أميرة عربية تؤلِّف للمسرح عام ١٨٩٩

ما زالت كنوز القرن التاسع عشرَ الأدبية مجهولة، تنتظر من يكتشفها ويلقي الضوء عليها، كي يبرز أهميتها وقيمتها الأدبية والفنية والتاريخية، التي ظلَّت في طي النسيان حتى أوائل القرن الحادي والعشرين! ونص مسرحية «أمانة الحب»، المنشور في هذا العدد يُعتبر من أهم هذه الكنوز، وذلك لعدة أسباب:
  • أوَّلًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» هو نص مخطوط، لم يُنْشَر منذ كتابته عام ١٨٩٩، وبالتالي فإن طبعته في سلسلة «نصوص مسرحية» تُعتبر الطبعة الأولى!
  • ثانيًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» يُعتبر من الآثار المجهولة للأديبة إسكندرة قسطنطين الخوري، حيث تجنَّبت ذِكْرَهُ مُعْظَمُ المراجع التي كَتَبَتْ عن هذه الأديبة، إلا عندما أشار إليه الأديبان أحمد محرَّم ووَلِي الدين يكن عام ١٩١٥.
  • ثالثًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» هو نص مسرحي مؤلَّف عام ١٨٩٩، وبالتالي فهو من النصوص المسرحية المؤلَّفة النادرة، في زمن كانت الترجمة والتعريب من أهم الصفات الغالبة عَلَى النصوص المسرحية.
  • رابعًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» نصٌّ مؤلَّف من قبل امرأة عربية، وبالتالي فهي تاريخيًّا تُعتبر ثالث امرأة عربية تؤلِّف للمسرح، بعد أن ألَّفت لطيفة عبد الله مسرحية «الملكة بلقيس» عام ١٨٩١،١ وبعد أن ألَّفت زينب فوَّاز٢ مسرحية «الهوى والوفاء» عام ١٨٩٣.
  • خامسًا: أن مؤلفة نص مسرحية «أمانة الحب» شخصية غير عادية، فهي أديبة كان لها شأن كبير في زمنها، وهي أيضًا أميرة عربية تحمل لقب «برنسيسة» بصورة رسمية وقانونية.
  • سادسًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» يحمل من القصائد ما يؤلِّف لصاحبته ديوانًا شعريًا يُعتبر بديلًا لديوانها المفقود.
  • سابعًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» يُعتبر دليلًا عمليًّا لقيام المرأة بتأليف ما يُسمَّى بالمسرحية النسائية، كما يُعْتبر باكورة الاهتمام بما يُسَمَّى بالأدب النسائي.

وقبل أن نتحدث عن هذه الأمور، أو عن مسرحية «أمانة الحب» نفسها، نلقي الضوء عَلَى مؤلفة المسرحية التي تحمل ثلاثة أسماء، هي: إسكندرة قسطنطين الخوري، أو ألكسندرة ملتيادي أفيرينوه، أو البرنسيسة ألكسندرة أفيرينوه فيزنيوسكا.

الأميرة إسكندرة

وُلِدَتْ إسكندرة قسطنطين نعمة الله الخوري عام ١٨٧٢ ببيروت، ثمَّ انتقلتْ إلى الإسكندرية مع أسرتها، والْتَحَقَتْ بمدرسة الراهبات، واستعانت بأستاذ علَّمها العربية، ثمَّ تزوَّجَتْ بتاجر إيطالي يُدعى ملتيادي أفيرينوه، ليُصبح اسمها «إسكندرة ملتيادي أفيرينوه»، وهو الاسم الذي لازَمَها منذ زواجها وحتى وفاتها.٣
وفي ٣١ يناير عام ١٨٩٨ أصدرَتْ إسكندرة العدد الأول من مجلَّتها الشهيرة «أنيس الجليس» بالإسكندرية، وهي مجلة شهرية نسائية علمية أدبية فكاهية، ظلَّت تصدر طوال عشر سنوات. وقد أبانت إسكندرة عن أهداف مجلَّتها في افتتاحية العدد الأول، قائلةً:

بسم الله الفتاح … الحمد لله الذي جعل المرأة مرآة الجمال، ومرقاة الكمال، وزانها بالحِلْيَتَيْن الحُسن والإحسان، وجعلها مصدر الحب وزهرة الإنسانية، وريحانة النفوس في كل زمان. والذي سوَّل لها في هذا العصر الوصول إلى مباراة الرجال، باجتناء العلوم وإتيان كل مفيد من الأفعال. وبعد …

فإني لَمَّا رأيت أن السيَّدات الفاضلات في هذا القطر تعوزهن مجلة مخصوصة بهن، مقصورة عَلَى النصح لهن تارة، وبيان فضلهن وأدبهن، استخرت الله في معاناة هذا العمل الجليل. عَلَى أن ما أعلمه من عجزي عن القيام بعبئه الثقيل، رجاء أن أنفع به محبَّات المطالعة وربات الآداب، مهما عدا دون ذلك من العوادي الصعاب. وقد سمَّيت مجلتي هذه «أنيس الجليس» إرادة أن يدل عنوانها عَلَى ما تتضمنه من الأبحاث المستطرفة واللطائف المستظرفة، التي تلذ الجنان، وتُبْعِد الملل عن الأذهان. وألْتَمِسُ من نصيرات العرفان، الكواتب الفاضلات اللواتي يرغَبْنَ في ترقية بنات جِنْسِنَا المتخلِّفات عن موارد العلم إلى الآن، أن يتفضلن عليَّ برسائلهن الرائعة، ونفائسهن الشائقة، لتكون مجلتي ناشرةً لمفاخرهن، حافظة لآثارهن ومآثرهن. واللهَ أسأل أن يأخذ بيدي، ويكون مرشدي وعضدي.٤
وقد التزمت إسكندرة بأهداف مجلتها النسائية، فاستكتبت مجموعة كبيرة من النساء، أمثال: لبيبة هاشم،٥ أستير موريال أو أستير أزهري، لبيبة شمعون، كاترين أصطفان، عفيفة ديمتري صليب. هذا بالإضافة إلى اشتراك مجموعة كبيرة من كبار الأدباء، في تحرير المجلة، أمثال: نجيب الحداد، أحمد الكاشف، أحمد محرَّم، إسماعيل عاصم، أمين الحداد، سليمان الحداد، نقولا رزق الله، محمد بهجت، ميخائيل سليم زابال، محمود حمدي السخاوي، قاسم هلالي.

أمَّا موضوعات مجلة «أنيس الجليس»، فكانت تتعلق بكل ما يختص بالمرأة، ومن هذه الموضوعات عَلَى سبيل المثال: المرأة في الشرق، نساؤنا والقراءة، ضحايا النساء، واجبات الزوجة، النساء والدراجات، نصيحة للسيِّدات، نساؤنا والقمار، مصيبة المرأة، عادات الطلاق، تعليم الفتاة، الطلاق وتعدُّد الزوجات، الوطنية والمرأة العثمانية، النساء والحرب، بسمارك والنساء، المرأة الأميركانية، النساء والطب، المرأة وتأثيرها عَلَى الرجل، المرأة والسياسة، امرأة اليوم وامرأة الأمس.

وفي هذه الفترة كانت إسكندرة عَلَى اتِّصالٍ ببعض الجمعيات والهيئات النسائية العالمية، وبالأخص جمعية السلام النسائية الأوروبية، التي تدعو إلى السلام بين الشعوب. وكانت ترأس هذه الجمعية أميرة إيطالية، تُدعى البرنسيس فيزنيوسكا، «وحدث أن عقدت هذه الجمعية عام ١٩٠٠ مؤتمرًا دوليًّا بباريس، وانتدبت إسكندرة لتمثيل المرأة العربية في هذا المؤتمر، فسافرت إلى باريس وصنعت لمصر علمًا خاصًّا يرمز إلى السلام ليخفق بين رايات سائر الدول الممثَّلة هناك.»٦
وفي هذا المؤتمر استطاعت إسكندرة أن تلقي عدة خطب وتنشر بعض المقالات، أبانت فيها للأوروبيين منزلة المرأة الشرقية. ولكن إسكندرة لم تَكْتَفِ بذلك، وشعرت بأنها تستطيع أن تُظْهِر مكانةَ المرأة الشرقية أمام أوروبا بصورة عملية، وذلك عن طريق إصدار مجلة باللغة الفرنسية، عَلَى غرار مجلتها العربية «أنيس الجليس». وبالفعل عندما عادت من باريس، نشرت في ٣١ / ١٢ / ١٩٠٠ مقالة بمجلتها تحت عنوان «الصحافة النسائية في مصر»، قالت فيها:
لقد علم حضرات القراء أن صاحبة هذه المجلة قد سافرت إلى باريز، وسائر الأصقاع الأوروبية، من أجل السعي في … بيان منزلة المرأة الشرقية لدى أفهام الأوروبيين. وكان ذلك بما أَلْقَتْه من خُطب ونَشَرَتْه من مقالات. وهو ما تبتهج له كثيرًا مع سائر نساء هذه البلاد، إذ إنه أعان النفس عَلَى مأمولها من ذلك، وكان له شيءٌ من التأثير الذي يؤمل أن يبلغ التَّمام بإذن الله. إلا أنه لما كان أنيس الجليس مجلة عربية، لا تفي بك هذا الغرض، وإن كانت أكثر مقالاتها عن الشئون النسائية الشرقية تُنْقَل إلى المجلات الإفرنجية؛ فلذلك قد سأل صاحبةَ هذه المجلة كثيرون من فضلاء أوروبا وكُتَّابها المعدودين أن تنشر مجلة أخرى شهرية باللغة الفرنسوية، التي هي أعم اللغات انتشارًا في كل مكان. وذلك بقصد تعميم هذه الخدمة، وإيفاء البيان حقه عن حال المرأة الشرقية، والمبلغ الذي أَدْرَكَتْه في الشرق، بفضل جلالة مولانا السلطان الأعظم وسمو خديوينا العبَاس المعظَّم. وهو مشروع يَعْلَم حضرات القُرَّاء كم دُونَه من الصعوبات، وكم ينبغي له من طائل النفقات. ولكنه لما كان ظاهر النفع من ذلك الوجه الأدبي، وكان الذين طلبوه واقترحوا إنشاءه من جلة العلماء، الذي تحسن إجابتهم وتجمل طاعتهم. فقد رأت صاحبة هذه المجلة، أن تتولى ما أشاروا به، وتسير عَلَى الخطة التي اقترحوها؛ ولذلك فقد عزمْتُ بمعونة الله، عَلَى إنشاء تلك المجلة الفرنسوية بعنوان لوتس LE, LOTUS. وسيصدر الجزء الأول منها مع هذا الجزء، حاويًا لكثير من المباحث والمقالات، التي تهم فريقَي الشرقيين والغربيين. بحيث تكون المجلة النسائية الوحيدة، التي تنشرها في هذه البلاد امرأة عربية، عَلَى كثرة عدد النساء الأجنبيات فيها. كما أن أنيس الجليس هي المجلة العربية الوحيدة، التي تنتشر بين قوم كل نسائهم شرقيات عربيات.٧

وفي المقالة نفسها أشارت إسكندرة إلى مجموعة كبيرة من الكُتَّاب الغربيين، ممن سيساهمون في تحرير مجلة «اللوتس» الفرنسوية، ومنهم: جول كلارتي، جون ليمتر، إميل دشانل، جان رشبين، البرنس لافورج، البارونة ستاف، البرنسيس فيزنيوسكا، جورج أونيه، الكونتيس مونتيين، فرانسوا كوبه.

ولم تكن مجلة «اللوتس» النتيجة الإيجابية الوحيدة لحضور إسكندرة مؤتمر السلام بباريس عام ١٩٠٠، بل كانت هناك نتيجة إيجابية أخرى، لا تقل أهمية عن إصدار اللوتس. وهذه النتيجة تمثَّلت في إعجاب الأميرة فيزنيوسكا بشخصية إسكندرة، ذلك الإعجاب الذي وَصَلَ إلى حد التبنِّي، حيث إن الأميرة لم يكن لها ذرية.

وبمرور الوقت توثَّقت العلاقة بين الأميرة فيزنيوسكا وبين إسكندرة، فقامت الأميرة بكتابة وصيتها، وقد أوصت فيها بتنازلها عن اسمها ولقبها إلى إسكندرة، وعهدت إلى ملك إيطاليا بتنفيذ هذه الوصية بعد وفاتها. وعندما تُوُفِّيَتْ كتب زوجها إلى إسكندرة يخبرها بوصية زوجته، وصدَّق عمانوئيل الثالث ملك إيطاليا عَلَى تحويل هذا اللقب إلى إسكندرة. وهكذا أصبحت إسكندرة قسطنطين الخوري، أو إسكندرة ملتيادي أفيرينوه تُدعى رسميًّا باسم … «الأميرة ألكسندرة أفيرينوه فيزنيوسكا».٨
وظلَّت إسكندرة تُصْدِر مجلَّتها «أنيس الجليس» حتى توقفت عن الإصدار في عام ١٩٠٧، ومن ثمَّ توقفت «اللوتس» أيضًا، ولكن إسكندرة «عملت عَلَى إخراج جريدة «الإقدام» اليومية، وعهدت إلى الشاعر ولي الدين يَكَن برئاسة تحريرها، وصدرت في ٢٩ / ٤ / ١٩١٢، ولكنها لم تعمِّر طويلًا».٩
ويقول نقولا يوسف عن الأميرة إسكندرة: «وكان لها بمنزلها في حي زيزينيا بالإسكندرية صالون أدبي يجتمع فيه صفوة الأدباء المقيمون منهم والزائرون، كان منهم خليل مطران، ونجيب الحداد، وأمين الحداد، والشاعر إسماعيل صبري.»١٠
وبسبب مكانة الأميرة إسكندرة الأدبية والثقافية والاجتماعية نالت: «تقدير الملوك والأمراء والسلاطين ورجال الدين، فانهالت عليها الأوسمة والنياشين … فقد أَنْعَمَ عليها السلطان عبد الحميد بوسام الشفقة الثاني، ثمَّ وسام الشفقة من الطبقة الأولى … كما مَنَحَهَا جلالة الشاه مظفر الدين شاه إيران وسام «شرفت»، وقد أنشأه خصِّيصًا من أجلها … ولما عَرَفَ البابا ليون الثالث عشر نشاطها الاجتماعي والأدبي مَنَحَهَا وسام «محامي القديس بطرس»، كذلك مَنَحَهَا بطريرك أورشليم صليب القبر المقدس الذهبي، وجاءها من جمهورية سان مارينو نوط الاستحقاق. ولما كانت عضوًا في جمعية معاصرينا الإيطالية، فقد نالت منها الوسام الذهبي. وكذلك مُنِحَتْ وسام عضوية الجامعة الإسبانية الأمريكانية، ووسام صليب أمريكا الشرقية الأكبر، ووسام جمعية مار بطرس، ووسام شفاليه من جمعية الإنسان والسلام.»١١
وهذه الأوسمة والنياشين تعكس لنا إلى أي مدًى كانت صلة الأميرة إسكندرة بملوك وأمراء الدول العربية والأجنبية، ومما يؤسَف له أن هذه الصلة كانت السببَ المباشر في طرد الأميرة من مصر، وعن هذا الأمر قال الزركلي: «قويت صلتها بالخديو عباس حلمي وبالإنجليز، فلما خُلِعَ وانقضت الحرب العالمية الأولى، وهو مقيم في سويسرا، حامت شبهة الملك فؤاد في مصر حَوْلها، ففتش بيتها وصُودِرَتْ أوراقها وأُمِرت بالخروج من مصر، فرحلت إلى إنجلترا، وتوفيت في لندن عام ١٩٢٧.»١٢
وإذا نَظَرْنَا إلى إنتاج الأميرة إسكندرة الأدبي، سنجد يتمثل في أمرين؛ أولهما إنتاجها المطبوع، وهو عبارة عن إعداد مجلتيها «أنيس الجليس» و«اللوتس»، وتعريبها لقصة «شقاء الأمهات» عن اللغة الفرنسية. أمَّا الأمر الآخر، فهو إنتاجها الأدبي المخطوط والمفقود في الوقت نفسه. وهذا يتمثل في عملين، الأول ديوانها الشعري، وقد قال عنه الزركلي: «أَطْلَعَتْني عَلَى مجموعة شعرية مخطوطة قالت إنها «ديوانها»، وعليها بيتان بقلم الرصاص، ذَكَرَتْ لي أنهما من خط إسماعيل صبري، كتبهما عَلَى أثر تصفُّحه المجموعة.»١٣ والعمل الآخر هو مسرحيتها «أمانة الحب»، وهي مسرحية ذات خمسة فصول، ولكنها لم تُمثَّل ولم تُطْبَع.١٤

وإذا كان ديوان إسكندرة الشعري مفقودًا حتى الآن، إلا أنني استطعت بعد جهد كبير، أن أحصل عَلَى مسرحيتها المخطوطة «أمانة الحب»، التي كانت مفقودة منذ كتابتها في عام ١٨٩٩!

مخطوطة المسرحية

إذا نظرنا إلى مخطوطة مسرحية «أمانة الحب»، سنجدها مكتوبة في أوراق من القطع المتوسط، عَلَى شكل كراسة. وهذه الأوراق مسلسلة الترقيم حتى رقم ١١٥، وهو مجموع صفحات المسرحية. أمَّا الخط فهو مكتوب بصورة مقبولة للقراءة، من خلال الريشة والمداد، كما هو متَّبع في الكتابات المخطوطة المُكتشفة في هذه الفترة.

والصفحة الأولى للمخطوطة، أو غلافها الخارجي، مكتوب عليه الآتي: «نسخة بقلم الفقير السيد محمد الأزهري، أحد رجال جوق مصر العربي، إدارة إسكندر أفندي فرح، في ١٧ أغسطس سنة ١٨٩٩.» وهذه المعلومات تُثْبِت لنا أن خط المخطوطة هو خط السيد محمد الأزهري، وليس خط الأميرة إسكندرة، وتُثْبِت أيضًا أن هذه النسخة، كانت تخص فرقة إسكندر فرح المسرحية. وهذا يعني أن فرقة إسكندر كانت تستعد لتمثيل هذه المسرحية أمام الجمهور عام ١٨٩٩!

وإذا بحثْنا عن السيد محمد الأزهري، سنجده أحد ممثلي فرقة إسكندر فرح في أواخر القرن التاسع عشر، حيث ذُكِر اسمه أكثر من مرة ضمن ممثِّلي الفرقة، وبالأخص في مسرحية «البرج الهائل» تأليف إسكندر ديماس وتعريب فرح أنطون، المطبوعة عام ١٨٩٩.١٥ وهذا الممثل تَرَكَ فرقة إسكندر فرح عام ١٩٠٥، وانضم إلى فرقة الشيخ سلامة حجازي، وذُكِر اسمه أيضًا ضمن ممثلي فرقة الشيخ في بعض النصوص المسرحية المطبوعة والمخطوطة.١٦

أمَّا موقف فرقة إسكندر فرح من تمثيل مسرحية «أمانة الحب»، فمن الثابت لدينا أن الفرقة لم تمثِّل هذه المسرحية مطلقًا، بل ولم تمثِّلها أية فرقة أخرى. وإذا نظرْنا إلى تاريخ نسخ الفرقة لهذه المسرحية، سنجده في شهر أغسطس ١٨٩٩، أي إن الفرقة كانت تنوي تمثيل هذه المسرحية في هذا التاريخ أو بَعْدَه بقليل. فما هي ظروف فرقة إسكندر فرح في هذا التاريخ؟!

عادة كانت الفرق المسرحية تأخذ إجازة من العمل لمدة ثلاثة أشهر، هي يوليو وأغسطس وسبتمبر؛ حتى تستعد للموسم الجديد الذي يبدأ عادةً في أكتوبر. وفي بعض الحالات كانت الفرق تَعْرِض أعمالها المسرحية في الأقاليم، أثناء هذه الإجازة، كما كانت بعض الفرق تبدأ موسمها الجديد في نوفمبر أو ديسمبر تبعًا لظروفها الإدارية والفنية.

وإذا نظرْنا إلى فرقة إسكندر فرح منذ شهر أغسطس وحتى أوائل ديسمبر ١٨٩٩ سنجدها تجوب الأقاليم المصرية بعروضها المسرحية، ومن هذه الأقاليم المنيا والزقازيق وأبو قرقاص والإسكندرية. أمَّا المسرحيات المُمثَّلة في هذه الأقاليم، فكانت عبارة عن إعادة للمسرحيات القديمة، ومنها: المهدي وفتح السودان، محاسن الصدف، غرام وانتقام، غانية الأندلس، مطامع النساء.١٧ وهذا يعني أن مسرحية «أمانة الحب» لم تُمثَّل في هذه الفترة.

ولعل القَدَر وَقَفَ بالمرصاد أمام مسرحية «أمانة الحب»، كي لا ترى النور، وتُعرض أمام الجمهور. فبالرغم من أنها مسرحية جديدة، لم تمثَّل من قبل، وكانت الفرقة تستعد لِعَرْضها لتبدأ بها موسمها الجديد، خصوصًا وأن إسكندر فرح قام بتجديد مسرحه الشهير بشارع عبد العزيز — سينما أوليمبيا الآن — إلا أن الظروف حالت دون عَرْضها.

ففي ٢٧ / ١٠ / ١٨٩٩، قالت جريدة «الأخبار» تحت عنوان «مرسح جديد»: «إن حضرة إسكندر أفندي فرح مدير الجوق العربي المصري، قد شرع في إصلاح مرسح عبد العزيز وترميمه، وجَعَلَهُ لائقًا لاستقبال العائلات وكرام القوم. وقد شاهدْنا أمس هذه الإصلاحات، فصحَّ لنا القول بعد الاطِّلاع عليها: «إن حضرة المدير الفاضل قد أنشأ مرسحًا جديدًا، لا أنه أصلح ورمَّمَ. فإنه قد هدم البناية القديمة بأكملها، وأنشأها عَلَى أساسات جديدة وهندسة، اقتدى بها بهندسة الأوبرا الخديوية، واشترى المخازن الواقعة أمام المرسح عَلَى الشارع، وسيشرع في هَدْمها، ويجعل المدخل الأكبر في محلها. وأوصى عَلَى فَرْش جميل من القطيفة في فيانا (فيينا)، وسيصل إلى مصر في أوائل الشهر القادم. وجعل التنوير كله بالكهربائية، بفوانيس مختلفة الألوان. أمَّا القاعة العمومية فتسع ٣٦٠ كرسيًّا، وقد أكثر من الشبابيك والمنافذ مراعاةً للقواعد الصحية، وسيفرغ منه في النصف الأول من الشهر القادم ويبتدئ بالتمثيل فيه.»

وكما هو متَّبَع في هذه الفترة، كانت الفرقة المسرحية تَعْرِض مسرحية جديدة في افتتاح أي مسرح جديد، حتى ولو كان مُجدَّدًا أو مُرمَّمًا. وهذا يعني أن فرقة إسكندر فرح كانت تستعد لعرض مسرحية «أمانة الحب» في افتتاح مسرحها بشارع عبد العزيز بعد تجديده. ولكن الحقيقة التاريخية تقول إن الفرقة عَرَضَتْ مسرحية «حلم الملوك»،١٨ تأليف كورني، وتعريب نجيب الحداد لأول مرة١٩ في افتتاح المسرح يوم ٢١ / ١٢ / ١٨٩٩، وفاءً لنجيب الحداد٢٠ باعتباره الكاتب الأول للفرقة، خصوصًا وأنه تُوُفِّي في فبراير ١٨٩٩، وكأن الفرقة تُحَاوِل أن تَرُدَّ له بعضًا من حقه عليها.

وعن هذا العرض قالت جريدة «الأخبار» في ٢٢ / ١٢ / ١٨٩٩، تحت عنوان «المراسح العربية»: «غص أمس المرسح العربي في شارع عبد العزيز بجموع الذين ضاقت عنهم باحته، عَلَى رحبها وسعة أرجائها، وازدحم عَلَى المدخل خَلْق كثيرون. أمَّا الرواية … فهي من نخبة مؤلَّفات كورنيل الشهير، وقد سبكها المرحوم الشيخ نجيب الحداد في قالب عربي فصيح. وكان الشيخ سلامة يُنْشِد الأناشيد الشجية فأطرب وأبدع. وقد أجاد الممثل الذي قام بدور أغسطس قيصر، فكان وقورًا جليلًا، عليه مسحة حلم الكبار، وسعة صدورهم. وأثنى الحضور أيضًا عَلَى الذي قام بدور مكسيم؛ لأنه أحسن الإلقاء والإيماء. واتفق الجميع عَلَى أن ما ذَكَرْنَاه فيما مضى عن تحسين هذا المرسح وتزيينه لم يكن فيه مبالغة ولا مغالاة.»

وإذا عُدنا إلى مخطوطة المسرحية مرة أخرى، سنجد الصفحة الثانية أو غلافها الداخلي مكتوب عليه الآتي: «رواية «أمانة الحب»، ذات خمسة فصول، «تأليف» إسكندرة أفيرينوه كريمة المرحوم قسطنطين الخوري، جرت في إسبانيا في القرن السادس عشر للمسيح، «توقيع» السيد محمد الأزهري ١٧ أغسطس سنة ١٨٩٩.»

ولعل القارئ سيلاحظ وجود كلمة «رواية»، رغم أن النص مسرحية وليس رواية بالمفهوم الأدبي الحديث. والحقيقة أن كلمة «رواية» كانت تُطْلَق عَلَى النصوص والعروض المسرحية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وقد أوْضَحْنا هذا الأمر في دراسة سابقة.»٢١

أمَّا كلمة «تأليف»، فإنها تدل عَلَى أن إسكندرة ألَّفت هذه المسرحية، في زمن شاعَتْ فيه النصوص المسرحية المترجمة والمُعرَّبة، أي إنها من رائدات التأليف المسرحي، مثلها مثل لطيفة عبد الله وزينب فواز. وعبارة أن المسرحية أحداثها «جرت في إسبانيا في القرن السادس عشر للمسيح»، فإنها تدل عَلَى أن إسكندرة، تبعًا لثقافتها الأوروبية، استوحت مسرحيَّتَها من حادثة إسبانيَّة، وهذا الأمر كان شائعًا في تلك الفترة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا أقدمت إسكندرة عَلَى تأليف هذه المسرحية؟

إسكندرة والتأليف للمسرح

عَلَى الرغم من أن مجلة «أنيس الجليس» تُعْتَبَر مجلة أدبية، إلا أنها لم تَهْتَمَّ بالمسرح كاهتمامها ببقية الآداب والفنون، وبالأخص الشعر. فاهتمام المجلة بالمسرح كان محدودًا وقاصرًا عَلَى بعض الإعلانات، والأقوال النقدية اليسيرة، وبالأخص عندما تتعرض لبعض المسرحيات المطبوعة، مثل تعرُّضها لمسرحية «حسان العربي» لحسن رشدي.٢٢

وبالرغم من ذلك، فقد وَجَدْنا مقالة مسرحية مهمة، كتبَتْها إسكندرة، ونشرَتْها في مجلتها «أنيس الجليس»، تحت عنوان «ملاعبنا العربية والروايات». وهذه المقالة كانت السببَ المباشر في إقدام إسكندرة عَلَى تأليف مسرحيتها الوحيدة «أمانة الحب»! فقد نُشِرَتْ هذه المقالة في العدد السادس من السنة الثانية بتاريخ ٣٠ / ٦ / ١٨٩٩، أي قبل كتابة المسرحية بشهرين تقريبًا.

ومن خلال قراءة هذه المقالة، اتَّضح لي أن إسكندرة كانت داعية إلى تحرير المرأة، وكانت أوَّلَ من أشار إلى وجوب اهتمام الكُتَّاب بالأدب النسائي، وبالأخص التأليف المسرحي من أجل المرأة. وهي بذلك تُعَدُّ رائدةً في هذا المجال نظريًّا وعمليًّا. ومن الفقرات الدالة عَلَى ذلك، قولها:

إننا نجد الرجال لا ينفكُّون عن مطالبة الحكومة بكل ما يُفْضِي إلى مسرَّتهم واكتمال لهوهم، فهم يطلبون إنشاء المتنزَّهات، وتحسين المجتمَعات، ويبالغون في ذلك كثيرًا، إرادةَ سرور ذواتهم. ولكنْ دون أن ينظر منهم أحد إلى هذه المرأة المسكينة في بلادنا، فإنها لا تَعْرِف في مُدُنِنا إلا منزلها أكثر العمر، وبعض شوارع تمر بها مرة كل شهر، وما عدا ذلك من مجتمعات ومتنزَّهات، فلا حظَّ لها منه بالإطلاق. بل إن النساء في بلادنا بالعموم يُشْبِهن الدجاج، كل يومهن النهار، ولا يعرفن من الليل إلا حلوكته وظلامه، مع أن هذه المرأة بشر كالرجل، ولها حق اللهو والسمر، والمشاركة في عطايا الطبيعة والصناعة. فإذا كان لا يليق بمرأتنا الشرقية، أن تجلس في قهوة تلعب بالنرد والشطرنج، ولا أن تجلس في دار طرب، تجلو بها صدأ القلب، فتستريح في ليلها من عناء النهار وشغله، فإنه يليق بها أن تحضر ملاعب التمثيل، تستمع فيها أطايب الألحان، وتتفكه بأحاديث الماضين، وصور حالاتهم. وعلى الجملة، فإننا لو اعتبرنا شأن التمثيل، لوجدنا أن من حق المرأة أن يكون أكثره منصرفًا إليها، إذ هو ناديها الليلي الوحيد، ولا سيَّما في مثل هذه البلاد، التي ضايقت عاداتها المرأة كل المضايقة؛ ولذلك نَعُدُّ من أكبر واجبات حكومتنا أن تلتفت إليها، وترى فيما يوجب بعض سرورها، ولا سيَّما في هذا المطلب الأدبي المفيد.

وإذا كان هذا القول يُعَدُّ دعوة لتحرر المرأة من العادات الشرقية المتشدِّدة، التي كانت موجودة في أواخر القرن التاسع عشر، فإنه يدعو أيضًا القائمين على الفن المسرحي للاهتمام بالمرأة الشرقية. ومن الملاحظ أن إسكندرة في هذه المقالة أيضًا وَضَعَتْ تصوُّرًا أو مفهومًا للتأليف المسرحي، وعن هذا التصور قالت:

إن لِفَنِّ الروايات التمثيلية تمامَ الفائدة الأدبية، إذا أنكرت علاقته بالفائدة المادية، وهو أن الشاعر أو الكاتب لا تؤهِّله حالاته الدنيوية لأن يتعرض لكل شيء، ويكتب في كل فن. فقد تكُون له أفكارٌ ومعانٍ سامية في موضوع الإنذار والتحريض مثلًا، ولكنه لا يَتَّفِق له إظهارها في أثناء حياته، فإذا لم يُودِعْها الرواية ضاعت معه. وقد تَكُون له معانٍ حسنة في العشق وذِكْر الوجد، ولكنه لا يصح له ذِكْرها لغير داعٍ، أو لا يحب أن يُنْسَبَ إليه ذلك الداعي، فيُودِعها الرواية. وكذلك قد تكون له أفكار في الثورة والحماسة، وأشباه ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يُظْهِر منها شيئًا. فإذا عُرِضت له الرواية ذَكَرَ فيها كلَّ شيء؛ لأن مجال القول يكون ذا سعة، فضلًا عن أنه يكون متكلِّمًا بلسان غيره، فيتم له بذلك حجاب كثيف بين حقيقة الحال وبينه، ولا تكون له إلا الحقيقة الأدبية المحضة. ولو تَفَقَّدَ الناقد شِعْرَ مؤلفي الروايات ومعرِّبيها؛ لوَجَدَهُ فيها أَجْوَدَ من شعرهم في أغراضهم الأخرى الخصوصية؛ لأن طَبْعَهُمْ قد لا يكون مائلًا إلى الرثاء أو المديح، فيخرج غَيْرَ حَسَنٍ. وأمَّا في الرواية فإذا فاتهم غَرَضٌ لم يكن من طبعهم الإجادة فيه، لم تَفُتْهُم سائر الأغراض، أو واحد منها، فيبدو شِعْرهم على أجود ما يمكن. وعلى الإجمال، فإن فَنَّ الروايات التمثيلية قد حسَّن الآداب كثيرًا وأكثر فروعها، وأوجد فيها فنونًا لم تكن تتسع له وحدها، بحيث كان هذا الفن كحياة جديدة جاءت للآداب؛ لأن النظم والإنشاء في طرقهما المعروفة، قد ملَّها الشعراء والكُتَّاب، وأمَّا الروايات فلا يملها أحد.

وهذا التصور لتأليف المسرحيات هو نفسه التصور الموجودة في مسرحية «أمانة الحب»! وكأن إسكندرة أفيرينوه أرادت أن تُطَبِّق تصورها في التأليف المسرحي بصورة عملية، فألَّفت مسرحية «أمانة الحب» بعد شهرين فقط مِنْ نَشْرها هذه المقالة.

ومسرحية «أمانة الحب» تدور حول عِشْق إيميليا لأمير إسبانيا، الذي رأته مرة واحدة فوقعت في حبه. ومن ثَمَّ أرسلت له مع خادمها خطابًا موقَّعًا باسمها، تَعْتَرِف فيه بحبِّها له. ولكن الأمير ردَّ على هذا الخطاب بعبارة واحدة، قال فيها للخادم: «ليس له عندي جواب!» وعاشت إيميليا لحظات حالكة أمام رد الأمير، حتى جاءها خطاب موقَّع باسم «عاشق أمين»، يعترف فيه صاحِبُه بحبه الشديد لها، رغم عدم معرفته باسمها، ولكنه أحبَّها منذ أن شاهدها للمرة الأولى على شاطئ البحر. ولكن إيميليا أجابت على خطابه بنفس عبارة الأمير: «ليس له عندي جواب!» وكأنها تنتقم من الأمير في صورة هذا العاشق. ومع توالي الأحداث نكتشف أن هذا العاشق، ما هو إلا أمير إسبانيا نفسه، وتنتهي المسرحية بزواجه من إيميليا.

وهذه المسرحية عبارة عن مناجاة شعرية، تَعْكِس لنا لواعج وخلجات نفسيةِ المرأة في عِشْقها وحبها وخيالاتها وآمالها وأمانيها … إلخ هذه المشاعر. وكأن المسرحية كما قلنا عبارة عن تطبيق عملي لتصوُّر إسكندرة للتأليف المسرحي كما أَوْضَحَتْهُ في مقالتها السابقة.

ومن الجدير بالذكر أن إسكندرة في هذه المسرحية كانت رائدة في كتابة المسرحية النسائية — نسبةً إلى الأدب النسائي، إن صح التعبير — حيث إن المؤلفة امرأة، وبطلة المسرحية امرأة، وموضوع المسرحية يدور حول امرأة. وهذا الأسلوب — من وجهة نظري — كان السببَ الخفي في إحجام فرقة إسكندر فرح عن تمثيل هذه المسرحية!

فمن المعروف أن عماد فرقة إسكندر فرح في هذه الفترة كان الشيخ سلامة حجازي، وهذا يعني أنَّ كلَّ مسرحية لا بُدَّ أن يكون بَطَلها ومطربها الأول الشيخ سلامة، ولكن مسرحية «أمانة الحب» كانت البطولة المطلقة فيها لامرأة، وأن معظم الأشعار الموجودة في المسرحية كانت تُلْقِيها هذه المرأة. أما الرجل في هذه المسرحية فكان محدودَ الدور، سواء كان الدور لشخصية أمير إسبانيا، أو لشخصية البارون مزاحم الأمير في حب إيميليا. أي إن فرقة إسكندر فرح إذا أرادت أن تمثِّل هذه المسرحية، فكان لا بدَّ لها أن تنحِّي الشيخ سلامة جانبًا، أو أن تعطيه دورًا لا يليق به ولا يليق بمكانته كبطل للفرقة؛ ولهذا تراجَعَت الفرقة عن تقديم مسرحية «أمانة الحب».

وسيلاحظ قارئ هذه المسرحية أن إسكندرة أَفْرَطَتْ كثيرًا في قول الشعر، بالمقارنة بحجم القطع النثرية الموجودة. وهذا الشعر تغنَّت فيه إسكندرة عن الطبيعة والجمال والمشاعر النفسية والعشق والغزل العفيف … إلخ. وهذا الجانب يُعْتَبَر مجهولًا في حياة إسكندرة نَفْسِها، ونادرًا بالنسبة لأشعارها القليلة المنشورة في مجلتها «أنيس الجليس»، والتي تدور حول مديح الملوك والأمراء، وبالأخص الخديو عباس.

ومن يعرف جيِّدًا حياة إسكندرة يشعر بأن المسرحية عبارة عن ترجمة ذاتية لهذه الأميرة، وكأن إسكندرة أرادت أن تبوح بمشاعرها وخلجات نفسها، فصاغت هذه المشاعر في مجموعة من القصائد أَلْبَسَتْها ثوب المسرحية، تبعًا لتصوُّرها في التأليف المسرحي، كما أوْضَحَتْه في مقالتها السابقة. أي إن صياغة إسكندرة لأشعار المسرحية سَبَقَتْ تأليف المسرحية نفسها، وهذا الأسلوب أخلَّ بالبناء الفني والدرامي للمسرحية. ولبيان ذلك نذكر هذه الأمثلة:
  • أوَّلًا: لاحظنا أن شخصية «جوليا» صديقة إيميليا منذ بداية أحداث المسرحية، وفي ثنايا كلماتها تُظْهِر روح التآمر والحقد والحسد تجاه إيميليا، لدرجة أن القارئ يشعر منذ البداية أن هذه الصديقة سيكون لها شأن كبير في تتابُع الأحداث وتشابُكها والصعود بالصراع إلى ذروته. ولكن المسرحية تنتهي دون أن يحدث شيئًا من هذا!
  • ثانيًا: لاحظنا أن إيميليا، بعد أن فاتحها الأمير في أَمْر زواجه منها، تقول له: «ألا تخشى من معارَضةٍ في قصرك؟!» … وهذا القول يُشعر القارئ بأن هناك أمرًا ما سوف يقف أمام هذا الزواج، خصوصًا وأن هذا المعنى تَكَرَّرَ مرة ثانية، عندما قال كاتم الأسرار للأمير بأنه تَعَجَّلَ في أَمْر الزفاف! ثمَّ تكرر مرةً ثالثة، عندما اعترف الأمير أمام رجال حكومته بأنه خَالَفَ المألوف، عندما اختار زوجته من عامة الشعب، لا من الأميرات الأجنبيات، كما هو متَّبَع! وبالرغم من ذلك، فقد انتهت المسرحية بزواج الأمير من إيميليا، دون أي اعتراض يُذْكَر، ودون حدوث ما يُعَرْقِل أو يؤخِّر هذا الزواج!
  • ثالثًا: جاء في المسرحية أن الأمير أراد أن يتمَّ زفافه بصورة سريعة، كي يستطيع أن يسافر متنكِّرًا لبضعة أيَّام! ولكن المسرحية تنتهي، دون أن نعلم السبب في ذلك التنكر أو سبب السفر!

هذه بعض الأمثلة التي تدل على أن إسكندرة لم تهتمَّ ببناء المسرحية فنيًّا، بقدر اهتمامها بصياغة أشعارها. ولعل الفترة الزمنية القصيرة بين كتابتها لمفهومها عن التأليف المسرحي وبين تطبيقها العملي المتمثِّل في كتابة هذه المسرحية، كان السببَ الأساسي لخروج هذه المسرحية بهذه الصورة.

ومهما يكن من الأمر فإن مسرحية «أمانة الحب» تُعتبر كشفًا أدبيًّا يُثْرِي المكتبة العربية، وبالأخص تراث المسرح في القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي ما زال تراثه الأدبي مجهولًا، يَنْتَظِر من يكتشفه وينفض عنه غبار السنين، ليظهر جليًّا شامخًا، ليحتل مكانه الحقيقي، الذي لا يعرفه الكثيرون!

القاهرة في: ٢٥ / ٧ / ٢٠٠٢

د. سيد علي إسماعيل
رئيس قسم الدراسات الأدبية
كلية دار العلوم – جامعة المنيا
١  كان لي شرف اكتشاف نص مسرحية «الملكة بلقيس»، وقامت سلسلة «نصوص مسرحية» بإعادة طبعه في العدد رقم ١١.
٢  هي زينب علي حسين عبيد الله حسن إبراهيم محمد يوسف فواز العاملي، وُلِدت في لبنان عام ١٨٦٠، وتعلَّمَتْ بالإسكندرية، حيث تلقَّت تعاليمها عَلَى يد محمد شبلي ومحيي الدين النبهاني وحسن حسني الطويراني، ثمَّ انصرفت إلى نظْم الشعر. وكان أستاذها الطويراني يصدر جريدة النيل، وكتبت فيها زينب واشتهرت، عندما انتقلت إلى القاهرة. وأثناء وجودها في الشام تزوجت من أديب نظمي الدمشقي، ولكن زواجهما لم يستمر طويلًا فافترقا بعد قليل. وعندما حضرت إلى القاهرة، تزوجت من أميرالاي مصري، وسكنت معه منطقة سوق السلاح بالقاهرة. واستطاعت زينب فواز أن تكتب في صحف: لسان الحال، والنيل، والمؤيد، واللواء، والاتحاد، والأهالي، وأنيس الجليس، وفتاة الشرق. وتُعْتَبر زينب من أوائل النساء العربيات المشتغلات بالكتابة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن أشهر أعمَالها كتابها «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» عام ١٨٩٥، ومسرحية «الهوى والوفاء» عام ١٨٩٣، وكتاب «الرسائل الزينبية»، وقصة «حُسْن العواقب» أو «غادة الزاهرة» عام ١٨٩٩، وقصة «الملك كورش أول ملوك الفرس» ١٩٠٥. وقد تُوُفِّيَت زينب فوَّاز في القاهرة عام ١٩١٤.
٣  راجع: خير الدين الزركلي، «الأعلام»، الجزء الثاني، دار العلم للملايين، ط٩، ١٩٩٠، ص٧.
٤  مجلة «أنيس الجليس»، ٣١ / ١ / ١٨٩٨.
٥  هي لبيبة ناصيف ماضي، زوجة عبده هاشم. وُلِدتْ في قرية كفرشيما بلبنان سنة ١٨٨٠، وانتقلت مع عائلتها إلى مصر، وتتلمذَت عَلَى يد الشيخ إبراهيم اليازجي، وأجادت الإنجليزية والفرنسية. وتزوجت بمصر، وأصدرت مجلتها الشهرية «فتاة الشرق» عام ١٩٠٦ بالقاهرة. ودُعِيَتْ للمحاضرة في الجامعة المصرية عام ١٩١١. وقامت لبيبة بجمع محاضراتها في كتاب مطبوع لها بعنوان «التربية». ومن إنتاجها الأدبي بخلاف ذلك كتاب «مباحث في الأخلاق»، وقصة مترجمة عن الفرنسية بعنوان «الغادة الإنجليزية»، كما ألَّفت قصة «شيرين» عام ١٩٠٨. وزارت لبيبة هاشم سورية بعد الحرب العالمية الأولى، فتولَّت تفتيش مدارس الإناث بها سنة ١٩١٩، وسافرت إلى جمهورية شيلي في أمريكا الجنوبية سنة ١٩٢١، فأنشأت مجلَّتها «الشرق والغرب» بمدينة سانتياجو بأمريكا الجنوبية عام ١٩٢٣، وعادت إلى القاهرة عام ١٩٢٤؛ لتُوَاصِل كتابة المقالات في المجلات والصحف المصرية، كما تابعت إصدار مجلَّتها «فتاة الشرق» إلى أن تُوُفِّيَتْ عام ١٩٤٧.
٦  نقولا يوسف، «أعلام من الإسكندرية»، الجزء الثاني: سلسلة ذاكرة الكتابة، عدد ٢٦، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ٢٠٠١، ص٤٨٠.
٧  مجلة «أنيس الجليس»، ٣١ / ١٢ / ١٩٠٠.
٨  راجع: نقولا يوسف، السابق، ص٤٨١.
٩  نقولا يوسف، السابق، ص٤٨١.
١٠  نقولا يوسف، السابق، ص٤٨٠.
١١  أحمد حسين الطماوي، فصول من الصحافة الأدبية، دار الفرجاني، ١٩٨٩، ص١١٦.
١٢  خير الدين الزركلي، السابق، ص٨. ويَذْكُر فيليب الطرازي نهايةً أخرى لهذه الأميرة، قال فيها: «مُنِيَتْ بخسائر فادحة أَضَرَّتْ بها وعانت بسببها متاعب جمة، ثمَّ نزح أولادها إلى إنجلترا سعيًا وراء الرزق، فتبعَتْهم بعد الحرب العالمية الأولى، وهناك تُوُفِّيَتْ عام ١٩٢٧ بلندن في الخامسة والخمسين من عمرها.» نقولا يوسف، السابق، ص٤٨٢.
١٣  خير الدين الزركلي، السابق، ص٨.
١٤  راجع: أحمد محرم وولي الدين يكن، مجلة «فتاة الشرق»، ١٥ / ١٠ / ١٩١٥، نقلًا عن: أحمد حسين الطماوي، السابق، ص١١٨.
١٥  انظر: مسرحية «البرج الهائل»، المطبعة العثمانية بالإسكندرية، ١٨٩٩، صفحة توزيع الأدوار.
١٦  انظر: فكتور هوجو، رواية تسبا أو شهيدة الوفاء، تعريب زاكي مابرو، طُبِعت بمطبعة جرجي غرزوزي بالإسكندرية، ١٩٠٦، صفحة توزيع الأدوار. وأيضًا انظر: مخطوطة مسرحية «مظالم الآباء»، بقلم خليل كامل عام ١٩٠٥.
١٧  انظر: جريدة «مصر»: ٣٠ / ٨ / ١٨٩٩، ٢٦ / ٩ / ١٨٩٩، ٦ / ١٠ / ١٨٩٩، ١٧ / ١٠ / ١٨٩٩، ٦ / ١١ / ١٨٩٩. وجريدة «المؤيد»: ٢٦ / ١١ / ١٨٩٩، ٦ / ١٢ / ١٨٩٩.
١٨  انظر: جريدة الأخبار: ٢١ / ١٢ / ١٨٩٩.
١٩  بالرغم من أن فرقة إسكندر فرح عَرَضَتْ مسرحية «حلم الملوك» لأول مرة في ٢١ / ١٢ / ١٨٩٩، إلا أن هذه المسرحية سَبَقَ وقَدَّمَتْها أكثر من فرقة، مثل: فرقة سليمان القرداحي، وفرقة سليمان الحداد منذ عام ١٨٩٣. وللمزيد انظر: جريدة «المقطم»: ٢٠ / ٧ / ١٨٩٣، ٢١ / ٧ / ١٨٩٣، ٣٠ / ٨ / ١٨٩٣، ١ / ٩ / ١٨٩٤.
٢٠  وُلِد نجيب الحداد سنة ١٨٦٧ ببيروت ونشأ بها، وهو ابن المسرحي المعروف سليمان الحداد. وفي سنة ١٨٧٣ هاجرت أُسْرَته إلى الإسكندرية، وتلقَّى العلم في مدرسة الفرير والمدرسة الأمريكية. وفي سنة ١٨٨٢ قامت الثورة العرابية، فعادت الأسرة إلى بيروت، وتلقى العلم في المدرسة البطريركية للروم الكاثوليك، وتلقَّى آداب اللغة العربية وفنونها عَلَى خاليه الشيخين خليل وإبراهيم اليازجي. وفي سنة ١٨٨٣ عُيِّن أستاذًا للغتين العربية والفرنسية في مدرسة بعلبك. وفي سنة ١٨٨٤ سافر إلى الإسكندرية واشتغل بالتحرير في جريدة الأهرام. وفي سنة ١٨٩٤ أنشأ هو وشقيقه أمين الحداد وعبده بدران جريدة لسان العرب اليومية، وتولى الكتابة في مجلة أنيس الجليس وغيرها من الصحف والمجلات، وكان دائمَ الكتابة والتأليف والترجمة ونظْم الشعر، حتى أصيب بمرض في الصدر فتُوُفِّيَ عام ١٨٩٩. ومِنْ أهم مؤلفاته وترجماته المسرحية والقصصية: «الرجاء بعد اليأس»، «فتح السودان»، «عمرو بن عدي»، «حلم الملوك»، «عدل القيصر»، «شهداء الغرام»، «ثارات العرب»، «غرام وانتقام»، «الفرسان الثلاثة»، «صلاح الدين الأيوبي»، «فضيحة العشاق»، «السر الهائل»، «رجع ما انقطع»، «غصن البان»، «فرسان الليل»، «حديث ليلة»، «لورانزينو»، «الطبيب المغصوب»، «ميلادي»، «فيدر»، «زايير»، «بيرينيس»، «أوديب»، «السيد»، «حمدان»، «حلم الملوك»، «عداوة الأخوين».
٢١  انظر: لطيفة عبد الله، مسرحية «الملكة بلقيس»، تحقيق: د. سيد علي إسماعيل، سلسلة نصوص مسرحية، عدد ١١، ٢٠٠١، ص٨–١٣.
٢٢  انظر: مجلة «أنيس الجليس»، ٢٨ / ٢ / ١٩٠٠، ٣١ / ١ / ١٩٠١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤