أميركا تدخل في الخلاف

انتهينا في الفصل الماضي إلى أن المفاوضات — وإن لم تكن قد قُطعت رسميًّا — إلا أنها كانت في حكم الموقوفة، وقبل الدخول في تفصيل ما جرى من المسائل بعد ذلك تحسن الإشارة إلى الروح، التي أملت على الوفد المصري النص الذي ترتب عليه وقف المفاوضات، فإن هذا النص لم يأتِ بسهولة، إذ كان هناك خلاف بين أعضاء هذا الوفد في وجهة النظر إلى نوع المساعدة، التي تقدمها مصر لبريطانيا الحليفة، فقد كان بعض حضرات الأعضاء يرى أن مصر لا يُطلب منها في هذه المحالفة القيام بإجراء عسكري من جانبها في مساعدة إنجلترا، بل تكون المساعدة مقصورة — كما كانت في الحرب الماضية — على مساعدات لا تعرض كيان البلاد، ولا أرواح سكانها للخطر، ولولا أن اللجنة السياسية في عهد المرحوم أحمد ماهر باشا كانت قد قررت بإجماع الآراء أنه لا بد من بقاء مصر حليفة لدولة كبرى، على الرغم من وجود هيئة الأمم المتحدة، لكان البعض — ولو أنه قليل العدد جدًّا — أميل إلى عدم الارتباط، والاكتفاء بالمفاوضة من أجل الجلاء، وسيادة مصر على السودان ووحدتهما … على أنه في نهاية الأمر تغلب الفريق القائل — كما كان منتظرًا — بأن المحالفة تقضي صونًا لكرامة مصر بظهورها في مظهر الند لإنجلترا، لا بمظهر التابع، ومن أجل ذلك يجب أن تتحمل جانبًا من الأعباء العسكرية، وقد رأى هذا الفريق وهو أغلبية الوفد المصري الساحقة، حلًّا وسطًا هو أن تكون مساعدة مصر لبريطانيا مقصورة في وقت الحرب على وقوع الاعتداء على البلاد المتاخمة لمصر، ويبرر ذلك أن البلاد المصرية تكون في هذه الحالة قد تعرضت للخطر …

وهذا النص هو الذي بقي حتى آخر المفاوضات، وقبله الوفد البريطاني.

محالفة دفاعية

وأحب هنا أن أشير إلى أن المحالفة، التي كنا نتفاوض فيها كانت من الوجهة العسكرية «دفاعية»، وليست «هجومية» كما شاء البعض أن يصفها، ولم يكن من شأنها دفع جيوش مصر إلى غير الأقطار المتاخمة، لا كما قيل وقتئذ من أن هذه الجيوش قد يطلب منها أن تدافع عن إنجلترا نفسها، أو عن مستعمراتها وتشتت في أقطار الأرض، وهي في حدود ميثاق الأمم المتحدة، ولم تتجاوز حدوده، ومدى الالتزام فيها مقصور على التعاون لدفع الاعتداء عن مصر، أو عن البلاد المتاخمة لها إذا اشتركت إنجلترا في حرب دفاعية عن هذه البلاد، وجلي أن المقصود بالبلاد المتاخمة لمصر في نص مشروع المعاهدة، إنما هي فلسطين وشرق الأردن وليبيا، ومركز إنجلترا في فلسطين، وشرق الأردن معروف باعتبار ما كان الأمر عليه في ذلك الحين، أما ليبيا فقد كانت على الاعتبار السابق في الوضع الدولي بمنجاة من الحروب العدوانية.

وهنا أقرر أن الإنجليز لم يتعرضوا لموضوع مدى التدخل العسكري لمصر، أثناء حرب تشهر على إنجلترا، كما هو الوضع في معاهدة سنة ١٩٣٦، ولكن هيئة المفاوضة رأت بحق أن هذا الوضع يجعل من مصر منطقة نفوذ بريطاني، وينفي فيما بين الدولتين فكرة التكافؤ والتعادل، الأمر الذي يقدح في استقلال البلاد، ويظهرها في مظهر البلاد الواقعة تحت نفوذ الغير، فتمسكت بأن تكون لمعاونة مصر دائرة تنتهي في حدود الأقطار المتاخمة، مما يتفق مع قدرتها الحالية كدولة مستقلة، فضلًا عن أن مصر يسرها، ولا شك، أن يتاح لها الدفاع عن أقطار شقيقة داخلة في الوحدة العربية، ومن المفاوضين الفضلاء من ذهب إلى إشراك البلاد العربية جميعًا في نطاق هذا الدفاع.

على أن هدفنا على الدوام من محالفة بريطانيا هو أن تكون محالفة الند للند، والعمل لهذه المحالفة إنما هو أساس السياسة المصرية، منذ كانت المفاوضات مع بريطانيا في أعقاب حرب سنة ١٩١٤، وقد استمر كذلك حتى أخذت به الهيئة السياسية في مداولاتها، وأخذ به وفد المفاوضات الرسمي … ولعلكم تذكرون أن مجلس الشيوخ تناول هذه المسألة بجلسة ٢٧ مايو سنة ١٩٤٦، وناقش الحكومة في اجتماع سري، فوضحت الحكومة سياستها، وهي عقد معاهدة ومحالفة مع بريطانيا على أساس الجلاء التام، على أن تعقبها مباشرة المفاوضة بشأن السودان، فأصدر المجلس القرار الآتي:

بعد سماع البيان الذي ألقاه دولة رئيس الحكومة، والمناقشات التي دارت حوله، يوافق المجلس على تقرير لجنة الخارجية بما تضمنه من تأييد المفاوضين المصريين، وتقرير سلامة موقفهم، والاطمئنان إلى ما قاموا به؛ لتحقيق إرادة الأمة وتمسكهم بالجلاء التام ووحدة وادي النيل.

تدخل أميركا في الخلاف

لما توقفت المفاوضات بين مصر وبريطانيا؛ بسبب مشروع المعاهدة الأولي الذي قدمه الوفد البريطاني إلى الوفد المصري في ١٩ مايو، وكان مشبعًا بروح معاهدة سنة ١٩٣٦ — كما بينا في الفصل السابق — طلب سعادة وزير أميركا في مصر مقابلة جلالة الملك، ولكن هذه المقابلة تعذرت في ذلك الوقت؛ بسبب غياب جلالته وعلمت من الوزير أنه يحمل رسالة من الرئيس ترومان عن طريق وزير الخارجية الأميركية؛ ليبلغها إلى جلالة الملك فاروق … وقد بعث إلى سعادة الوزير الأميركي المفوض بهذه الرسالة؛ لأرفعها إلى جلالته … وهذا هو نص تلك الرسالة التي أسمح لنفسي بالإفضاء بها، إذ قد سبق للجرائد أن خاضت في أمرها، ومن المصلحة للبلدين أن تعلم على حقيقتها:

عزيزي رئيس الوزراء

تلقيت أمس رسالة سرية شخصية من وزير الخارجية المستر جيمس بيرنز، يطلب إليَّ أن ألتمس مقابلة صاحب الجلالة الملك، وأن أفضي إلى جلالته بطريقة غير رسمية باهتمام حكومة الولايات المتحدة بكافة مسائل الدفاع عن الشرق الأوسط، وأمن البلاد العربية. أما وقد تعذر لجلالته استقبالي نظرًا لضيق الوقت وسفره، فقد أنبأني القصر أن جلالة الملك يرحب بأن أفضي برسالتي إليه كتابة.

ورغب وزير الخارجية إلي في أن أبلغ جلالته أنه نظرًا للصداقة، التي تشعر بها حكومتي نحو مصر وبريطانيا العظمى، واهتمامها البالغ برفاهية كل شعوب الشرق الأوسط، فهي تتابع عن كثب تقدم المفاوضات بين بريطانيا ومصر، وأن حكومتي وهي تعبر عن رغبتها في نجاح هذه المفاوضات، تأمل أنه ما زال ممكنًا أن تنتهي بطريقة تكفل لمصر الضمانات المرضية لسيادتها التامة، دون أن تخاطر في سبيل ذلك بالقضاء على أمن الشرق الأوسط، أو تضعف الدفاع عن هذه المنطقة ضد اعتداء محتمل الوقوع.

هذا وقد أبلغتني حكومتي في هذا الشأن أن أوضح بجلاء أن الولايات المتحدة، تعتبر أمن الشرق الأوسط كله مسألة ذات أهمية أساسية بالنسبة لأمنها خاصة.

وفي الختام كُلفت أن أنهي لدولتكم أن حكومتي مقتنعة بأن الحكومة البريطانية الحالية، ترغب رغبة صادقة في الوصول إلى حل لمسألة أمن الشرق الأوسط حلًّا، يمكن البلاد الواقعة في تلك المنطقة من التمتع باستقلال غير مقيد؛ استقلال لا يفضي في نفس الوقت إلى خلق موقف، من شأنه أن يشجع وقوع اعتداء من الخارج.

وإني أرجو دولتكم أن ترفعوا إلى جلالته في أنشاص بطريق الاستعجال، المعلومات التي احتوتها رسالتي هذه، وهي في واقع الأمر ما تلقيته من وزير الخارجية.

ردي على وزير الخارجية الأمريكية

هذه هي الرسالة التي بعث بها وزير أميركا المفوض في ٢٧ مايو سنة ١٩٤٦؛ لأرفع مضمونها إلى جلالة الملك، وهي تنم عن تأييد إنجلترا في موقفها حيال المسألة المصرية، وتشددها في المفاوضات خوفًا من الخطر الروسي على الشرق الأوسط، وقد رددت على رسالة وزير أميركا برسالة أسجل نصها فيما يأتي:

إن الرسالة التي سلمها سعادة وزير الولايات المتحدة إلى رئيس الوزراء لرفعها إلى حضرة صاحب الجلالة الملك، قد لقيت كل العناية من قبل العرش والحكومة …

وليس مبعث الاهتمام الذي تثيره هذه الرسالة أنها تتعلق بمفاوضات ذات أهمية حيوية لمصر فحسب؛ بل لأن الأمر يتعلق أيضًا بتوسط الولايات المتحدة، ومصر تعلق عليها دائمًا أكبر الآمال، لما عرف عنها من البعد عن الأنانية والسمو في أغراض سياستها الخارجية …

وجدير بهذا الاهتمام أن يكون الرد وليد إدراك الوقائع — كما هي — إدراكًا سليمًا خالصًا — إذ تحرص مصر على المبادرة إلى «تطمين» حكومة الولايات المتحدة على حقيقة نواياها.

فمصر — باعتبارها من بلاد الشرق الأوسط — تشارك الولايات المتحدة ما تبديه من الاهتمام بأمر تلك المنطقة، ولكن مصر تود أن توضح أن حرصها على هذا الأمر، مرتبط لديها بضرورة استعادة حرياتها كاملة غير منقوصة.

وهي تدرك دائمًا أنه يجدر ألا يغيب عن النظر تلك الضمانات المترتبة على معاهدة سنة ١٩٣٦ مع بريطانيا العظمى، ولكنها تسارع إلى التصريح بأن هذه الضمانات لن يكون من شأنها، إلا أن تزداد ثباتًا لو استند التحالف المراد عقده مع بريطانيا العظمى على أساس من الثقة والصداقة، ولا يتوافر هذا إلا باحترام استقلال مصر.

وبهذا الشرط وحده — وهو شرط مستمد أيضًا من أحكام ميثاق الأمم المتحدة، وكانت مصر في طليعة الدول التي انضمت إليه — يتسنى لمصر أن تساهم مساهمة جدية في توطيد السلم العالمي … وهي ستعمل ذلك بفضل مواردها الخاصة، وشعورها العميق بواجباتها الجديدة، التي تقع على عاتقها كدولة مستقلة.

وأن تجاهل هذه الحالة والتسويف في علاجها لمما يخلق جوًّا من القلق — إن لم نقل جوًّا من التوتر — فيه إضرار بالغرض المنشود، ألا وهو تهيئة الانسجام والتفاهم المتبادل اللازمين لاستقرار السلم في الشرق الأوسط استقرارًا نهائيًّا.

وإن مصر تتقبل بارتياح تلك الفرصة المتاحة لها، فتطلب من حكومة الولايات المتحدة أن تضم جهودها القوية إلى كافة الجهود الأخرى المبذولة؛ لتهيئة ذلك الانسجام.

هذا هو ردي على الرسالة الأميركية …

وقد أبرقت إلى وزيرنا بأميركا؛ ليعرف وجهة نظري؛ وليقابل المسئولين في وزارة الخارجية الأميركية، ويتعرف آراءهم في الموقف، فجاءتني منه برقية تتضمن حديثه في هذا الشأن مع رجال تلك الوزارة يقول فيها:

رغبت في تعرف مدى مشاركة حكومة الولايات المتحدة للحكومة البريطانية في مطالبها من مصر، فتحادثت طويلًا مع المسئولين عن السياسة في الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية، فبدأت بقولي: إنني آسف لتعضيد الحكومة الأميركية للمطالب البريطانية، مما ساعد على إيجاد المصاعب الحالية في سبيل المفاوضات، فردت الدوائر الرسمية على قول هذا محتجة بقولها إن موقف الحكومة الأميركية في هذا الشأن معروف، ولا يتعدى ما ورد في الرسالة التي بعث بها رئيس الجمهورية إلى رئيس مجلس وزراء مصر، عن طريق وزير أميركا — ومؤداها أن أميركا تهتم بأن يسود الأمن في هذه المنطقة … فلما قلت إن هذه الرسالة غامضة، وهي تشجع الإنجليز على التشدد مع ترك المسألة المصرية من غير حل، وبالتالي، فإن السلم في هذه المنطقة يظل مهددًا، أجابتني الدوائر الرسمية بأن هذا لم يكن الغرض الذي ترمي إليه من الرسالة، وأضافت أن هذا الاعتقاد لو كان قائمًا في ذهني، فإنها لا تتوانى عن إيضاح موقفها مرة أخرى للإنجليز — ولا يخامرني الشك في أنها ستفعل.

وبطبيعة الحال تناولت أحاديثي مسألة الخطر الروسي، فأفضى إلي من حادثتهم باعتقادهم أن النفوذ الروسي سيجد في مصر مرعى خصيبًا؛ نظرًا للفوارق الهائلة بين طبقتي الشعب فيها، فقلت: إن الحكومة آخذة في معالجة هذه الحالة بمعاضدة حضرة صاحب الجلالة الملك، ولكن السبب فيها راجع إلى عامل خارجي أكثر خطورة، أعني الضغط الواقع من إنجلترا — ذلك الضغط الذي قد يؤدي بمرور الزمن إلى حمل بعض العناصر، على مصافحة اليد الممدودة إليها؛ ولهذا ينبغي للديمقراطيات أن تكف عن هذا الضغط، وأن تسعى وراء كسب صداقة شعوب الشرق الأوسط، فإن هذه الشعوب لا ترحب بشيء ترحيبها بأن ترى الصداقة بينها متبادلة.

وعلاوة على ذلك، فبالرغم من المجهودات المستمرة التي بذلتها الحكومات المصرية المتعاقبة للنهوض بالشعب، فإن كل عنايتها وعناية بقية الأحزاب السياسية كانت منصرفة إلى مقاومة السيطرة الأجنبية، وإنني واثق أنه متى زال هذا العامل الخارجي، فإن الإصلاحات الداخلية التي يرجوها الجميع ستتحقق، وستسير بخطى سريعة.

لقد أكدت لهذه الدوائر مرة أخرى استعداد مصر للمناقشة في مسألة القواعد الاستراتيجية اللازمة للدفاع المشترك في حدود ميثاق هيئة الأمم المتحدة، غير أنه لا يمكنها بحال أن تمنح امتيازًا خاصًّا لدولة بمفردها كبريطانيا العظمى.

من هذه البرقية، والخطاب الذي سبقها يتبين مدى ما كان يعلقه القوم في أميركا على نجاح المفاوضات المصرية البريطانية، وكيف كانوا — على ما يظهر — مقتنعين بالنظرية الإنجليزية، التي تضمنها مشروع المعاهدة البريطاني الذي رفضه الوفد المصري، وكان رفضه سببًا في وقف المفاوضات، وهو المشروع الذي يحقق السيطرة على مصر، ويحولها إلى منطقة لإنجلترا وأميركا، وحلفائهما في زمن الحرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤