أمانة الحب

المشخِّصين

  • الدون كارلوس: أمير إسبانيا عاشق إيميليا.
  • الدون بيدرو: البارون شريف إسباني مزاحم الأمير.
  • الدون سيزار: شريف إسباني كاتم أسرار الأمير.
  • الدون فيلب: والد إيميليا.
  • الدونا إيميليا: ابنة الدون فيليب وعشيقة الأمير.
  • الدونا جوليا: شريفة إسبانية صديقة إيميليا.
  • خادم إيميليا.
  • خادم الأمير.
  • حُرَّاس وأتباع وجنود.
figure
صفحة شخصيات المسرحية.

الفصل الأول

الجزء الأول

(في غرفة بمنزل إيميليا)
إيميليا :
إذا كان الذي يهوى جميلًا
بلا مالٍ أما يكفي الجمالُ
وإن كان الحبيب جليلَ قَدْرٍ
أيمنعه عن الحب الجلالُ
ألا يكفي الجمال لعقد حبٍّ
يكون به لِقَلْبَيْنَا اتصالُ
وإن كان الذي أهوى أميرًا
تزيِّنه الإمارة والكمالُ
فهل قلب الأمير كذا أمير
وهل هو كالإمارة لا يُنالُ
لعمرك ليست الألقاب إلا
ثيابًا تحتها تخفى الرجالُ
وقلبُ المرء قلبٌ ليس يعلو
به لقب ولا يلويه مالُ
كذاك أنا أحب مليك قلبي
وليس لعروة الحب انفصالُ
فإن وافى فوا طَرَبي وسعدي
وإلا فالعذاب والانتحالُ

الجزء الثاني

(جوليا تدخل مفتِّشة على إيميليا)
جوليا : ما بالك أيتها الحبيبة … حزينة مكتئبة … وعلى عينيك آثار الدمع … بعد أن كنتُ أراك مسرورة ضاحكة! … هل طرأ على أفكارِكِ شيء تُحِبِّين إخفاءه حتى انفردْتِ بنفسك في هذه الغرفة لتُطْلِقي لأفكارك العنان؟ … أخبريني ما في ضميرك … لعلِّي أزيل عنك هذه الهموم والأحزان؟
إيميليا : اتركيني وشأني أيتها العزيزة … فقد كُتِبَ عليَّ الشقاء منذ الأزل … فأنا صابرة، ولكنني أحمِّل القلب ما لا يَحْتَمِل (تبكي).
جوليا : كيف أتركك كذلك تقاسين العذاب والحزن الشديد؟ … لقد قَطَّعَ منظرك قلبي … وتغَيُّر لونك شَغَلَ فكري … فاذكري لي ما بك وأنا أساعدك … وكفكفي دموعك … فما الذي يُبْكِيكِ؟ وأنا لا أرى لك سببًا للبكاء!
إيميليا :
أشكو الزمان ولست أَوَّلَ مَنْ شَكَا
ولقد بكَيْتُ ولست أول مَنْ بكى
وأنوح من حظٍّ تعيسٍ ما رأتْ
عيني له في الناس إنسانًا حكى
آه إن حملي ثقيل وفؤادي عليل (تبكي مطرقة).
جوليا : فَدَتْك نفسي أيتها العزيزة … فما هذا الحمل الثقيل؟ وممَّ فؤادك عليل؟ … أَخْبِرِينِي به لعلِّي أَقْدِر أن أشاطرك نصف أحزانك … أليس من الصداقة أن أشاركك في الأحزان والحسرات … كما أشاركك في الأفراح والمسرَّات؟ … ألسْتِ تَرَيْنَنِي موضعًا لسرِّك ومكانًا لثقتك؟!
إيميليا : لا يا جوليا … إنما عليك أعتمد … وبودادك أعتقد … وأنت شريكتي في مسرَّاتي … كما أنت شريكتي في أكداري … ولكن ما كل مطلوب يُنال … ولا كل سر يُفشى ويُقال!
صُن السر عن كل مستصحبٍ
وحاذِرْ فما الرأي إلا الحذرْ
أسيرك سِرُّكَ إن صُنْتَهُ
وأنت أسيرٌ له إنْ ظَهَرْ
جوليا : هذا يصح أيتها الحبيبة مع عامة الناس … ولكنه لا يُقال في مثلي! وقد نُشِّئْتُ معك منذ الصغر … فلا يُفرِّق بين قلبينا أحدٌ من البشر … فتأكَّدي بأن مصابك أثَّر في فؤادي … وأصبحت كلي آذانًا لاستماع ما تقولين …
إيميليا (تخاطب نفسها) :
إذا ضاق صَدْر المرء عن كَتْم سرِّه
فصدر الذي يستودع السر أَضْيَق
يا ربي لقد كثرت عليَّ المصائبُ
وتوالَتْ على قلبي النوائبُ
فإلى أين أفر من أحزاني
ومن يخلِّصني من فؤادي الذائب
علَّمْتني يا زمانُ النوحَ من صغر
حتى اشتفيت بجسم صار معلولَا
ارحم فتاة على بُعْد الحبيب غَدَتْ
تُوَاصِلُ النوح حتى صَبْرها عيلَا
جوليا (تخاطب نفسها) : لقد فهمت السر الآن … ولا شك أنها عاشقة … ولمن تهواه مفارقة … نعم إنَّ العشق أحواله تتنوع … ولكنها لا تخفى على من به تولع … ولقد صدق القائل:
دلائل العشق لا تخفى على أَحَدِ
كحامل المسك لا يخلو من العَبَقِ
فالآن يجب أن أسايرها للنهاية … لأرى من تحب … ومن أَوْصَلَها لهذه الغاية؟! (تخاطب إيميليا) الآن عرفت أنك لست بصديقة … ما دُمْتِ تكتمين عني أسرارك … وأنا أليفة هواك وعشيرة صباكِ … فبالله أخبريني … ما الذي جَلَبَ لجسمك هذا النحول … ولوجهك هذا الذبول؟ أطْلِعِيني ولا تخشَيْ عليَّ سرَّك … فإنني لا أريد من عرفان سرِّك … لأطَّلع على خفاياك … بل لأساعدك في بلواك … لأنني لا أطيق أن أراك هكذا … تموتين حزنًا وأنت في زهرة عمرك (تهمُّ بالذهاب).
إيميليا (تمسكها) :
لا تذهبي وقِفِي اسمعي سرِّي الذي
في القلب وهْو لغير شخصك ما بدا
سر يكاد يُمِيتُني وأنا به
أخشى الأصادق مثلما أخشى العدا
جوليا : بلى قولي …
إيميليا : احلفي لي أوَّلًا …
جوليا : والله أكتمه … ولو ذقت الردى!
إيميليا :
إذن فاسمعي سرِّي فقد برح السر
وآن من الكتمان أن يظهر الأسرُ
عشقت فتًى لا يُدْرِك الشِّعْرُ حُسْنَه
هو البد في الأوصاف أو دونه البدرُ
تسامى إلى أن صار يحسده السهى
ورَقَّ إلى أن صار يحسده القطر
جوليا :
وبالله من هذا الفتى الماجد الذي
على مِثْل هذا الحُسن تَمَّ له النصر
إيميليا : لا تقدرين أن تعرفيه!
جوليا : لا بل أظن أنني قد عرفته! أليس جارنا الكونت الفتى الجميل … صاحب هذا القصر الذي هنا؟
إيميليا : لا ليس هو يا جوليا … فإن أمثاله كثيرون … ثمَّ هو فتًى طائش من أبناء هذا العصر … الذين أفْسَدَتْهم المقامرة وأَغْوَتْهم العادات الذميمة، والحرية الجديدة … فأصبحوا إذا رأت العين منهم لمحة جمال … أفسدَتْها في الحال خبرة ما فيهم من ذميم الخصال.
جوليا : إذن، فمن هذا الحبيب، بالله؟ ومن هو السعيد الذي أَسْعَدَه الحظ بأن يقع هواه في فؤادك … وأن يكون له هذا الجمال؟ أتراه البارون أجمل شاب عندنا؟
إيميليا : لا أنكر عليك أنه شاب جميل المنظر، لطيف المعشر … ولكن يا ليت حبي كان له … فإن قُرْبه عندي سهل المرام … وهو لا يزال إلى الآن يخاطبني بالمحبة والغرام … وأنا أُعْرِض عنه … لأن فؤادي قد تَمَلَّكه سواه … واستبد به من هواه … ألا تعلمين أنه يكفيني مع مثل هؤلاء الشبان … أن أمد يدي فقط … فأرى الأفواه تعلو إلى لَثْمها وتقبيلها … وأن ألقي نظراتي عليهم … فأرى الرءوس خافضة مطرقة … وكلها تسعد بلحظه وتشقى بلقطه؟ أمَّا حبيبي فلا أقدر أن أناله … ولو رفعت إليه يدي! ولا أظنُّه يتنازل للوصول إليَّ … ولو فرشت له قلبي وكبدي … فانظري ما أشقى طالعي وما أشدَّ نكدي!
جوليا : لقد أطلت يا إيميليا … فمن هو حبيبك بالله؟ أتعشقين مَلِكًا في بهائه … أم تحبِّين البدر في علائه؟!
إيميليا : نعم، إنه مَلِك في حُسْنه وجَماله، وبَدْر في عُلُوِّه وبُعد مناله.
جوليا : وأخيرًا …
إيميليا : أخيرًا … هو السيد العظيم، الذي يحبه كل إنسان … والأمير الكبير، الذي لا يخلو مِنْ مَدْحِه لسان … والجميل الكريم، الذي تَرَيْن صورته في كل مكان … بل هو الحبيب الوحيد، الذي أقدر أن أحبَّه ولا يلومني أحد … وأن أَذْكُر اسمه في كل منزل وفي كل بلد، وأن أدعو له فيُأَمِّن الجميع على دعائي … وأَضَع صورته في منزلي، ولا يفطن لها أحد من رقباء:
هذا الذي مَلَكَ القلوب بلطفه
وبحسنه وبنهيه وبأمره
فغدَتْ جميع الناس طوْع بنانه
وغَدا الجَمَالُ بأسره في أسْرِهِ
جوليا : ماذا تقولين؟! … إذن أنت تحبين الأمير!
إيميليا : نعم هو … هو بعينه الذي أوقعني بهذا المصاب … أقاسي في محبته أمرَّ العذاب … وأصْل محبتي أنني نَظَرْتُه يومًا على نور القمر … فأورثتني تلك النظرة هذه الحسرة … وها أنا للآن أبكي وأنوح … من فؤاد مجروح … أستنشق النسيم الذي يهب من ناحيته … ليأخذ قلبي قليلًا من راحته … فانظري كيف أحببته؟! وكيف تمكَّن حبه مني … وهو لا يدري بأمري … ولا يسأل عني؟!
جوليا : وهل أصابك جنون … أو ماذا جرى لك حتى أَوْقَعْتِ نفسك في المهالك؟! حقًّا إن أمْرَكِ صعب جدًّا، وجنونك ليس له حد … أمِن نظرة واحدة تصابين بهذه المحبة الزائدة؟!
إيميليا :
وما الحب إلا نظرة العين مرة
تمر كسَهْمٍ والفؤادُ يصابُ
جوليا : والآن ما العمل … وليس لوصولك إليه أَمَلٌ؟ تُرَى هل يعلم بحبك؟! وهل أخبرته بدخائل قلبك؟ أم هو خالٍ من العشق … لا يعلم بحالة العاشق الولهان! وما يقاسيه من الهموم والأحزان؟!
إيميليا : من أين له العلم بذلك أيتها الصديقة الأمينة؟ ومن تراه يخبره بحالتي الحزينة؟ ولقد عَزَمْتُ على مكاشفته بأمري سرًّا … على أمل أن أنال منه جوابًا … يشفي الفؤاد أو يقطع آمالي في حبِّه … فأسلو باليأس عن بلوغ المراد … فمنعني أوَّلًا الحياء والخجل … ثمَّ تزايَدَ حبي له فقلت ما العمل؟ وبعد أن قطعت الأمل … كِدْتُ أدخل في اليأس … جعلت أضرب أخماسًا لا أسداسًا … فانجلت لي سبيل الحيلة … وأَرْسَلْتُ إليه كتابي بألطف وسيلة … فكتبت له من الشوق أصناف عذاب … وأَبَنْتُ له من الغرام ما لا يحويه كتاب … وأنا لا أزال أنتظر منه الجواب … كما تنتظر الأرضُ العطشانة ماءَ السحاب.
جوليا : يا لها من جرأة عظيمة! حقًّا لقد أشغَلْتِ بالي … وهيَّجت بلبالي … والآن فهل حظيت بالجواب؟!
إيميليا : لو تحصَّلت على سطرٍ واحدٍ من يده الكريمة … لَمَا كنت في هذه الحالة الذميمة … ولا صِرْتُ كما ترينني … أنشد الأشعار آناء الليل وأطراف النهار … حتى إنه حين دخولك عليَّ … كنت أنظم له أبيات غرام، لأرسلها إليه … عساه عند تلاوتها يَرِقُّ لمصابي … ويرحم قلبي مما جناه عليه.
جوليا : ألا أقدر أن أسمع هذه الأبيات … فتكون أول مرة سمعت فيها نظْم البنات؟
إيميليا (تتناول بيدها قرطاسًا مكتوبًا وتقرأ) :
عن غرامي يا حبيبي لا تسالْ
إنه في القلب جَمْر ذو اشتعالْ
كن شفيقًا سيِّدي يكفي دلالْ
كن رحيمًا فلسان الحال قالْ
لست أسلوك ولو طال المطالْ
طَيْفُك المحبوب وافى في المنامْ
كي يرى جسمي عليلًا ذا سقامْ
ليس لي صبر على كَتْم الغرام
ولقد بحت به يا ابن الكرامْ
فيك حبي وغرامي لا يزالْ
من دموع العين سطَّرْتُ الكتابْ
وفؤادي من هيامي فيك ذابْ
قد سَلَبْتَ العقل يكفي ذا العذابْ
رُدَّهُ لي إنه طال الغيابْ
واشفني إذ لست أرضى بالخيالْ
قدك العادل فيه كم قتيلْ
هو غصن البان لكن لا يميلْ
لا تسلني اليوم عن صبري الجميلْ
مات صبري فلك العمر الطويلْ
مثلما نوحي على صبريَ طالْ
جوليا : ما أجمل هذه الأبيات، وما أحلاها … إنها لتلين فؤاد كلِّ من تلاها … فكيف قلب الأمير الذي هي له … وهو يفهم معناها؟ فهو لا بُد أن يطرب لفصاحتك … إذا لم يؤثر فيه جمالك، وقيد ملاحتك … ولا شك أنك ستنالين الحظوة بالجواب … لأن الأمير يحب الحِسان البارعات … في الجمال والآداب.
إيميليا : حقق الله ظنونك أيتها الصديقة الحبيبة … فإن روحي قد سئمت من هذه العيشة الكئيبة:
أُقَلِّبُ طرفي لأرى مَنْ أُحِبُّهُ
وفي الدار مما لا أُحِبُّ كثيرُ
جوليا : وها أنا ذاهبة لأنادي لك خادمك … فهو أمين لك … وليس أليق منه لإيصال كتابك.
إيميليا : شكرًا لك يا عزيزتي على هذا الإحسان … فإنك لا تلبثين أن تناديه … حتى أكون ختمت الرسالة وكتبت العنوان.
جوليا (تذهب وتأتي بالخادم) : ها خادمك قد حضر.
إيميليا : خذ هذا الكتاب إلى الأمير … وإذا رَجَعْتَ بالجواب … فلك مني الإنعام … ولكن يجب عليك أن تُحَاذِرَ لئلا يراه أحد.
خادم : لا تخافي يا سيدتي … فسأحترس كل الاحتراس … وأقضي أَمْرَكِ كما تريدين (يذهب).
إيميليا :
اذهب فسرِّي في يَدَيْـ
ـك وأنت لا تدري بسرِّي
يا حبَّذا لو كُنْتُ أَقْـ
ـدِرُ أن أقوم أنا بأمري
فأكون عنك رسولة
حتى أرى شمسي وبدري
لكنَّ من يهوى أسيـ
ـرٌ والمحبة شَرُّ أسري
جوليا : الآن قد اطمئن بالك، وانعقدت آمالك … فهلمِّي بنا ننزِّه الأفكار، ونتمتع بمناظر الخضرة وأمواج البحار؛ لأن هذه المناظر هي السلوى الوحيدة لكل عاشق ولْهان … وبرؤيتها تبتعد عنه الهموم والأحزان … ثمَّ أنا من جهة أخرى … أخاف أن يحضر أهلك ويَرَوْك على هذه الحالة … فلا بُد أن يستكشفوا على أخبارك لا محالة!
إيميليا : دعيني … فإن نفسي لا تصبو للنزهة في هذا النهار.
جوليا : بالله هلمِّي بنا من هذا المكان … وها أنا ذاهبة لإحضار مركبة، إلى أن تكون لبست أثوابك … فانهضي ولا تكوني عنيدة … واشتغلي بنزهة الحاضر … إلى أن يأتيك نعيم الاستقبال (كل منهما تخرج من جهة).

منظر ثان

(والد إيميليا وبصحبته البارون يدخلون من جهة، ومن الجهة الثانية تدخل جوليا.)
والد إيميليا : جوليا … جوليا … إلى أين أنتِ مسرعة؟! وأين ابنتي؟!
جوليا : ابنتك في غرفتها تلبس ثيابها … وقد عزمْنا على التنزُّه في هذا النهار … لأن الجو صافٍ، والنسيم عليل ينعش الأرواح … وأنا ذاهبة لإحضار المركبة (وتخرج).
والد إيميليا : تأذن لي يا حضرة البارون … فإني أريد أن أرى ابنتي قليلًا، ثمَّ أخرج إليك.
البارون : تفضَّل يا سيدي … فليس بيننا كلفة.
والد إيميليا : تفضَّل واسترِحْ إلى أن أعود (ويذهب).
البارون :
يقول استرِحْ هيهات ما راحة الجسمِ
لتُغْنِي فؤادًا قد تعذَّب بالسقمِ
ومن أين للمضنى المعذَّب راحة
وفي كل يوم قلبه دائم الهمِّ
عشقت التي في الخدر تلبس ثوبها
وقد نَزَعَتْ ثَوْبَ التجلد مِنْ جِسْمِي
لعينيك إذلالي وسقمي ولوعتي
وما يلتقي قلبي من الجور والظلمِ
ظلمتي فؤاد الصب والقد عادل
فيا حبَّذا لو كان بي عادل الحكمِ

(تدخل إيميليا ووالدها.)

إيميليا : عذرًا يا سيدي البارون … لما طال من انتظارك.
البارون : العفو يا سيدتي … وأرجو أن لا يكون وجودي سببًا في تخلفك عن مقصدك.
إيميليا : كان يجب عليَّ أن أبقى يا سيِّدي … ولكنني وعدْتُ صديقتي، وقد اعتمدنا على الذهاب إلى النزهة … فأرجو المعذرة.
البارون : نِعْم ما تفعلين … فإن النزهة خير ما يُغْتَنَم في هذه الأوقات … وأنا أرجو أن لا تتأخري لأجْلي … فإنني ذاهبٌ لبعض الأشغال … (لوالد إيميليا): فاسمح لي أيها السيد المحترم … وفي غدٍ أتشرَّف لناديكم إن شاء الله فتفضَّلوا الآن.
والد إيميليا : وأنتِ يا ابنتي لا تتأخري في نزهتك … فإن البرد يؤذيك (تدخل جوليا وتقول): هيا بنا فإن المركبة على الباب.
إيميليا : بالإذن يا حضرة البارون.
البارون : مع السلامة يا سيِّدتي (يخرج الجميع أمامه والبارون وحده).
لقد ذَهَبَتْ يا قلبُ عنك التي تهوى
وخِلْتُكَ حيرانًا تئنُّ من البلوى
مضت تتملى من نسيم وروضةٍ
وأنت على جمرِ الغرام بها تُكوى
فطوبى لذياك النسيم فقد غَدَا
يقبِّل ثغرًا دونه المنُّ والسلوى
وطوبى لذاك الزهر حين تشمه
فقد فاز من دون الأزاهر بالحظوى
ولله ذاك البحر حين تزوره
فلا بدَّ أن يغدو بزورتها حُلْوَا
وما لِيَ أشكو الحب وحدي وما الذي
تفيد المحبِّين الصبابةُ والشكوى
حبيبة قلبي إنني لك تابع
فما طابت الشكوى لغير الذي تهوى
هنالك أَلْقَى بين كَفَّيْك مهجتي
وأَهْلَكُ ظمآنًا بحبك أو أروى

الفصل الثاني

(إيميليا وجوليا جالستان على حجر عند شاطئ البحر.)
إيميليا :
ما أجمل البحر وأمواجه
وما عليه من نسيمٍ عليلْ
فهي كقلب الصب في خفقه
وذا عليل مثل جسمي النحيلْ
ما أجمل الشمس وقد أشبهت
نرجسة صفراء عند الأصيلْ
كأنها لون محبٍّ غَدَا
يميل للحسن الذي لا يميلْ
ما لك يا شمس مثيل ومن
أهواه أيضًا ما له من مثيلْ
كِلَاكُمَا يحرق في بعده
كلاكما عالٍ عزيز جليلْ
يا صَبْرَ قلبي كن جميلًا وقُلْ
صَبْرٌ جميل في غرام الجميلْ
آه لو مرَّ الأمير من هنا … لزال ما بي من الهمِّ والعنا … ولكن هيهات أن يُصَدَّق قولي … ويُستجاب سؤالي … نعم أحبه … وهو لا يبالي … لأننا عبيد وهو من الأمراء الموالي … فكيف يرثى لحالي … ويعشق مَنْ هي كأمثالي؟!
الحب مصداق قول العارفين به
فالسقم أوله والموت آخره
جوليا : ما هذه الأفكار الغريبة التي تخطر لك؟ أتظنِّين أنه يوجد في الدنيا شابٌّ، يخلو من الغرام … ولا سيَّما لبديعة في الجمال مثلك … وهبْتِ له قلبًا مُخلِصًا على حبِّه … وهي لا تحب فيه سواه … ولا تسأل إلا عن قربه؟!
إيميليا : ذلك ما أرجو أن أعرفه قريبًا … فإن كان يهواني، فهو لا بدَّ أن يجاوبني على كتابي.
يا كتابي بلِّغ إليه سلامي
كل يوم وقل له يا كتابِ
إنني قد كتبت ما في ضميري
من هواه فهل كذاك جوابي
جوليا : من الممكن أنه لا يقدر على المجاوَبة … خوفًا من رقيبٍ يراه … ويعلم سرَّه ونجواه!
إيميليا : إن كان يخاف من الرقيب جهرًا … فليدعْني أراه سرًّا:
إذا كان يخشى الناس فالسر ممكن
لدينا وإن الستر أكْتَمُ للحبِّ
فيُخْفِي ظلامُ الليل سِرَّ اجتماعنا
كلينا كما أخفيتُ ذا الحبَّ في قلبي
جوليا : ومن يعلم بأحوال الأمراء وأفكارهم؟! وهل تظنِّين أنهم يقدرون أن يبوحوا بأسرارهم؟!
إيميليا : كلامك هذا ليس في محله … بل يجب على الأمراء أن يكونوا قادرين على كل شيءٍ يسرهم … وإلا فما النفع من أنهم أمراء؟ أَلَا أكون أنا وأنت أحسن منهم … لأننا قادرون على كل شيءٍ نريده … فإن كان لا يريد أن يكتب لي، خوفًا من وقوع كتابه في يد غيري … فليرسلْه مع مَنْ يعتمد عليه … أو يضرب لي موعدًا لمقابلته شخصيًا، في محلٍّ لا يرانا فيه أحد … لا أن يتركني أسيرةَ حُبِّه … كما أنا الآن أتقلَّبُ بين الشك واليقين … على أحرَّ من النيران …
جوليا : ولكن من يعرف أفكاره؟ لعله عازم على أن يفعل كما تقولين؟ فلننتظر ظروف الأحوال … والآن هيا بنا نذهب إلى البيت … لعل الخادم يكون قد حضر!
إيميليا : هلمِّي بنا.
بَلِّغِيه الشوق يا ريح الصبا
من فتاةٍ قَلْبُها فيه القَطَرْ
واحلفي له عني بالحب إن
كان يهوى فليكاتِبْ بالأثر
ولكن انظري … انظري … ها هو البارون … فلنقف وراء هذه الصخرة … بحيث لا يرانا، ونسمع ما يقول.
البارون :
وا رحمتاه للعاشق المغرمِ
سَلَّمَ للحب فلم يَسْلَمِ
سلم يبغي السلم لكنما
درجة نيل الهوى بالدمِ
جنى بما كان على نفسه
واستقبل الموت ولم يندمِ
يا حب آلمْتَ فؤاد امرئٍ
قاسٍ لغير الحب لم يُؤْلَمِ
ويا فؤادي خُضْتَ بحرًا وقد
أغرقك البحرُ ولم تَعْلَمِ
ويا مهاة همت في حُبِّها
من أعظم الحب برت أعظم
بحق عينيك قفي واعطفي
وكلِّمي العاشق أو سلم
أو لا فإني مَائِتٌ حسرة
أُقضى شهيدًا في الهوى وأسلم
إيميليا : ما بال البارون ينشد ألحانًا غرامية؟! يظهر أنه اشتد عليه الغرام …
جوليا : عجبًا! ألا تعلمين أنه مغرم بك، وأن قدومه إلى هنا ليس إلا للتمتع برؤيتك؟!
إيميليا : لا تقولي ذلك بالله … فإن فؤادي موهوب لغيره، كما تعلمين. فما لنا والاهتمام به؟
جوليا : ها هو قد رآنا، وأَخَذَ يتقدم إلينا … فاسمحي لي أن أتركك وإياه برهة، لنرى ماذا يقول لك؟!
إيميليا : لا … لا … ليس له معي حديث!
البارون (يتقدم) :
ويا جنتي لو تسألين عن الجوى
يجيبك قلب ذائب أنه الهوى
السلام على ربَّة الجمال، وذات البهاء والكمال … مولاتي ألا تعلمين بسبب مجيئي إلى هنا؟!
إيميليا : لا يا سيِّدي … ولكن أظنه بقصد النزهة …
البارون : نعم النزهة … ولكن في رياض محاسنك وجمالك … بل ما قادني إلا الوجد والهيام … لأشكو لَكِ ما يعانيه قلبي من الغرام.
إيميليا : نعم يا سيِّدي … ما هذا الكلام؟!
البارون :
بالله لا تعذلي في الحب مشتاق
ولا تلومي فؤادَ الحُّبِ إن ضاق
وارثي لحالة حب مُغْرَم كَلِف
حَمَّلْتِه في الهوى أضعافَ ما طاق
بل الذي صوَّر الحسن البديع لنا
وسيَّر الناس في ذي الحسن عُشَّاق
ملكتِ قلبي فأضحى بَعْدَ حُسْنِك في
رق الهوى ليس يبقى منك إطلاق
قلبي وعقلي ومالي كلهن فِدَى
جمالِ وَجْهٍ سما كالبدر إشراق
إيميليا : يا حضرة البارون، إن المال لا يغرُّني … وإن الجمال وحده لا يسرُّني … بل الذي يهمُّني هو العلم والآداب … والذي يسرُّني … مجالسة عالم فاضل، أو مطالعة كتاب … فإن شئت نتخاطب في كل موضوع، إلا الذي أنت فيه!
البارون : عفوًا أيتها السيدة فأنا …
أقدِّم قلبًا في هواك مُعلَّقًا
ولولا ازدياد الوجد ما بُحْتُ بالشكوى
فلا تعذلي قلبي إذا باح بالهوى
فما باح هذا القلب إلا لمن يهوى
إيميليا : سيِّدي … دع عنك هذا الكلام … فإنه ليس مما يُقال لمثلي … ولا مما يحتمله هذا المقام …
فخلي الهوى — بالله — وابعد عن التي
ببحر الهوى غرقى وفي خمره نشوى
البارون : سيِّدتي … إلام ذا التجني والدلال؟ لقد فرغ صبري، ولم يَبْقَ لي احتمال …
أنا الذي في الحب صبري انقضى
وما انقضى صبري لكن قضا
قضى شهيدًا في الهوى فاعذري
فالعذر من بعض الشئون الرضا
إيميليا : أشكرك على حسن عواطفك يا سيِّدي، ولكن جوليا تنتظرني، وينبغي أن أذهب إليها.
البارون :
عذبتِ قلبي الذي تبكي عليه دمًا
نواظري فارحمي المبكِيَّ والباكِي
واصغَيْ لقولي فإني صِرْتُ منفردًا
بلا أنيس وأُنْسِي عند مرآكِ
جودي عليَّ بلفظ منك ينعشني
واشْفِ فؤادي الذي يشقى ويهواكِ
إيميليا : آه … ما هو العذاب الذي يزيد الأشجان؟ سيِّدي … إن قلبي ليس معي لأتصرف به، وليس للإنسان قلبان.
البارون : ويلاه … إذن أنت تُحِبِّين غيري! إذن أنت تحبين سواي، وأنت سالبة عقلي ولُبِّي! آه … يا لسوء حظِّي … ألا تَرِقِّين عليَّ لما أقاسي من العذاب والآلام؟! أيروق لك أن تقتلي عاشقًا، اشتعل بنار الحب والغرام؟!
إن كنتِ عاشقة سواي فإنني
بكِ مستهامٌ لا أحب سواكِ
قد صرت مضنًا مثل خصرك في الهوى
فليَعْطِفِ المُضْنِي على مضناكِ
روحي فدًى لك في الهوى فتنازلي
لقبول روحي في الغرام فداكِ
إيميليا : يا ربِّ … ما هذه المصائب؟! وما هذه الأحوال؟! ويلاه … لم يَعُدْ لي جَلَد على احتمال النوائب والأهوال.
البارون :
الحب داء والممات شفاء
هذا الشفاء أخفُّ من الداء
(يركع) وحق حبك … إن لم ترحمي عَبْدَكِ الراكع لديك … فإني أقتل نفسي بهذا الخنجر أمامك، (يرفع الخنجر ويرميه على الأرض) وأموت شهيدًا لغرامك، (يبكي) أشفقي عليَّ … ولا تكوني سببًا لقتلي … وتصوَّري ما سيحل بك من الندامة، ويصيب عشيرتي وأهلي … وتأكدي بأنني
مريضٌ ليس غيرك لي طبيب
فإن بَخِلَ الطبيبُ فما الدواءُ
وما يرجو المريض سوى دواء
سلام أو كلام أو لقاءُ
إيميليا : ويلاه! تقول إنني المسببة في قتلك!
البارون : مولاتي ومالكة حياتي …
رفقًا بحال شبحٍ مضنًى أسير هوًى
يستنجد الصبر عنكم وهْو مغلوبُ
سيِّدتي … قد مَلَكْتِ قلبي … وبكلمةٍ واحدةٍ منكِ تزيلين كَرْبِي، وإلا أقتل نفسي ولا أتحمل هجرك الأليم.
إيميليا : يا ربي … كيف العمل في ذلك؟! وهل تريد أن تقتل نفسك لأجلي؟! رفقًا بنفسك وبي يا سيِّدي … فإني متألِّمة لآلامك … ولكن ما حيلتي في قلبي؟!
البارون : آه يا قاسية الفؤاد … ألا ترفقين بشابٍّ مثلي … سيشرب في حبك كأس الحِمام؟! إذن … فأنا أقتلك … ثمَّ أقتل نفسي … ولا أدعك تتمتعين بعدي بالسرور والهناء!
إيميليا : تفضَّل يا سيدي وافعل … فإنَّ أَسَرَّ ما يرجى من حب بعض النبلاء الأكابر … لذغ باللسان … وطعن بالخناجر … فإن كان هذا نصيبي ممن يحبني كل هذا الحب الذي تدَّعيه … فأرحني من حياتي … وستعمُّ الراحة مماتي.
البارون : ويلكِ … ألا تخشين الموت؟! (يمسك يدها ويرتعش) أقلبك من صخر فلا يلين؟! ألا يرق فؤادك لهذا العاشق المسكين؟! (تسحب يدها.)
لا تجفلي يا من لها قلبي غَدَا
عبدًا مطيعًا في الحياة وفي الردى
إن كنتِ تخشين الممات فها أنا
وحدي أموت عسى أكون لك الفِدَا
بل تموتين معي، فهو أولى … معاذ الله … معاذ الله … إنِّي أخاف من نفسي … لشدة ألمي ويأسي.
يا ظبيةً قَتَلَتْني وهْي عامدة
ولست أقوى على قلبي لأقتلها
وهَبْتُها الروح لا أبغي بها عوضًا
فكيف أبغي نظير الروح مقتلها
روحي جَنَتْ فعلى روحي العقابُ غَدا
ومهجتي أثمتْ فالقتل حقَّ لها
أُقضى شهيدًا أنا أَقْضِي شَهِيدَ جوًا
أقضي شهيد هوًا أقضي به ولها
لا تخافي … فأنا أقتل نفسي، لتفرحي أنتِ مع الذي تحبينه … ولكن اعلمي … أنني أموت شهيد غرامك.
إيميليا : أنت تموت لأجلي!
البارون : نعم … لِأَنَّكِ وَهَبْتِ قَلْبَكِ لغيري … ولا قدرة لي على احتمال ذلك.
ليس في قدرتي ولا إمكاني
أن أرى مَنْ أُحِبُّ لا تهواني
ليس لي من قلبين أحيا بقلب
وأُخَلِّي لديكِ قلبي الثاني
فاعذريني إن لم يكن لكِ قلبا
ن فما لي أيضًا أنا قلبانِ
واتركيني أُقضى شهيد غرامي
واذكريني بعد الردى وكفاني
ثمَّ قولي وا رحمتاه عليه
قد قضى وحْدَه وقد أعفاني
واجعلي من دمي خضابك في العر
س وثوب الزفاف من أكفاني
إيميليا : ما هذه الأقوال التي تجرح قلبي … ويلاه ما العمل؟!
البارون : أموت شهيد هواك … (يرفع الخنجر ليقتل نفسه، فتأخذه منه وترميه في البحر وتقول):
إيميليا : قف … ماذا تفعل؟! أتقتل نفسك بيدك؟! وأكون أنا المطالبة بدمك (وعند كلامها تتقدم جوليا وتقول):
جوليا : إيميليا … إيميليا … ما لي أراك مرتبكة الحال؟!
إيميليا (بخوف) : دعيني يا جوليا … فإنني لا أقدر أن أصف لك كل ما جرى لي … انظري واعذري (ترمي نفسها على الحجر).
جوليا (تأخذ البارون على حدة) : سيدي البارون … ماذا جرى بالله؟! وما سبب اضطرابكما؟!
البارون : أريد أن أقتل نفسي … لأتخلص من هذه الحياة المملوءة بالأكدار …
جوليا : لماذا؟
البارون : إنني أحب إيميليا … حبًّا يفوق كل حبٍّ … بل يفوق كل عبادة ولا أرى منها غير النفور … لأنها تحب غيري … فما النفع في حياتي؟! فقد فضَّلْتُ الموت على هذه الحياة.
أزْكَتْ فؤادي من لظاها حُمْرَةً
لو فاضَ هذا البحر ما أطفاها
جوليا : اصبر يا مولاي على ما أصابك … وتمثَّل بقول القائل:
الحب مثل الخطاب عندي
للحب مستلزم الجواب
فإن أخاطِبْ ولم يُجِبْنِي
مخاطَبي تُبْتُ عن خِطَابِي
ما الذل والله غير هذا
أين ترى غرة الشبابِ
شريعتي هذه وهذا
في دين أهل الهوى كتابِي
البارون : لا … ليست هذه شريعة الغرام!
جوليا : كن مطمئِنًّا … فإنني سأفاتحها بهذا الأمر، وأجتهد أن أستميلها إليك … وأمَّا الآن فاذهب وكن مستريح البال … فإنك قد أَثَّرْت فيها كثيرًا … حتى صِرْتُ أخشى عليها عواقب التأثير والانفعال … فإن كُنْتَ تهواها فابعد عنها الآن … واتْرُكْها ريثما يهدأ بالها … فإنني أراها في غاية الأحزان.
البارون : ويلاه … كيف أتركها في هذا الحال؟!
جوليا : اذهب بالله … فللضرورة أحكام … اذهب فإني أرى رجلًا قادمًا … وأخشى أن ينفضح الأمر.
البارون (يذهب إلى إيميليا وهي ملقاة ويُقبِّل يدها ويقول) :
أقبِّل كفَّها فيزيد شوقي
كأني منه قبلت اللهيبَا
وما هو غير طيب فاح لكن
بجمرة قلبي يزداد طِيبَا

(يذهب.)

جوليا : لقد أقبل الخادم من عند الأمير … وأظنه قادم بالجواب (تتقدم إليه) ماذا فعلت؟
خادم إيميليا : أين مولاتي إيميليا؟
جوليا : هل أتيت بالجواب من الأمير؟
خادم إيميليا : نعم … لقد أتيت من مدة، وسألت عن سيِّدتي إيميليا في البيت، فأجابوني أنها تتنزَّه على شاطئ البحر، فأتيت إلى هنا، لأبلغها ما سمعْتُه من خادم الأمير.
جوليا : وماذا قال لك؟
خادم إيميليا : بعدما أَعْطَيْتُه الخطاب، وأَوْصَلَهُ إلى الأمير … عاد فقال لي: ليس له عندي جواب!
إيميليا : ليس له عنده جواب! آه … وا أسفاه … أيها الجَمال الذي تحسدني عليه الحسان … ويشير إليه الرجال بالبنان … ماذا تفيدني الآن، أيها القلب الذي أَعْدَدْتُه مقدَّسًا، لحب تَهَدَّمَ وذل؟! ويا أيها الشباب الذي أَبِيتُ معه على جمرٍ من الجوى والأسى، ليتك تُبْدَل ببرد الشيخوخة، وضَعْف العجز … يا جوليا … قد ضلَّ رشادي … وفارَقَنِي جَلْدي … وخانتني عزائمي … فارحميني وساعديني (تسقط باكيةً، فتحضنها جوليا، وتعتني بها إلى أن تفيق منزعجة، فيحضر الخادم ويقول لجوليا):
خادم إيميليا : سيدتي … إنِّي أرى وراء هذه الأشجار شبحًا … يروح ويجيء … كأنما هو شخص مراقِب لنا … فهل تعرفينه؟!
جوليا : لا أعرفه … ولم أره قبل الآن … فانظر ما شأنه!
إيميليا : آه يا جوليا … من يصف الآلام التي تحرق فؤادي … واليأس المستحوِذ عليَّ؟! أَشْعُر بأنني مدفوعة بيد القضاء … إلى وهدة الشقاء … ومنها إلى وهدة الفناء …
جوليا : خفِّفِي عليك أيتها الحبيبة … ولطِّفِي القنوط الذي يؤلمك … فإنه لم ينقطع الرجاء … ولم تنفذ الحيلة (يحضر خادم إيميليا ويقول لجوليا):
خادم إيميليا : إن هذا الخادم ذو أمر غريب! فهو قادم إلى هذا المكان … وغاية ما يعلمه مِنْ بعْثَتِه، أن إحدى السيدات تأتي في كل مساء، وتجلس منفردة بقرب هذه الأشجار مع صديقة لها، وعليه أن يُقدِّم لها رسالة، من قِبَل رجل لا يعلمه أيضًا!
جوليا : هذا أمْر أغرب ما سمعته! ولا بدَّ في الأمر من سر! فكيف يفعل هذا الخادم، ليؤدي رسالته إلى صاحبتها؟!
خادم إيميليا : إنه يرقب هذا المكان، منذ ثلاثة أيام … وقد ثبت لديه الآن أن السيدة المقصودة، إنما هي سيدتي إيميليا؛ ولذلك سألني عن اسمها، فأنكَرْتُه عليه … ومع ذلك فهو مُصِرٌّ على تقديم الرسالة لها … ويطلب جوابًا عليها!
جوليا : وأين هذه الرسالة؟ … (الخادم يذهب ويأتي بها ثمَّ يقول):
خادم إيميليا : هذه هي يا سيدتي.
جوليا (تقرأها) : انظري يا إيميليا، فقد أتاك كتابٌ من عاشقٍ جديدٍ!
إيميليا (بتكلف) : وماذا فيه؟
جوليا : خذي واقرئي.
إيميليا (تأخذ الكتاب وتقرأه) : قولي له ليس عندي جواب (يذهب) يا رب ما أكثر العُشَّاق الذين لا نهواهم.
أما تغلط الأيام فيَّ بأن أرى
بغيضًا تَنَأَّى أو حبيبًا تقرب
جوليا : ولكنه يقول إنه عاشق أمين!
إيميليا : كلهم يقولون ذلك …
جوليا : ولماذا لا تقابلينه، لعله يعجبك، ويكون أحسن من الأمير؟!
إيميليا : لا أريد أن أرى أحدًا … ولا أحب غير الذي أحب … فاتركيني بالله …
جوليا : ما هذه الأفعال يا عزيزتي … من ليس يسأل عني فلست أسأل عنه!
إيميليا : لا تلومي يا جوليا … فإن الحب لا يُلام.
جوليا : ألومك لأن الأمير لا يستحق حبك … ولأن قلبه قاسٍ، لا يؤثِّر فيه شيء … وهو لم يُخلق لمثل فؤادك الليِّن الرقيق … مع أنه لطيف المنظر … لم تكن تظهر عليه قساوة القلب … وعدم الإحساس … وحقًّا لقد صدق من قال:
إن الرجال صناديقٌ مُقَفَّلة
وما مفاتيحها غيرُ التجاريبِ
إيميليا : أرجوك أيتها الصديقة الودودة … إذا كنتِ تحبينِ … لا تذمِّي الأمير أمامي بشيء … لأني أحبُّه … ولا أريد أن أسمع منك أو من غيرك كلمة في حقه.
جوليا : ما هذا الحب الشديد، بغير رجاء ولا آمال؟! إن حبك له قد فاق حد الغرام … أتتركين الجميع لأجله؟! مثل البارون المسكين … الذي يريد أن يقتل نفسه شهيدَ حُبَّكِ … وأنت تحبين من لا يحبك!
إيميليا : بل أنا لا يزال لي أمل … ولا بدَّ أن أصل إليه … خفايا غرامي ولو ضاقت دوني الحِيَل … وإذا لم يتنازل إلى حبي … فإني أموت لا محالة … لأني أرى الموت حُلوًا … إذا قضيت شهيدة هواه … ولا أتنعَّم مع من أهواه (تنشد باكية):
أيا لائمي في حبه أنت في الهوى
عدوٌّ لقلبٍ إذ هواه حبيبُ
دَعِ العذل عن قلبي فقلبي واحد
كحبٍّ رماني في الغرام قلوبُ
فإنيَ لا أسلو الهوى بل أصونه
بقلبي ولو أضحى الفؤادُ يذوبُ
فكُفُّوا ملامي واعلموا أنَّ ذا الهوى
قضاءٌ من الباري جَرَى ونَصيبُ
سِهَام البرايا من مصيبٍ ومخطئٍ
ولكنما سَهْم القضاءِ مُصِيبُ
(انتهى الفصل الثاني)

الفصل الثالث

المنظر الأول

(في قصر الأمير)

الجزء الأول

الأمير :
يراسلني من لا أَوَدُّ جوابه
وأشكو إلى من لا يَرُدُّ جوابي
رماها الهوى في حُبِّ مَنْ لا يحبها
كما في هَوَى مَنْ لا نُحِبُّ رمى بي
أتاني كتاب لست أعرف خطه
من امرأة تشكو أليمَ عذابي
وراح كتابي يشتكي أَلَمَ الجوى
لمن ليس تدري أنَّ ذاك كتابِي
كلانا مُحِبٌّ ليس يدري حبيبه
به وكلانا ذو هوًى ومصابِ
خُلِقْتُ أميرًا قَيَّدَتْني إمارتي
عن الجري في لَهْوِ الهوى وشبابي
فلا حبَّذا هذي الإمارة إن غَدَتْ
مباعِدَةً بيني وبين صحابي
ولا حبَّذا عرشي إذا حال بين من
أحب وبيني في الهوى عجاب

(يدخل خادم.)

الخادم : مولاي … قد جاء كاتم أسرارك.
الأمير : قل له أن يدخل … ولا تَدَعْ أحدًا يدخل علينا.

الجزء الثاني

(الأمير وكاتم الأسرار)
الأمير : تعالَ أيها الصديق الأمين، واحْكُمْ بيني وبين هذا الكتاب … خذ واقرأ … اقرأ بصوت عالٍ (يقرأ الأبيات):
عن غرامي يا حبيبي لا تسالْ
إنه في القلب جمر ذو اشتعالْ
كن شفيقًا سيدي يكفي دلالْ
كن رحيمًا فلسان الحال قالْ
لست أسلوك ولو طال المطالْ
طيفك المحبوب وافى في المنامْ
كي يرى جسمي عليلًا ذا سقامْ
ليس لي صبر على كَتْم الغرامْ
ولقد بحت به يا ابن الكرامْ
فيك حبي وغرامي لا يزالْ
من دموع العين سَطَّرْتُ الكتابْ
وفؤادي من هيامي فيك ذابْ
قد سلبْتَ العقل يكفي ذا العذابْ
رُدَّهُ لي إنه طال الغيابْ
واشفني إذ لست أرضى بالخيالْ
قدك العادل فيه كم قتيلْ
هو غصن البان لكن لا يميلْ
لا تَسَلْنِي اليوم عن صبري الجميلْ
مات صبري فلك العمر الطويلْ
مثلما نوحي على صبريَ طالْ
الأمير : كيف ترى هذه الأبيات؟
كاتم السر : في غاية الحسن.
الأمير : وكيف تظن ناظمها؟
كاتم : في غاية الرقة واللطف.
الأمير : وإذا كان ناظمها امرأة … فكيف رأيك فيها؟
كاتم : تكون أحسن وأبدع.
الأمير : وإذا كنتُ لا أعرف هذه الناظمة … فما رأيك أيضًا؟!
كاتم : إنك تكلمني بالألغاز يا مولاي … فأوضِحْ لي إذا شئت!
الأمير : إن المسألة غريبة … تستحق البحث. فلقد جاءني هذا الكتاب من امرأة … وأنا لا أعرفها … ولا أرى كيف تجاسَرَتْ أن تُكَاتِبَني بالغرام؟! فأجبت رسولها … أن يعود إليها ويخبرها … أن لا جواب لها عندي.
كاتم : تلك قساوة يا مولاي.
الأمير : أتظن ذلك؟!
كاتم : نعم … فقد كان يجب أن تراها على الأقل … عساها تكون جميلة … تستحق حُبَّ الأمير … وإلا فالجواب هين في آخر الأمر.
الأمير : أذلك ما كُنْتَ تفعله أنت … لو كُنْتَ مكاني؟!
كاتم : نعم … كنت أقابلها فأشكرها على حُسْنِ أبياتها … وإذا أعجبني جمالها … شَكَرْتُها على حُسْن غرامها أيضًا … وقدَّمت لها قلبي جائزة عنه.
الأمير : إنِّي أراكَ سَهْل الأخلاق في أمر الحب أيها الأمين.
كاتم : لست بسهل الأخلاق أبدًا … ولكن يعلم مولاي، إذا كَتَبَتْ فتاة لرجل بأنها تهواه، حتى لم تَقْدِرْ على إخفاء غرامه، لا يتمالك أن يتحرك قلبه للحب … ولو عن غير معرفة … ولا سيَّما عندما يرى منها مثل هذه الأبيات.
الأمير : صدقْتَ … ولكن أتدري لماذا لم أقابلها؟!
كاتم : لا يا مولاي!
الأمير : لأنني أحب سواها أيها الصديق … ومِنْ طَبْعي الأمانة في الحب ولو كنت أميرًا …
كاتم : ومَنْ هذه السعيدة … التي حَسُنَتْ في عين مولاي؟
الأمير : هي سعيدة، أَصْبَحْتُ بها شقيًّا … وحلوة، أصبح صبري بها مرًّا … ومن تمام الغرائب أنني لا أعرف اسمها! ولا أدري من هي؟! سوى أنها جميلة فتانة … وأنني رأيتها مرة على شاطئ البحر في نزهة … فعَشِقْتُها وتَمَلَّكَ قلبي هواها … وانقضى الأمر … ثمَّ إن في الأمر غرابةً أخرى أيضًا!
كاتم : وما هي يا مولاي؟!
الأمير : إن هذه الفتانة قد أخذت ثأر صاحبة الأبيات مني … فكما أَجَبْتُ هذه العاشقة الشاعرة … أن لا جواب لها عندي … قد أجابتني تلك المعشوقة … أن لا جواب لي عندها! فكيف ترى الأمر؟!
كاتم : أرى أمرًا غريبًا يا مولاي! ولكن إذا كُنْتَ لا تعرف اسم المعشوقة السعيدة، التي شَقِيتَ في هواها … أفلا تعرف اسم العاشقة التعيسة التي شَقِيَتْ في هواك؟!
الأمير : إن اسمها إيميليا … وهو مُوَقَّع في ذلك الكتاب … فهل تعرف سيدة بهذا الاسم في هذه الضواحي؟
كاتم : نعم أعرفها يا مولاي … وقد تَذَكَّرْتُها الآن … فهي كاملة الصفات … باهرة المحاسن … تَنْظِمُ فيها العشاقُ من دموع الهجر … أكثرَ مما نَظَمَتْ هي فيك من أبيات الشعر.
الأمير : أتراها تكون مثل التي كَتَبْتُ لها ولم تجاوبني؟!
كاتم : نعم تكون جميلة … إذا كانت مثلها … ولكن أسألك مسألة يا مولاي … هل عَرَفَتْ هذه المعشوقة مَنْ أنت؟ وهل وَضَعْتَ لها اسمك في آخر الكتاب؟
الأمير : لا أيها الصديق … فإنها لم تَعْرِفْ مَنْ أنا … لأنني خشيت من عاقبة الافتضاح … فوضعْتُ توقيعي … عاشق أمين. وقد كان خوفي أنها لا تجيب هواي كما فَعَلَتْ … فيكون كتابي في يدها، فينفضح به الأمر … وأنت تَعْرِف حال الأمراء … وما يجب عليهم من الحزم والحذر … في مثل هذه الأحوال.
كاتم : إذن … فكيف كنت ترجو أن تهواك … وهي لا تعرفك … ولا تراك؟!
الأمير : إنها لا تعرفني نعم … ولكن قُلْتُ لها أن تراني … وضَرَبْتُ لها موعدًا للمقابلة … شاطئ البحر عند عصر اليوم، فأجابَتْني أنها لا تريد … وأن ليس لي عندها جواب … ولا بدَّ أن تكون معلَّقة بحب غيري … وليس للإنسان قلبان!
كاتم : كما أنت معلَّق بحب غيرها … وليس للإنسان قلبان!
الأمير : تمام …
كاتم : إذن … فقد صار في المسألة لغز يا مولاي!
الأمير : وكيف ذلك؟
كاتم : ذلك أنك واقع بين اثنتين … واحدة تعرف اسمها ولا تعرفها … والثانية تعرفها ولا تعرف اسمها!
الأمير : وأي حل عندك لهذا اللغز؟!
كاتم : اسمح لي أن أسألك …
الأمير : تكلَّم …
كاتم : أَتَقْبَلُ نصيحتي؟!
الأمير : يمكن …
كاتم : هل قَطَعْتَ أَمَلَكَ مِنَ التي تُحِبُّها؟
الأمير : تقريبًا …
كاتم : هل تظن أنها تجيبك بالقبول … بعد ذلك الرفض؟
الأمير : لا أظن …
كاتم : هل اعْتَقَدْتَ من وصفي للتي تحبك أنها جميلة؟
الأمير : نعم …
كاتم : وهل يمكن إذا رأيتها أن تحبَّها بدلًا من تلك؟
الأمير : لا أدري …
كاتم : وهل تظن أن في مقابلتها خطرًا أو افتضاح؟
الأمير : لا …
كاتم : وهل يمكن أن تجاوبها الآن … أنك تقابلها على شاطئ البحر مساء اليوم … في الموعد الذي ضَرَبْتَه لتلك؟
الأمير : نعم يمكن … وما الفائدة؟!
كاتم : ولكن ما الخسارة؟!
الأمير : وإذا رأيناها … فماذا يكون؟
كاتم : وإذا لم نَرَهَا … فماذا لا يكون؟!
الأمير : إننا نتكلف بُعد المحال …
كاتم : إنها نزهة على كل حال.
الأمير : وأخيرًا …
كاتم : أخيرًا … يجب على كل رجل مهما كان أميرًا … أن يكون رقيقًا مع النساء … خادِمًا للحِسان … مُجيبًا لطلب المرأة مهما كانت … لأنهن ضعيفات ونحن أقوياء.
الأمير : ولكن قلت لك إنِّي لا أعرفها!
كاتم : أنا أعرفها …
الأمير : وبالتالي لا أعرف منزلها!
كاتم : أنا أعرفه …
الأمير : ومن يجد رسولًا لها؟!
كاتم : أنا أجد الرسول …
الأمير : ومن يكون هذا الرسول؟!
كاتم : أنا أيضًا يا مولاي … ألا يصح أن أكون رسول غرامك … كما أنا رسول أحكامك؟!
الأمير : لا أعرف كيف أكتب … أَمْلِ عليَّ أنت.
كاتم : حسنًا فاكتب …

سيدتي

لقد رددت رسولك خوفَ العواقب … وهذا رسولي يدعوك للمقابلة التي تَطْلُبِينَها … فأنا أراكِ الليلة على شاطئ البحر عند العصر … حتى لا تقولي ذَهَبَت المروءة من الأمراء …

الإمضاء: الأمير
أحسنت، هاتِ الكتاب وعلينا تدبير الأمر (يخرج).
الأمير :
يُقَرِّب منَّا الدهر من لا نريده
ويُبْعِدُنا ممن نحب ونَطْلُبُ
ونعشق مَنْ لا حُبُّنا في فؤاده
يجول ويهوانا الذي ليس نرغبُ
بذا قَضَت الأيام ما بين أَهْلِها
لينعم ذا من حيث ذا يَتَعَذَّبُ
فلا كان هذا الحب أنَّ نعيمه
عذاب وأن الكره أحلى وأعذبُ
لأنَّ الذي نهواه صعْب لقاؤه
ويسهل ممن لا نحب التجنبُ
كِلَا حالتَيْنا من غرام وجفوة
مصاب فذا صعب وهاتيك أصعبُ

(يخرج.)

المنظر الثاني

الجزء الأول

(في غرفة إيميليا – إيميليا وجوليا)
جوليا : ألا تزالين مريضة؟!
إيميليا : ما دام القلب مريضًا … فهيهات للجسم أن يَصِحَّ!
جوليا : ألم أقل لك … إن هذه هي نتيجة الحب والهيام!
إيميليا : بل إن نتيجته الموت … وبدايته هذا السقام … فدعيني بالله أقاسي العذاب … إلى أن أموت شهيدة هذا الغرام.
فمن لم يَمُتْ في حبه لم يَعِشْ به
ودون اجتناء النحل ما جَنَتِ النحل
جوليا : بالله ما هذا الجنون؟! إذا لم تُشْفِقِي على صباك … فأَشْفِقِي على أَهْلِكِ وذوي قرباك … أشفقي عليَّ … أنا التي لا صديقة لي سواك … فإذا كان الأمير لا يحبك … وقد أبى أن يجيب على كتابك … فهذا البارون رهين أَمْرك … وهو يبذل حياته في غرامك … فاتركي الأمير وشأنه … وانظري إلى من يهواك … وإذا لم تحبِّي البارون … فاذهبي وانظري صاحب الكتاب … الذي أرسله اليوم إليك … ألم يقل لك إنه عاشق جمالك … وإنه يريد أن يراك على شاطئ البحر؟
إيميليا : لا أريد أن أرى أحدًا … ما دُمْتُ لا أرى الذي أريده … وفوق ذلك … ألم أَقُلْ لرسوله أن يقول له أنْ ليس له عندي جواب؟!
جوليا : وهل أَرَدْتِ بذلك … أنت تنتقمي من الأمير في شخصٍ سواه؟
إيميليا : بل أردت أن أنتقم من فؤادي … الذي أَذْنَبَ في هواه … فهو قد قال إنه لا جواب لي عنده … لأنه لا يهواني … وأنا قلت لذلك الفتى مثل هذا الجواب … لأنني لا أهواه.
جوليا : ولكنك لم تنظري هذا العاشق الجديد … لتعلمي إذا كان يستحق غرامك!
إيميليا : لا أريد أن أنظر أحدًا … فإن قلبي عن حبِّه لا يتحول … فدعيني بالله من هذا الجدال … فما الحب إلا للحبيب الأوَّلِ.
والقلب إلا لمن يحبّْ
وكل حب سواه صعبْ
فلا تلومي فؤاد حبّْ
عذابه في الغراب عذبْ
هيهات ما للمحب قلبْ
وقلبه عند من يُحِبّْ
خادم إيميليا : سيِّدتي … بالباب رجل معه كتاب لك … وهو من عند الأمير!
إيميليا : من عند الأمير … انظري يا جوليا وأسرعي بالله (تذهب). يا رب ما أصعب حالتي الآن … وماذا عساه كتب إليَّ … لا شك أنه غاضبٌ مني وحانق عليَّ … لأنني تجاسَرْتُ على حبِّه … فإن الأمراء يَعْتَبِرُون أنفسهم شموسًا … لا تقدر أن تَنْظُرَ إليها عيون الناس … أما أنا فسأنظر إليها … ولو كَلَّ بصري (تدخل جوليا).
جوليا : أبشري … أبشري … كتابٌ من عند الأمير!
إيميليا : لقد رضى عني … لقد أجابني على غرامي … أَرِنِي الكتاب بالله … إنني أخاف أن أقرأه … لئلا يكون فيه ما يزيد قَطْع آمالي … اصبري عليَّ بالله ليهدأ روعي!
جوليا : اقرئي يا حبيبتي … وليهدأ روعك … فإنَّ جواب الأمير بَعْدَ رَفْضِه … يدل على أن في الأمر شيئًا جديدًا … غير الرفض والجفاء (إيميليا تقرأ الكتاب).
إيميليا : وا طرباه …!
وردتْ إليَّ من الحبيب رسالةٌ
وبها من اللفظ الرقيق معاني
أَحْيَتْ فؤادي بعد ما مات الرجاء
فيه بوابل دمعتها الهتانِ
يا عينُ قد صار البكا لك عادة
تبكين في فرحٍ وفي أحزانِ

(يدخل خادمٌ وبيده صَحْن عليه رقعة زيارة لإيميليا.)

خذي وانظري …
جوليا : جاء البارون … أهذا وَقْتُه …
إيميليا : يقول إنه يريد أن يعتذر مني … عما فرط منه … (للخادم): قل له أن يدخل (يخرج) … فإنني الآن سعيدة مسرورة … أريد أن أعفو عن الجميع.

الجزء الثاني

(إيميليا – جوليا – البارون)
البارون : عفوًا يا سيِّدتي إذا تجاسَرْتُ على زيارتي … بعد الذي فرط مني نحوك بالأمس …
لا تعذليني فإن الحب أسكرني
ولا يُلَامُ بما يأتيه سكرانُ
أسكَرْتِنِي فأنا لا أستفيق وكم
أَفَاقَ من غير خمرِ الحب نشوانُ
سُكْرُ الخمور له وَقْت يزولُ به
وسكرة الحب أعوامٌ وأزمانُ
إيميليا : لا بأس يا سيِّدي البارون … فإن الأمر قد انقضى على علَّاته … وأنا التي أرجو منك العفو … لأنني أنا التي ملأتُ لك هذا الكأس … ولكن لا لَوْمَ عليَّ … فأنت قد شربْتَها بالرغم عني …
البارون : نعم، ولكني لا أقدر أن أفيق منها إلا برضاك … فأنت أصْل هذا الداء فعليك يجب الدواء … عفوًا يا حبيبة قلبي إذا وقَفْتُ للاعتذار … فلم ينطق لساني سوى الحب والغرام …
ارحمي عاشقًا بحبك صبًّا
ليس يرجو الشفا من الأسقامِ
إن يكن آثمًا وحبك إثمًا
فهْو يرجو البقاء في الآشاح
إيميليا : أرى أن الحال قد تحوَّلَ يا سيدي البارون … وأنك بعد أن كان دخولك للاعتذار عما فرط … أصبح لشكوى الغرام وبيان الحب فقط … فإذا كان ذلك فاعلم أنني لم أَسْمَحْ لك بالدخول … إلا على سبيل الاعتذار … فإذا عَدَلْتَ عن العذر إلى غيره، فقد اخْتَلَفَ معي الأمر …
جوليا : واعلم يا سيدي البارون … أنني شاهدة عليك في ذلك … وأنت تعرف مقدار الشهادة …
البارون : إذن … فلماذا لا تشهدين بغرامي وحبي؟! لماذا لا تشهدين بما يقاسيه قلبي؟! لماذا لا تشهدين بنحولي، وما وَصَلْتُ إليه؟! لماذا لا تشهدين بشوقي الزائد، وهذا الدمعُ أعْدَلُ شاهِدٍ به؟!
اشهدي اشهدي بما صِرْتُ فيه
من سقامي ولوعتي ونحيبي
اشهدي فالسقام يشهد أيضًا
بغرامي على فراق حبيبي
اشهدي فالنجوم تَشْهَدُ في الأُفْـ
ـقِ بأن السهاد أضحى نصيبي
يشهد الكون والعالم طرًّا
أنني مدنف وأنتِ طيبي
إيميليا : اخفض صوتك يا سيِّدي بالله … فإن أهلي قريبًا يحضرون … واذكر ما قُلْتُهُ لك من قبل … إن فؤادي ليس مِلْكَ يدي … فاعذرني إذا لم أُجِبْكَ إلى هواك … واعلم أن فؤادي لم يُخْلَق لأجلك … هو ملك سواك …
البارون : ملك سواي … آه يا قاسية …
إيميليا : يعزُّ عليَّ يا سيدي … أن تكون على ما أراه من الحزن … ولكن مِن الأَثَرَة التي لا تليق بك … أن تفضِّل هنائك على هنائي … ولو قَطَعْتَ زيارتك عني لأرحْتَ نفسك …
البارون : أنا أعلم أنك تأمرينني بالانصراف … وأنك تَعُدِّين الدقائق معي عدًّا لانشغال قلبك بسواي … فأنا ذاهبٌ يا سيِّدتي … ولكنني لا أذهب قبل أن أقول لك … إنك شرُّ ما جنيت على نفسك فيما جنيته عليَّ … وإنك ستكون لك عاقبة … لا تقل عن عاقبتي في شيء!
إيميليا : مكانك يا سيِّدي … واذكر أنك تتهددني … وأنك في منزلي!
البارون : واعلمي … أنني إذا كنت سأموت من حبِّك … فإنك ستموتين في كرهي وغضبي … واذكري … أن الحقد يقتبل كما يقتبل الحب … وأن القاتل فيه معذور، وليس على العاشقِ من ذنبٍ!
إيميليا : اخرج من هنا …
البارون : نعم أخرج … ولكن ليس هذا بالأمر المهم … بل مُرِي حُبَّكِ أن يخرج من قلبي لو كُنْتِ تقدرين … وإلا فلا عبرة ببقائه أو ذهابي والحب من فؤادي كمين … ويلٌ لك يا قاسية … أنا أخرج من هنا … لا بأس … فليس الذنب عليك … ولكن على الذي يحلُّ في فؤادك … فهو السبب الذي حرمني من هواك … وأَبْعَدَنِي من ودادك …
إيميليا : إذن أخرج أنا يا سيدي … هلمِّي يا جوليا (يخرجان).
البارون : قفي يا قاسية الفؤاد …
قِفِي وانزعي السهم الذي حلَّ في صدري
قِفِي أتداوى فيك من لوعة الهجر
قفي وانظري ماذا جنيت من الأسى
على كَبِدٍ أحْرَقْتها بلظى الجمر
سأخرج طَوْع الأمر لكنما غدًا
ستخرج روحي قبل روحك من صدري
فلا بدَّ لي من قَتْل عاشقك الذي
هو الأصل مما ألتقيه من القهرِ
فإن كان يحيا في غرامك أنه
سيقضي بِكُرْهٍ والذي فيك من غَدْرِ
فيا قلبُ قد طاب الحِمام فمُتْ إذن
فموت الهوى حُكْم بأهل الهوى يَجْرِي
ولكن ليقضي فيكِ ذاك مزاحمي
ومن هجرت ولتفتدي الكل في قبري
فيغدو حديثي في الغرام مؤرخًا
ويبقى لنا ذكرٌ إلى أَبَدِ الدهرِ

الفصل الرابع

(يُرفع الستار عن منظر البحر والأمير مع كاتم أسراره منتظرين حضور إيميليا.)

(الجزء الأول)

(الأمير وكاتم أسراره)
الأمير : هنا موعد المقابلة؟!
كاتم : نعم يا مولاي قد وَصَلْنا …
الأمير : ألا يمكن أن يتفق أيها الصديق … أن تكون إيميليا هذه هي الحبيبة التي أجهل اسمها؟!
كاتم : ذلك غاية مُناي يا مولاي … وعسى أن تكون هي … حتى يَصْدُق ظني ويتم السرور …
الأمير : حقق الله ظنك … حتى أرى هذه الفاتنة … التي جَعَلَتْني أَسِيرَ جمالِها … وعبد محاسنها وكمالها … فسامح الله الغرام … الذي أَوْصَلَنِي إلى هذه الحالة … ومن يدري إذا كان عندها من الحب ما عندي؟! آه لقد زادت عليَّ لواعج الشوق … وعيل صبري …
أترى فيكُمُ لواعج وجدي
وسقامي من الغرام وسهدي
أترى عندكم من الحب والأشـ
ـواق مثل الحب الذي هو عندي
إنني في الغرام عبد هواها
مع أن الزمان والدهر عبدي

(ثمَّ ينظر ناحية البحر فيرى إيميليا وجوليا مقبلتين على قارب ناشدتين):

طابت الأفراحْ
ووفى المطلوبْ
وحلا لي الراحْ
في لقا المحبوبْ
فاملِ لي يا صاحْ
واسقني المشروبْ
بدر سعدي لاحْ
تَمَّ لي المرغوبْ
الأمير : تعالَ وانظر … هذه التي أهواها … فمن جاء بها إلى هنا؟!
كاتم : عجبًا يا مولاي … أهذه هي؟!
الأمير : هي بعينها!
كاتم : أمتأكد مولاي من ذلك؟!
الأمير : عجبًا … ألا أعرف من تَيَّمَني هواها؟!
كاتم : مسألة في غاية الغرابة!
الأمير : ولماذا؟!
كاتم : لأنها هي إيميليا … التي كَتَبَتْ إليك أنها تهواك … وأَجَبْتَها أنك لا تهواها!
الأمير : إنني في غاية الاستغراب!
كاتم : هي الحقيقة يا مولاي … فنادِهَا باسمها وانظر …
الأمير : حقًّا إنه اتفاق غريب … إنني لا أكاد أصدِّق!
كاتم : نادِها يا مولاي … وانظر … فها هي قد أَقْبَلَتْ.
الأمير : نعم … نعم … هي … هي … هي إيميليا … إيميليا (يركض لمقابلتها قائلًا):
ماذا أرى؟ أإيميليا تلك التي
قد كنت أجهل إسمها بين الورى
أم ذا خيالُ حبيبتي وافى وهل
في يقظة أنا أم تولَّاني الكرى
أنتِ التي أهواك أنت إيميليا
أنت التي كَتَبَتْ بحبي أسطرَا
أنتِ التي عَرَفَ الفؤاد غرامها
من غير أن يدري اسمها فيما درى
ويْلَاهُ قد ضاع الزمان وقد جرى
عبثًا وإني نادمٌ مما جرى
إنِّي كتبت إليك فيما قد مضى
باسْم الأمين فما أَجَبْتِ تكبُّرَا
إيميليا :
فعلامَ ذياك الصدود وأنت ما
هذا الصدود ألم تكن متكبِّرَا
فلقد كَتَبْتُ إليك أيضًا أرتجي
منك اللقا فرددْتَ ردًّا منكرَا
الأمير :
قد كنت قبلًا أجهل اسْمَكِ فاعذري
… … … … … …
إيميليا :
… … … … … …
وأنا لإسمك كُنْتُ أَجْهَلُ فاعذُرَا
الأمير : إذن أنت التي أهواك … وأنت إيميليا!
إيميليا : نعم يا مولاي … أنا هي … إيميليا أسيرة حبك … وأنت هو … العاشق الأمين … الذي كتَبْتَ لي من قبل!
الأمير : نعم يا مهجتي … أنا أسير غرامك.
إيميليا : إذا كنت أسير غرامي … فكيف تتركني في حالة اليأس؟!
لم تشْفِ قلب أسيرةٍ مهمومة
تقضي بها صباحها كليال
الأمير : وأنت … لماذا لا تجاوبيني على كتابي … وقد تركْتِنِي في حالة أمرَّ من حالتك؟!
أُمْسِي وأُصْبِحُ في الهموم وأَغْتَدِي
في لوعة لغرامك القَتَّال
إيميليا : ما هذا الكلام … أصحيح ما تقول أيها الأمير؟! أَعِدْ بالله عليَّ هذا الحديث … فإني لا أكاد أصدِّق ما تقول.
الأمير : أتشكِّين في صدقي … أيتها الحبيبة؟!
إيميليا : العفو يا مولاي … ولكن الأمر غريبٌ جدًّا … كيف هذا؟! أنت الذي كتبْتَ لي تحت إمضاء: عاشق أمين؟!
الأمير : نعم يا بهجة الفؤاد … فهل غلطْتُ في هذا الإمضاء؟! ألسْتُ حقًّا عاشقًا أمينًا؟! (يأخذ يدها ويقول):
إنِّي لذاتك يا مليكةَ مهجتي
وقْف صحيح لا يُباع ويُشترى
لو كان لي حق بقلبي في الهوى
لشقَقْتُه لتري به ما سطرَا
إيميليا :
إنِّي عَرَفْتُ صفاء قلبك في الهوى
فجميل قولك كان عنه فجرَا
ليس الفؤاد بظاهرٍ لكنما
قول اللسان يكون عنه مظهرَا
الأمير : آه يا مهجة قلبي … إن هذه الساعة لا تُقدَّر عندي بمال … بل بحياتي … ولو كنتُ عالمًا أن التي أُحِبُّها وأعرفها من مدة هي إيميليا التي كَتَبَتْ لي … لكنت طِرْتُ إليك على جناح الأشواق … فإني كنت عندما أراك … يخفق فؤادي وأشعر بثقل الغرام … ولا أقدر أن أبديه لأحدٍ من الأنام … فأنا الآن أحمد الله الذي أنالني هذه السعادة … أن عَرَفْتُ تلك التي سَلَبَتْ عقلي ولُبِّي … وأنها هي التي جعلتني موضوع حبِّها … كما جَعَلْتُها موضوع حبي …
أنتِ روحي وحياتي والمنى
أنتِ قصدي أنتِ سمعي والبصرْ
إيميليا :
أنتَ نوري أنتَ بدري في الدجى
أنت فخري أنتَ شمسي في السحرْ
الأمير :
آه ما أسعدني بهواكِ
وما أسعد طرفي إذ تمتع بمرآكِ
ومن اليوم فصاعدًا لا تشعرين بالهم والعنا … بل ستكونين سعيدة بقربي … وأكون سعيدًا بقربك … وسيجمع القران بين شملي وشملك … كما جمع الغرام بين قلبي وقلبك.
إيميليا : هل أنا في يقظة أم في منام؟! وهل صحيح هذا الكلام؟!
الأمير : نعم يا حبيبة فؤادي … فثقي بمحبتي لكِ وخالص ودادي … واعلمي بأنني سأقترن بك … وأنني لا أكون سعيدًا إلا بقربك.
إيميليا : أنت يا مولاي تقترن بي! إنما يكفيني أن أكون خادمة عندك.
الأمير : بل أنت تكونين مالكة في قصري … وسيِّدة على قلبي … وولية نهيي وأمري … وهذا ما أقول (يرفع خاتمه من أصبعه ويعطيها إياه).
احفظي خاتمي لديكِ فإني
قَبْلَهُ قد وَهَبْتُ أيضًا فؤادي
فهْو رمزٌ لحبِّنا ولقانا
فاحفظيه ففيه حِفْظ ودادي
إيميليا :
زارني اليوم حبيبي
ووفا وعدي
بعد البعاد
فيه يا نفسي طيبي
قد بدا سعدي
طبق المراد
قربه أضحى طبيبي
واللقا عندي
يشفي الفؤاد
بدري أشرقا يزهو رونقا
لما باللقا جاد لي وحدي
الأمير : والآن … فهل تريدين أن ننظر في أمر الزفاف؟
إيميليا : الزفاف يا مولاي … أهكذا سريعًا؟!
الأمير : ألم يكن حبُّنا كذلك … فإذا كانت المقدمة سريعة، فلماذا لا تكون النتيجة أسرع؟! والذي لا بدَّ من إجرائه غدًا، لماذا لا نجريه اليوم؟!
إيميليا : الأمر أَمْرُكَ يا مولاي … ولكن ألا تخشى من معارضة في قَصْرِكَ؟!
الأمير : لم أَتَعَوَّدْ ذلك يا سيدتي … بل أعلم أنني أنا الآمر الناهي … وأن الذي أريده هو الذي يكون … إلا معكِ وحدكِ فأنتِ الآمرة عليَّ … وأنتِ التي أطيع أَمْرَكِ … أنا الذي لا يعصي أمري أحد.
إيميليا : نعم أعلم يا مولاي … إن سلطتك سائدة في كل مكان … كما هي سائدة في فؤادي … وأنك تحكم على الأجساد بأقوالك … كما أنت حاكم على القلوب بلطفك وجمالك … ولكن لا بدَّ من إخبار أهلي على كل حال.
الأمير : نعم لا بدَّ من ذلك … وها أنا سأرسل إليهم كاتم أسراري … يخبرهم بقدومي … ثمَّ لنذهب معًا فنُتِمَّ الأمر هناك … (يتقدم إلى كاتم أسراره فيحادِثه سرًّا، ثمَّ يرسله ويعود إلى إيميليا قائلًا): هيا بنا نتمشَّى على هذا الشاطئ … إلى أن يحين أوان الانصراف.
ضعي كفِّي بكفِّك يا حياتي
لنسري تحت رايات الغرامِ
فما أحلى اللقاء على انفرادٍ
بلا عَذْلٍ عليه ولا ملامِ
ونور الحسن من لحظيك يبدو
ونور الحب يبدو من كلامي
إيميليا :
حبيبي لا تزد فرحي فإني
أخاف على فؤادي من هيامِ
سرور المرء مثل السكر تُخْشَى
عواقبه كعاقبة المدامِ
وها أنا لا أزال أشك أيضًا
أفي صحوٍ أنا أم في منامِ

(يدخل البارون دون أن يراهما.)

البارون :
أين التي حبُّها قد زادني عللَا
وأين من تركَتْنِي في الهوى مثلَا
أين التي نفرَتْ مني وما رحمت
ضعفي ولا عَطَفَتْ يومًا عليَّ ولا
يا أيها الملك الميمون طالعه
تركْتَنِي في جحيم الحب معتَقَلَا
عطفًا على قلب حبه كان ذا أمل
واليوم أصبح لا قلب ولا أملَا
يا ربة الأنس ما هذا الدلال وما
هذا الجفاء الذي أضنى وما قتلَا
ومن بقلبك غيري في الوداد سما
ومن بعينيك دوني في الغرام حلَا
ومن ينالك يا من مهجتي تلفت
فيها ورسمك في الأحشاء قد نزلَا
لا تظلمي عاشقًا مُضْنًى أسير هوى
يهوى الحياة وأمَّا أن صددت فَلَا
(يلتفت فيرى إيميليا والأمير جالسين على شاطئ البحر) من هذا الذي أرى … إيميليا … ومن هذا الذي معها … آه يا قاسية القلب … أهذا هو الرجل الذي تحبِّينه دوني؟! أهذا الذي تفضِّلينه عليَّ؟! وأنا أبذل نفسي لأجلك … وأُفضِّل الموت على أن أَمَسَّكِ بضرر … الآن طاب الممات … ولكن تموتين قبلي يا قاسية … فلا خير في حياتي بدون حبك … ولا خير في حياتك من بعدي (يأخذ غَدَّارَتَهُ ويطلقها عليهما).
الأمير (شاهرًا سيفه على البارون) : من هذا؟! … قِفْ يا قاتل فلأذيقنك أشد النكال … (يدخل اثنان من الحرس على صوت الرصاص) … اقبضوا على هذا المجرم في الحال … (إيميليا بعد أن تصرخ):
إيميليا : ويلٌ لك يا شقي … أإلى هذا بَلَغَتْ بك الجسارة؟! أتتطاول على ولي نعمتك ومولاك … (البارون ينتبه فيعرف الأمير فيركع قائلًا):
البارون : هذا أنت يا مولاي! عفوًا يا سيِّدي الأمير عن جريمتي … فما دفعني إليها سوى الغضب والحقد … بل ما جرَّأني عليها سوى الغرام والوجد … فأنا مغرم بالسيدة إيميليا وأسير هواها.
الأمير : أنت تحبها!
البارون : نعم يا سيِّدي أحبها وأفضِّلها على نفسي … بل أحبها حتى أن هواها أضلَّ رشادي … ولو أنها أخبرَتْني بأنها تهوى مولاي ويهواها … لقَتَلْتُ نفسي وأرحْتُ قلبي من سقمه … وأَرَحْتُ الأمير من عبده وخصمه.
الأمير : خذوه الآن إلى السجن … وغدًا نرى ما يكون من أمره.
البارون : لا بل يأذن لي مولاي أن أقول له … إنني كنت قادمًا على نية قتله … وإن لم أعلم مَنْ هو! وعلى نية قَتْل حبيبته التي وَقَفَ حياتَهُ لها … فليعاقبني الأمير بما نويت … فإنني لو أَمْهَلَنِي الحرس لحظة … لركِبْتُ جنايتي ولحقت بالقتيلين إلى الدنيا الآخرة … واعلم يا سيدي … أن من كان مجرِمًا مثلي لا يحق له أن يطلب منةً من المجني عليه … ولكني أعلم مكانتك السامية … من الفضل والعدل … وأسألك جاثيًا على قدمي … أن تأمر بقتلي … وأن تنقذني من حياتي … لأن حياتي أصبحت همًّا وغمًّا … بل خجلًا وفشلًا … بل عارًا ونارًا … فارحمني يا مولاي … ارحمني وأنقذني من حياتي.
الأمير : إلى غدٍ …
(تم الفصل الرابع)

الفصل الخامس

(قصر الأمير)

الجزء الأول

(الأمير – كاتم أسراره)
كاتم : إذن … فهذا عزْم مولاي!
الأمير : نعم … قد عزمْتُ أن أحتفل بالزفاف اليوم … وما دام لا بدَّ منه فلماذا التأخير؟!
كاتم : الأمر لك يا مولاي … ولكن ألا تجد أنك عَجِلْتَ في الأمر؟!
الأمير : لقد قال المثل: لا تؤخِّر إلى الغد ما تَقْدِرُ أن تفعله اليوم … وأنا فُطِرْتُ على حب التعجيل … فلا أَقْدِرُ على الإمهال … ثمَّ أظن أنني أنا الأمير … وأن لي الحق في أن أفعل ما أشاء … وقْتَ ما أشاء.
كاتم : العفو يا مولاي … ليس هذا اعتراض … فإن كلَّ شيءٍ قد تم حسب أَمْرِك … والقصر قد تهيَّأ لاحتفال العُرْس … ووُزِّعت أوراق الحضور على المدعوين … (يدخل الخادم ويقول):
خادم : مولاي … بالباب امرأة مقنَّعة … تريد أن ترى الأمير!
الأمير : ألم تَقُلْ لك عن اسمها؟
الخادم : لم تُرِدْ أن تقول شيئًا …
الأمير (للكاتم) : انظر من هي؟! (يذهب مع الخادم) … لا يبعد أن تكون إيميليا … فما الذي جاء بها الآن؟!
كاتم : قل لها أن تدخل يا مولاي …
الأمير : ألم تقل لك من هي؟!
كاتم : قل لها أن تدخل أوَّلًا … ثمَّ هي تخبرك عن نفسها بنفسها!
الأمير : قد عرفتها … فقل لها أن تدخل … قل لها أن تدخل وحدها.
كاتم : قد فَهِمْتُ يا مولاي … فأين أنتظر أَمْرَكَ؟
الأمير : في الغرفة الثانية …

الجزء الثاني

(الأمير وإيميليا)
إيميليا : مولاي عفوًا … فقد تجاسَرْتُ …
الأمير :
بل أنتِ شرفتِ يا روحي ويا أملي
فزِدْتِ قصري على ما كان بنيانَا
أهلًا وسهلًا بمن حلَّت بساحتنا
جودًا فكانت لنا روحًا وريحانَا
ومن سعت نحونا والسر يكتمها
شوقًا فزادت خلوص الحب برهانَا
مري فعبْدُك طَوْع الأمر واحتكمي
فأنت سلطانتي إن كنت سلطانَا
إيميليا :
مولاي لم تكن من حقي زيارتكم
إلا إذا ما غدت في العرس إعلانَا
لكنني جئت رغم الناس راجيةً
من لا نجيب بين الناس إنسانَا
الأمير : أنت تأمرين يا حبيبة قلبي … فماذا تريدين؟! تكلَّمي … فأنا رَهْن أَمْرك.
إيميليا : لقد حضر أهل البارون إلى عندنا اليوم … وكان أهلي يشتغلون بمعدات الفرح وينتظرون تشريفك.
الأمير : وماذا قالوا؟!
إيميليا : قالوا: إن ابنهم أثيم يستحق العقاب … ولكن حلم الأمير عظيم وواسع … وقد الْتَمَسُوا مني كل الالتماس … أن أتشرف بناديك … وألتمس منك العفو عنه … أو تخفيف العقاب على الأقل.
الأمير : العفو عنه … أو تخفيف عقابه!
إيميليا : نعم يا مولاي …
الأمير : وماذا تريدين أنت من الأمْرَيْنِ؟!
إيميليا : أرى أن الفتى جاهل … يستحق القصاص.
الأمير : إذن … فكيف تطلبين العفو عنه؟!
إيميليا : لا أطلب شيئًا من ذلك … ولكنني ألتمس …
الأمير : قلت لكِ أنت تأمرين … فلا تلتمسي … تكلَّمي ماذا تريدين؟!
إيميليا : إنه لا يهمُّني يا مولاي … عوقِبَ هذا الفتى أم لم يعاقَبْ … وعفوْتَ عنه أو لم تَعْفُ … ولكنني أَعْرِضُ على مولاي أمرًا … وله الحكم فيه.
الأمير : كلي آذان … فتكلَّمي!
إيميليا : مولاي … إن هذا الرجل كان سيئ القصد … فهو يستحق العقاب … ولكنه لحسن حظه لم يُنفَّذ قَصْدَه … فكان خطؤه سببًا لطلب الرأفة فيه … ثمَّ هو من جهة ثانية … لم يكن يقصد مولاي الأمير بالقتل … لأنه لم يكن يعرفه … بل هو كان يقصدني أنا … فالأمر يتعلق بي … من بعد إذن مولاي.
الأمير : ومن قال لكِ إنه لم يكن يقصدني!
إيميليا : هو الذي قال ذلك يا مولاي … فإنه إنما كان يقصد عاشقي أيًّا كان … ويقصدني!
الأمير : أتعرفين يا إيميليا؟!
إيميليا : ماذا يا مولاي؟!
الأمير : لو كان هذا الفتى يقصدني بنفسي … وأصابني فعلًا برصاصته … وجئتِ أنتِ إليَّ … وأنا على آخر رمقٍ في حياتي … وقُلْتِ لي اعفُ عن هذا القاتل … لعفوت عنه في الحال … ووقَّعْتُ على ورقة العفو عنه بدمائي! فكيف وهو لم يؤذِ أحدًا منَّا؟! وأنت القادمة في الشفاعة عنه! إذن أعفو عنه طَوْع أَمْرك … وأعفو عن كل مجرمٍ في البلاد إذا أردت … ولكن جُرْمه عظيم يا إيميليا … بل هو أعظم مما لو كان يريد قتلي!
إيميليا : ولماذا يا مولاي؟!
الأمير : لأنه كان يريد قَتْلَكِ أنت … أي يريد أن يقتل أعزَّ من روحي … وأغلا من دمي … وأَثْمَن من حياتي! فكيف تريدين أن أعفو عنه؟!
إيميليا : مولاي!
الأمير : ولكنني مع ذلك … لا أُخَيِّب سؤالك … ولا أُبْطِل شفاعتك … فأنت ملاك كريم … يتشفَّع لشيطان رجيم!
إيميليا : إذن … فقد أجبت سؤالي يا مولاي …
الأمير : ومن يقدر أن يعصي هذه العيون إذا أَمَرَتْ؟! ومن يرى هذا الجمال الباهر … ولا يعفو عن كل إساءة وذنب؟!
إيميليا : لا أقدر أن أقول لك شيئًا من عبارات شكري … لأن ذلك مما يضيق عنه لساني … كما ضاق بحبك جناني … فاسمح لِيَ الآن أن أرجع … فإن أهلي في انتظاري … وكلهم ينتظرون الجواب.
الأمير : أهكذا تذهبين سريعًا …
إيميليا : يا حبَّذا لو كان يمكنني البقاء …
الأمير : إن لم يكن ممكنًا الآن … فإنه سيمكن في هذا المساء … ولكن اصبري … فإنني أريد أن أعفو عنه أمامك.

الجزء الثالث

(الأمير يقرع الجرس فيدخل الخادم)
الأمير : نادِ كاتم أسراري … (يذهب) … ذلك ليعلم أنه يحيا بسببك … كما كنتِ ستموتين بسببه.
إيميليا : ما أكرم أخلاقك يا مولاي … (يدخل الكاتم.)
الأمير : أين البارون الذي كان يريد قتلي؟
كاتم : في سجن القصر …
الأمير : قُلْ لهم أن يُحْضِرُوه إليَّ (يخرج).
إذا عفوتُ فإن العفو منكِ أتي
وإن تَفَضَّلْتُ فالأفضال جدودكِ
أضحى فؤادي أسيرًا في هواك لذا
طوعًا لأمرك قد أَطْلَقْتُ أسراكِ
لا تحسبي أنَّ لي فضلًا بعفوك عن
هذا الأثيم فرَبُّ الفضل عيناكِ
غدت لحاظُكِ في قلبي مُحَكَّمة
وها رعايا بلادي من رعاياكِ

(يدخل الكاتم.)

كاتم : مولاي … قد أحضروا البارون …
الأمير : أدْخِلُوه إلى هنا … (يدخل البارون بين أيدي العسكر.)
البارون : من أرى؟! … يا ربي! … إيميليا أيضًا هنا؟!
الأمير : نعم … هي التي تسعى الآن في العفو عنك … كما سَعَيْتَ أنت في قَتْلها! فما الذي حَمَلَكَ على هذا الفعل؟!
البارون : لقد أخطأْتُ يا مولاي عن جهلٍ … فليكن عَفْوُكَ عن عقلٍ … وقد أَجْرَمْتُ عن غضبٍ وجنونٍ … فليكن صَفْحُكَ عن حلم.
الأمير : ماذا تريد أن أصنع بك؟
البارون :
عجِّل بقتلي فإن الموت أَيْسَرُ لي
من الحياة بلا حبٍّ ولا أملِ
أَذْنَبْتُ ذنبًا عظيمًا ليس تغفره
نفسي إذا أنت قد أضحيت تغفر لي
يكفي عذابي وتبكيت الضمير بما
أذنبْتُه فمماتي غافرٌ زللي
رفعْتُ كفي على مولاي منتقمًا
وكِدْتُ أقتلها جهلًا ولم أَسَلِ
عجِّل بقتلي كما عجَّلت في عملي
فإنما خُلِق الإنسان من عجلِ
الأمير : أنت تَطْلُب القتل لنفسك … وهي تطلب العفو عنك! فأيكما أَوْلى بإجابة طلبه!
إيميليا : الحكم لك يا مولاي … وأنت رب الأمر …
الأمير : بل الأمر لك يا سيدتي … وأنا أعفو عن البارون إجابةً لسؤالك … فما كُنْتُ لِأُخَيِّبَ لكِ سؤالًا … أنت حُرٌّ أيها البارون من الآن … فاذهب أسير فضلها.
البارون : أتعفو عني يا مولاي … تلك مكارم لم أكن أعهدها … ومروءة قَلَّمَا سمعْتُ بمثلها … فإذا كنت أنت تعفو عني … فأنا أعاقب نفسي … وإذا كنت تسمح لي بالبقاء … فأنا أقضي على ذاتي بالنفي والبعاد … حتى لا أَدَعَ مولاي يرى مُذنِبًا حَاوَلَ قَتْلَه … ولا أدعها ترى عدوًّا كاد يقتلها بلا ذنب ولا سبب.
الأمير : أتخرج من البلاد؟!
البارون : نعم يا مولاي … فذلك أولى من بقاءٍ تحت عماد الجريمة والقتل … وإذا كان مولاي شريفًا بالعفو عني … فأنا سأكون شريفًا أيضًا بالحكم على نفسي.
سأهجر أوطاني إلى أَرْضِ غربةٍ
لكي لا يراني عاذل ورقيبُ
أعيش بعيدًا في بلادٍ غريبةٍ
وأُقْضَى ولا يبكي عليَّ قَرِيبُ
أموت غريبًا إذ شئوني غرائبًا
فذنبي غريب والسَّمَاح غريبُ
عليكم سلام الله إن مِتُّ فاذكروا
شبابي وقولوا مات فهْو مصيبُ
وقولوا محبٌّ نازِحٌ عن حبيبة
فمات ولم يندب عليه حبيبُ
إيميليا : والآن … فهل يسمح لي مولاي بالانصراف …
الأمير : يعزُّ عليَّ فراقك …
إيميليا : ولكنني أذهب لأعود يا مولاي …
الأمير : نعم … وتعودين أميرة … مالكة على قصري وبلادي … كما أنت مالكة على جسمي وفؤادي (للكاتم): اذهب أيها الصديق مع السيدة إلى منزلها … ثمَّ ترجع لنتمَّ معًا مُعدَّات الزفاف (يدخل خادم).
خادم : مولاي … بالباب وزراء الدولة وكبرائها، ينتظرون الإذن العالي بالدخول … فقد تفضَّل مولاي ودعاهم للحضور في هذه الساعة.
الأمير (لنفسه) : نعم … نعم هذا موعدهم … فليدخلوا (يتوارى الخادم … ثمَّ يدخل الوزراء والكبراء ويتقدَّمهم الرئيس … يأمرهم بالجلوس).
الرئيس : قد صَدَرَ إلينا أَمْر الأمير المُعظَّم … بالمثول بين يديه … لاجتماعٍ غير عادي … فلعل في الأمر خيرًا يا مولاي!
الأمير : إنما دعوتكم لأمر أراه يسرُّكم كما يسرُّني (حركات استعداد لسماع أَمْر خطير). وذلك أنِّي بعد التفكير الطويل … واتِّكالي على معونة الله وإلهامه … قد عَزَمْتُ على أن أَقْتَرِنَ بامرأة … جامعة للصفات الكريمة والشمائل الحميدة … تكون عونًا لي على القيام بالأعباء، التي أراد الله أن أتحمَّلها، في سبيل خير الوطن والأمن.
الرئيس : إننا أيها الأمير العظيم … مستبشرون كل الاستبشار … بما تفضَّلتم وذكرتموه لنا … وطالما تمنَّيناه … ليكون للإمارة وارث يَرِثُها … كما يرث النبل والشرف والاستقامة والفضل عن أبيه … بعد عُمرٍ طويل ومُلكٍ سعيد.
الأمير : وقد رأيت … أنَّ أَفْضَلَ ما يكون الزواج لمثلي … بأن أنظر فيه أوَّلًا إلى ما يعود بالسعادة على الأمة … ثمَّ بالسعادة عليَّ … ولذلك خالفْتُ المألوف … ولم أَتَخَيَّرْ أميرة أجنبية لتكون أهلًا لي … ولا شك أن الأميرات الأجنبيات … أقل انعطافًا نحو الرعية، وأضعف ارتباطًا بها من إحدى خواتين البلاد … بل آثرت فتاة من بيت عريق في الفخار … نعرف كلنا ما اتَّصف به ذووه أبًا عن جدٍّ من الصفات الحميدة.
الرئيس : قد أحسن مولاي بنظره هذا … وحكومة سموه توافقه على هذه الخطة الجديدة … التي تدل أحسن دلالة … على حبِّ الأمير الصادق لبني جنسه المخلصين له.
الأمير : إنِّي شاكر لحكومتي دوام حُسْنِ ظنِّها بي … ورجائي أن أكون وإياها دائمًا أبدًا موفَّقين … لما فيه رضى الله وسرور الناس … أما السيِّدة التي اختَرْتُها شريكة لي في ملكي وحياتي وبيتي … فهي السيِّدة إيميليا ابنة الدون فيليب (الوزراء كل بدوره):
الرئيس : أهنِّئكم يا مولاي … ونعم القرينة الفاضلة …
أحدهم : أحسنتم يا مولاي … هنَّأكما الله …
كبير الأعيان : أسأل الله أن يوفِّق مولاي وقرينته الكريمة … ويمنُّ عليها بطول العمر والرفاء والبنين.
الأمير : أكرر شكري لكم أيها الوزراء الكرام … وأبشِّركم أننا سننتقل من هنا إلى منزل العروس … حيث أُعِدَّ كل شيءٍ لحفلة الزفاف … وقد أَمَرْتُ بتمام الأمر على هذه السرعة … ليتسنَّى لي السفر متنكِّرًا بضعة أيام … قبل أن يجيء موعد الأعمال السنوية الكبيرة … التي تقتضي وجودي في عاصمة بلادي.
الرئيس : نحن متأهِّبون لإجابة دعوة مولانا الأمير … أيَّده الله (يخرجون جميعًا).

منظر ثان

(بيت العروس أبو إيميليا وأمها وجمهور ينشدون)
هذا زمان الصفاء أَقْبَلْ
وأُنْسُنَا بالهنا تَكَمَّلْ
فهاتها للندمانْ
على سماع الألحانْ
ما بين آسٍ وبانْ
واعطف غصون القدودْ
من كل ظبي شرودْ
مولع بالصدودْ
وقم وجدِّد لنا المؤملْ
فليس وقْتُ السرور يُهْمَلْ

(عند انتهاء هذا الإنشاد يكون الأب والأم متقدِّمين جهة الناس، فيتخاطبان):

الدون فيليب : الحمد لله يا شريكة حياتي وقرة عيني … على ما أتمَّ به لنا الهناء والصفاء … ورَفَعَنَا به إلى أَوْج السعادة والسيادة … ويزيد سروري أن جميع الناس … مشاركون لنا في الأفراح … لا ينظر أحدهم إلى النعمة التي نلناها بعين الحسد.
الدونا فيليب امرأته : إنِّي أحمد الله على ذلك كثيرًا … ومثلك يا سيدي من الآباء الكرام والرجال العظام … يحق له أن يصاهره الملوك … عرفانًا لقدره وقرارًا بطيب فرعه وأصله.
الدون (مبتسمًا) : إنكِ أيتها العزيزة تُنْشِئِينَ لي قصيدة مَدْح وثناء.
الدونا : لا، بل يجوز لي أن أقول لك مرة، في أسعد فرص العمر، ما طالما صنته في ضميري، صون البخيل لكنزه الثمين.
الدون فيليب : واسمحي لي في هذه الفرصة الجميلة … أن أقول لك … إن أول يوم سعدت فيه، سعادة ملك بمُلكٍ يناله، وكان يوم قبولك أن تكوني حليلة … وكلما تمثَّلْتُ الهناء الذي تمتَّعنا به إلى الآن … سألت الله أن يتمَّه لنا كما افتتحه … على أن فرط السرور يخيف … (يدخل الخادم) مولانا الأمير ووزراؤه وقواده وكبراء حاشيته … (يصطف الجمهور، ويتقدم الأب والأم مسرعين نحو الباب، فينحنيان له ويصافحهما، ثمَّ يدخل الأمير وينشد الجمهور ما يأتي مكرَّرًا):
عقد الله راية الفخْرِ
لأمير البلادْ
وتجلَّت مَكَامِنُ البِشْرِ
في سماء الفؤادْ
شمس حُسْن زُفَّت إلى بدرِ
فبَلَغْنَا المرادْ
رَبِّ زِدْهُ قدرًا على قدرِ
وأَبْقِهِ للبلادْ

(بعد هذا الإنشاد، يكون قد انتظم المجلس، فيقول الأمير مخاطبًا الدونا فيليب):

الأمير : إنِّي أيتها السيدة الفاضلة … أشكر الله على النعم العظيمة … التي منَّ بها عليَّ … ولكن أعظم شكري له … على ما منحني من القربى إليك … على يد ملاك كريم … ويا حبَّذا لو استطعت أن أجعل قرينتي سعيدة … كما استطاع الدون فيليب (يلتفت إليه مبتسِمًا) أن يجعلك سعيدة.
الدونا : إن ابنتنا يا مولاي تقترن منك … بأميرٍ محبٍّ شريفٍ … وأنت تقترن منها … بعبدة مطيعة محبَّة … يكون همُّها إرضاؤك … وشغلها في الحياة مشاركتك في المتاعب لتخفيفها عنك … وأقصى أمانينا نحن الشيخين … اللذين اكْفَهَرَّ لنا وَجْه الزمان … أن يبتسم لكما وجهه … عن أنوار المجد والصفاء.
الدون فيليب : قد أَقْبَلَتْ عروسك يا مولاي … لتتفضَّلْ بتقديمها لعبيدك الماثلين هنا (يتقدم الأمير لاستقبالها، ويُنْشِد المنشدون حتى تصل إلى كرسيها، ويقوم لها الأمراء، فينحنون أمامها واحدًا واحدًا في خلال الإنشاد، ثمَّ ينصرفون إلى مجالسهم).
هذا شبيه القمر
قد سفر
يعشقه القلب والنظر
تجلَّت له وتجلَّى
فكان لنا
مطلع النيرين
يا أميرة الحسان يا سلافة النديم
بورك القِرَان بورك النعم

(يهبط الستار، والأمير متجه إلى الأميرة، كأنه يخاطبها في خلال الإنشاد.)

(تمت بحمده تعالى)

يوم الاربعاء ٢٣ أغسطس سنة ١٨٩٩.

السيد محمد الأزهري

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤