لجنة الدفاع المشترك

لما توقفت المفاوضات المصرية البريطانية، كان واجب الفريقين أن يعملا على تذليل الصعوبات لإعادتها واستئنافها؛ لأن من مصلحة بريطانيا ومصر الوصول إلى حل، وإقامة علاقتهما في المستقبل على أساس من الثقة والتفاهم … ولقد كنت على اتصال دائم بسفيرنا في لندن وسفير إنجلترا في مصر، وحدثت عدة اتصالات بيني وبين هذا الأخير، كان الغرض منها التغلب على العقبات القائمة. ولم يمضِ وقت حتى ظهرت في الأفق رغبة قوية في الاقتراب من آمال مصر، فيما يتعلق باشتمال المعاهدة على ما يضمن سيادتها القومية، والابتعاد عن أي تدخل أو سيطرة من جانب إنجلترا … ومع تسليم الجانب الإنجليزي بأن ما تنتويه مصر هو أن تضع قواها في المستوى اللائق بها، كحليفة لإنجلترا، فإنهم أبدوا تخوفًا من أن هناك فترة من الوقت قد تطول بعد إمضاء المعاهدة — وهي الفترة التي لم تكن مصر قد استعدت فيها استعدادًا حربيًّا كافيًا، يلائم الوضع الدولي الجديد المبني على استقلالها من جهة، وعلى إخلائها من الجيش البريطاني من جهة أخرى — وعبروا عن هذه الفترة بكلمة فراغ vacuum على لسان بيفن وغيره من رجالهم …

وبعد أخذ ورد طويلين، وعودة الإنجليز إلى المبدأ الذي كنت قد سلمت به، وهو مبدأ التشاور بين الرؤساء العسكريين في كلا البلدين، اقترحوا النظام الموجود فعلًا بين إنجلترا وكندا المرتبطين بمعاهدة عسكرية — وهو نظام «لجنة الدفاع المشترك».

وفي يوم الثلاثاء ١٨ يونيو سنة ١٩٤٦، قابلني السفير البريطاني سير رونالد كامبل، ومعه مستر بوكر، وقدما إليَّ هذا الاقتراح، وأبلغاني أنه إذا وافق الجانب المصري على مبدأ إنشاء هذه اللجنة، فإن اللورد ستانسجيت سيحضر إلى مصر ثانية، وتستأنف المفاوضات.

وقد عرضت هذا الاقتراح على زملائي، فوافقوا عليه من حيث المبدأ بشبه إجماع، وعاد ستانسجيت، واستؤنفت المفاوضات، وأخذ الوفدان المصري والبريطاني يتناقشان في التفاصيل.

لجنة الدفاع المشترك

على أثر عودة اللورد ستانسجيت قدم الوفد البريطاني مذكرة بالمقترحات الجديدة.

وهي تتناول تعديل المواد الرابعة والخامسة والسادسة من مشروع المعاهدة البريطاني السابق، الذي رفضه الوفد المصري وتوقفت من أجله المفاوضات، وقد تضمنت في وضعها الجديد ما يأتي:
  • المادة الرابعة: (وهي الخاصة بلجنة الدفاع المشترك) يكون واجبًا مشتركًا على الطرفين الساميين المتعاقدين أن يكفلا سلامتهما المشتركة، وأن يدافعا فعلًا عن أراضيهما، وأن يحميا مواصلاتهما، ولكفالة التعاون والمساعدة المتبادلة بين الطرفين الساميين المتعاقدين، ومساهمة كل منهما في الواجب المشترك وافق حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى، وحضرة صاحب الجلالة ملك مصر على إنشاء «لجنة للدفاع»، تؤلف من السلطات العسكرية المختصة للطرفين الساميين المتعاقدين، يعاونهما الممثلون الآخرون الذين ترى الحكومتان تعيينهم.

    وتكون اختصاصات اللجنة:

    • (١) تنسيق التدابير التي تكفل من كل الوجوه الدفاع المشترك عنهما في مصر والأراضي المجاورة بما في ذلك حماية مواصلاتهما المشتركة.
    • (٢) دراسة المسائل البرية والبحرية والجوية، وما يتصل بها من مسائل الموظفين والعتاد، وإعداد الخطط التي ينظر فيها الطرفان الساميان المتعاقدان.

    وتجتمع اللجنة — كلما احتاج الأمر — للاضطلاع بهذه الاختصاصات المنصوص عليها؛ ولمواصلة استعراض الموقف الدولي، وتتشاور بقصد إسداء النصح للحكومتين، وتوصيتهما بما تقومان به من العمل المناسب في كل الحالات التي تهدد سلامة الشرق الأوسط، بما في ذلك كافة الأراضي المتاخمة لمصر.

  • المادة الخامسة: (وهي الخاصة بالتعرض لخطر الحرب) مع مراعاة أحكام ميثاق الأمم المتحدة، اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان على أن تتخذ قواتهما المسلحة — في حالة حرب يشتبك فيها أحدهما، ويكون من شأنها تعريض سلامتهما للخطر في الشرق الأوسط، بما في ذلك الأراضي المجاورة لمصر — التدابير اللازمة بالتعاون الوثيق بينهما لأغراض المساعدة المتبادلة، وحالما يتولى مجلس الأمن للأمم المتحدة العمل الواجب اتخاذه للمحافظة على السلم والأمن الدوليين، أو إعادتهما إلى نصابهما، فإن التدابير التي اتخذتها القوات المسلحة للطرفين الساميين المتعاقدين يجري تنسيقها مع العمل الذي يقوم به مجلس الأمن.
  • المادة السادسة: (الخاصة بالتسهيلات اللازمة) من المتفق عليه أن الطريقة التي يقوم بها أحد الطرفين الساميين المتعاقدين المساعدة للطرف الآخر، وعلى الأخص الأوضاع الفنية للتعاون المشار إليه في المادة السابقة، والخطوات التي يجب اتخاذها لتمكين قوات الطرفين الساميين من أن تكون في مركز تستطيع فيه مقاومة الاعتداء بطريقة فعالة، بما في ذلك القيام بالتسهيلات اللازمة، وهي من الأمور التي تسوى بالاتفاق بين السلطات العسكرية المختصة في حكومتي المملكة المتحدة ومصر.

النظرية البريطانية في اللجنة المشتركة

هذه هي المقترحات البريطانية الجديدة التي تقدم بها الوفد البريطاني عند استئناف المفاوضات، وأهم ما فيها الاقتراح الخاص بلجنة الدفاع المشترك، وقد أرفق هذا الوفد اقتراحاته بمذكرة ضافية يشرح فيها نظرية الإنجليز في هذه اللجنة، وتتلخص فيما يأتي:
  • تقضي كل محالفة لتبادل المساعدة التزام العمل لمصلحة طرف المعاهدة، الذي يقع عليه الاعتداء أو يشتبك في حرب، وذلك بقيام الحكومتين بعمل مشترك، وبتآزر قواتهما المسلحة بمجرد نشوب الحرب.

  • يجب التمهيد للدفاع المشترك منذ وقت السلم، بل إن قيام الجيش الوطني وحده بالدفاع عن أراضي الدولة، سيستلزم استعدادًا طويلًا ومستمرًّا، فيجب على هيئة أركان الحرب وضع الخطط الاستراتيجية لتوزيع القوات، وتحديد المواقع.

  • الجيش الحليف مدد، يأتي بصفته هذه ويقاتل على أرض ليست أرضه، فينبغي لهيئة أركان حربه أن تألف معالم البلد والترتيبات التي اتخذها الجيش الوطني، ويجب أن تحدد بدقة من قبل بزمن طويل مواقع الجيشين اللذين سيتعاونان في الحرب.

  • ويفقد العمل المشترك بين دولتين كثيرًا من جدواه إذا لم توضع هذه الترتيبات، ولا ينازع أحد اليوم في أن من أسباب هزيمة الجيوش البريطانية الفرنسية في بلجيكا وهولاندا في مايو ١٩٤٠، انعدام الاستعداد الحربي اللازم لتلك الحملة، واضطرار قيادة الحلفاء إلى ارتجال وسائل تعاونهما مع الجيوش البلجيكية والهولاندية في أراضٍ لم يسبق لهما دراستها … وكذلك في سنة ١٩٤١ أدى انعدام التنسيق التمهيدي بين القوات المتحالفة، والجيش اليوجوسلافي إلى تعذر اعتماد هذا الجيش على إمداد الحلفاء.

  • أنشئت اللجنة المشتركة للدفاع بين الولايات المتحدة وكندا سنة ١٩٤٠، مع أنه لم تكن هناك بينهما معاهدة أو اتفاق مساعدة، إذ كانت كندا مشتركة في الحرب والولايات المتحدة في ذلك الوقت على الحياد، فلم تتردد الأخيرة في أن تنشئ هذه اللجنة المشتركة للدفاع، بقصد تنسيق التدابير العسكرية الواجب على البلدين اتخاذها تأمينًا لدفاعهما المشترك.

  • من باب أولى إذا ارتبطت دولتان بمعاهدة صريحة أصبح من المستساغ التمهيد للعمل المشترك، إذ تقضي المعاهدة بالتزام كل من الطرفين بمؤازرة الآخر في حالة الحرب.

  • أظهرت الحرب العالمية الأولى أهمية تنسيق العمل بين هيئات أركان الحرب، وكذلك بين الإدارات المدنية التي لها علاقة بالعمليات الحربية مثل مسائل النقل وصنع الذخيرة والتموين … إلخ.

  • إن مشروع المعاهدة بين فرنسا وبريطانيا سنة ١٩٢٢، قد احتفظ بالنص المعهود قديمًا، والذي يقضي في مادته الثانية بأن «يظل التفاهم قائمًا دوامًا بين هيئتي أركان الحرب للطرفين الساميين، بقصد أن يكفل للتدابير السابقة أن تكون فعالة إذا ما دعت الحالة إليها.»

  • إن جمهوريات أميركا الجنوبية (ما عدا الأرجنتين) قررت في سنة ١٩٤٢ — أي بعد الاعتداء الياباني ببضعة أسابيع — أن تنشئ فورًا لجنة مشتركة للدفاع عن جامعة الدول الأميركية، يوكل إليها دراسة التدابير اللازمة للدفاع عن القارة الأميركية، وتقديم توصياتها إلى حكومات هذه الدول.

  • حولت اللجنة الأميركية الكندية بعد الحرب إلى هيئة دفاع بمقتضى اتفاق بين البلدين.

  • قررت الولايات المتحدة والدول الأميركية الأخرى — بعد أن علمتها التجارب — ألا تعود إلى ارتكاب خطأ عدم الاستعداد للقيام بعمل مشترك في وقت الحرب؛ ولهذا قدم مشروع قانون إلى مجلس النواب في الولايات المتحدة في ٦ مايو سنة ١٩٤٦ عنوانه «قانون التعاون العسكري بين الدول الأميركية»؛ بقصد عقد اتفاقات بين هذه الدول وبين الدول الأميركية الأخرى.

  • أصبحت اللجنة المشتركة للدفاع في القارة الأميركية هي الهيئة الرئيسية؛ للتمهيد لعمل مشترك في زمن الحرب ولتنفيذه، كما أصبح نظام اللجان المشتركة سائدًا إلا في هذه القارة.

  • إن ميثاق سان فرنسيسكو الذي هو بمثابة حلف واسع النطاق بين كافة الأمم المتحدة لمكافحة الاعتداء، قد أنشأ هيئة دائمة للدفاع موطدة الدعائم.

ملاحظات الوفد المصري

وقد لاحظ الوفد المصري على المقترحات البريطانية السابقة ما يمكن إجماله فيما يأتي:
  • تقرر المادة الخامسة مبدأ التآزر في وقت الحرب، بينما تقرر المادة الرابعة إنشاء لجنة مشتركة للدفاع، وهذه اللجنة ليست في الواقع إلا وسيلة لتحقيق التآزر، فيجب أن تأتي هذه المادة بعد المادة الخامسة.

  • تثير المادة الخامسة الاعتراض بأنه بمقتضى الدستور المصري يقع حق الاقتراح في معظم التدابير، وحمل تبعاتها على عاتق الحكومة دون غيرها؛ ولهذا لا تستطيع أن تنزل عن سلطانها في ذلك إلى هيئة عسكرية.

  • طبقًا لميثاق هيئة الأمم المتحدة لا يكون هناك محل للمساعدة إلا في حالة الحرب الدفاعية؛ ولهذا يجب أن تستبدل «حالة حرب يشتبك فيها إحداهما» بصيغة أخرى تتناول الحالة، التي تتعرض فيها مصر وبريطانيا في البلاد المتاخمة لمصر لاعتداء مسلح.

  • إن وجود المادة ٤ و٦ جنبًا إلى جنب في معاهدة واحدة تكرار واضح، من شأنه أن يخلق لبسًا في الإجراء الواجب اتباعه.

  • في حالة اللجنة المشتركة بين الولايات المتحدة وكندا، ولجنة دفاع الدول الأميركية، لا توجد هيئة أخرى، ولا منهاج آخر يماثلان ما تنص عليه المادة السادسة.

  • لا تبين المادة الرابعة بوضوح أن دور اللجنة المشتركة للدفاع، هو أن تقدم مقترحات للحكومتين اللتين تملكان سلطة البت فيها، فإن ذلك هو المبدأ الذي تقوم عليه اللجنة المشتركة للدفاع بين الولايات المتحدة وكندا، ولجنة دفاع الدول الأميركية.

  • كما أن الاختصاصات المنصوص عليها في المادة الرابعة هي اختصاصات سياسية، لا يمكن أن تملكها هيئة عسكرية؛ ولهذا يجب أن ينص بالتحديد على أن اللجنة فيما يتعلق بهذه الاختصاصات الاستثنائية، لا تجتمع إلا بناء عن دعوة الحكومتين.

وقد تحادثت مع اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني طويلًا في هذه الملاحظات، وجرت بيني وبينهما عدة مقابلات استطعنا فيها أن نحدد اختصاصات لجنة الدفاع المشترك تحديدًا يحقق وجهة النظر المصرية، سواء فيما يتعلق بالناحية العسكرية أم السياسية، بحيث قررنا بوضوح شكل تأليفها، وما تتناوله من مسائل عسكرية، أما المسائل السياسية فليس من حقها، بل هي من حق الحكومتين المصرية والبريطانية، إلا إذا دعتها هاتان الحكومتان إلى ذلك، ولكن ليس لها أن تبحث الموقف السياسي البحت، بل تبحث الآثار العسكرية المترتبة عليه.

وعلى ذلك اتفق الجانب المصري والبريطاني، وبعث الوفد البريطاني إلينا بمذكرة عن تأليف اللجنة واختصاصاتها، نصت على ما يأتي:

وتتألف اللجنة المشتركة من شعبتين: الأولى مصرية، والثانية بريطانية، والشعبتان متساويتان في عدد الأعضاء، وأغلبهم من العسكريين؛ ولكنه نظرًا لأن المسائل العسكرية تتضمن أيضًا مسائل فنية تدخل في عمل الإدارات المدنية، فقد ضم إلى اللجنة أعضاء مدنيون تختارهم الحكومتان لمساعدة السلطات العسكرية.

وأول اختصاصات اللجنة هو دراسة المسائل المتعلقة بالدفاع المتبادل للطرفين المتعاقدين في البر والبحر والجو، وما يتصل بذلك من مسائل العتاد والعمال، وبصفة خاصة الأوضاع الفنية لتعاونهما، والتدابير الواجب اتخاذها لكي يتاح للقوات المسلحة للطرفين أن تكون قادرة بالفعل على مقاومة الاعتداء.

ويجب أن تسفر هذه الدراسة — إذا أردنا أن تكون لها ثمرة ما — عن نتائج واقعية عملية تُرفع إلى الحكومتين، ويجب من جهة أخرى أن يراعى في وضع الخطط والآثار الاستراتيجية، لحوادث سياسية معينة، كما إذا لاح أن دولة أخرى قد يقع منها العدوان، أو إذا زادت قوات هذه الدولة زيادة مفاجئة بسبب عقدها لمعاهدات تحالف جديدة، فإن هذه الحوادث قد يكون من شأنها أن تحمل اللجنة المشتركة على تعديل الخطط التي تكون قد وضعتها؛ لتجعلها مطابقة للأوضاع الجديدة.

ولهذا تجتمع اللجنة لتبحث — إذا اقتضت الحال — الآثار العسكرية للموقف الدولي، وكل الحوادث التي قد تهدد الأمن في الشرق الأوسط، وتقدم التوصيات المناسبة في هذا الشأن.

ولكن ليس للجنة أن تجتمع من تلقاء نفسها، إذ إن ذلك يتضمن ناحية سياسية هي من حق الحكومات وحدها؛ ولهذا فلن تبحث اللجنة هذه المسائل إلا بناء على دعوة من الحكومتين … وعلاوة على ذلك فلن يكون لها أن تبحث الموقف السياسي البحت، وإنما تبحث الآثار العسكرية المترتبة عليه.

وليس للجنة في أية حال سلطة إصدار قرارات، فإن هي إلا هيئة فنية بحتة استشارية، أما الحكومتان فهما اللتان تحتفظان بموجب سيادتهما بحق اتخاذ القرارات فيما يتعلق بالمسائل التي درستها اللجنة.

والطريقة التي ستجري بها العمل عادة كما يأتي: بعد أن تدرس اللجنة مسألة معينة تثبت النتائج التي انتهت إلى الاتفاق عليها، وتقوم كل من الشعبتين بعد ذلك برفع هذه القرارات إلى حكومتها فإذا أقرتها الحكومتان؛ فإنهما تتبادلان مذكرات أو خطابات تثبت تصديقها عليها كما قد يحدث أن تشرع الحكومتان ذاتهما في دراسة جديدة للمسألة، وأن ترفضا وتعدلا مقترحات اللجنة المشتركة.

والحالة الوحيدة التي يمكن فيها أن يوضع أي قرار موضع التنفيذ، هي الحالة التي يتحقق فيها الاتفاق التام بين الحكومتين بمقتضى مذكرات أو خطابات متبادلة، ومعنى هذا أنه لا يترتب على إنشاء اللجنة المشتركة — لا قانونًا ولا فعلًا — أي تعدٍّ على اختصاصات الحكومتين.

وبالتالي ليس فيها مساس باستقلال الدولتين المتعاقدتين.

لجنة الدفاع … والحماية

يرى القارئ من اختصاصات لجنة الدفاع المشترك السالفة الذكر أنها لجنة استشارية بحتة، وليست لجنة لبسط الحماية البريطانية على مصر، كما أراد المغرضون في ذلك الوقت أن يشوهوها أمام الرأي العام، وهم يتجاهلون أن جلاء القوات البريطانية عن مصر سيتم برًّا وبحرًا وجوًّا، وأن مصر ستسترد بذلك كامل حقوقها في السيادة والاستقلال دون أية شائبة تشوب هذه الحقوق، وإذن فلن تكون علاقة إنجلترا بمصر بعد ذلك إلا كعلاقة غيرها من الدول. وما اللجنة المشتركة سوى لجنة — كما رأيت — يتساوى فيها عدد المصريين والإنجليز، سواء منهم العسكريون أم المدنيون، وهي استشارية محضة كما قلنا، لكل من الدولتين أن تقبل مشورتها أو ترفضها أو تعدلها، وما المحالفة بين مصر وبريطانيا بما فيها اللجنة المشتركة إلا وثيقة خاضعة لنظام هيئة الأمم المتحدة، ولمجلس أركان حرب هذه الهيئة بمجرد أن يتم تشكيله أن يراجع أعمالها، ويوجه خطأها فيما يطابق ميثاق الهيئة.

فإذا ذكرت كل ذلك كان من حقي أن أقول لأولئك الذين سمموا في ذلك الوقت جو هذه البلاد، بزعم أن قبول هذه اللجنة هو قبول للحماية البريطانية: إنهم ألصقوا ببلادهم أشنع التهم، فهو توهموا أو أرادوا أن يوهموا أن ما يقوله الجانب البريطاني في هذه اللجنة سيقبله الجانب المصري لا محالة، كما توهموا أن توصيات اللجنة — رغم أنها استشارية — ستكون ملزمة لأية حكومة مصرية؛ لأن إنجلترا قوية ومصر ضعيفة، وهذا محض اتهام صادر عن هوى شخصي دفع به إلى تمني قطع المفاوضة، أملًا في إحراج مركز الوزارة.

على أن هذا الإيهام أو الوهم صادر عن ضعف في الإيمان باستطاعة مصر المحافظة على حقها تامًّا في الاستقلال، ورميها بشبه مركب النقص Inferiority complex، كلما واجه المصري ممثلًا إنجليزيًّا في أي عمل من الأعمال، أو كلما واجهت مصالح مصر مصالح إنجلترا في أي ميدان من الميادين.
وأذكر أنه قد زارني يومًا مستر «لاجورديا» محافظ نيويورك، ورئيس الشعبة الأميركية للجنة الدفاع المشترك بين أميركا وكندا، وسألته عن شعوره وشعور الكنديين من ناحية وجوب المساواة بين الفريقين في أعمال اللجنة المشتركة، فقال لي بالنص:

أنت تسألني عن هذا وربما كان من حقي أن أقول لك إن الجانب الكندي في هذه اللجنة — وهو الذي يمثل الجانب الضعيف — أشد مطالبة وأكثر تصميمًا فيها ووصولًا إلى غايته من الجانب الأميركي صاحب الحول والطول!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤