الفصل السادس

الزمَان العقْلاني

لم يكن أرسطو فيلسوفًا ومؤسسًا للميتافيزيقا فحسب، بل كان أيضًا — وبنفس الدرجة — عالمًا فيزيقيًّا طبيعيًّا تجريبيًّا، ولأقصى حد تسمح به ثقافته التي دأبت على تمجيد النظر وتحقير العمل. وكانت عنايته بالشواهد والعينات التجريبية — حتى أوصى قواد تلميذه الإسكندر أن يجلبوها معهم من البلدان التي يفتحونها، كيما تكتمل بحوثه في النبات والأحياء — إرهاصًا بأصوليات منهج العلم التجريبي.

هذه النزعة العلمية التجريبية جعلت زمان أرسطو هو الزمان العقلاني الموضوعي الكوزمولوجي الفلكي، فصحيح أنه قال: بغير النفس الإنسانية لن يكون هناك زمان، بل حركة غير محدودة وغير معدودة، وقال أيضًا إن الوعي بالزمان لن يتم بغير تغير الحالات النفسية، ولكن يمكن اعتبار هذا شبيهًا بما يُسمَّى بالمثالية العلمية المعاصرة، والتي تخلقت بين نفر من العلماء، حين أصبح العلم الذري المعاصر يرسم صورة للكون مخالفة تمامًا لصورته في الحس المشترك. فالواقع أن أرسطو ألغى الزمان اللاعقلاني إلغاءً تامًّا من فلسفته، وتمادى في التصور العقلاني له حتى جعل الأبدية مجرد الامتداد اللانهائي له، رافضًا رأي أفلاطون الحصيف في الفصل بينهما؛ أي وقع في الخلط بين اللامتناهي الكمي واللامتناهي الكيفي. وكما أوضحنا لم يكن لهذه المشكلة حل قبل تطور الرياضيات البحتة، وظهور حساب اللامتناهي.

والواقع أن الخلاف بين أفلاطون وأرسطو حول الأبدية، يعود لرفض أرسطو لفكرة العالم المخلوق، أو العالم الذي شكَّله الصانع الأفلاطوني. وكما أشرنا، رأى أفلاطون أن الزمان مخلوق مع العالم، ولكنه لم ينشغل البتة بتوقيت عملية الخلق المفترضة؛ لأنها ليست حدثًا من النوع الذي يمكن الاستدلال على تاريخه مما يبدو من آثاره اللاحقة. وإذا كان لا بد وأن نؤرخها فلنقل إنها منذ تسعة آلاف عام مَضَتْ، فهذا في تقدير أفلاطون الفترة التي انقضت على ما ترويه الأقاصيص المتواترة عن القدماء بشأن الصراع الذي حدث بين الأثينيين وبين رجال أطلنطيس. ومع هذا، نجد أفلاطون في مواضع عديدة يستبعد تمامًا السؤال عن تاريخ الخلق، بوصفه سؤالًا أبله بغير معنى، أما أرسطو فقد رفض بدء الزمان وبدء العالم، من حيث رفض فكرة الخلق. بتعبير الإسلاميين قال إن العالم قديم غير حادث والزمان قديم غير حادث، وأكد أن النظام الطبيعي أبدي ثابت، وليس له أية بداية زمنية في الماضي، ولا نهاية متوقعة في المستقبل، ولم ينظر أبدًا إلى السؤال: متى بدأ العالم؟ بل، كيف؟ ولماذا انتظم على هذا النحو؟ وأكد أن أية فكرة عن بداية كل الأشياء لن تساعدنا، بل ولا يوجد ما يدعو لافتراضها أصلًا. وبذلك انتهى أرسطو إلى أن الزمان بلا بداية ولا نهاية، لا متناهٍ، وأيضًا غير متسق مع فكرة لحظة الخلق، وأن هذه النتيجة الميتافيزيقية المنطقية تدعمها الملاحظة التجريبية، فنحن لا نلاحظ أية واقعة توحي بأن نظام الطبيعة ليس أبديًّا. وأخذ أرسطو على أفلاطون أنه جلب الزمان مع الخلق نفسه إلى الوجود في لحظة معينة؛ لذا لا بد وأن نسأل: ماذا كان قبلها؟ واعتمد أرسطو على حرفية نصوص في محاورة طيماوس ليخرج بأن الوجود عند أفلاطون حدث في آنٍ معين من آنات الزمان، رأينا أفلاطون يعجز عن تحديده بدقة، أو يتراجع عن هذا، وينتهي أرسطو إلى أن نظرة أفلاطون غير متسقة مع نفسها، ولكن تلاميذ أفلاطون رفضوا هذا التأويل الأرسطي، وذهبوا إلى أن عملية الخلق نوع من البناء العقلي، يفسر أسس النظام لا نقطة بدئه.١
وعلى أية حال، فإن العالم الأرسطي قديم خالد أزلي أبدي؛ ليغدو الزمان بدوره هكذا، «وكذلك الحركة الدائرية الموجودة فيه. وعلى أساس من أبدية الزمان والحركة، يثبت أرسطو وجود المحرك الذي لا يتحرك.»٢ أي: وجود الألوهية الأرسطية.

إن أرسطو يربط بين الزمان والحركة، ولعله يوحد بينهما حين يجعله متجددًا باستمرار وتبعًا لاستمرار تجددها. فهو لا يتصور زمانًا إلا زمان أحداث متحركة، وليس ثمة زمان فارغ كما أنه ليس ثمة مكان خلاء، وإن كان المكان محدودًا، بينما الزمان لا متناهيًا. ويستحيل أن نعرف الزمان إلا بواسطة الحركة؛ أي: عندما يقطع جسم متحرك مجموعة من النقاط فنحكم بمرور فترة زمنية بين النقطة التي كان فيها في آن معين من الزمان، والنقطة التي أصبح فيها في آن آخر من الزمان، ولا بد وأن يكون بين الآنين فترة زمانية، أو على الأقل لا بد وأن يكونا آنين مختلفين؛ لأن الجسم يستحيل أن يتواجد في نقطتين مكانيتين في آن واحد.

وعلى هذا يقدم أرسطو في السماع الطبيعي تعريفًا للزمان هو: «مقدار الحركة من جهة المتقدم والمتأخر.» وهو يشبه كثيرًا التعريف الذي قال به أرخوطاس الترنتي الفيثاغوري المعاصر لأفلاطون: «الزمان مقدار لحركة معلومة، وهو أيضًا المدة الخاصة بطبيعة الكون.»٣ ويقوم هذا التعريف على أن كل حركة في الكون لها علة أولى أو محرك أول، قال عنه أرسطو أنه غير متحرك.
على هذا النحو، أرسى أرسطو أولى أسس الزمان العقلاني بالربط بينه وبين الحركة الخارجية، ولكن ظهرت مشكلة، وهي أن ثمة أنواع كثيرة من الحركة، منها على أبسط الفروض الحركة البطيئة والحركة السريعة، بينما الزمان واحد ثابت مشترك بين جميع أنواع الحركات، وهو الذي يميز بينها ويحدد السريعة منها والبطيئة، إن «الزمان منتظم ولا راتب؛ لذا تُقاس به الحركة التي هي ليست بمنتظمة ولا راتبة.»٤ فكيف يُرَدُّ المنتظم إلى غير المنتظم؟ في الرد على هذا يمكن اتخاذ نوع معين من الحركة معيارًا ومقياسًا دالًّا على الزمان. فيقول أرسطو في السماع الطبيعي: «يبدو أن الزمان حركة الفلك، والواقع أن بقية الحركات تُقاس بهذه الحركة نفسها، والزمان هو الآخر مقتبس بها.»٥ ولكن الرواقيين وأفلوطين لاحظوا ما هو واضح الآن؛ أي: إن أرسطو وقع في دوران منطقي حين رأى أن الحركة هي مقياس الزمان، والزمان هو مقدار الحركة!
على أية حال، تظل ماهية الزمان عند أرسطو تتجدد باستمرار، تبعًا لاستمرار الحركة. فالزمان متصل بواسطة الآن، ويُقسَّم بحسبه بالقوة؛ أي إن الآن يصل الماضي بالمستقبل. فإذا قسمنا الزمان، فإن الآن بداية جزء ونهاية جزء، أو — بتعبير ابن رشد — الآن ما ليس يمكن أن يوجد لا مع الزمان الماضي ولا مع المستقبل، فهو ضرورة بعد الماضي وقبل المستقبل،٦ إن أرسطو يتوقف عند «الآن» — الحاضر اللحظي — ليعتبره وحدة الزمان. وهو كما رأيناه «الزمان الطبيعي، زمان الساعات المكون من آنات متوالية، كل آن منها يكون حاضرًا، والزمان تبعًا لهذا مكوَّن من حاضرات متوالية.»٧

•••

وكما هو معروف، هيمن أرسطو على الفكر البشري حتى مطالع العصر الحديث؛ لذا نراه حدَّد خطى الزمان العقلاني الخارجي طوال تاريخ الفلسفة القديمة والوسيطة. وكل الباحثين فيه — أو عنه — سلموا تسليمًا بما قاله أرسطو، واقتصر دورهم على الشرح والتعليق والمناقشة، وبالكثير على النقد والتعديل الجزئي.

ولكن العصور الوسطى كانت دينية، ارتهنت حدودها بظهور ونصرة الأديان السماوية؛ لذلك نجد المشكلة الهامة الوحيدة التي واجهت ذوي النزعة العقلانية والعلمية فيها بشأن الزمان الأرسطي إنما هي لا نهائيته، اعتمادًا على أن العالم غير مخلوق ولا حادث. فالبنية الثقافية للعصر، المصبوغة بالأديان السماوية، تقوم على التسليم بأن الكون مخلوق لله وحادث، ونفي اللانهائية عن الزمان وتأكيد حدوثة مع العالم — كما فعل أفلاطون وأوغسطين — توطيد لمُسَلَّمة خلق العالم وحدوثه. فقالوا في أبطال اللانهاية في الحدوث أقوالًا كثيرة، أوجزها: «وكما لا يجوز حدوث حادث قبل حادث لا إلى أول وإن تغير وتقضى، فكذلك لا يجوز أن يعتقد معتقد وجود ما لا يتناهى في بعض الحالات؛ لأن كل ما يدخل في الوجود لا بد من كونه متناهيًا منحصرًا.»٨

وقد عالجنا هذه المشكلة في «متاهات إشكالية الزمان» حين توقفنا عند المتاهة التي تتخلق عن السؤال: هل للزمان بداية؟ وأوضحنا كيف كان مجالًا لسلسلة طويلة من الأخذ والرد، تقوم على خلط والتباس أزلناه في حينه. ويهمنا الآن تتبع أهم خطوة لمسار الزمان العقلاني في العصور الوسطى.

وقد كان شارح أرسطو الكبير ابن رشد أعظم حملة لواء العقلانية في ذلك العصر، وتكفل بحل تلك المشكلة، على أساس أن العالم مخلوق فعلًا ولكن قديم. والزمان بدوره قديم لا متناهٍ، ولكن لا نهائيته لا تمس نعل الخلق، بل تؤكده. يقول ابن رشد:

أكثر من يقول بحدوث العالم يقول بحدوث الزمان معه، بالتالي يكون للزمان بداية ونهاية؛ لأن ما لا ابتداء له لا ينقضي ولا ينتهي أيضًا، ولكن يلزمهم أن يُقال لهم: حدوث الزمان هل كان يمكن فيه أن يكون طرفه الذي هو مبدؤه أبعد من الآن الذي نحن فيه: أو ليس يمكن ذلك؟ فإن قالوا: ليس يمكن ذلك، فقد جعلوا مقدارًا محدودًا لا يقدر الصانع أكثر منه، وهذا شنيع ومستحيل عندهم.

وإن قالوا: إنه يمكن أن يكون طرفه أبعد من الآن، من الطرف المخلوق، قيل: وهل يمكن في ذلك الطرف الثاني أن يكون طرف أبعد منه؟

فإن قالوا: نعم، ولا بد لهم من ذلك، قيل فها هنا إمكان حدوث مقادير من الزمان لا نهاية لها، ويلزمكم أن يكون انقضاؤها على قولكم، في الدورات شرطًا في حدوث المقدار الزماني الموجود منها.

وإن قلتم: إن ما لا نهاية له لا ينقضي، فما ألزمتم خصومكم في الدورات، ألزموكم في إمكان مقادير الأزمنة الحادثة.

فإن قيل: إن الفرق بينهما أن تلك الإمكانات غير المتناهية هي لمقادير لم تخرج إلى الفعل، وإمكان الدورات التي لا نهاية لها قد خرجت إلى العمل.

قيل: إمكانات الأشياء هي من الأمور اللازمة للأشياء سواء كانت متقدمة على الأشياء أو مع الأشياء، على ما يرى ذلك قوم.

فهي ضرورة بعدد الأشياء.

فإن كان يستحيل قبل وجود الدورة الحاضرة، وجود دورات لا نهاية لها، يستحيل وجود إمكانات دورات لا نهاية لها.

ألا آن لقائل أن يقول: إن الزمان محدود المقدار، أعني زمان العالم، فليس يمكن وجود زمان أكبر منه، ولا أصغر، كما يقول قوم في مقدار العالم؛ ولذلك أمثال هذه المقادير ليست برهانية، ولكن كان الأحفظ لمن يضع العالم محدثًا أن يضع الزمان محدود المقدار، ولا يضع الإمكان متقدمًا على الممكن، وأن يضع العظم كذلك متناهيًا، لكن العظم له كل، والزمان ليس له كل.٩

على هذا النحو العقلاني المحكم يثبت ابن رشد ما ارتآه أرسطو، من أن العالم قديم والزمان بدوره قديم، بلا بداية ولا نهاية لا متناهٍ. ولكنه لا تناهي الكمية الرياضي، وليس لا تناهي الكيفية الأبدي، فهو الزمان العقلاني، زمان العالم الطبيعي الخارجي، وقد أحرز درجة من سيطرة العقل عليه، أو من التقدم، مع ابن رشد.

•••

ولكن التقدم الجوهري، الجذري والحقيقي، في التناول العقلاني للزمان الطبيعي، إنما كان بحدوث التقدم الجوهري الجزري — إن لم نقل الميلاد الحقيقي — لتناول الطبيعة أصلًا؛ أي بنشأة الفيزياء الحديثة، متصدرة مسيرة العلم الحديث الظافرة.

نحن الآن بصدد الزمان الفيزيائي، إشكالية الزمان الطبيعي في قلب نسق الطبيعة علم الفيزياء. إنه الزمان العقلاني — حسب اتفاقنا ومصطلحاتنا — في أبعد نقطة له عن الزمان اللاعقلاني، في أدق صوره مقاسة ومقيسة، قابلة للتقسيم الرياضي والتكميم الكرونومتري الذي يزداد دقة يومًا بعد يوم حتى بلغ النانو ثانية والفمتو ثانية. إن الزمان الفيزيائي هو الزمان الطبيعي العقلاني في صورته العلمية؛ أي: أشد صورة يمتلكها العقل الإنساني دقة وإحكامًا، وهو يفوق الأزمنة جميعًا في ارتباطه بالمكان، فلا ينفصل البتة عنه.

ولما كان عالم الفيزياء مكونًا من الزمان والمكان والمادة، كان ثمة توازٍ وتلازم ضروري بين الفيزياء والزمان. فتخلَّق الزمان الفيزيائي بتخلُّق الفيزياء، ونما وتطور بنموها وتطورها، واكتمل باكتمالها — بنظرية نيوتن — وتأزم بتأزمها، وانقلب انقلابًا جوهريًّا حين انقلبت هي انقلابًا جوهريًّا بظهور النظرية النسبية، فقد مرت الفيزياء بمرحلتين؛ الأولى: هي المرحلة الكلاسيكية: وكانت نظرية نيوتن هي النظرية الفيزيائية العامة، والثانية: في القرن العشرين، حين أصبحت نظرية آينشتاين هي النظرية الفيزيائية العامة. وتبع هذا أن الزمان الفيزيائي بدوره قد مر بمرحلتين أو بتصورين؛ هما: الزمان المطلق مع نيوتن، والزمان النسبي مع آينشتاين. والفارق المحوري بينهما أن التصور المطلق يرد المادة إلى الزمان والمكان، بمعنى آخر يدرك المادة أو يتصورها من خلال مفهومَي الزمان والمكان، أما التصور النسبي فيفعل العكس؛ أي يدرك ويتصور الزمان والمكان من خلال المادة؛ لذلك فالتصور المطلق يجعل الزمان سابقًا على الخبرة، أما التصور النسبي فيجعله مشتقًّا منها. وفي النسبية الخاصة أثبت آينشتاين استحالة تصور الزمان المطلق، وفي النسبية العامة تعتمد بنية المتصل الزماني-المكاني على توزيع المادة في الكون، ولكن يمكن تصور انحناء هذا المتصل في حالة الغياب الكامل للمادة. والتصور النسبي بصفة مبدئية، يعتمد على أن الزمان والمكان لا يتضمنان داخلهما أية مقاييس داخلية، ولا بد من عنصر اصطلاحي.

على أية حال، يلزم الوقوف على الزمان الفيزيائي، منذ أن بدأ يتخلق بتخلق الفيزياء الحديثة. وقد ارتهن ميلاد علم الفيزياء، وبالتالي نسق العلم الحديث بأسره — وبسائر فروعه حتى النفس والاجتماع وما تلاهما — ارتهن هذا بالخروج عن الفرض البطلمي الذي أكدته فلسفات العصور الوسطى الدينية، القائل أن الأرض هي مركز الكون، والأجرام الأخرى تدور حولها. ففي عام ١٥٠٧ جاء الفلكي البولندي نيقولا كوبرنيقوس N. Copernicus (١٤٧٣–١٥٤٣) ليقول إن بطليموس ربما كان على خطأ؛ لأن نظامه يفشل في تفسير ظواهر عديدة، وإن فرض مركزية الشمس الذي سبق أن قال به أرسطارخوس الساموسي (٣١٠–٢٣٠ق.م)، أبسط وأنجح، وإذا أضفنا إليه فرضية أن الأرض تتحرك، فسوف نكون أقدر على تفسير الظواهر الفلكية. إنها الثورة الكوبرنيقية التي وضعت الشمس في مركز الكون — بدلًا من الأرض — فأحرزت الخطوة الأولى في طريق العلم الحديث الصاعد الواعد.
ثم كانت خطوة حاسمة مع يوهانس كبلر J. Kepler (١٥٧١–١٦٣٠) فقد وضع قوانين حركة الأجرام السماوية، وهي مداراتها الأهليلجية أو البيضاوية وليست الدائرية كما كانت البشرية تتصور طوال تاريخها، ووضع حسابات فلكية دقيقة لأزمنة الكواكب المختلفة، وتُوِّجَتْ جهوده بثلاثة قوانين مشهورة أَوْدَعَها كتابه «الفلك الجديد»؛ وهي:
  • (١)

    الأرض والكواكب كلها تدور حول الشمس في مدارات أهليلجية، تقع الشمس في إحدى بؤرتيها.

  • (٢)

    في ذلك الأهليلج تزيد مساحة القطع الذي يرسمه الخط الواصل بين الشمس والكواكب زيادة متناسبة تناسبًا طرديًّا مع الزمن. فالخط الذي يربط بين الشمس وأي كوكب يقطع في زمن معين المساحة الخاصة بالكوكب متناسبة مع الزمن ومستقلة عن موضع الكوكب في مداره.

  • (٣)
    بالنسبة لأي كوكبين، مربعا زمانهما الدوري، يتناسبان مع بعضهما بنفس النسبة بين مكعب متوسط المسافة بينهما وبين الشمس؛ أي إن نسبة مكعب نصف المحور الطولي للمدار إلى مربع زمن الدوران واحدة لجميع الكواكب.١٠
ثم كانت الخطوة التالية مع جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢) الذي مد نطاق القوانين الفيزيائية من فلك السماوات إلى الأرض، ووضع قوانين رياضية دقيقة تحكم الحركة على سطحها، أهمها قانون الأجسام الساقطة، الذي ينص على أن الجسم يسقط بسرعة تتزايد بانقضاء الزمن منذ أن بدأ يسقط، وهذا يعني أن الأجسام تسقط بعجلة acceleration ثابتة. فالسرعة تساوي العجلة مضروبة في الزمن (س = ع ن)، وسرعة الأجسام التي تقذف إلى أعلى عموديًّا تتناقص تبعًا لنفس القانون.

هكذا انتصف القرن السابع عشر وقد أحرز علم الطبيعة شوطًا طويلًا ورائعًا، بوضع قوانين للحركة الفلكية وقوانين للحركة الأرضية، لكنهما ظلَّا منفصلين. ونلاحظ أن رواد العلم حتى الآن، في قوانين الحركة الفلكية والأرضية على السواء، يستعملون مفهوم الزمان كما هو، ولم يُعْنَ أحد بتحديده، أو توضيح غموضه.

جاء إسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧) بطل أبطال الفيزياء والعلم الحديث طرًّا، ونشر في لندن عام ١٦٨٧ كتابه العظيم «الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية»، وفيه يضع فرض الجاذبية العام الذي يجمع بين النظامين الفلكي والأرضي في نسق واحد شامل للعلم بالطبيعة، ووضع قوانينه الثلاثة التي تحكم كُلَّ وأيَّةَ حركةٍ في هذا الكون؛ وهي:
  • (١)

    كل جسم يظل على حاله سكونًا أو حركة مطردة في خط مستقيم ما لم يؤثر عليه مؤثر خارجي، وهذا هو قانون «القصور الذاتي».

  • (٢)

    كل جسمين يتجاذبان طرديًّا مع مجموع كتلتيهما، وعكسيًّا مع مربع المسافة بينهما.

  • (٣)
    لكل فعل رد فعل، مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.١١
وقد انتبه نيوتن العملاق إلى أن الجسم الذي يتحرك بسرعة ثابتة في خط مستقيم من سطح الأرض، يصف مسارًا شديد التعقيد وبسرعات مختلفة، وكذلك الأمر إذا أخذنا الشمس في الاعتبار، فمن العبث إذن وضع مبدأ القصور الذاتي في صورته المطروحة، ما لم نحدد معيارنا لاستقامة الحركة، ومعيارنا لاطرادها؛ أي اطراد سرعتها أو تساوي فتراتها الزمانية. «وقد واجه نيوتن هذه الصعوبة عن طريق التسليم بكيانين واتخاذهما مصادرة؛ هما: المكان المطلق، والزمان المطلق.»١٢ وهو يقابل بينهما وبين المكان النسبي والزمان النسبي؛ أي المرتبط بأشياء معينة ويُحسَب بحركتها. وهذا الزمان النسبي يمثل المحك التجريبي المستعمل فعلًا في الحياة اليومية، بل وفي إجراءات البحث العلمي، ولكن نيوتن رآه زمانًا ظاهريًّا متغيرًا، لا يصلح أساسًا ثابتًا للنظرية الفيزيائية، فصاغ قانون القصور الذاتي في حدود الحركات التي تصف مسافات متساوية على طول خط مستقيم في المكان المطلق، خلال فترات متساوية في الزمان المطلق.
والزمان المطلق، كما عرفه نيوتن، زمان هو في ذاته ينساب باطراد، في اتجاه واحد إلى الأمام، أو من الماضي إلى المستقبل، وبغير أي اعتبار لأي عامل خارجي، ويتدفق Flow بصورة ثابتة متكافئة، مستقلًّا عن الأحداث المتزامنة فيه، وعن إدراك الحواس أو أية ذات عارفة له. ويناظره المكان المطلق، وهو مكان في طبيعته الذاتية وبغير اعتبار لأي عامل خارجي موجود وجودًا موضوعيًّا مستقلًّا عن أي ذات عارفة، ويظل دائمًا متماثلًا، وغير قابل للحركة أو التغير،١٣ ويمثل الزمان المطلق — مع المكان المطلق — أساسًا نظريًّا صلبًا صلدًا وثابتًا للعلم الفيزيائي، فهما تصوران معياريان، غير مشتقين من الخبرة بل سابقين على كل تجربة، ويشكلان مقياسًا ثابتًا ومحكًّا نهائيًّا، وترتيب الأحداث تبعًا للزمان المطلق، إلى سابق ولاحق ومتآنٍ، يغدو ترتيبًا مطلقًا ثابتًا لا يتغير، مهما كانت المسافة بين الأحداث أو موقع رصدها وملاحظتها أو السرعة الحركية … إلخ.
لقد اكتملت في كتاب نيوتن المذكور الصورة العامة لهذا الكون، بفضل الزمان والمكان المطلقين كخلفية مطلقة تتحرك فيها كل كتل المادة أو الأجسام، بنوعين من الحركة: مطلقة ونسبية، الحركة المطلقة هي انتقال الجسم من موضع إلى آخر في المكان المطلق، أما النسبية فهي تغير موضع جسم ما بالنسبة لجسم آخر، ويقابلها السكون الطلق والسكون النسبي؛ أي بقاء الجسم في موضعه من المكان المطلق، أو في موضعه بالنسبة لجسم آخر، وانتظمت الكتل والأجسام في كل متكامل؛ ليتشكل هذا الكون على هيئة آلة ميكانيكية ضخمة تحكمها الحتمية Determinism الصارمة. والحتمية تعني نظامًا شاملًا ثابتًا لا تخلف فيه ولا مصادفة ولا استثناء، كل حدث لا بد وأن يحدث بالضرورة ويستحيل ألا يحدث أو أن يحدث سواه، فثمة قوانين ميكانيكية دقيقة — دقة رياضية — تحكم هذا الكون، وتجعل أحداثه في صورة أشبه بالسلسلة المحكمة الحلقات، كل حلقة تلزم عن سابقتها وتفضي إلى لاحقتها، حتى إذا توصلنا إلى تلك القوانين وعرفنا تفاصيل حالة الكون في لحظة معينة، لاستطعنا أن نتنبأ يقينًا بتفاصيل حالته في أية لحظة لاحقة. وهذه الحتمية لها وجه آخر، هو العلية Causality، التي تضفي على الطبيعة انتظامها الحتمي.
والعلية بدورها مبدأ كوني يعني أن كل حادثة في الكون لها علة أحدثتها، ولكل علة معلول ينشأ عنها، فأحداث هذا الكون تسير في تسلسل عليٍّ، ليغدو التفسير العلمي هو ربط الحادث السابق بالحادث اللاحق من خلال قانون. وها هنا نلاحظ أهم ما في العلية، وهو أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا باتجاه الزمان Time’s arrow، فالعلة لا بد وأن تسبق المعلول زمانيًّا. «والحادثة الواقعة في الماضي لا تكون علة إلا لحادثة واقعة في مطلق المستقبل، والحادثة الواقعة في المستقبل لا تكون معلولًا إلا لعلة واقعة في مطلق الماضي.»١٤ الترتيب العلي يعكس الترتيب الزماني للكون، العلة والمعلول كلاهما أحداث، ومعيار التمييز بينهما هو التسلسل الزمني؛ وذلك لعدم قابلية الزمان والأحداث للرد أو الانعكاس كما سبق أن أوضحنا متمثلين بظواهر الديناميكا الحرارية. على هذا النحو، ترتبط العلاقة العلية بمفهوم الزمان المطلق؛ لتنحل — بوصفها أساس القانون الفيزيائي — إلى المادة متشيئة في صورة حادثين متتاليين في الزمان. هذه الحتمية العلية، بما تتضمنه من قوانين علمية عامة وضرورية وتنبؤ يقيني واطراد الطبيعة واستبعاد للمصادفة بتفسيرها تفسيرًا ذاتيًّا؛ أي بإرجاعها إلى جهل الذات العارفة المؤقت … هي فلسفة الميكانيكية الآلية التي سادت أيما سيادة، وتبوأت عرش التفكير العلمي في العصر الحديث … فالفيزياء الكلاسيكية تطبقها بحذافيرها، وأيقن الجميع أن نيوتن قد اكتشف حقيقة هذا الكون، وهو أنه آلة ميكانيكية تحكمها الحتمية العلية.

وكما هو معروف، أحرزت نظرية نيوتن نجاحًا باهرًا، عقليًّا وتجريبيًّا، نظريًّا وعمليًّا ولدرجة لم يحلم بها العقل البشري أبدًا. وبدا كل شيء تدركه الحواس وهو يُقدِّم فروض الطاعة لها ويصدق على يقينها، واكتملت بفضلها أطر العلم الطبيعي، الذي يحدد بدوره — نظرًا لعمومية الفيزياء وشموليتها وتربعها على قمة نسق العلوم الإخبارية — أطر نسق العلم ككل. وبفضل الأطر والمثاليات الميكانيكية الحتمية العلية التي أرساها نيوتن، توالت النشأة الناجحة لبقية فروع العلم الحيوية والإنسانية، وألقت النظرية النيوتونية ظلالًا كثيفة على بنية وعقلية العصر الحديث.

ومع هذا فإن جذوة العقل لا تخمد أبدًا، وتطلُّعه المشبوب للجدال والتساؤل المُلِح لا يشبع أبدًا، فقد أثارت فكرة الزمان والمكان المُطْلَقين نقاشًا وسِجالًا لا ينتهي؛ لأنهما كيانان غاية في التجريد والغموض والألغاز، ولا يقعان في نطاق الخبرة الحسية التجريبية، ولا أحد يستطيع أن يلاحظها. لقد أمعن نيوتن في تجريد الأساس النظري لفيزيائه؛ مما جعل الزمان المطلق مستقلًّا عن كل شيء، ولا تربطه أية علاقة بأي شيء خارجي، في حين أنه لا يوجد في الكون أي شيء مستقل عن كل شيء. ونيوتن لا يوضح — على الإطلاق — العلاقة التي تربط بين الزمان المُطْلَق وموضوعاته؛ لذا قِيلَ إن زمانه لا هو مقنع نظريًّا ولا هو مفيد تجريبيًّا، وإنه مجرد إمكانية منطقية، تصور عقلي فقط يهدر جانب التجريب الذي يمثل صلب الفيزياء، ولا غنى للجانب النظري عنه. وبنبرة شديدة القسوة والاستخفاف، يقول الفيلسوف الإنجليزي المعاصر، ومؤرخ الفلسفة المبدع روبن جورج كولنجوود إن نيوتن يميز بين الزمان المطلق الذي يتدفق بنسب ثابتة مستقلة عن أي عامل خارجي وبين الزمان النسبي المقاس بواسطة حركته؛ وذلك بغير أن يسأل نفسه ما إذا كان الزمانان منفصلين في الواقع، وكيف يمكن أن يتدفق أي شيء ما لم يكن هذا التدفق مقاسًا، كما ميز بين الحركة المطلقة والحركة النسبية وأيضًا بطريقة غير نقدية، والأصوب الحركة النسبية والزمان النسبي، وليس المُطْلَقين كما تصور نيوتن.١٥
على أن لواء الريادة الفلسفية لرفض التصور النيوتوني المطلق للزمان، إنما يحمله بغير منازع الفيلسوف الألماني جوتفريد فيلهلم ليبنتز G. W. Leibniz (١٦٤٦–١٧١٦). وهو من أهل الفكر الذين يجسدون روح المعرفة في عصرهم بكل توثباتها وطموحاتها، فهو سياسي ومؤرخ وقانوني ودبلوماسي ولاهوتي، ثم هو فيلسوف ذو قدح معلى وفي الآن نفسه عالم ذو قدح معلى خصوصًا في الرياضيات، والسجال ما زال دائرًا حول المؤسس الحقيقي لحساب التفاصيل والتكامل، أهو نيوتن أم ليبنتز؟ وعلى أية حال، توصل كل منهما إليه بطريقة مختلفة.
«وقد كان ليبنتز من هواة كتابة الرسائل، وتضيء قائمة مراسلاته أكثر من ستمائة اسم.»١٦ وثمة سلسلة خطابات كتبها في سنينه الأخيرة إلى دكتور صمويل كلارك S. Clarke أقوى المدافعين اللاهوتيين عن نيوتن والنيوتونية، وقد كتبها ليبنتز محاولًا فيها تفنيد نقاط أساسية معينة في فلسفة نيوتن للطبيعة، وأهمها طبيعة الزمان والمكان، فكان صاحب أقوى نقد فلسفي للتصور المطلق لهما، وصاحب أول صياغة فلسفية واضحة للنظرية البديلة؛ أي: النسبية. وعلى الرغم من أن مناقشات ليبنتز قد اكتست برداء لاهوتي، فإنها تصب في قلب فلسفة العلم توًّا. وقد انطلق رفضه للتصور المطلق للزمان والمكان من مبدأين هامين في فلسفته هما العلة الكافية وعدم التناقض.١٧
يقول ليبنتز: «تقوم معرفتنا العقلية على مبدأين كبيرين؛ مبدأ عدم التناقض: وبفضله نحكم بالكذب على كل ما ينطوي على تناقض، وبالصدق على ما يضاد الكذب أو يناقضه. كما تقوم على مبدأ السبب الكافي: وبه نسلم بأنه لا يمكن التثبت من صدق واقعة أو وجودها، ولا التثبت من صحة عبارة بغير أن يكون ثمة سبب كافٍ يجعلها على هذا النحو دون غيره، وإن تعذَّرَ علينا في أغلب الأحوال أن نتوصَّل إلى معرفة هذه الأسباب.»١٨ مبدأ عدم التناقض محك حقائق العقل، ومبدأ العلة الكافية محك حقائق الواقع، وبالتالي هو الذي سينفعنا بشأن إشكالية الزمان. ويرى ليبنتز أن الزمان والمكان سابقان منطقيًّا على المادة؛ لأنها يستحيل أن توجد بدونهما، ولكن نقاط المكان ولحظات الزمان لا يمكن إدراكها إلا بإدراك الأشياء والأحداث الواقعة في الزمان والمكان. وإذا كان الزمان مستقلًّا تمامًا عن الأحداث التي تحدث فيه كما يخبرنا التصور المطلق له، فسيبدو من المعقول تمامًا القول إن الكون خُلِقَ في لحظة سابقة أو لاحقة عن اللحظة التي خُلِق فيها فعلًا،١٩ وهذا ينقض مبدأ العلة الكافية، فيتوجب علينا رفض التصور المطلق بوصفه شيئًا غير حقيقي، والأخذ بالتصور النسبي الذي يجعل الزمان علاقات بين الأشياء، مجرد نظام لتوالي الأحداث، أو بتعبير أكثر انطباقًا على فلسفة ليبنتز: «الزمان ليس شيئًا إلا نظام تتابع المخلوقات. وليبنتز بهذا كان يرسم تخطيطًا معقولًا إذا تم تنفيذه بنجاح يمكنه إعطاء إجابة مرضية جدًّا عن السؤال: ما هو الزمان؟ ولكنه تخطيط يرد نسق الزمان إلى بنية منطقية أنشأها نسق التاريخ.»٢٠ والذي يهمنا الآن أن صمويل كلارك دافع عن الزمان والمكان المطلقين بأنهما ليسا جوهرين، بل خاصيتين لله ولعالمه المخلوق، المكان المطلق يعنى سعة الله وأنه بلا أول ولا آخر، والزمان المطلق يعني أبدية الله، وأنه بلا بداية ولا نهاية!٢١ إنه الخلط المزمن والمؤسف بين الزمان والأبدية، والذي كان قبل تطور الرياضيات.
وما دام الزمان المطلق قد التوى كل هذا الالتواء، واختلط إلى كل هذا الحد، فلا بد من اللياذ بالزمان النسبي مع آينشتاين الذي يندمج مع المكان ليصبحا كيانًا واحدًا هو المتصل الزماني-المكاني Spatiol-temporal الرباعي الأبعاد. أما في الفيزياء الكلاسيكية؛ فهما كيانان اثنان، صحيح مترابطان لكنهما متمايزان، حتى اختص المكان بالأشياء والزمان بالأحداث. فالزمان متصل ذو بعد واحد، خط مستقيم من الماضي إلى الحاضر، تُتخَذ كل أحداث الطبيعة موقعًا فيه؛ لتنتظم بفضل العلية انتظامًا موضوعيًّا مطلقًا. وبالنسبة لجميع الراصدين إلى سابق ولاحق، سوف يختفي كل هذا في زمان النسبية، أو نسبية الزمان.

•••

لقد جاءت نظرية النسبية لتحرز تقدمًا جوهريًّا، وتلبي ضرورة للتطور العلمي مع مطالع القرن العشرين، فقد تلاحقت أزمات النيوتونية، واتضح أن نجاحها الخفاق مقتصر على العالم الذي كان مدركًا آنذاك أي الكتل الماردة. وحين توغل العلم في بنية المادة بدأت المصاعب أولًا بدراسة ظواهر الديناميكا الحرارية وحركة جزيئات الغاز، والحركة الدائمة لجزيئات السوائل … كلها كشفت عن ظواهر وعلاقات فيزيائية تتأبى على الأطر الميكانيكية النيوتونية. ثم وصل الأمر إلى ما يُعرَف بأزمة الفيزياء الكلاسيكية، حين اقتحم العلم عالم الذرة والإشعاع؛ ليلقى عالمًا: المصادفة فيه موضوعية، والاحتمال منطقه، ولا علاقة له البتة بالضرورة والعلية واليقين واطراد الطبيعة … إلى آخر مثاليات الحتمية الميكانيكية. وفي ١٧ ديسمبر عام ١٩٠٠ وضع ماكس بلانك نظرية الكوانتم؛ لتكون أساس الفيزياء الذرية كجزيرة منعزلة عن نظرية نيوتن التي لا تجرؤ على الاقتراب من العالم الذري «الميكروكوزم»، فتصدع عرشها، وتراجعت لتقتصر على قوانين الحركة في العالم الأكبر «الماكروكوزم»، وكان لا بد من نظرية فيزيائية عامة تضع قوانين الحركة في العالمين معًا «الميكروكوزم» و«الماكروكوزم».

فكان أن حدثت كارثة الأثير، بتجربة ميكلسون/مورلي التي أثبتت أن الأثير لا وجود له البتة. والأثير هو وسط لا نهائي المرونة، افترضه العلماء ليملأ الفراغات فيفسروا بقية الظواهر — كالضوء والإشعاع — تفسيرًا ميكانيكيًّا، فلما انهار الأثير انهارت الآلة الميكانيكية الضخمة؛ أي: التصور الكلاسيكي للكون. فجاء آينشتاين ليضع نظرية تؤدي مهام نظرية نيوتن بصورة أكفأ، فتضع قوانين أدق للحركة، وتنطبق على العالمين الميكروكوزم والماكروكوزم. هذا شريطة التخلي عن التصور الميكانيكي، والتسليم بمصادرتين؛ هما: استبعاد فرض الأثير، وثبات سرعة الضوء بصورة مطلقة. فهي الشيء الوحيد المطلق في الكون النسبي.

جعلت النسبية الزمان بعدًا رابعًا للأبعاد الثلاثة التي لم يخطر ببال الفيزياء الكلاسيكية سواها: الطول، والعرض، والارتفاع. فحل متصل الفضاء الزماني-المكاني الرباعي الأبعاد محل الأثير. «ويُعَدُّ العالم الفيزيائي مينكوفسكي Minkowisky من رواد معالجة العالم ذي الأبعاد الأربعة. وأوضح كيف يمكن تطويق المطلق بالعود إلى أصله الرباعي وأن نبحثه بعمق أكثر.»٢٢ وقد نقض آينشتاين المطلق النيوتوني، في أول صياغة لقانون النسبية عام ١٩٠٥، حين أعلن أن الطبيعة تجعل من المستحيل تعيين الحركة المطلقة عن طريق أية تجربة مهما كانت. والحق أن نيوتن نفسه قد أعرب عن استحالة تعيين الحركة المطلقة والسكون المطلق، فظلا في الواقع نسبيين — أي: بالنسبة للأرض التي تتحرك بالنسبة للشمس المطلقة. وفي هذا ألمعية فذة منه، ولكنه في النهاية لم يضع النسبية في اعتباره وأقام نظريته على الأساس المطلق كما رأينا، بينما عجز العلم عن إيجاد الجسم الذي افترضه نيوتن في حالة سكون مطلق، أو بالأصح أثبت استحالة وجوده، فالقمر متحرك بالنسبة للأرض، والأرض متحركة بالنسبة للشمس والمجموعات الكونية الأخرى متحركة، والكون كله في حركة دائبة؛٢٣ لذلك فالنسبية تعلم أنه لا يوجد في الكون كله مقياس معياري للطول أو الكتلة أو الزمان؛ لأنه سوف يتضمن الثبوت في مكان معين، وهذا شيء لا وجود له، والزمان الذي تحدده حركة الأجرام السماوية، وبعدها المتغير عنا نسبي غير منتظم، ولا يجري في جميع أنحاء الكون بالتساوي، فأين هو الزمان المطلق الذي تحدَّث عنه نيوتن؟

الواقع أن الزمان المطلق لا وجود له إلا في ذهن نيوتن وأشياعه. وأدى التحليل العلمي للزمان مع النسبية إلى تفسير له يختلف كل الاختلاف، فهو يطول أو يقصر حسب أمرين؛ الأول: هو السرعة، فيتباطأ الزمن كلما زادت السرعة. والأمر الثاني: هو الكتلة، وهذا ما بحثه آينشتاين في النسبية العامة على أساس أن الزمان يسير ببطء عند الكتل الكبيرة، فضلًا عن أن الكتلة ليست ثابتة إنما تزيد بزيادة السرعة بمقدار محدد تبعًا للقانون الثاني في النسبية الخاصة.

إن النظرية النسبية نسبية لأنها تدخل الذات العارفة كمتغير في معادلة الطبيعة؛ إذ تجعل موقع الراصد وسرعته معينات أساسية، والقائمون بالملاحظة الذين يتأملون السماء من كواكب مختلفة سوف يدرك كل منهم سماء مختلفة، كذلك يتحكم تأثير المكان في ساعاتهم بمعنى أجهزتهم للرصد، بحيث إن الوقت الذي يقرؤه كل منهم يختلف في اللحظة الواحدة، بل وإن كلًّا منهم يقدر مرور الزمن تبعًا لسرعة مختلفة، قد يكون مكان الملاحظ بالنسبة لنا هو الأرض في كل الأحوال، لكن الملاحظ المرتبط بالأرض لا يستطيع أن يجري نفس الأقيسة الفلكية التي يجريها بكوكب آخر، والنسبية تدرس كيف تؤثر حركتا هذين الملاحظين النسبية في ملاحظاتهما، ولم يكن هذا طريقة لا ذاتية فحسب، بل ولتحرز درجة هائلة من الموضوعية المدهشة، لكن غير المطلقة.

لقد تحطم وهم المطلق حين تحطم الزمان والمكان المطلقان المنفصلان، تحت وطأة المتصل الزماني-المكاني الرباعي الأبعاد؛ حيث نجد الزمان قد يصبح مكانًا، والمكان قد يصبح زمانًا. ولم تَعُد المسافة هي البعد بين نقطتين مكانيتين بحتتين، بل هي البعد بين نقطتين متحركتين أو حادثتين يفصل بينهما فترة زمانية، بالإضافة إلى الفترة المكانية، بحيث تأتي المسافة بجمع مربع الطول مع مربع العرض ثم مربع الارتفاع، ثم طرح مربع الفاصل الزمني من ذلك. وفي هذا يقول آينشتاين إنه يمكن تحديد المسافة ذات الأبعاد الأربعة بتعميم بسيط لنظرية فيثاغورث، وإن هذه المسافة تلعب دورًا أساسيًّا في العلاقات الفيزيائية بين الأحداث الكونية أهم من الدور الذي يلعبه الفاصل الزمني وحده،٢٤ وبالطبع لم تكن المسألة بهذه البساطة، بل أجرى آينشتاين من العلاقات الرياضية شديدة التعقيد ما يحافظ على طبيعة البعد الزماني، دامجًا المكان والزمان في وحدة واحدة ترسي القانون «إذا وقع حادثان في المكان نفسه لكن في لحظتين مختلفين من وجهة نظر مشاهد، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في مكانين مختلفين إذا نظر إليهما مشاهد في حالة حركية أخرى.» وعلى أساس تكافؤ الزمان والمكان الذي يجعل أحدهما دالًّا على الآخر يصح العكس، فإذا وقع حادثان في اللحظة نفسها، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في لحظتين مختلفتين إذا نظر إليهما مشاهد آخر في حالة حركية أخرى. وأيضًا إذا وقع حادثان في اللحظة نفسها من وجهة نظر مشاهد؛ فإن هذين الحادثين — من وجهة نظر مشاهد آخر في حالة حركية أخرى — يكونان منفصلين عن بعضهما بفترة زمانية معينة.٢٥

كل هذه المتغيرات المتحركة في تحديد الزمان، والتي تجعل حادثًا بعينه ماضيًا لمشاهد ومستقبلًا لمشاهد آخر، نجم عنها ما يُعرَف بالتآني؛ أي استحالة الحكم بأن حادثًا وقع قبل أو بعد الآخر، كما يُشترَط التحديد العلي للأحداث إلى علة سابقة ومعلول لاحق في خط الزمان الواحد المطلق. لقد تلاشت العلية، كما سبق أن تلاشت في الكوانتم، لكن النسبية تنفي أيضًا خاصية عدم قابلية الزمان والأحداث للارتداد؛ فالأحداث تُوجَد بحيث يمكن افتراض تتابعها الزماني في الاتجاه المعاكس، بحيث انتهى التسلسل الزماني الكلاسيكي، ومع النسبية أصبح الذهن البشري يستطيع إدراك نظم مختلفة للترتيب الزماني، النظام الكلاسيكي مجرد واحد منها.

ربما كان التوغل بإشكالية الزمان إلى كل هذا الحد، أكثر من أن نستطيع استيعابه بسهولة، فقوانين الديناميكا الحرارية غير القابلة للانعكاس، والظواهر التي تعكس اتجاهًا وترتيبًا زمانيًّا واضحًا، وأبسطها الفيلم السينمائي وآثار الأقدام على الرمال والحفريات … إلخ. كلها يمكن أن تهب دفاعًا عن الزمان غير القابل للارتداد والذي اغتالته النظرية النسبية. وقد تصدى لهذه المشكلة كثيرون، أهمهم هانز رايشنباخ الذي أسمى هذه الظواهر «أنساق فرعية» تنشأ عن ظروف أو شروط مبدئية معينة، وليس عن طبيعة القوانين الفيزيائية أو الزمان. إنها «أنظمة ثانوية» داخل النظام الكوزمولوجي الكوني الذي لا يعني البتة أن الزمان له اتجاه معين أو ترتيب أوحد، ويمكن أن نأخذ هذه الأنساق الفرعية مأخذًا برجماتيًّا؛ أي: نتصرف على أساسها بغير حاجة للدخول في النظريات الشديدة العمومية.٢٦

إن هذا يذكرنا بالفجوة الواسعة، إن لم نقل التناقض بين الصورة الكوزمولوجية التي يرسمها العلم المعاصر — علم النسبية والكوانتم — وبين الصورة الكوزمولوجية الكائنة في الحس المشترك — خبرة الإنسان العادي في الحياة اليومية — والتي كانت تتفق تمامًا مع الصورة الكوزمولوجية للعلم النيوتوني، بكتله المتحركة في زمان ومكان مطلقين ومنفصلين. إن الحس المشترك لا يستطيع الصعود إلى مستوى التجريد الذي بلغه زمان النسبية، فاشتهر عن قابليته للارتداد الزجل الشعبي:

كان هناك سيدة اسمها شوء
تسبق في سيرها الضوء
خرجت تقضي حاجة لها بالأمس
نالها في الطريق من النسبية مس
فعادت إلى بيتها أول أمس!٢٧
وكما يقول آرثر أدنجتون، إشكالية الزمان المثارة أمام العلم يلخصها سؤالان؛ الأول: ما هي الطبيعة الحقيقية للزمان؟ ثم ما هي طبيعة تلك الكمية التي وُضِعَتْ تحت اسم الزمان وأصبحت جزءًا أساسيًّا من بنية الفيزياء؟٢٨ النظرية النسبية لا تجيب عن السؤال الأول بصورة مباشرة؛ لأنها لا تقول أي شيء محدد من طبيعة الزمان في صلب ذاته وصميم ماهيته؛ فهي تتناول مقاييس الأشياء لا الأشياء ذاتها. ولكن النسبية وضعت حل السؤال الثاني، حين أوضحت أن الزمان الكلاسيكي مختلط بالمكان بصورة مضاربة وغير متسقة، ووضعت هي الصياغة السليمة لارتباطهما معًا، وهي بهذا فتحت الطريق أمام حل السؤال الأول، فثمة كمية غير مميزة في الفيزياء السابقة على النسبية، تمثل بصورة مباشرة جدًّا ذلك الزمان المعروف للوعي، وهو بلا ريب منفصل عن المكان ولا يشابهه، ولكن — كما يقول أدنجتون — اعتراض الحس المشترك على الخلط بين الزمان والمكان مجرد شعور لا بد من التغلب عليه، وتصور العالم بوصفه مكانًا ثلاثي الأبعاد يمر من لحظة إلى لحظة خلال الزمان، هو محاولة غير ناجحة للفصل بين الزمان والمكان. والحق أنه «قبل مجيء النظرية النسبية لم يتخيَّل أحد أن المكان والزمان متماثلان في طبيعتهما بما يكفي لإضفاء أهمية خاصة على ناتج إدماجهما، لكن ثبت أن مثل هذا الإدماج له أهمية مذهلة في تفهم الفيزياء.»٢٩ وطبعًا ليس ينقص الفيزياء موافقة الحس المشترك الفج الغشوم، وتصديقه على تصورها للزمان — صلب عالمها.

•••

ولكن الفلسفة هي المنشأ وهي المآل، منها البدء وإليها العود، بها الإرهاص وفيها رجع الصدى. وبعد أن تمهد للعلم سرعان ما تبلور خطاه الجوهرية نحو الحقيقة بآيات التفلسف. وكما وَجَد زمانُ نيوتن المطلق مَنْ يفلسفونه ويقيمون عليه وله مذاهب فلسفية من الأبنية الشوامخ، أهمها مذهب كانط النقدي الذي جعل الزمان والمكان المطلقين صورتين قبليتين في العقل ليتلقى على أساسهما الخبرة، وَجَد زمانُ آينشتاين النسبي أيضًا من يقيمون له أبنية فلسفية أكثر شموخًا وأكثر عمقًا، بطبيعة الحال الذي يفرضه التقدم المجبول في بنية العلم.

اهتم معظم فلاسفة العلم اهتمامًا فائقًا بزمان النسبية، لكن لعل الفيلسوف الإنجليزي عالم الرياضة الفذ والمنطقي ألفرد نورث وايتهد A. N. Whitehead (١٨٦١–١٩٤٧) أكثر من أمعنوا في الانطلاق به كموضوع للتفلسف، وليس فقط كمقولة منتمية للعلم. عالجه في أكثر من موضع، أهمها فصل «الزمان» في كتابه «مفهوم الطبيعة».٣٠
وكما سبق أن قال ليبنتز، يقول وايتهد إنه بدون أحداث لا يوجد زمان ولا مكان، إنه يربط الزمان بالأحداث ويجعلها أساس تعريفه؛ لذلك يرفض طبعًا زمان نيوتن المطلق، ويزعم أيضًا أنه يرفض زمان آينشتاين. والواقع أنه يأخذ به مع تعديلات فلسفية بسيطة، فعلى أساس من نظرة وايتهد العضوية للطبيعة والعلاقات الداخلية التي تحكمها، يقول بالمتصل الزماني-المكاني، وهو بناء ضروري موضوعي من العلاقات الداخلية، بناء ثابت مطرد لا يتأثر بما يطرأ على الموضوعات من تغيرات. وهذا البناء هو علاقة الامتداد بين أحداث الطبيعة، التي تعبر عن عملية Process الطبيعة أو صيرورتها. هذا الامتداد هو عينة الزمان، والحوادث «المميزة» فعلًا هي الحاضر، والحوادث «القابلة للتمييز» هي الماضي والمستقبل، ومن علاقتهما بالحاضر؛ أي من علاقة الحوادث «القابلة للتمييز» بالحوادث «المميزة» يتشكل نسيج Texture الزمان،٣١ وأيضًا نسيج الطبيعة، فهي بدورها المجموع الكلي للأحداث المميزة والقابلة للتمييز، تمامًا كما أدخلت النسبية متغيرات الذات العارفة — من حيث مواقعها وسرعات رصدها — في تعيينات الطبيعة، يفعل وايتهد ويجعل الحد بين ما تميزه الذات العارفة فعلًا وما هو قابل فقط للتمييز بالنسبة لها فواصل في تعريف الزمان، وتحديده إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، وينطبق هذا على الطبيعة بأسرها، بطبيعة حال المتصل الزماني-المكاني.
على أن المعطى المباشر للوعي الحسي Sense-awareness ليس اللحظة غير القابلة للإدراك شأن نقطة المكان، بل هي الفترة ذات السُّمْك المعين، والتي تعني الحاضر وامتداد ما في الماضي والمستقبل. والحوادث المرتبطة بعلاقة تآنٍ هي التي تُحدِّد مضمون الفترة، وعندما نجرد الفترة من مضمونها من الحوادث المتآنية معها، وننظر إلى الفترة في حد ذاتها، وبوصفها علاقة زمانية تربط بين الحوادث، بهذا نصل إلى المفهوم أو التصور العقلي لها. وعلاقة التآني هي علاقة التصاحب المكاني بين الحادثة المدركة والفترة المناظرة لها. هكذا نجد الزمان حدًّا للمكان، فالحاضر الراهن بحوادثه المميزة فعلًا أساس التحديد المكاني للطبيعة، أما الماضي والمستقبل فهما التحديد الزماني لها. باختصار مبسط — نرجوه غير مُخِلٍّ — الحاضر هو المكان، والماضي والمستقبل هما الزمان، ومنهما معًا الطبيعة أو تيار أحداثها. هكذا نجد الزمان والمكان حقيقة واحدة ترتبط بأشكال مختلفة مع الوعي الحسي، الحوادث المستقبلة «القابلة للتمييز» زمان، لكن حين يئون زمانها أمام الذات المدركة وتغدو مميزة؛ أي حين تصبح حاضرًا سوف تصبح أيضًا مكانًا. هكذا يتحول الزمان دائمًا إلى مكان، ووايتهد يقول إنه يفلسف ما أتت به النسبية من توحيد بين الزمان والمكان وإدماجهما معًا، ولكننا نراه في حقيقة الأمر لا يدمجهما معًا وكأنهما ندَّان، بل فقط يدمج المكان في تيار الزمان ويرده إليه. في حين تميل النسبية إلى العكس، وهو إدماج الزمان في المكان، فالزمان بُعْد رابع لأبعاد المكان الثلاثة.

يقول وايتهد إن نظريته الفلسفية في الزمان، انعكاس واستجابة للنظرية النسبية، ولكننا نرى استجابته لتطورات الفيزياء المعاصرة أشمل، فالكوانتم أساس آخر ينضم إلى النسبية ليمثلا معًا أساس الفيزياء، والكوانتم في حد ذاتها لا تتدخل بصورة مباشرة في إشكالية الزمان من حيث هو تصور عام لنظام من أنظمة الكون. لكن الفيزياء الكلاسيكية كانت ترى المكان مجال كتل المادة والزمان مجال الأحداث، ومع الكوانتم — وخصوصًا بعد نشأة ونجاح الميكانيكا الموجية البارعة مع العالم الفرنسي الفذ لويس دي بروي — تلاشت كتل المادة الساذجة، وارتدت إلى إشعاعات من مركز، إلى ما يمكن أن نسميه سلسلة من الأحداث. وعندما يرتد كل شيء إلى أحداث، يسهل أن يرتد المكان إلى الزمان، كما حدث مع وايتهد وغيره من فلاسفة العلم المعاصرين.

•••

هكذا تكشف تطورات العلم المعاصر من كل صوب وحدب عن مرونة وفعالية وتجديدات جذرية في معالجة إشكالية الزمان، فأصبحت موضوعًا خصيبًا لإنجازات وإبداعات فلاسفة العلم المعاصرين.

وستظل كل إشكالية مطروحة أمام العقل الإنساني موضوعًا للإنجاز والإبداع والإضافة والتجديد، ما دام هذا العقل كائنًا في الزمان، والذي اتفقنا على أنه مجال الحركة والتغير والحدث، شريطة ألا يكون زمانًا دائريًّا بل متصلًا صاعدًا.

فهل من صعود؟

١  Toulmin & Goodfield, The discovery of Time, p. 43.
٢  أميرة مطر، «الفلسفة اليونانية»، ص٣١١.
٣  عبد الرحمن بدوي، «الزمان الوجودي»، ص٤٨-٤٩.
٤  المرجع السابق، ص٩٠.
٥  نقلًا عن المرجع السابق، ص٩٠.
٦  مراد وهبة، «المعجم الفلسفي»، ص٤٨.
٧  عبد الرحمن بدوي، «الزمان الوجودي»، ص٧٣.
٨  الحسن بن متويه النجراني، «التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض»، تحقيق سامي نصر لطف الله وفيصل بدير عون، تصدير إبراهيم مدكور، (القاهرة: دار الثقافة للطباعة والنشر، ١٩٧٥)، ص٩٧.
٩  القاضي أبو الوليد محمد بن رشد، «تهافت التهافت»، القسم الأول، تحقيق سليمان دنيا، (القاهرة: دار المعارف، الطبعة الثانية، ١٩٦٩)، ص١٠٠–١٠٢.
١٠  C. D. Broad, Ethics and history of philosophy, (London: Routledge and Kegan Paul, 1952), p. 18.
١١  Penguin Dictionary of Science, p. 258.
ويمكن العودة لكتابنا «العلم والاغتراب والحرية» لتتبع نمو الفيزياء وتطورها من كوبرنيقوس إلى نيوتون بتفصيل أكثر في ص ١٦٨ : ١٩٠.
١٢  C. D. Broad Scientific Thought, p. 20.
١٣  جيمس جينز، «الفيزياء والفلسفة»، الترجمة العربية ص٨٣.
١٤  A. Eddington, the nature of the physical world, p. 295.
١٥  R. G. Collingwood, the Idea of nature, (Oxford: Clarendon Press, 2d, ed, 1945), pp. 108-109.
١٦  جوتفريد فيلهلم ليبنتز، «المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي»، نقلها إلى العربية وقدَّم لها وعلَّق عليها عبد الغفار مكاوي، (القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ١٩٧٨)، من مقدمة بقلم المترجم، ص٢٣-٢٤.
١٧  C. D. Broad, «Leibniz’s Last Controversy with the Newtonians», in R.S. Wollhouse (ed.), Leibniz: Metaphysics and philosophy of Science, (Oxford: Oxford University Press, 1981.) p. 57.
١٨  جوتفريد فيلهلم ليبنتز، «المونادولوجيا»، الترجمة العربية، ص١٤٣.
١٩  C. D. Broad, «Leibniz’s Last Controversy with Newtonian p. 160.
٢٠  W. H. Newton Smith, the Structure of Time, p. 6.
٢١  C. D. Broad, «Leibniz’s Last Controversy’s, pp. 160-161.
٢٢  A. Eddington, The Nature of the physical World, p. 53.
٢٣  James Jeans, The Mysterious Universe, Cam-bridge: Cambridge University press, 1933), pp. 14-15.
٢٤  جورج جاموف، واحد … اثنين … ثلاثة … لا نهاية، ترجمة إسماعيل حقي، مراجعة محمد مرسي أحمد، (القاهرة، النهضة المصرية، ١٩٦٨)، ص١٠٩.
٢٥  عبد الرحيم بدر، «الكون الأحدب: قصة نظرية النسبية»، (بيروت: دار العلم للملايين، الطبعة الثانية، ١٩٦٦)، ص١٨٨-١٨٩.
٢٦  Hans Reichenbach, The Philosophy of Space and Time, (New York: Dover Publications, 1958).
٢٧  جيمس أ. كولمان، «النسبية في متناول الجميع»، ترجمه رمسيس شحاتة، مراجعة فهمي إبراهيم ميخائيل، (القاهرة: دار المعارف، ١٩٦٩)، ص٦٠.
٢٨  A. Eddington, The Nature of the physical World, p. 37.
٢٩  جيمس جينز، «الفيزياء والفلسفة»، الترجمة العربية ص٩٢.
٣٠  Alfred North Whitehead, Concept of Nature, (Cambridge: Cambridge University Press, 1919, reprinted 1978), pp. 49–73.
٣١  المرجع السابق، ص٧٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤