مقدمة

لا شيء البتة يهيمن على وعي الإنسان وعلى أحاسيسه، على عقله وعلى مشاعره معًا مثل الزمان، وهذا منذ عصور الأساطير الألفية؛ حيث تترى أحداث الأسطورة عبر آلاف الأعوام الذهبية،١ حتى عصرنا هذا الذي تجاوز المللي ثانية، والميكرو ثانية (واحد على مليون من الثانية) إلى النانو (واحد على بليون من الثانية)، البيكو والفمتو (واحد على مليون بليون) حتى الأتو (واحد على بليون بليون) وهي أصغر وحدة حاليًّا ولن تكون الأخيرة. وفي الوقت نفسه تمضي المحاولات العلمية الدءوبة لتقدير عمر الكون وكياناته، فتشتبك مع أحقاب تُقدَّر ببلايين السنوات … ثم يعلو على هذا وذاك إحساس الوجدان النابض بوقع الليالي ومضي الأعوام، والبحث التواق عن آفاق الأبدية السرمدية.

فهل الزمان في كل هذا عملاق يستوعب الوجود والعقل جميعًا، أم أنه ليس هناك شيء اسمه الزمان أصلًا وأنه مجرد إطار تصوري ابتدعه عقل الإنسان لينظم إدراكه للأحداث؟

إذا عُنِيَ القارئ الكريم بتحديد موقفه من هذا السؤال، فسوف تصحبه الصفحات القادمة في رحلة عبر أقطاب العقل البشري لترسيم معالم مفهوم الزمان، ربما بدا الفصل الأول الموجز فاتحة مباغتة إلى حد ما لأنه قصير جدًّا ومكثف وقد لا يبدو سهلًا، ومع هذا فإن كل ما يقصده أن الزمان والمكان — وليس الوجود — هما الإطار العام والفكرة المبدئية التي تجعل هذا الكون منتظمًا قابلًا للتعقل. ثم تتوالى الفصول بعده أكثر سلاسة وأقرب إلى القارئ العام لتوضح تميز الزمان عن المكان، ثم إمكانية تعقب مفهوم الزمان عبر تياري العقلانية واللاعقلانية، وأن هذا التناول يستبعد الخلط بين الأبدية وبين اللاتناهي.

تبدأ الرحلة ببدايات الفلسفة اليونانية مرورًا بالعصور الوسطى والتصورات الإسلامية والمسيحية على السواء، فيكون لقاء مع تيارات صوفية ثم حدسية ورومانتيكية ووجودية … وبالطبع يستوقفنا بتفصيل أكثر من سواه الزمان العقلاني المقاس أو المقيس، منذ أرسطو وشارحه الأعظم ابن رشد حتى زمان نيوتن المطلق؛ لينتهي بنا المطاف مع مضامين لزمان آينشتاين النسبي.

ونرجو أن يكون الإطار الذي رسمناه ضامًّا لجميع هذه العناصر وسواها في كل متآزر ومتكامل، له شيء من السداد، وبه شيء من الفائدة.

وعلى الله قصد السبيل …

١  هذا الكتاب في أصله هو بحث منشور في: مجلة ألف، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد التاسع، ١٩٨٩، ص ص٨–٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤