أطماع الإنجليز في السودان

تحدثت في الفصل الماضي عن بعض ما جرى بيني وبين اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني من حديث حول مسألة السودان، وقد بدا من الإنجليز أنهم يقفون فيها موقف المعارضة الشديدة لسيادة مصر على هذه البلاد، وأود هنا أن أتحدث عن النظرية الإنجليزية في السودان، وكيف رددنا عليها.

إن نقطة الابتداء في النظرية الإنجليزية هي أنه لما أصبح المهدي في سنة ١٨٨٤ مسيطرًا على أراضي السودان، واضطرت الجيوش المصرية إلى مغادرته، انتقلت حقوق السيادة التي كانت لمصر إلى المهدي … وهناك رواية أخرى لهذه النظرية، وهي أنه لما كان المهدي ثائرًا، ولم يُعترف به؛ فإنه لم يرث حقوق الخديوي، ولكن كان من نتيجة مغادرة السلطات العسكرية والمدنية المصرية لتلك البلاد، أن أصبح السودان «مالًا لا مالك له.»

ويقول الإنجليز: إن غزو السودان أو إعادة غزوه لم يكن ممكنًا إلا بفضل بريطانيا العظمى، ويلاحظون ما يأتي:
  • (١)

    إن بريطانيا قد أعادت تنظيم الجيش المصري، وزودته بأنظمة بريطانيا حولته إلى قوة أصبح في مقدورها أن تهزم المهدي.

  • (٢)

    إن الوحدات البريطانية اشتركت فعلًا في حملة السودان.

  • (٣)

    إن البريطانيين هم الذين أعادوا تنظيم المالية المصرية، وأتاحوا للخزانة المصرية أن تتحمل مصاريف الحملة الموجهة ضد المهدي.

  • (٤)

    إنه لو لم تكن إنجلترا قد تدخلت لكانت فرنسا قد استولت على فاشودة، وعلى جنوب السودان، (وقد أشار اللورد ستانسجيت إلى ذلك في حديث له معي.)

والواقع أن مصر صاحبة السيادة كانت في ذلك الحين مغلوبة على أمرها باحتلال بريطانيا عسكريًّا منذ سنة ١٨٨٢، ولم يكن لبريطانيا قبل هذا الاحتلال أي اتصال بالسودان، وهي لم تتدخل في الشئون السودانية، ولم تشترك في إعادة فتح السودان؛ إلا لأن هذا الإقليم جزء من مصر؛ ولأن «إنجلترا — كما صرح بذلك سير إدوارد جراي في البرلمان البريطاني في ٢٨ مارس سنة ١٨٩٥ — تشغل مركزًا خاصًّا هو مركز القيم للذود عن مصالح مصر.»

على أن بريطانيا لم تنازع قط في سيادة مصر على السودان، سواء قبل حملة السودان أو في خلالها أو بعدها، وعلى العكس أيدت هذه السيادة تجاه الدول الأجنبية، وحين وقعت حادثة فاشودة كتب «كتشنر» نفسه إلى «الكولونل مارشان» قائد الحملة الفرنسية يقول: إنه «تلقى تعليمات لإعادة السيادة المصرية على مديرية فاشودة»، وأنه «يحتج على ما وقع من رفع العلم الفرنسي على ممتلكات سمو الخديو»، وبعد ذلك أبلغ كتشنر القائد الفرنسي ما يأتي: «اعتبارًا من اليوم استعادت مصر رسميًّا ولاية الحكم على هذه المنطقة؛ فاشودة.»

أما اتفاقيتا ١٩ يناير و١٠ يوليو سنة ١٨٩٩، فلم تتناولا إلا موضوعًا واحدًا هو تنظيم الإدارة في السودان، وهما لم يمسا حق مصر في السيادة، وأن التنازل عن جزء من هذا الحق لا يمكن أن يقع إلا بموجب وثيقة خاصة وقاطعة، ولا يمكن أن يستفاد هذا التنازل من نصوص كنصوص اتفاقيتي سنة ١٨٩٩ لا تتعرض للسيادة، بل للنظام الإداري في السودان.

•••

وقد كانت تسوية مسألة السودان في مفاوضات سنة ١٩٣٠ بين الحكومتين المصرية والبريطانية، هي المسألة التي قامت بشأنها أكثر المناقشات حدة وأهمية، وهي التي أدت إلى قطع المفاوضات، على أن مسألة سيادة مصر على السودان لم تكن من العقبات التي قامت في سبيل الاتفاق، بل الأمر على العكس من ذلك … فقد تضمن المشروع الأول للمعاهدة الذي قدمه الوفد المصري يوم ٣ أبريل سنة ١٩٣٠ مادة هي المادة ١٣ نصها كالآتي:

إلى أن تُحل مسألة السودان بمفاوضات مقبلة، ومع الاحتفاظ بجميع الحقوق، يباشر الطرفان المتعاقدان إدارة السودان بالاشتراك بينهما اشتراكًا فعليًّا

الكتاب الأخضر – الطبعة العربية صفحة ٢٨
وقد أثار هذا النص اعتراضات من قبل الوفد البريطاني، الذي كان يريد النص على ما يؤيد اتفاقيتي سنة ١٨٩٩ والنظام الناشئ عنهما، كما عارض الوفد البريطاني من ناحية أخرى في منح مصر نصيبًا فعليًّا في إدارة السودان، فقدم الوفد المصري في ١٤ أبريل سنة ١٩٣٠ نصًّا جديدًا للمادة ١٣ هو:

مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاق في مفاوضات مقبلة لتعديل اتفاقيتي سنة ١٨٩٩، وحل مسألة السودان، وبدون إخلال بحق سيادة مصر على السودان، يتفق الطرفان المتعاقدان على أن يكون مركز السودان هو المركز الناشئ من اتفاقيتي سنة ١٨٩٩ المذكورتين.

وقد وردت الملاحظة الآتية بعد في الكتاب الأخضر بعد هذا النص (ص٨٤ من الطبعة العربية).

ملاحظة: فيما يتعلق بالمادة ١٣، وهي الخاصة بمسألة السودان قبل الفريق المصري أن يشير إلى اتفاقيتي سنة ١٨٩٩، بعد أن طلب مستر هندرسون من دولة النحاس باشا في حديث خاص أن يقبل ذكر اتفاقيتي سنة ١٨٩٩ في المادة الخاصة بالسودان؛ تسهيلًا لمهمته أمام مجلس العموم، حتى يستطيع أن يدافع عن طلب الاشتراك الفعلي في الإدارة، بأنه تطبيق لأحكام هاتين الاتفاقيتين، فقبل دولة النحاس باشا منه ذلك على شرط النص أيضًا على حق السيادة المصرية الكاملة على السودان، فلم يعارض مستر هندرسون في ذلك.

وفي الجلسة العاشرة (١٤ و١٥ أبريل سنة ١٩٣٠) اقترح الوفد البريطاني النص الآتي:

مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل؛ لتعديل اتفاقيتي سنة ١٨٩٩ يتفق الطرفان المتعاقدان على أنه بغير إخلال بحقوق مصر ومصالحها المادية، يكون مركز السودان هو المركز الناشئ من اتفاقيتي سنة ١٨٩٩ المذكورتين، وبناء على ذلك يظل الحاكم العام يباشر بالنيابة عن الطرفين المتعاقدين السلطات التي خولتها إياه الاتفاقيتان المشار إليهما»، فقبل الفريق المصري هذه الإضافة على أن يقبل الفريق البريطاني في نفس الوقت المذكرة الآتي نصها:

«المفهوم بتطبيق المادة ١٣ أن حقوق سيادة مصر على السودان تظل سليمة من غير نص، وأن الفريقين المتعاقدين يباشران إدارة السودان بالاشتراك بينهما اشتراكًا فعليًّا …

وبناء عليه يعين وكيل مصري للحاكم العام، وموظفون مصريون للتعاون مع الموظفين البريطانيين في إدارة السودان، وتعود الجنود المصرية إلى السودان بعد التصديق على المعاهدة، ولا يوضع أي قيد على المصريين فيما يتعلق بالهجرة، والتملك والمتاجرة»، (الكتاب الأخضر صفحة ٩٠.)

والمسألة الوحيدة في هذه المذكرة التي لم تثِر جدلًا هي المسألة المتعلقة بحق مصر في السيادة، فإن باقي أحكام المذكرة قد أثارت معارضة قوية من جانب الوفد البريطاني، ودارت في الجلسات التالية مناقشات طويلة حولها، وكذلك حول الاقتراح المصري بالدخول في محادثات خلال السنة، التي يصدق فيها على المعاهدة، من أجل تنفيذ اتفاقيتي سنة ١٨٩٩ وتطبيقهما.

أما عبارة «بغير إخلال بحقوق مصر ومصالحها المادية»، فلم تكن — على العكس من ذلك — محل مناقشة، وأضيفت في جميع النصوص التالية التي قُدمت من الوفدين، كما تضمنها النص الذي قبله كل من الطرفين في النهاية، وقد رفض مجلس الوزراء البريطاني هذا النص، ولكنه أعلن بأن معارضته تنصب فقط على التعهد بالدخول في محادثات ودية في بحر سنة؛ بشأن تطبيق اتفاقيتي سنة ١٨٩٩، ويتبين من ذلك أن مجلس الوزراء البريطاني قد قبل الصيغة المتضمنة لحقوق مصر.

وزيادة على ذلك فإن قطع المفاوضات كان نتيجة لعدم الاتفاق على النقط الثلاث الآتية:
  • (١)

    الدخول في محادثات ودية بشأن تطبيق اتفاقيتي سنة ١٨٩٩.

  • (٢)

    رجوع كتيبة مصرية إلى السودان.

  • (٣)

    إلغاء القيود المفروضة على المصريين في السودان، فيما يتعلق بالهجرة والتملك والمهاجرة.

ولم ترد مسألة سيادة مصر، التي لم يعد الجانب البريطاني يعارض فيها، بين النقط الثلاث التي تعذر الاتفاق عليها، كما لم تكن سببًا لقطع المفاوضات.

•••

وموقف الحكومة البريطانية في سنة ١٩٣٠ يطابق موقف الحكومات السابقة لها، وخاصة تلك الحكومات التي كانت قائمة وقت إعادة فتح السودان، وعقد اتفاقيتي سنة ١٨٩٩.

لم تنازع بريطانيا في سيادة مصر على السودان سواء قبل حملة السودان، أو في خلالها أو بعدها، وعلى العكس فإنها قد أيدت هذه السيادة تجاه الدول الأجنبية، وصرحت دائمًا بأنها لا تعمل في السودان إلا لإعادة سلطة الخديو … ويكفي أن نشير في هذه المناسبة إلى الخطابات التي كتبها كتشنر إلى الكولونيل مارشان وقت حادث فاشودة، يخطره فيها أنه تلقى تعليمات لإعادة السيادة المصرية على مديرية فاشودة، وأن مصر قد استعادت رسميًّا ولاية الحكم على هذا الإقليم.

ولم يكن لبريطانيا العظمى قبل احتلال مصر عسكريًّا في سنة ١٨٨٢ أي اتصال بالسودان، وهي لم تتدخل في إعادة فتحه؛ إلا لأنها — كما صرح بذلك سير إدوارد جراي في البرلمان البريطاني في ٢٨ مارس سنة ١٨٩٥ — تشغل مركزًا خاصًّا، هو مركز القيم للذود عن مصالح مصر، فلم يكن في وسعها إذن — والحالة هذه — أن تتذرع بالمساعدة التي بذلتها لمصر في هذه الظروف؛ لتجردها من جزء من سيادتها على الأقاليم التي عاونتها على فتحها من جديد. وزيادة على ذلك لم يكن من المستطاع — طبقًا لفرماني التولية في سنتي ١٨٧٩ — التنازل عن جزء من هذه السيادة إلا بترخيص من الحكومة العثمانية.

بل على العكس فقد طالبت بريطانيا العظمى بأن تُمنح نصيبًا في الميدان الإداري؛ مكافأة لها على اشتراكها في حملة السودان.

ولم تتناول اتفاقيتا سنة ١٨٩٩ إلا موضوعًا واحدًا هو تنظيم الإدارة في السودان، وهما لم يمسا حق مصر في السيادة …

ولا شك في أن ديباجة اتفاقية سنة ١٨٩٩ تبين الحقوق التي اكتسبتها الحكومة البريطانية بمقتضى حق الفتح، ولكن الذي طالبت به بريطانيا العظمى بمقتضى هذه الحقوق هو «الاشتراك في التسوية الحالية، وفي وضع النظام الإداري والتشريعي المذكور موضع التنفيذ والنهوض بها.»

وفوق ذلك فإن لورد كرومر، وهو من أقدر سياسي بريطاني وصاحب الشأن الأول فيما يتعلق بالموضوع الذي نعالجه، هو الذي يمكنه أن يوضح مدى اتفاقيتي سنة ١٨٩٩، إذ إنهما كانتا من وضعه، فقد كتب في تقريره سنة ١٩٠١ ما يأتي: ألاحظ في تقرير المجلس التشريعي عن ميزانية هذا العام أن المجلس يوافق على المصروفات المخصصة للسودان؛ بناء على أنه يعتبر السودان جزءًا لا يتجزأ من مصر … وهذا الرأي صحيح في جوهره … وإني أنتهز هذه الفرصة؛ لأبين أن الاتفاقية المبرمة سنة ١٨٩٩ لم يقصد بوضعها الانتقاص من حقوق مصر الشرعية.

ومما أحتج به مرارًا رفع العلم البريطاني إلى جانب العلم المصري في السودان، باعتبار أن في هذا مظهرًا شاهدًا على وجود البريطانيين في السودان، ولكن لورد كرومر ذاته تولى تفسير ذلك وتحديد مداه، فقد أوضح في تقريره عن سنة ١٩٠٣ أنه سئل أحيانًا: «لماذا لا تتحمل الخزانة البريطانية جزءًا من مصاريف الإدارة في السودان، ما دام العلم البريطاني يخفق عليه إلى جانب العلم المصري؟» وقد ذكر أن الجواب على هذا السؤال سهل؛ لأن اتفاقية سنة ١٨٩٩ قد وضعت للسودان نظامًا سياسيًّا خاصًّا؛ لغرض مقصود هو تخليص السودان، ومن ثم تخليص مصر أيضًا بصفتها حاكمة هذا الإقليم، من كل هذه الأنظمة الدولية المتعبة التي زادت تعقيد الإدارة المصرية»، ثم أضاف إلى ذلك: «ولولا هذا الاعتبار لما كان هنا ما يدعو، من وجهة النظر البريطانية البحتة، إلى أن يكون العلم البريطاني مرفوعًا في الخرطوم، شأنها في ذلك شأن أسوان أو طنطا.»

فليس رفع العلم البريطاني في السودان إلا نتيجة لإقامة نظام إداري مصري — إنجليزي منفصل عن نظام مصر، وليس علامة على اشتراك في السيادة، فإن هذا الاشتراك ما كان ليتوفر لبريطانيا إلا بمقتضى وثيقة دولية صريحة.

وهكذا فإنه منذ حملة السودان إلى وقت مفاوضات معاهدة التحالف، لم تنازع بريطانيا في انفراد مصر بحق السيادة على السودان، وفي معاهدة سنة ١٩٣٦ ذاتها تُركت هذه المسألة لمباحثات تجري مستقبلًا.

واليوم، وقد عزمت مصر وبريطانيا العظمى على السير معًا في طريق جديد واضح، أصبح من غير المستطاع تجنب بحث هذا الموضوع، كما لا يجوز الاحتجاج بمصالح السودانيين لتأجيل الاعتراف بسيادة مصر، إذ الواقع أن مشروع البروتوكول المقدم من الوفد البريطاني يقدر أنه: «لن يكون السودانيون أحرارًا في تقرير علاقاتهم المستقبلة مع الطرفين الساميين المتعاقدين، إلا حين يصبحون قادرين على القيام بإدارة شئونهم.» وفي هذا اعتراف بأن الشعب السوداني غير قادر في هذه اللحظة الراهنة على تقرير مصيره، فهو إذن غير قادر على رفض سيادة قائمة منذ سنين عديدة.

فليس في ذكر السيادة المصرية في بروتوكول المعاهدة مساس بأي حق يتمتع به الشعب السوداني في الوقت الحاضر، فلن يتسنى له اتخاذ موقف بمحض اختياره بالنسبة لهذه السيادة إلا في مستقبل الأيام، حينما تتوفر له الأهلية الكافية.

•••

هذا هو تلخيص لموقف الجانب المصري أثناء المناقشات التي جرت مع الجانب البريطاني بشأن مصير السودان.

وهو تلخيص متخذ مما دار في بحوث شفهية، وفي مذكرات تبودلت بين الطرفين على أنه ليس كل ما عرض من الجانب المصري، بل إن هناك مناقشات أخرى سيأتي الكلام عنها بشأن بروتوكول السودان، وهي ضمن ما جرى عليه الحديث بيني وبين مستر بوكر وزير بريطانيا بمصر، في الوقت الذي سافر فيه السفير بالإجازة إلى إنجلترا مما سيرد ذكره في حينه، كما أن أقوالًا أخرى تتعلق بموقفنا من السودان جرت أثناء المفاوضات مع مستر بيفن نفسه، مما سيرد ذكرها عند التحدث عن محادثات لندن، ومعروف أن هذه المحادثات الأخيرة كان كلها متعلقًا بالسودان، ومسألة السيادة التي لم يقبل الإنجليز في الآونة الحاضرة أن يعترفوا بها كما سبق لهم الاعتراف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤