أثر الروس والمحافظين في المفاوضات

قبل افتتاح المفاوضات ببضعة أيام وصلت إلي رسالة بالشفرة من عمرو باشا سفير مصر بلندن، جاء فيها: «طلب إلى مستر بيفن أن أقابله في الحادية عشرة من صباح اليوم (١٩ أبريل) بوزارة الخارجية، وابتدرني قائلًا إنه أتى من الريف خصيصًا ليتحدث إلي، وأعرب عن رغبته الجدية في أن تبدأ المحادثات في القاهرة بداية حسنة، ويرى في هذا ما يبرر دعوته إياي من الريف في يوم عطلة عامة، فأجبته قائلًا: «إني وأنا في بكهام كنت على استعداد للمساعدة بكل ما في وسعي …» وعندئذ بدأ بيفن يتحدث عن الصعاب الجمة التي تواجهه، وأقلها على سبيل المثال مؤتمر باريس (مؤتمر وزراء الخارجية) الذي سيعقد قريبًا، ثم مجلس الأمم المتحدة، إلى الأعباء الأخرى التي يضطلع بها، ثم قال: إنه لا يرغب أن يخفي قلقه من جراء مسلك روسيا مما شهدناه في الأسابيع القليلة الأخيرة، وما يمكن أن يلخص في الكلمات الآتية «شراهة الروس في احتكار البترول، وحرصهم على السيطرة». وأسر إلى مستر بيفن قائلًا: إن سفير تركيا زاره أمس، وأعرب له عن القلق العظيم الذي يساور تركيا أيضًا في هذا الشأن: وهذا نص ما طلب إلى مستر بيفن أن أنقله إلى الحكومة المصرية:

يقول وزير الخارجية البريطانية إنه يحرص على أن تبدأ المفاوضات في جو صالح من الصداقة، ويرى أنه يجب أن تُبحث علاقاتنا في المستقبل على أساس أننا ندَّان مستقلان، وفي هذا الجو يجب أن تُدرس صداقاتنا المستقبلة التي نرجو أن تتناول مسألتين؛ الأولى: التحالف، والثانية: التعاون المشترك للمحافظة على الأمن في الشرق الأوسط …

ثم قال:

وإن لنا حقوقًا بمقتضى معاهدة سنة ١٩٣٦ قد ننزل عنها إزاء التدبير الواسع المدى الذي وصفته آنفًا، والذي يتعين أن تشتمل عليه المعاهدة الجديدة، فإذا كان لنا أن نعمل معًا في نظام أوسع نطاقًا للشرق الأوسط كان من الضروري أن يكون لنا مركز نستطيع به أن ننفذ هذا التدبير، وأن نحافظ عليه … وهذا المركز يشترط فيه أن يكون في أكثر الأمكنة ملاءمة للقيام بالتزاماتنا المشتركة في شئون الدفاع.

ووزير الخارجية شديد الاهتمام بأن يسود منذ البداية جو من الود المكين، بين وفدين متساويين مهما تقم في سبيلهما من العقبات الوقتية، وإنه ليدرك أن أية صعوبة قد تنشأ في أثناء المحادثة بسبب طرف آخر، يحاول الاصطياد في الماء العكر، فإنها تستغل فورًا؛ ولذلك فإن من مصلحتنا أن نتجنب بأي ثمن حدوث مثل ذلك في الوقت الحاضر …

وهنا انتهت كلمات مستر بيفن، وقد أخبرته أني سررت لإثارته هذه النقطة؛ لأنه من جانب الحكومة المصرية قد فعلنا كل ما في وسعنا لخلق علاقة ودية، وتهيئة جو صالح مما أكد لي أهميته، بيد أني بعد أن قرأت في الصحف الإنجليزية التصريح، الذي يدعو إلى الذهول — ذلك التصريح المعزو إلى الحاكم العام للسودان — لا أستطيع أن أرى أن مثل هذه الملاحظات، التي أبداها أشخاص مسئولون أو نسبت إليهم، من شأنها خلق الأثر المطلوب الذي يرغب مستر بيفن في وجوده.

فرد مستر بيفن قائلًا: إنه لم تصدر منه للحاكم العام تعليمات بأن يفضي بهذا التصريح، الذي لم يحط به علمًا، ثم استدعى فورًا مستر «هاو» وكيل الخارجية المساعد، الذي أعرب بدوره عن جهله التام بهذا التصريح … وطلب مستر بيفن من «هاو» أن يحقق في هذا الأمر، وأن يأمر كل من يعنيهم هذا الشأن أن يلتزموا الصمت، وإن كان هناك داعٍ لأي تصريح، فإن مستر بيفن وحده هو الذي سيدلي به.

هذا هو نص رسالة عمرو باشا، وما تضمنته من آراء ورغبات لوزير الخارجية البريطانية؛ كي تسير المفاوضات في جو صالح للوصول إلى اتفاق مرضٍ بين مصر وبريطانيا كأمتين متساويتين، لهما مصالح مشتركة.

أما تصريح حاكم السودان العام المشار إليه، فهو الذي أدلى به في ١٧ أبريل سنة ١٩٤٦ عند افتتاح المجلس الاستشاري، ويتلخص في «أن الحكومة السودانية معنية بإقامة الحكم الذاتي في السودان بقصد الوصول إلى الاستقلال، وأنها ألفت لجنة من الموظفين البريطانيين والسودانيين لبحث مشروعات السودنة، وأن هذه الحكومة تهدف إلى سودان حر مستقل يستطيع أن يحدد بنفسه نوع علاقاته مع بريطانيا ومصر، وأنه واثق من أن فترة عشرين سنة تكفي السودانيين؛ للوصول إلى ذلك بمعاونة عدد من الخبراء من غير السودانيين.»

ذلك تصريح الحاكم العام ونحن على أبواب المفاوضات، وقد رددت عليه في حينه بأن الحكومة المصرية لا تتقيد به، وأنه لا يعبر عن رأي مصر في مسألة السودان، وقد نفاه مستر بيفن كما رأيت في رسالة عمرو باشا، وأكد أنه يجهله ولا يعبر عن رأيه.

على أن هذا التصريح إن هو إلا المعبر الصادق عن حقيقة السياسة، التي كان حكام السودان من البريطانيين يعملون على اتباعها؛ أي سياسة الفصل بين البلدين، وقد ظهرت آثارها في شتى المناسبات، وأخيرًا عند ظهور نتائج مفاوضات «صدقي – بيفن»، إذ طالبوا بحق السودان في الاستقلال عن مصر، مما كان محل الأخذ والرد الذي انتهى بضياع آثار الاتفاق.

المفاوضات الرسمية

اتفق الوفدان المصري والبريطاني على أن تُفتتح المفاوضات الرسمية في الساعة الثانية عشرة ظهر يوم الخميس ٩ مايو سنة ١٩٤٦، وكنت مع اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني قد قطعنا شوطًا كبيرًا في المحادثات التمهيدية، التي أشار بها مستر بيفن لذليل بعض الصعوبات. وقد كان للبيان الذي أعلنه الوفد البريطاني قبل المفاوضات عن الجلاء التام — ونُشر في الفصل الماضي «بالمصور» — أبلغ الأثر في تهيئة جو صالح، وافتتاح سعيد.

وفي الموعد المحدد من ذلك اليوم التاريخي — يوم افتتاح المفاوضات — اجتمع الوفدان في وزارة الخارجية المصرية، وألقيت كلمة الوفد المصري التي أسجلها هنا للتاريخ وللأهمية في هذه المذكرات:

عزيزي اللورد، سادتي

لي الشرف العظيم — كرئيس للحكومة ولوفد المفاوضات المصري — أن أرحب بكم بيننا، وهو شرف سيكون من أغلى وأبقى ما أعتز به في حياتي العملية الطويلة.

وإنه لمن حظي الكبير بصفتي المفاوض المصري الأول، أنني خلال محادثاتي التمهيدية مع الممثلين الممتازين للبلد العظيم صديقنا وحليفنا؛ وجدت في متناول يدي تلك الأفكار الجديدة، التي ولدتها الحرب الأخيرة، والتي كفلت قدسيتها الروح الجديدة المنبعثة في الشعوب، أعني بذلك المبدأ المسلَّم به من العالم أجمع من أن يكون كل شعب سيدًا في بلده، وأن حق الأفراد والشعوب على السواء في الحرية ينبغي أن يوضع في الكفالة الاجتماعية لمجموعة الأمم، وقد قربت الحرب من أقدارها، ونسقت غاياتها.

وتحت لواء هذا الاتفاق في المبادئ استطاع ممثلو مصر، والمملكة المتحدة في محادثاتهم الأولى أن يتقابلوا في ميدان، يجب أن يتحقق فيه الاتفاق بغير كبير عناء، ولقد قبلت حكومة المملكة المتحدة فعلًا، كما أُعلن ذلك في البيان الذي نشره الوفد البريطاني أن تسحب من الأراضي المصرية جميع قواتها البحرية والبرية والجوية، وصرحت فوق هذا أن سياستها ترمي إلى أن تبرم مع مصر محالفة على غرار المحالفات، التي تُعقد بين أمتين متساويتين لهما مصالح مشتركة.

وإنه لأمر يتعلق بكم أيها السادة أن تشيدوا بناءكم فوق هذه الأسس، وإني لكبير الأمل في أن نتيجة محادثاتكم، إذ تحدوكم — سواء أكنتم من هذا الجانب أم ذلك — الرغبة الصادقة في أن تعملوا على إكمال استقلال وطننا العزيز، ذلك الاستقلال الذي يعد احترامه الكامل شرطًا أساسيًّا لصداقة دائمة مثمرة.

وأود أن أقول لزملائي المصريين قبل أن أختتم هذه الكلمة: إنهم سيجدون في صديقي لورد ستانسجيت وسير رونالد كامبل — اللذين كان لي شرف الاشتراك معهما في مناقشات طويلة شاقة — إدراكًا يمتاز بالوضوح، وتقدير الحقائق لموقف كل من البلدين ومصالحهما، وإني لعلى ثقة من أننا واصلون بذلك إلى أسعد النتائج.

وعلى أثر إلقائي هذه الكلمة، وقف اللورد ستانسجيت، وألقى كلمة الوفد البريطاني، فقال:

إني مدين بالشكر لدولتكم على حفاوتكم الودية بنا في هذا الاجتماع الرسمي الأول لوفدي المفاوضات الإنجليزي والمصري، وأود أن أنتهز هذه الفرصة لأعبر عن امتناني أنا وزملائي، الذين حضروا معي من بريطانيا لما قوبلنا به في كل مكان من حفاوة لا حد لها وحسن ضيافة، وذلك منذ وصولنا إلى بلادكم من أربعة أسابيع.

ولقد كنت على الدوام أفخر بأن أعد نفسي كما أنا الآن الصديق الوفي لمصر … وأنه ليشرفني أن أترأس الوفد البريطاني في هذه المحادثات الهامة، التي هي بلا شك مؤذنة بعهد جديد من الاستقرار والتناسق في العلاقات البريطانية المصرية، وإنه لمن دواعي الفخر أن نستطيع بحث هذه المسائل العظيمة مع وفد ممتاز رفيع القدر كوفدكم.

ولا شك أننا جميعًا نأسف على أن المستر بيفن لا يستطيع أن يكون في هذه الآونة بيننا ليأخذ مكانه على رأس الوفد البريطاني، ولكنكم تقدرون ما يقع على عاتقه من مسئوليات جسيمة أخرى في لندن وباريس.

إن المحادثات غير الرسمية التي تبادلناها وإياكم؛ تمهيدًا لهذا الاجتماع الرسمي الأول كانت كما ذكرتم دولتكم يسودها الود وحسن التفاهم، وكان هذا مصدر غبطة كبرى للحكومة البريطانية …

وقد أعلنا على الملأ اقتراحنا للحكومة المصرية أن نسحب من الأراضي المصرية جميع القوات البحرية والبرية والجوية البريطانية.

يبقى علينا أن نصفي الماضي، وذلك بأن نضع برنامجًا لهذا الانسحاب، وأن نتفق على الترتيبات اللازمة لجعل استمرار تحالفنا مثمرًا — وهذا بالنسبة للمستقبل أمر ذو أهمية قصوى.

وإني لعلى ثقة بأن هذه الأمور يمكن حلها، بل إني واثق من أنها ستحل بما يرضي الطرفين، وأن روابط الصداقة والمصلحة المشتركة الوثيقة التي تربط بلادينا ستبقى وتزداد قوة في السنوات المقبلة، وذلك على أساس معاهدة جديدة قوامها هذه المحادثات، وإننا لندعم اليوم حلفًا عسكريًّا جلب لنا النصر باتحاد صادق بين قلوبنا.

مشروع بريطاني أولي

بدأنا مفاوضاتنا في هذا الجو الصالح الذي كان يسوده التفاهم، وقطعت المفاوضات شوطًا بعيدًا، ولعل أكبر دليل على تقدمها استدعاء مستر «بيكيت» الخبير البريطاني المتخصص في كتابة المعاهدات لوضع النصوص القانونية … وقد سارت المباحثات سيرًا حسنًا، فاقتنع الوفد الإنجليزي والحكومة الإنجليزية بالعدول عن مطالبهما بشأن قاعدة حربية دائمة في مصر، وعدلوا عن إنشاء مطارات في الأراضي المصرية، وعن أن يحتفظوا بالإسكندرية كقاعدة حربية، ودارت محادثات في مسألة السودان، وفي مدة المحالفة وفي مركز السفير البريطاني، كان الطرفان يلتقيان في هذه المسائل.

ثم وضع الوفد المصري مشروعًا للمعاهدة الجديدة في ١٩ مايو، سيأتي نصه في آخر هذا المقال … وقد درسه الوفد البريطاني ثم رفضه، وعلمت أن هذا المشروع كان في نظره كأنه وثيقة تسليم بلا قيد ولا شرط! ولم يمض يوم حتى رد الإنجليز بمشروع بريطاني لا يختلف كثيرًا عن معاهدة سنة ١٩٣٦ … وكنا قد بعثنا لهم قبل ذلك في ٢٥ مارس بمذكرة ضافية، أبنَّا فيها وجهة نظر المصريين في تلك المعاهدة بعد الأحداث، التي تعاقبت في خلال عشر سنوات ماضية، وقلبت الأوضاع الدولية رأسًا على عقب من الناحيتين السياسية والعسكرية، وقد أمضيت في ظروف طواها الزمن، ولم يبق سليمًا من أحكامها إلا مبدأ التحالف كما حددته المادة الرابعة.

figure
إسماعيل صدقي باشا يرأس أحد اجتماعات حزب الشعب الذي ألفه أثناء وزارته الأولي، وقد جلس إلي يمينه إبراهيم فهمي كريم باشا، وعبد الله الملوم باشا، وظهر خلفهما أحمد كامل باشا، وعبد الرحمن البيلي، ومن حولهم لفيف من أعضاء الحزب.
figure
إسماعيل صدقي باشا في طريقه إلي قبر الجندي المجهول في مدينة روما بعد زيارته للسنيور موسوليني.
figure
جلالة الملك فاروق يتوسط وفد المفاوضة سنة ١٩٤٦ … وقد وقف يمين جلالته إسماعيل صدقي باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا، ومحمد حسين هيكل باشا وإلى يسار جلالته شريف صبري باشا، وحسين سري باشا، وأحمد لطفي السيد باشا، ومكرم عبيد باشا، وعبد الفتاح يحيى باشا، وعلي الشمسي باشا.
ويتفق هذا المشروع البريطاني الجديد ومعاهدة سنة ١٩٣٦ في كثير من المسائل منها:
  • (١)

    أن تلتزم مصر بأن تضع تحت تصرف بريطانيا جميع التسهيلات والمساعدات، التي في وسعها في حالة خطر حرب داهم، أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها.

  • (٢)

    وأن يكون للقوات البريطانية في هذه الحالة المشار إليها كامل الحرية في دخول مصر والتنقل فيها، وأن تستخدم الموانئ والطرق والسكك الحديدية المصرية، وسائر وسائل المواصلات والاتصالات السلكية واللاسلكية.

  • (٣)

    وأن تتخذ الحكومة المصرية جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية، بما في ذلك إعلان الأحكام العرفية.

  • (٤)

    يقوم جلالة ملك مصر في وقت السلم بإنشاء وصيانة منشآت معينة، تكون ضرورية لخدمة قوات الحكومة البريطانية والحكومة المصرية.

وينص المشروع البريطاني فضلًا عن ذلك على أن تتسلم مصر الثكنات والمنشآت العسكرية، ولكن بشرط أن تبقى الأسلحة والمهمات التي ترى بريطانيا الاحتفاظ بها من أجل الطوارئ للمملكة المتحدة (إنجلترا)، وتتعهد مصر بالمحافظة عليها، بحيث تكون دائمًا في حالة جيدة، وبأن تفتح أبواب ثكناتها لخبراء إنجليز ترسلهم بريطانيا في أي وقت لاختبار هذه الأسلحة، والمهمات التي تعين مصر موظفين بريطانيين للمحافظة عليها؛ ولتدريب المصريين على استعمالها.

وقد كانت معاهدة سنة ١٩٣٦ مقصودًا بها حماية قناة السويس باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من مصر، وهو في نفس الوقت طريق عالمي للمواصلات بين الأجزاء المختلفة للإمبراطورية البريطانية … ولكن المشروع البريطاني رأى أن يكون التحالف في نطاق أوسع، فقد أشار إلى ضرورة استتباب السلام في البلاد المجاورة لمصر والشرق الأوسط، بمعنى فهم منه الجانب المصري أن المرغوب فيه هو إيجاد قاعدة في مصر تتولى فيها بريطانيا وقت العدوان حماية مصر والبلاد المجاورة، والشرق الأوسط.

ويستنتج من النص الإنجليزي أن أي عدوان يحدث في الشرق الأوسط — أي في إيران وفي تركيا أو حدود العراق أو غير ذلك — يجعل مصر تتحول أوتوماتيكيًّا إلى قاعدة حربية، ويكون من حق الحكومة البريطانية المطالبة بإعلان الأحكام العرفية، وإصدار التشريعات الاستثنائية لحماية ظهر قوات الحلفاء.

•••

وكانت مدة المحالفة في المشروع الذي قدمه الوفد المصري ١٥ عامًا، ولكن وجهة النظر الإنجليزية في بادئ الأمر كانت متجهة لأن تكون أبدية، ثم جاءت هذه المدة في المشروع البريطاني ٢٥ سنة من تاريخ بدء سريانها، وتظل بعد ذلك سارية إلى أن ينقضي عام على إعلان أحد الطرفين المتعاقدين للآخر بإنهائها بالطرق الدبلوماسية.

وقف المفاوضات

لم تلتقِ إذن وجهتا النظر المصرية والبريطانية في هذه المسائل المشار إليها في المشروع البريطاني الجديد، وتأكد لي ولزملائي أعضاء الوفد المصري بعد الاطلاع على هذا المشروع أن قبولنا له رجوع إلى الوراء، وتسليم ضمني ببقاء معاهدة سنة ١٩٣٦، ولما أصر الجانب البريطاني على موقفه، وتمسكه بكل صغيرة وكبيرة في مشروعه، أبلغت لورد ستانسجيت استحالة قبول المسائل الواردة في هذا المشروع، فوعدني باستشارة مستر بيفن، واتفقت معه على إصدار البيان الآتي يوم ٢٣ مايو سنة ١٩٤٦:

إن تبادل الآراء بين الوفدين قد أظهر أن هناك بعض المسائل، التي رأى الوفد البريطاني ضرورة الرجوع فيها إلى المستر بيفن … ويتطلب هذا بعض الوقت.

وجدت من ذلك أن هناك تغيرًا في روح المفاوضات، سواء تلك التي تجري هنا أم التي تجري في إنجلترا بين مستر بيفن وعمرو باشا، وأظهرت المرارة التي شملتني من هذه الأوضاع، ولاحظت منها الضغط الواقع على وزارة الخارجية البريطانية من رجال السياسة القديمة فيها، وفهمت أنه لن يستطيع الفوز بمساعدتي للوصول إلى النهاية، إلا إذا كانت هذه الروح تتقلص، والحق أن اللورد ستانسجيت في كل هذا كان يقوم بدور الوسيط المملوء بالعطف، وحسن الرغبة في الوصول إلى نتائج طيبة …

ونحن إذا كنا بعد ذلك قد عدنا إلى المفاوضات، فلم يكن ذلك اعتمادًا على ألفاظ بلا تعبيرات، بل بناء على التأكيد بأن هذه الروح لا بد أن يقضى عليها، غير أن مما يؤسف له أنها لم تزل باقية، وأنها كانت تظهر من وقت لآخر في تصرفات وزارة الخارجية البريطانية، ولم يكن يكسر من حدتها إلا وجود مستر بيفن في هذه الوزارة؛ وهي تلك الروح، التي أوجدت المصاعب أيضًا بعد إمضائي مع مستر بيفن الوثيقة المعروفة، ثم هي التي ترتب عليها فيما بعد قطع المفاوضات!

حزب المحافظين والمفاوضات

وقد كان من الصعوبات التي عانتها المفاوضات المصرية البريطانية موقف المحافظين منها، وقد كشفوا عن كوامن نياتهم نحو مصر باعتراضهم على مسلك حكومة العمال، إذ كانوا وما يزالون دعاة معاهدة سنة ١٩٣٦؛ تلك المعاهدة التي كان لها ما يبررها عند توقيعها؛ لأنها وليدة حالة سياسية وأخطار حربية تهدد مصر كما تهدد الإمبراطورية البريطانية، فكان مستساغًا أن تتخذ بسبب تلك الحالة ضمانات، ولكن المحافظين وهم يعلمون علم اليقين أن الخطر الناجم عن المحور قد زال إلى غير رجعة، ما زالوا يعملون على الاحتفاظ بمعاهدة سنة ١٩٣٦، إن لم تكن بنصها فبروحها، لا يبغون عنها حولًا؛ لأنهم رأوا فيها إلى جانب الأغراض الحربية ما يحقق السيطرة على مصر، والتدخل في شئونها، وهم مسوقون بنزعاتهم الاستعمارية المشهورة.

وليس منا من يجهل نيات بعض المحافظين، وآية ذلك موقف مستر تشرشل ومستر أيدن من إنحائهما باللائمة على حكومة العمال، كلما ورد على ألسنة رجالها ذكر «الجلاء»، ولديهما أنه كان يجب أن يكتفي بالجلاء عن المدن المصرية الكبرى فقط؛ حتى لا يتألم المصريون لرؤية الجنود المتغلغلين في أوساطهم، فهما وأمثالهما من رجال العهد القديم يظنون أن مصر تنظر إلى الأمور نظرة سطحية لا تدرك المعنويات! وقد قال مستر أيدن في خطاب له: إنه لم يسمع من محدثيه عند زيارته لمصر في غضون الحرب أية عبارة تشير إلى أن المعاهدة المبرمة سنة ١٩٣٦، تسيء إلى كرامة المصريين بأية حال، بل كان المصريون يعربون له عن ارتياحهم إلى هذه المعاهدة! فيا ليت شعري من هم أولئك المصريون، الذين أظهروا للمستر أيدن ارتياحهم للمعاهدة القائمة، التي إذا صح أنها لم تكن محل السخط أثناء الحرب، فإن المصريين ما كانوا لينظروا إليها إلا على أنها خطوة تتلوها خطوات في سبيل الاستقلال، حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها هبوا للمطالبة بأهدافهم كاملة، معتمدين بعد الله على حقهم الواضح وحجتهم القوية.

وإني لأربأ بوطنية القوم في بلدنا أن يكون من بين أولئك المحبذين لآثار معاهدة سنة ١٩٣٦، نفس السادة الذين قاموا في وجه «معاهدة صدقي – بيفن» لأنهم رأوها أقل من أن تحقق المثل العليا لما كانوا يبتغون لمصر …

وبينما مستر أيدن يصرح بما صرح به، إذا بمستر تشرشل يشيع الريب والظنون في مقدرتنا على التمسك بتعهداتنا، وهو الذي طالما امتدح لمصر موقفها الرائع في مساعدتها الحلفاء!

والواقع أن المحافظين لا يريدون جلاء؛ لأن في الجلاء فقدانًا لأداة السيطرة، وبسط السيادة، وهم لا يعنون بصداقة المصريين إلا بالقدر الذي لا يمس نفوذهم. وهم في سبيل محاربة قضية مصر يستعملون من العبارات ما هو غاية في الغلو والتطرف، إذ يقولون عن رغبة العمال في التعاقد مع مصر إن من شأن هذا التعاقد تعريض المصالح البريطانية للدمار!

أمل لم ينقطع

وعلى الرغم من حملة حزب المحافظين على وزير الخارجية البريطانية مستر بيفن، واعتراضهم على مسلكه، نراه يقف في مجلس العموم يصرح بأن من حق مصر، ومن حق بريطانيا معها في الحالة الجديدة التي أعقبت الحرب أن تصلا إلى حل سليم عادل، وأنه ليس من المألوف أن يكون الدفاع تبعة تلقى على كاهل دولة واحدة، بل الدفاع من حق الأمم متفاهمة متعاونة، وقد أصبح هذا إيمان الجميع، وليس من المألوف في العلاقات الدولية أن تبقى قوات أجنبية في بلاد شعوب أخرى، ويقول: «إن الأساليب المؤسسة على مثل ذلك قد أصبحت عتيقة بالية، وأنه يكون طيبًا إذا استطاع أعضاء مجلس العموم تحقيق ذلك … وأن مهمة رؤساء أركان الحرب أن ينفذوا ما تقرره الحكومة، وأن هناك بعض خلاف في الرأي، ولكن على الوزارة البريطانية أن تزن الأسباب بميزان البحث والتمحيص، ويجب عليها أن تتخذ القرارات السياسية، وأن تقبل التبعة الناجمة عنها.» ولقد كانت هذه العبارات التي أدلى بها مستر بيفن تنطوي على الشجاعة، وقد بعثت في نفسي التفاؤل والأمل وقتذاك؛ أولًا: لأن الشقة بيننا وبين البريطانيين قد ضاقت بسبب تفاهمنا في أكثر المسائل التي يعالجها الطرفان … وثانيًا: لأن روح حكومة العمال، وروح مستر بيفن بصفة خاصة، هي روح كنت أعتقد أنها ستؤدي في نهاية الأمر، ومهما طال جدلنا إلى الوصول إلى الغرض الذي يتوق كل منا إلى تحقيقه.

وقد صرح مستر بيفن في مناقشة له بمجلس العموم: «إن بريطانيا في سياستها بالشرق الأوسط كان عليها أن تختار إما القوة، وإما الصداقة، وإنها اختارت الصداقة.»

لذلك لم أقطع الأمل حين وقفت المفاوضات؛ لأنها لم تنقطع، ولأن هذه الروح كانت ما تزال سائدة، ولأنه مهما كانت رغبة العمال في التخلص من مهاجمة المحافظين لهم في مجلس العموم، فلن يصلوا إلى درجة نقض تعهداتهم والإخلال بمبادئهم؛ ولهذا لم تلبث أن استؤنفت المفاوضات فيما بعد.

المشروع المصري

وهذا هو نص المشروع المصري الذي رفضه الوفد البريطاني، وجاء ذكره في هذا الفصل من المذكرات:
  • المادة الأولى: في حالة الاعتداء المسلح الموجه ضد بريطانيا العظمى في البلاد المتاخمة لمصر، تتعهد هذه الأخيرة أن تبذل لها كل تأييد عسكري وغيره، وكل المعونة التي في وسعها، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة للمحافظة على السلم والأمن الدولتين.

    وفي حالة ما إذا تعرضت مصر لاعتداء مسلح تتعهد بريطانيا العظمى بأن تبذل لها كل تأييد عسكري وغيره، وكل المعونة التي في وسعها، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة للمحافظة على السلم والأمن الدوليين.

    وإذا كان الاعتداء الموجه ضد بريطانيا العظمى لم يقع في البلاد المتاخمة لمصر، فإن الطرفين الساميين المتعاقدين يتشاوران في الحال؛ للنظر في القيام بأي عمل مشترك، يريان أنه لازم للمحافظة على السلم.

  • نص آخر للمادة الأولى: في حالة الاعتداء المسلح الموجه ضد بريطانيا العظمى في البلاد المتاخمة لمصر، يتشاور الطرفان الساميان المتعاقدان في الحال للنظر في القيام بأي عمل مشترك، يريان أنه لازم للمحافظة على السلم.

    وفي حالة ما إذا تعرضت مصر لاعتداء مسلح تتعهد بريطانيا العظمى أن تبذل لها كل تأييد عسكري وغيره، وكل المعونة التي في وسعها، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة؛ للمحافظة على السلم والأمن الدوليين.

  • المادة الثانية: يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان أن لا يبرما تحالفًا، أو يشتركا في أي حلف موجه ضد أحدهما.
  • المادة الثالثة: لا يخل أي حكم من أحكام المعاهدة الحالية بالحقوق والالتزامات المترتبة، أو التي يمكن أن تترتب لأحد الطرفين الساميين المتعاقدين بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة، ولا أن يفسر أو يطبق على نحو لا يتفق مع أغراض ومبادئ الأمم المتحدة.
  • المادة الرابعة: اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان على أن أي خلاف ينشأ بينهما بصدد تطبيق أحكام المعاهدة الحالية، أو تفسيرها، ولا يتسنى لهما حله بمفاوضات مباشرة يسوى وفقًا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
  • المادة الخامسة: تلغي المعاهدة الحالية كل الاتفاقات القائمة، أو غيرها من الوثائق التي تتعارض مع أحكامها.
  • المادة السادسة: مدة المعاهدة الحالية هي خمس عشرة سنة من تاريخ تبادل التصديق عليها، فإذا لم ير أحد الطرفين الساميين المتعاقدين تجديدها، وأعلن الطرف الآخر بذلك قبل انقضاء تلك المدة باثني عشر شهرًا على الأقل، تعتبر مجددة تجديدًا ضمنيًّا لمدة خمس سنوات وهلم جرا.
  • المادة السابعة: يصدق على المعاهدة الحالية، التي تعتبر نصوصها الإنجليزية والعربية على السواء أصلًا لها، وتتبادل وثائق التصديق في أقرب وقت ممكن، ويبدأ تنفيذها مباشرة عقب تبادل وثائق التصديق عليها.

وتسجل المعاهدة الحالية في سكرتيرة هيئة الأمم المتحدة.

وإقرارًا بما تقدم، وقَّع المفوضون السابق ذكرهم هذه المعاهدة، ووضعوا أختامهم عليها.

بروتوكول

يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان بالدخول فورًا في مفاوضات؛ لتقرير نظام الحكم في السودان، وذلك في نطاق مصالح الأهالي السودانيين، وعلى أساس وحدة وادي النيل تحت تاج مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤