الكمال. لقد نضجت رجولته وسط أحداث غير عادية لم يقف بعيدًا عنها أبدًا. وهو وإن لم ينكر أن الأدب يتجه إلى العام، فقد رأى على الدوام أنه حيث ينشأ شيء ذو بال، فإن العام من خلال شعور تاريخي فعَّال، لا بد أن يلتقي في النهاية مع صوت الشاعر الوحيد …»

يقول أنجارتي كذلك عن نفسه إنه لما كان الذئب يفقد جلده، ولا يفقد رذيلته، فإنه يراجع قصائده وينقحها مع كل طبعة جديدة لأحد دواوينه. والحق أن شعره يتميز بهذه الصفة النادرة، ألا وهي البحث عن الجوهر وإبرازه نقيًّا خالصًا كالبلور. وهو يسعى جاهدًا إلى أدق تعبير ممكن، وأقربه إلى الطبيعة والإقناع، كما ينشد النغم المتسق، ويلون القصيدة بجرس موسيقي يوحي بالشعور الذي يحاول نقله إلى القارئ مما يستحيل بالطبع على كل ترجمة.

اشتهر عن أنجارتي بحق أو بغير حق أنه شاعر غامض ملغز، بل مؤسس دعوة إلى الإلغاز، ولكن من يقرأ شعره لن يفهم هذا القول، ولن يستطيع أن يصدق كل ما فيه. فلنحاول الآن أن نتدبره معًا.

يعرف القارئ من النماذج السابقة أن أشعار أنجارتي تتميز بالتركيز البالغ. فالكلمة كما يقول بنفسه هي شق أو صدع قصير للصمت. إنها شذرة تقف وحيدة مرتعشة بين عالم الأسرار الذي لا تكاد تلامسه، إلا من بعيد، وبين الصمت الذي لا يلبث أن يطبق عليها. وكل قصائد أنجارتي تتفق في هذا الطابع الذي يميزها، ويجعل منها شذرات لم تتم، ويتضح هذا بوجه خاص في قصائده المركزة القصيرة التي يعد أستاذًا فيها مثل لوركا، والتي سنعود إليها بعد قليل.

ولا يصح أن نحاول فهم قصائد أنجارتي من ناحية المضمون. فكثيرًا ما يصيبنا الذهول؛ لأنها لا تتضمن أي شيء، أو لأننا لا نستطيع في بعض الأحيان أن نفهمها على الإطلاق. والواجب أن ننظر إلى كلماتها كصيغ صوتية أو أشكال نغمية تخلف وراءها صدًى ساحرًا. ولنتأمل إحدى قصائده الحرة لنرى كيف يبدو هذا الغموض الذي اشتهر به شعره عن حق أو غير حق كما قدمت. إنها قصيدة «الجزيرة» التي ظهرت في سنة ١٩٣٣م في ديوانه عاطفة الزمن. لنقرأها أولًا قبل التعليق عليها:

هبط إلى شاطئ، كان يسوده المساء الأبدي
من غابات متفكرة سحيقة القدم
وتوغل بعيدًا،
وجذبه حفيف أجنحة،
صعد من خفقة قلب الماء الصارخة
ورأى شبحًا (يسقط ثم يعود فيزدهر)،
وحين استدار ليصعد
رأى أنها كانت حورية بحر، وكانت تنام
منتصبة وهي تعانق شجرة دردار.

فالقصيدة تتكلم عن حدث ما، في جمل متموجة بالغة القصر ليس فيها أثر للأنا. إنها تتكلم عن شخص فتقول «هو»، ولكن من هو هذا الشخص؟ لن نتلقى جوابًا. فالضمير غير محدد ولا معروف. ويزيد من هذا الغموض أن العبارات قد رصت بغير علاقة تربط بينها، وجمعت صورًا من الحياة الرعوية التي طالما تغنى بها الشعراء، وحنوا إليها كالجزيرة والغابات وحورية البحر والراعي والماشية. ولكننا سنسأل أنفسنا حين يذكر العذارى: أي عذارى هؤلاء؟ غير أن الحدث يتوقف هنا، ويظل شذرة لا سبب لها ولا هدف. ومع الخاتمة تزداد مجموعات الكلمات شذوذًا وبعدًا عن بعضها البعض:

الأغصان قطرت
مطرًا كسولًا من النبال،
الماشية نعست
تحت الوداعة الناعمة
ورعت «قطعان» أخرى الغطاء المضيء،

ولكن أين وصل الآن ذلك الشخص؟ إن الخاتمة التي تشبه السكون قد أنستنا بداية الحدث، وكأن لم يكن له ولا لصاحبنا القديم وجود ولا معنًى. وإذا أمكن أن نجد للقصيدة مضمونًا، فهو في اتجاه حركتها: وصول ولقاء وهدوء. وكلها حركات مجردة لا تعني شيئًا غير نفسها، مشيعة بسر ذلك الحدث الغامض الذي تظهر على سطحه. فإذا جاءت الخاتمة لم تحل هذا السر، بل أضافت إليه جديدًا. صحيح أن الحركة ستنتهي بالهدوء والهمود، ولكن تنافر الصور فيها يشير إلى مستوًى أعلى من الغموض تصنعه اللغة نفسها.

طبيعي أن مثل هذا الغموض له سحره، كما أن له عند الشاعر العظيم ما يبرره في النغمة أو الصورة أو الرؤية. غير أنه قد يصبح لدى العاجزين من الشعراء ميدانًا للادعاء والثرثرة، أو للتهكم والسخرية عند القراء. ومنذ سنوات عمد بعض هؤلاء القراء في أستراليا إلى دعابة خبيثة تشبه عندنا ما سمي بفضيحة اللامعقول ومسرحية دورنمات المزعومة، فألفوا أبياتًا لا معنى لها ونسبوها إلى عامل مناجم مغمور زعموا من باب الاحتياط أنهم وجدوها في أوراقه بعد موته. وراح النقاد يشيدون بعمق هذه الأبيات، ويبكون موهبة الفقيد.

•••

هل ننتهي الآن إلى القول بأن شعر أنجارتي شعر غامض وصعب؟ إن القارئ لن يستطيع أن يقرأه بسهولة، ولكن هذه الصعوبة عنصر مشترك بين الشعراء المحدثين. وستقابله ألغاز كثيرة تستعصي على المنطق والعقل، ولكنه سيحس أنها ليست ألغازًا مستعصية، بل تتصل بلغز الحياة والكون نفسه، بحيث يمكننا أن نقول إنها ألغاز من النوع الذي لا يحتاج إلى حل أو الذي يجعل الشعر «سرًّا مكشوفًا» على حد تعبير جوته في ديوانه الشرقي، وهو أقصى ما يمكن أن يصل إليه شاعر. إنه شعر ساطع البريق، خفيف حر، متألق لا تحتمل الكلمة فيه معنيين، جميل وصاف كحبات البلور. ولا يمنع هذا بالطبع أن يكون هذا الشعر عسيرًا على الفهم؛ ربما لأنه يقذف بنا فجأة بعباراته المركزة الشديدة الإيجاز إلى قلب الوجود. وماذا نقول في قصيدة تتألف من كلمتين اثنتين، ويمكن أن تصبح حجرًا يلقى في دوامة نفوسنا، فيهزها ويثيرها إلى آخر العمر؟ ماذا نقول في قصيدته المشهورة «صباح» التي تتكثف في هاتين الكلمتين: «استضئ باللانهاية»؟ التي حار كل المترجمين الأوروبيين في نقلها إلى لغاتهم، وحرت معهم كيف أنقلها إليك؟ هل نعبر عنها تعبيرًا آخر فنقول: «نفسي تشرق باللامحدود» أم نقول: «يغمرني نور الكون الهائل»؟ إن هذا كله لا يغني ولا يفيد. فالمهم أننا نحس بالإحساس المفاجئ الذي أراد الشاعر أن ينقله إلينا، ونرتعش ارتعاش القطرة التي عانقت البحر. خذ أيضًا هذه القصيدة بعنوان «أبدي»:

بين زهرة مقطوفة وأخرى مهداة
عدم لا يوصف.
أو هذه القصيدة «كون»:
من البحر
صنعت لي
نعشًا من النضارة،
أو هذه «لعنة»: حبيسًا بين أشياء فانية
(كذلك ستفنى السماء ذات النجوم)
ما الذي يجعلني نهمًا إلى الله؟

ألا تحس فيها صرخة المخلوق حنينًا إلى الخالق؟ ألا تشعر بالألم الفردي يتحول إلى ألم كوني عام؟ حتى القصائد القصيرة أو الطويلة التي نتصور أنها تصف الطبيعة نجدها تلمس المرئيات لمسًا خفيفًا، فترتعش أمامنا أو تشهق كالمولود الجديد أو كالمحتضَر. هذه مثلًا قصيدة «غروب»:

احمرار السماء
يوقظ واحات
لراعي الحب.
أو هذه الذكرى من أفريقيا:
الشمس تقهر المدينة،
العين لا ترى شيئًا،
ولا القبور نفسها تقاوم طويلًا.

أو «ليلة مايو» التي لا تزال، كقصائد كثيرة غيرها، تحمل انطباعات شبابه عن بلادنا:

السماء تضع
على رءوس المآذن
أكاليل نور.
أو «هذا المساء»: حاجز من الريح
كي يسند حزني
في هذا المساء.

ولا أحب أن أستسلم أكثر من هذا لإغراء الشعر، فتكفي هذه النماذج القصيرة للدلالة على أسلوب شاعرنا ودقته الرياضية في اختيار الألفاظ واكتفائه بأقل قدر ممكن من الكلمات التي تحمل أكبر طاقة ممكنة من المشاعر والمعاني. ولا نستطيع بالطبع أن نقول إنه شعر سهل. غير أن صعوبته لا تجيز لنا مع ذلك أن نصفه بالغموض؛ لأن الغموض يتصل كما قدمت بتشويش الفكرة، أو تشتت الإحساس أو تعقيد البنية اللغوية والنحوية أو غرابة المصطلح الجديد أو الخروج المتعمد على المألوف في ترتيب عناصر العبارة، وتسلسل الأفكار والأبيات في القصيدة الواحدة.

•••

من العسير علينا أن نقدر مكانة أنجارتي في الأدب الإيطالي الحديث، واختلاف النظرة إليه بين المتحمسين له والساخطين عليه. ذلك أن النقد الأدبي في بلد من البلاد يرتبط بظواهر وظروف يصعب تقديرها في بلد آخر. فقد ننقل شاعرًا أو أديبًا أجنبيًّا إلى لغتنا ونقيسه بمقاييسنا، فنقبل عليه ونعجب به، ولكن من النادر أن نتبين حقيقة تيار أو حركة أدبية، وإذا حكمنا عليها فإن أحكامنا ستثير الدهشة عند أصحابها الأصليين أو قد تثير الضحك والرثاء — وما أشد ذهولنا حين نطلع مثلًا على ما يكتبه الأجانب عن أدبائنا الكبار أو حين نلاحظ كيف يعجزون عن الإحساس بالجو الأدبي الذي نعيش فيه — ومع ذلك كله نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون أن أنجارتي يعد عند فريق كبير من أهله أكبر شاعر بعد «جبرييل داننزيو». والجميع يتفقون على أنه خلص القصيدة في بلاده من أثقال البلاغة والزخرفة والتكلف. وكل من يقرأ له سيتذوق بنفسه نضارة شعره ورقته وعفويته، وسيتفق على أنه من هؤلاء الشعراء الملهمين الذين يصدق عليهم القول بأنهم أعادوا إلى الشعر بدائيته الأصيلة، وبراءته المفقودة، وطرقوا به أبواب السر العظيم.

لنكتفِ اليوم بهذا القدر عن أنجارتي إلى أن تُيَسر لنا المراجع الكافية لدراسته. ولنختم حديثنا عنه وعن ظاهرة الغموض بقولنا إنها تعبر أفضل تعبير عن إحدى مفارقات الشعر الحديث. فإذا كان الغموض هو «أوضح» ظاهرة في هذا الشعر، فإن هذا الغموض ينبغي أن يظل غموضًا واضحًا أو وضوحًا يكسوه الغموض. وليصدقني القارئ، فأنا لا أتلاعب بالألفاظ. وإنما أريد ببساطة أن القصيدة الحديثة — عند شاعر جدير بهذا الاسم — أشبه بالبرق الخاطف، لا تضيء إلا لتخبو، ولا تخبو إلا لتضيء. وما دامت تكشف لنا في الحالين عن سرنا وسر الوجود أو تحاول الكشف عنه، وما دامت تطرح عنها أعباء مئات السنين من تكلف وبلاغة وطنطنة وقواعد وتقربنا منه، فهل يصح بعد ذلك أن نضيق بهذا الغموض الأصيل؟ وهل نطلب الكثير لو تمنيناه لشعرائنا الذين تعقد اللغة والوطن عليهم أكبر الآمال؟

(١٩٦٨م)
١  توفي الشاعر سنة ١٩٧٠م، بعد كتابة هذا المقال بعامين، في الولايات المتحدة الأمريكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤