في الوظائف الحكومية

تخرجت في مدرسة الحقوق سنة ١٨٩٤، ومع أني كنت أول فرقتي فقد عُينت في وظيفة كاتب بالنيابة بمرتب خمسة جنيهات!

وكان النائب العمومي في ذلك العهد مسيو لوجريل، وكان وكيله مصريًّا معروفًا بوطنيته وسمو أخلاقه يدعى حسن عاصم بك «باشا»، فمكثت بهذه الوظيفة زمن التمرين، ولم أستنكف من ممارستي لوظيفة صغيرة يمارسها من هم أقل مني تعليمًا وثقافة، بل كانت لي تجربة من تجارب الحياة التي لا بد منها.

وكان صديقي وزميلي عبد الخالق ثروت الذي كان يسبقني بسنة قد عُين سكرتيرًا للجنة المراقبة القضائية، وسكرتيرًا للمستشار القضائي، وكان مرتبه ١٥ جنيهًا، فنُقلت بمساعدته إلى هذه اللجنة بمرتب «ثمانية جنيهات»، فقضيت في هذه الوظيفة سنتين لم يزد مرتبي فيهما شيئًا، ولم أتبرم بالحياة على الرغم من أن هذا المرتب لم يكن يكفيني. ثم عُينت في بلدة إيتاي البارود في وظيفة مساعد نيابة بعشرة جنيهات، وكنت أسكن منزلًا بسيطًا أعيش فيه عيشة متواضعة، مع ثلاثة غيري من خريجي الحقوق أحدهم صديقي الأستاذ عزيز بك خانكي، ونُقلت منها إلى طنطا، ثم إلى المحلة، ثم عدت إلى طنطا.

كانت هذه التنقلات في هذه البلاد الريفية بلا ترقية، وبمرتب لم يزد عن عشرة جنيهات خلال أربع سنوات. ومع ذلك لم أضق بنفسي معتمدًا على الله وعلى انتهاز الفرص!

من ١٠ جنيهات إلى ٣٠ جنيهًا

وذات يوم كنت واقفًا في محطة طنطا، فسمعت صوت محمد سعيد بك «دولة سعيد باشا رئيس الوزارة فيما بعد» يناديني، وكان وقتئذ رئيس نيابة الإسكندرية، وعضوًا في مجلس البلدية بهذه المدينة بحكم وظيفته، فعرض عليَّ أن أُنقل معه بالإسكندرية في وظيفتي التي أشغلها بطنطا، فوافقت، ونقلت في وظيفة «مساعد نيابة» وبمرتبي وهو عشرة جنيهات.

وبينما كنت أقوم بعملي يومًا قرأت إعلانًا في الجرائد أن وظيفة سكرتير إداري مجلس بلدية الإسكندرية، ورئيس قسم القضايا فيها معروضة لمسابقة بعد عشرة أيام، ومرتب هذه الوظيفة ثلاثون جنيهًا في الشهر، فتقدمت إلى هذه المسابقة، وكان سني وقتئذ ٢٣ عامًا، وقد تقدم فيها أكثر من خمسين شخصًا أكثرهم من المحامين الأجانب، وكان موضوع المسابقة الكتابة باللغة الفرنسية فيما يأتي: «هل الأفضل أن تكون مواصلات المدينة في يد الحكومة أم في يد شركة أهلية؟!»

فكتبت في هذا الموضوع بإسهاب، ورجحت أفضلية الإدارة الأهلية؛ لأنها تؤدي إلى إتقان العمل والشعور بالمسئولية، وبينت أيضًا وجهة النظر الخاصة بإدارة الحكومة كما فصلت كلتا النظريتين.

وفي اليوم التالي لهذه المسابقة سمعت أن اللجنة أعجبت بكتابتي، وأوصت بتعييني في الوظيفة، وبذلك ارتفع مرتبي من عشرة جنيهات إلى ثلاثين جنيهًا …!

مقتل بطرس غالي باشا

مكثت في هذه الوظيفة عشر سنوات عينت خلالها سكرتيرًا عامًّا للبلدية يحل محل المدير عند غيابه، وقد كانت مدة وظيفتي كسكرتير لمجلس البلدية مدة أفادتني الشيء الكثير وساعدتني على شق طريقي بعد ذلك، فما البلدية إلا حكومة مصغرة تشمل كل فروع الإدارة التي لها نظائر في الحكومة، وكانت سنة ١٩٠٨ فاختير محمد سعيد باشا وزيرًا للداخلية في وزارة بطرس غالي باشا، وكان سعد زغلول وزيرًا للمعارف في هذه الوزارة، وحسين رشدي وزيرًا للحقانية، وإسماعيل سري باشا للأشغال والحربية، وفخري باشا للمالية، وبطرس باشا للرياسة والخارجية.

كانت سني وقتئذ ٣٣ عامًا، وكان محمد سعيد باشا يوليني ثقته وصداقته، فأنشأ في الداخلية منصب سكرتير عام الوزارة، ونقلني إليه، وأسند إلي اختصاصات الوكيل، وبذلك أصبحت رئيسًا لكبار الإنجليز التابعين للداخلية كمدير السجون، ومدير مصلحة الصحة والبلديات، وكان لهذه الوزارة مجالس منها المجلس الأعلى للبلديات، وكان ينعقد تحت رياستي، فكبر على هؤلاء الإنجليز أن يحضروا جلسات المجلس على هذا الوضع بعد أن كنت مرءوسًا لبعضهم، فلما حان موعد الجلسة الأولى بعثوا بوكلائهم لحضورها، وأدركت ما يرمون إليه، فأجلت الجلسة لهذا السبب، وحددت موعدًا آخر وبعثت إلى كل منهم بخطاب لحضور الجلسة القادمة.

وكان مستشار الداخلية وقتئذ رجلًا يدعى «مستر شتى»، وكان من عقلاء الإنجليز، يحب صداقة المصريين، ويميل إلى تشجيعهم، ويرى في هذه السياسة مصلحة لإنجلترا، فاجتمعت به، وأخبرته بما حدث وهددت بالاستقالة إن لم يحضر هؤلاء الموظفون جلسة المجلس القادمة التي حددتها، فاهتم الرجل بالأمر، وبعث إليهم ولامهم على ما فعلوا، ومن ذلك اليوم لم يتخلفوا عن حضور الجلسات.

قضيت سنتين في هذه الوظيفة، وفي ٢٠ فبراير سنة ١٩١٠ كنت جالسًا ظهرًا بمكتبي، فأُخطرت بمقتل رئيس الوزارة بطرس غالي باشا على سلم وزارة الخارجية بمبنى وزارة الحقانية.

أشفقت من خطر هذا النبأ، ووقع عندي موقعًا سيئًا، وأسرعت إلى مكان الحادث، فوجدت الرئيس منطرحًا في فناء الوزارة، وحوله حسين رشدي باشا وعبد الخالق ثروت باشا النائب العام، وأحمد فتحي زغلول وكيل الحقانية. ووجدت إبراهيم الورداني، وقد قبض عليه، واستدعي الدكتور سعد الخادم، فأخذ يسعف الجريح وكان في النزع الأخير، فحُمل إلى مستشفى الدكتور ملتون.

ويلخَّص الحادث في أن بطرس باشا اعتاد أن يخرج من النظارة في الساعة الواحدة بعد الظهر، فخرج في ذلك اليوم، وكان يصحبه حسين رشدي باشا، وثروت باشا وفتحي زغلول باشا، ثم فارقهم عند السلم الخارجي، وعندما هم بركوب العربة دنا منه الورداني متظاهرًا بأنه يريد أن يرفع إليه عريضة، وأطلق عليه رصاصتين، وما كاد يلتفت حتى أطلق عليه أربع رصاصات، فسقط مضرجًا بدمائه بجوار عربته، وحُمل إلى داخل الوزارة.

وكان محمد سعيد ناظر الداخلية «وزير الداخلية» قد ركب قطار الظهر إلى الإسكندرية؛ ليقضي راحته الأسبوعية، فاتصلت توًّا بمحمد محب باشا مدير الغربية إذ ذاك، وطلبت إليه أن يبلغه بالحادث عند وصوله إلى طنطا ليعود إلى القاهرة فورًا … ففعل.

وقد عز على الخديو عباس أن يُقتل رئيس وزرائه، لما كان يتمتع به من ثقته ومحبته، وذهب إلى المستشفى يستفسر عن حالته، ودخل عليه في غرفته وقبَّله في وجهه والدموع تملأ عينيه، وكان المصاب قد تنبه قليلًا، فجعل يقول: العفو يا أفندينا … متشكر … العفو يا أفندينا … متشكر …!

وأجريت له عملية جراحية، ولكن لم تأتِ الساعة الثامنة مساء حتى قضى نحبه …

وزارة محمد سعيد

جلست في تلك الليلة — ليلة وفاة رئيس النظار — مع محمد سعيد باشا في منزله، فقال لي: والله طارت الوزارة يا إسماعيل …!

فقلت له: بالعكس … فإنني أتنبأ بأنك رئيس النظار المقبل …

وقد حدث في اليوم التالي ما تنبأت به، فعهد إليه الخديو عباس تأليف الوزارة الجديدة، فكان هو للرياسة والخارجية والداخلية، وأحمد حشمت باشا للحقانية، ويوسف سابا باشا للمالية، وإسماعيل سري باشا للأشغال والحربية، وخرج سعد زغلول باشا وفخري باشا من الوزارة.

وعين نجيب غالي نجل بطرس باشا وكيلًا للخارجية، وأنعم عليه بالباشوية، وعينت أنا وكيلًا للداخلية، وأنعم علي بالباشوية أيضًا، وألغيت وظيفة السكرتير العام لهذه النظارة.

كتشنر وخطابه أمام الخديو

كان السير الدون غورست في ذلك الحين معتمدًا لبريطانيا في مصر، وقد ساءت صحته في أواخر عهده، فتوفي يوم ١٣ يوليو سنة ١٩١١، وجاءتنا الأنباء على إثر وفاته بتعيين اللورد كتشنر في مصر خلفًا له، وكان وقتئذ في لندن، فأثار تعيينه قلقًا في الدوائر السياسية والوطنية؛ لأنه كان رجلًا عسكريًّا، جاف الطبع، ويميل إلى التدخل في شئون مصر الداخلية.

وقبل حضوره إلى مصر في سفينة حربية أرسلت الوكالة البريطانية صورة من الخطاب الذي كان ينوي إلقاءه أمام الخديو، وإذا به يشتمل على معانٍ تفيد رغبته في التدخل في صميم شئون مصر.

كان هذا الخطاب غريبًا ومحرجًا للخديو وللوزارة، فدعا محمد سعيد باشا رئيس الوزارة حسين رشدي باشا وسعد زغلول باشا في منزله برمل الإسكندرية؛ للتشاور فيما يُكتب للرد على المعتمد البريطاني، ثم استدعاني سعيد باشا فذهبت إليه، وأخذنا نتشاور في الأمر لمعالجة الموقف بطريقة لا تضر مصلحة البلاد، ولا تحملها فوق ما حملت من أعباء الاحتلال وسياسة المحتلين … وكلفني سعيد باشا بكتابة الرد، فوضعته بالفرنسية، وكان هذا الرد هو الذي ألقاه الخديو، واشتمل على كل ما اقتضته الحال من بيان لموقف مصر فيما يختص بمحافظتها على كيانها الداخلي.

كتشنر يهدد الخديو بالعزل

على الرغم من رفضنا لتدخل اللورد كتشنر، وخطابه الذي ألقاه أمام الخديو، فإنه كان لا يأبه بذلك، وكان يتدخل في شئون مصر الداخلية، وقد كان تدخله مقصودًا لمحاربة الخديو وتوطيد سياسة الاحتلال، وأذكر أنه على إثر تعيينه كتبت جريدة المورننج بوست تقول:

إن اللورد كتشنر قد عُين في هذا المنصب؛ لأنه من أعظم الذين وضعوا أساس مركزنا في مصر، واشتغل في عمل عظماء رجال الإدارة الذين كانوا قبله … إن مهمة اللورد كتشنر أن يعيد النظام، وأن ينشر التمدن مع محو الارتباك، وإيجاد حكومة جديدة …

والحقيقة أن الرجل كان ينزع إلى الإصلاح، ولكنه يتخذ الإصلاح وسيلة لتدعيم الاحتلال، ونشر النفوذ البريطاني في البلاد.

وكانت الأوقاف الأهلية وقتئذ تابعة لديوان يدعى «ديوان الأوقاف»، ولم تكن «نظارة» لها ناظر مسئول، بل كانت تابعة للخديو رأسًا، وكان كتشنر قد علم بشراء الأوقاف أرض المطاعنة من ملك الخديو بمبلغ ستين ألف جنيه، وقيل إذ ذاك: إن هذه الصفقة فيها غبن، وفيها محاباة للخديو، فاهتم بالأمر، ولما كانت المسألة دينية شرعية، فقد سعى كتشنر لدى الباب العالي بمساعدة الأمير سعيد حليم الصدر الأعظم في ذلك الحين، حتى حصل على موافقته، وموافقة شيخ الإسلام، وكان هذا الأمير معروفًا بعدائه للخديو … وكانت وزارة الخارجية البريطانية قد تركت لكتشنر حرية التصرف في الموقف، فبعث برأيه إلى رئيس النظار في تحويل ديوان الأوقاف إلى نظارة، فلما بلغ الخديو ما بعث به المعتمد البريطاني، قال: هذه مسألة دينية، لا يحق لكتشنر ولا لحكومته التدخل فيها.

فكان رد كتشنر: إذا كان الخديو لا يريد الموافقة، فأنا أسلم العرش للأمير سعيد حليم الصدر الأعظم …!

واستدعاني اللورد كتشنر لمقابلته في دار الوكالة البريطانية؛ بسبب غياب محمد سعيد باشا في ذلك اليوم بالإسكندرية، فذهبت إليه، فما كدت أدخل غرفته، حتى وجدت القائد العام لجيوش الاحتلال في مصر خارجًا من عنده، فقال لي كتشنر: «هل تدري لماذا كان القائد عندي؟!» فسكت، وأدركت ما يعنيه من أن ذلك من أجل توقف الخديو في الأمر ومعارضته لإنشاء النظارة المطلوبة …

ولما عدت من عنده أخبرت سعيد باشا بما حدث، ودارت المخاطبات بين مصر واستانبول بوساطة سعيد باشا، وحسين رشدي باشا، وانتهى الأمر بتحويلها إلى «نظارة أوقاف» في نوفمبر سنة ١٩١٣، واختير أحمد حشمت باشا أول ناظر للأوقاف، ومحمد شفيق باشا وكيلًا لها، وأُلف لها مجلس أعلى، وعُدلت الوزارة فاختير أحمد حلمي للمعارف، وسعيد ذو الفقار للمالية، ومحمد محب باشا للزراعة.

كيف عُينت وزيرًا لأول مرة

كانت السياسة البريطانية ترمي إلى فصل مصر عن تركيا، لا حبًّا في المصريين، بل خدمة للسياسة الاستعمارية وتدعيمًا لسياسة الاحتلال.

لذلك عمل اللورد كتشنر على توسيع اختصاص مجلس شورى القوانين، وإعداد قانون نظامي جديد يحل محل النظام القديم الذي وضع سنة ١٨٨٣.

وقد صدر القانون الجديد سنة ١٩١٣، وهو يقضي بإنشاء جمعية تشريعية تحل محل مجلس الشورى، وتأليف مجلس في كل مديرية، واختير مظلوم باشا رئيسًا لهذه الجمعية، وعدلي يكن باشا وكيلًا معينًا، وسعد زغلول باشا وكيلًا منتخبًا.

وفي ٢٢ ديسمبر من تلك السنة افتتح الخديو عباس الجمعية بخطاب ألقاه بنفسه!

وفي ٥ فبراير سنة ١٩١٤ سقطت وزارة سعيد باشا، وكان الخديو قد غضب عليه بسبب سكة حديد مريوط التي كانت ملكًا لسموه، والتي باعها سعيد باشا للحكومة المصرية بمبلغ «٣٩٠ ألف جنيه» فقط … وكان الخديو يعتبر هذه الصفقة غير مربحة، وقد اتهمه بأنه كان يسير تبعًا لمشورة كتشنر، ولا يحفل برأيه. وكانت الحكومة الإيطالية قد عرضت على سموه أن تشتريها بمبلغ أكبر من هذا المبلغ، لولا موقف سعيد باشا واللورد كتشنر.

وقد تولى النظارة بعده حسين رشدي باشا، فاختارني ناظرًا للزراعة، فأنشأت بها المجلس الفني الأعلى، وكان الخلاف بين الخديو عباس، واللورد كتشنر قد بلغ مداه، وهدده عدة مرات بإقصائه عن العرش، وضيق الخناق عليه، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، فكانت الفرصة سانحة للحكومة البريطانية لإعلان عزله، وأرسلت إليه في إستانبول تمنعه من الحضور إلى مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤