بين الوفدين المصري والبريطاني

بمدينة الإسكندرية، وفي قصر أنطونيادس، كانت المناقشات والمباحثات في الشئون التي اختلفنا عليها نحن والإنجليز، وإليكم مقتطفًا من خطاب خاص بعثت به في ٢٥ يوليو سنة ١٩٤٦ إلى إحدى الجهات العليا؛ لتبيان الوضع الذي كنا فيه وهو كما يأتي:

قد جرى حديث بالأمس بيننا وبين اللورد والسفير دام ثلاث ساعات، يؤسفني أن أقول: إنه لم يؤد إلى تفاهم في أي موضوع، وقد تبين لي: (١) أن القوم هنا مرتبطون بتعليمات من لندن لا يستطيعون الخروج من نطاقها حتى بالوعد بإعادة النظر … (٢) أن فكرة جعل أو استمرار مصر قاعدة عسكرية لا تزال هي السائدة … (٣) إنهم لا يزالون بعيدين عن الاعتراف لمصر بمركز ولو معنوي في السودان … (٤) إنهم بعد مفاوضات دامت أربعة أشهر لم يدركوا العقلية المصرية في أية ناحية من نواحيها، وقد قالوا في نهاية الأمر إن تعليماتهم بشأن السودان لم تكن نهائية، ويستمدونها من لندن، وتلقاء ذلك كله رتبت الكلام مع عمرو باشا اليوم الساعة الواحدة؛ لأنبهه تليفونيًّا إلى أن البقاء في المركز الذي نحن فيه أي: (١) امتداد التزامات مصر الحربية إلى أكثر من البلاد المتاخمة … (٢) تعريض مصر لعودة الجيوش البريطانية في حالات الخطر بالشرق الأوسط … (٣) التلكؤ في الجلاء فيما عدا الجلاء عن المدينتين الكبيرتين، وهو ليس بجلاء، بل انتقال من مكان إلى آخر في داخل القطر المصري … (٤) السعي إلى أن تجري المفاوضة في مسألة السودان بغير تحفظ من جانبنا في شأن السيادة، كل ذلك لا يؤدي إلى تفاهم جدي في أمر التحالف، وسأطلب من عمرو باشا ردًّا سريعًا ممن بيده تصريف الأمور، ويلوح أن القوم المفاوضين هنا يتجاهلون أن هناك جامعة للأمم لا يسلم ميثاقها بسيطرة من جانب على جانب.

بلاغ مصري للجانب البريطاني

وفي منتصف الساعة الثانية عشرة من صبيحة يوم الإثنين ٢٩ يوليو سنة ١٩٤٦، قصدت إلى سراي أنطونيادس وفاء لموعد سابق لمقابلة لورد ستانسجيت والسفير البريطاني، فقلت لهما: إنني حضرت لإبلاغهما قرار هيئة المفاوضات المصرية بشأن المقترحات البريطانية الأخيرة، وكنت قد أعددت ذلك كتابة فتلوته عليهما، وهذا نصه:

أعتقد أنني من أخلص المصريين مناصرة للاتفاق بين إنجلترا ومصر، وكنت آمل كذلك أن أكون في طليعة العاملين في بناء هذا الاتفاق.

ولهذا يشق علي أن أبلغكم أن الوفد المصري للمفاوضات في اجتماعه الأخير، قد قرر بإجماع الآراء اتخاذ موقف مضاد للموقف الأخير، الذي اتخذه الوفد البريطاني، وقرار الوفد المصري ينصب على ما يأتي: (١) المادة الثانية من مشروع المعاهدة المقدم من الوفد البريطاني الخاصة بالبلاد المجاورة وخطر الحرب … (٢) البيان الشفوي الخاص ببرنامج الجلاء … (٣) عدم وجود أية دلالة طيبة في شأن المبادئ الأساسية، التي طلبتها مصر للمفاوضات الخاصة بالسودان.

هذا وستقدم إليكم في خلال بضعة أيام مذكرة تشرح الأسباب، التي استند إليها الوفد المصري في إصدار قراره هذا.

وأضيف من جهتي شخصيًّا أنني لعلمي بما تكنُّونه من عواطف التقدير والود لمصر وقضيتها؛ تلك القضية التي لا نزاع في عدالتها، آمل أن دراسة جديدة منكم للموقف ستؤدي بكم إلى الأخذ بوجهة نظرنا.

فلما فرغت من تلاوة هذا البلاغ ظهر عليهما ما خيل إلي أنه شعور من تنسم الخلاص من مكروه كان يتوقعه، ثم قال السفير:

إنني آسف لمرض مستر بيفن في وقت كان يرجى فيه تعجيل السير بالأمور والرجوع إليه، ومما زاد في أسفي أن مستر بيفن كان ينوي أن يحضر إلى مصر، والمفاوضات قد آذنت نهايتها أو في طريقها إلى التمام.

ثم انتقل السفير إلى الكلام في موضوع زيارتي يومئذ، فتساءل: «ألم يكن للمعاني والاعتبارات التي ذكرناها؛ لتعديل المادة الثانية أي أثر في نفوس المفاوضين المصريين؟ إن كل غرضنا محصور في جعل هذه المعاهدة ذات قيمة فعالة effective، والمحالفة لا تكون كذلك إلا بالصورة التي عرضناها بها، ولا شك أنكم تدركون تمامًا أن الحروب الحديثة تستلزم السرعة الفائقة.»
figure
قاعة الذكريات بمنزل إسماعيل صدقي باشا التي شهدت جانبًا كبيرًا من المفاوضات.
figure
هيئة المفاوضين المصريين في أحد الاجتماعات التي عقدت في قصر أنطونيادس لدرس الاقتراحات التي تقدم بها الجانب البريطاني.

فقلت: «يا سعادة السفير هذه مسائل قتلناها بحثًا فيما مضى، وكلام أطلنا فيه في فرص سابقة، وأوضحت لكم أن المادة بالصيغة التي تقترحونها لا يمكن إلا أن تُرفض بالإجماع؛ لأنها من جهة تكاد تعود بنا إلى موضوع خطر الحرب الذي لا يمكن الموافقة عليه، ولأنها من جهة أخرى تدفعنا نحو الحالة الأتوماتيكية التي هي دائمًا في تفكيركم على ما يظهر، والتي من شأنها أن يمتنع أي تشاور بين الطرفين؛ ولأنها من جهة ثالثة تزيد من أعباء الالتزامات المفروضة على مصر بمقتضى المعاهدة، وكل هذا غير مقبول، وقد يكون من شأنه أن يمهد السبيل لدخول القوات البريطانية مصر مرة أخرى.»

هنا حاول اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني أن يبينا حسن نيتهما وأغراضهما السلمية إزاء مصر. وقال السفير «إنه رغبة منهما في إثبات ذلك قد وضعا صيغًا جديدة للمادة الثانية التي هي محور المعاهدة، ولعل في إحداها ما يجمع بين الطرفين في منتصف الطريق.» وأطلعاني على الصيغ الثلاث، وهي صيغ متشابهة ترجع في الحقيقة إلى الأولى منها وهي كما يأتي:

مع مراعاة أحكام ميثاق الأمم المتحدة دائمًا اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان، على أنه في حالة حرب يشتبك فيها أحدهما، وتعرض للخطر سلامتهما في مصر أو الأراضي المجاورة، يتخذان بالتعاون الوثيق بينهما الإجراء الذي قد يسلم بضرورته، وذلك حتى يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لإعادة السلم إلى نصابه.

وقد قلت لهما بعد اطلاعي على هذه الصيغ: إني لا أرى فروقًا تستحق الذكر؛ لأن أهدافها كلها واحدة، فقال اللورد ستانسجيت: «إنني أفكر في نص يبعد كل فكرة خاصة بخطر الحرب، وحتى لا تنصب المادة الثانية إلا على حالة الحرب الفعلية …» فشكرته على هذا التفكير، فإنه دليل الرغبة في تحسين الموقف.

الجلاء والسودان

ثم انتقل الكلام بعد ذلك إلى مسألة الجلاء، فقال اللورد ستانسجيت: «وما هي اعتراضاتكم على تفصيلات الجلاء؟»

فقلت: «إن هذا الذي تعرضونه هو جلاء معاهدة سنة ١٩٣٦، وليس الجلاء المطلوب اليوم، إنكم تنقلون قواتكم من الداخل إلى منطقة قناة السويس، فليس هذا جلاء، وإنما هو انتقال من أرض مصرية إلى أرض مصرية أخرى!»

فقال: «إن هذه مراحل الجلاء، وماذا يرضيكم في مسألة مدة الجلاء؟»

قلت: «إني أصارحك القول: إن هيئة المفاوضات قد تلقت بالرفض والامتعاض اقتراحكم المتضمن خمس سنوات لتنفيذ الجلاء، ولم أخف عليكم رأيي في ذلك قبل عرضه على هيئة المفاوضات المصرية، صدقني إننا قد وصلنا إلى آخر ما يمكن عرضه أو قبوله، أما خمس سنوات فهي فترة لا يمكن أن يقبلها مصري، إننا نعلم أن جلاء المحاربين لا يستغرق زمنًا طويلًا، ونحن لا نستعجلكم استعجال الأعداء، بل استعجال الأصدقاء، ولعل في سنة ونصف، أو سنتين على أكثر تقدير، الفترة المعقولة لإتمام الجلاء الكامل على مهل، فلسنا نضع السنج في ظهوركم حتى تخرجوا على عجل، بل أنتم تخرجون كما قلت على مهل خروجًا كريمًا لا يترك وراءه مرارة.»

فلم يرد على ذلك ستانسجيت ولا السفير، بل أطرقا في صمت.

ثم فاتحتهما في مسألة السودان، فقال اللورد ستانسجيت: أنه قرأ كل ما كتب عن السودان في المفاوضات والمعاهدات الماضية أو مشروعات المعاهدات، فلم يجد في إحداها كلامًا كهذا الذي يقترحه الجانب المصري الآن.

فقلت له: «لم تكن المفاوضات الماضية حاسمة في اتجاهاتها ولا في موضوعاتها، ونحن الآن نريد أن نفرغ من كل المشاكل على وجه يرضي، إن حق السيادة المصرية على السودان حق قديم اعترفتم به أنفسكم فيما مضى، ونحن نطلب التسليم بهذه السيادة، ونعتبرها في أقصى درجات الأهمية، وبدونها لا تتم المعاهدة.»

فقال ستانسجيت: «إن معاهدة سنة ١٩٣٦ جاء فيها أن ليس في نصوصها أي مساس بمسألة السيادة على السودان، فلماذا لا نلجأ لنص كهذا الآن؟»

فقلت: «وما معنى تفادي البت في هذه المسألة؟ وما الغرض من تركها معلقة؟ إننا نريد أن تكون مفاوضات نهائية.»

فقال: «ألم نتفق على أنه بعد إمضاء المعاهدة المصرية الإنجليزية تجري مباحث بشأن الحالة في السودان؟! فما معنى التعجل في أمرها الآن؟»

قلت: «هذه مسألة بدهية لا نزاع فيها، ولسنا نحن الذين نتعجل البت في أمور السودان، وإنما رجالكم في السودان هم الذين يتعجلون رسم الخطط، ووضع سياسة المستقبل للسودان، مما اضطرني إلى الكتابة إلى الحاكم العام لافتًا نظره إلى ما في ذلك من مخالفات، كما كتبت بذلك إلى السفير.»

قال اللورد ستانسجيت: «إن المسألة هي هل يحسن البت من الآن في مبدأ خاص بالسودان، أو يحسن ترك البت مؤقتًا إلى ما بعد إتمام المباحثات المتفق عليها، وهذا هو الوضع الصحيح!»

فقلت: «إني آسف أن أصارحكم بأن المصريين قد فقدوا الثقة في نياتكم بشأن السودان، إن بين مصر والسودان أواصر كثيرة، ليس إلى فصمها من سبيل.»

وهنا أبديت أمنيتي في أن تتاح لي الفرصة قريبًا لمقابلة مستر بيفن في مصر، أو في لندن إذا كانت مشاغله لا تمكنه من الحضور إلى هذه البلاد، فضحك اللورد ستانسجيت.

وقال: «ولكن الحكومة البريطانية لا تستطيع أن تقدم لكم قصر أنطونيادس في لندن!»

فقلت مبتسمًا: «لا حاجة إلى ذلك، ونحن نعرف كرمكم من قديم.»

بين عمرو باشا ومستر بيفن

أسلفت أنني اتصلت تليفونيًّا بسفيرنا في لندن سعادة عبد الفتاح عمرو باشا، وطلبت إليه أن يقابل من بيدهم تصريف الأمور، ويكاشفهم بالحرج الذي نجم عن موقف الوفد البريطاني الأخير في المفاوضات، ويبعث إلينا برد سريع.

وقد جرت بعد ذلك محادثات عدة بين عمرو باشا، ورجال وزارة الخارجية الإنجليزية أثناء مرض مستر بيفن، وكان مستر أتلي يتولى الشئون الخارجية، فلما قابله عمرو باشا وجده محنقًا على الحالة التي وصلت إليها المفاوضات مع مصر، ولم يخفِ عمرو باشا أن مجلس الوزراء البريطاني مصمم على ألا يتراجع عن مشروعه الأخير، الذي قدمه ستانسجيت والسفير البريطاني، وقال عمرو باشا في رسالته التي بعث بها إلينا، إن النية كانت منصرفة إلى قطع المفاوضات مع مصر، وقد تجلى ذلك على ألسنة موظفي وزارة الخارجية، فلما وجد عمرو باشا هذه الروح، رأى من المصلحة أن يسعى لمقابلة مستر بيفن وهو معتكف لمرضه، وقد استعان في ذلك بعلاقاته الشخصية الطيبة معه، وقد قال له مستر بيفن: «أنت ترى أن مجلس الوزراء البريطاني، وفي طليعتهم مستر أتلي قد أصبحوا الآن ضدي في مسألة مصر، وكذلك العسكريون، ولولا أنني رجل قد اختمرت في رأسه فكرة أعمل لتحقيقها لما كان هناك مندوحة من قطع المفاوضات، وترك هذه المسألة، ولكني أرى أنه من مصلحة مصر وإنجلترا معًا أن يقوم بينهما تفاهم؛ ولذلك أرجوك أن تتصل بصدقي باشا، وتبلغه هذا الحديث، ورجائي أن تكون رسول سلام وتوفيق، وإلا ضاع كل شيء.»

فلما قال له عمرو باشا: إن الجانب المصري مصمم على ما قدمه وأبداه، قال: «إن التصميم لا معنى له ولا جدوى فيه، والمسائل الكبرى لا تعالج بهذه الروح ولا على هذا الشكل …» ثم قال: إنه قد بلغه أن مستر أتلي ذكر أن سنوات الجلاء يمكن إنقاصها من خمس سنوات إلى أربع!

وفي زيارة ثانية من عمرو باشا لمستر بيفن وجد عنده أحد محاميي وزارة الخارجية البريطانية — ولم يكن مستر بيكيت — فتحادث الثلاثة في شئون المفاوضات، التي انحصرت الآن في المادة الثانية فيما يتعلق بالمعاهدة ذاتها، وتفاهموا على النص الآتي لهذه المادة:

اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان في حالة ما إذا أصبحت مصر، أو البلاد المتاخمة لها محل اعتداء مسلح — على أن يقوما بالتعاون الوثيق فيما بينهما بالعمل الذي تتبين ضرورته، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لإعادة السلم إلى نصابه.

واتفق الطرفان الساميان المتعاقدان في حالة تهديد سلامة أية دولة مجاورة لمصر، على أن يتشاورا بقصد القيام بالعمل الذي تتبين ضرورته، وذلك حتى يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لإعادة السلم إلى نصابه.

ثم قال عمرو باشا إن مستر بيفن صرح له بأن هذه الصيغة هي النتيجة المباشرة لمساعيه التي يقصد بها التقريب ما أمكن بين وجهات النظر المصرية البريطانية، وكان من شأن هذه الرغبة الصادقة إبقاء النص الخاص بالبلاد المتاخمة.

وفيما يختص بالبلاد المجاورة إذا تعرضت لخطر الحرب تكون العلاقة بين الحليفتين مقصورة على التشاور، وهذا التشاور لا ينطوي على التزامات جبرية، ولا يترتب عليها دخول الجيوش البريطانية مصر في غير حالات الاعتداء عليها.

ثلاث سنوات

وقال مستر بيفن عن مدة الجلاء: إنه سيأخذ على عاتقه أن تكون ثلاث سنوات لا خمسًا — كما طلب أول الأمر — ولا أربعًا — كما قال مستر أتلي، وهنا قال لعمرو باشا: «لا تظن أن الغرض من هذا كله كسب سنة، إن المسألة أهم من ذلك كثيرًا، إننا في الواقع نجتاز مرحلة دقيقة يتهددنا فيها الخطر الروسي تهديدًا شديدًا، والمسألة حياة أو موت لنا ولكم، فليس من مصلحة مصر مطلقًا في هذه المرحلة أن تكون خالية من الجيوش التي تدافع عنها وعن أنفسنا، وهذا ما قصدت إليه حين قلت: إننا لا نستطيع أن نترك وراءنا فراغًا vacuum»، ثم قال: «إنني سمعت أنكم تريدون الذهاب إلى مجلس الأمن، ولا مانع عندي إن اخترتم هذا الطريق، ولا أشعر بالحرج مطلقًا أن أذهب بهذه القضية إلى هذا المجلس، فإن عندي حججًا قوية أستطيع الإدلاء بها.

أما فيما يختص بالسودان، فإني أصارحك بأن مجلس الوزراء البريطاني لا يستطيع مطلقًا الموافقة على النص الذي تريده مصر، وللجانب المصري أن يطلب ما يشاء، وأن يعلن ما يشاء، ولكن ليس له أن يصر على أن نسلم مقدمًا بما يريده وما يعلنه.

وأرجو أن تقول كل هذا لصدقي باشا، وتؤكد له أن هذه المسائل الثلاث تمثل وحدة لا يجوز قبول بعضها ورفض البعض الآخر، وأن هذا آخر ما عندنا.»

وهنا انتهى الحديث بين عمرو باشا ومستر بيفن …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤