الحزبية تعرقل سير المفاوضات

أوردنا نص البيان الذي كلفني الوفد المصري للمفاوضات بإبلاغه للجانب البريطاني، وفيه يصر الوفد على وجهة نظره، ويتمسك بمذكرته المقدمة في أول أغسطس، وما صاحبها من نصوص سبق نشرها. وقلنا: إنه بعد المناقشة والأخذ والرد بيني وبين رئيس الوفد البريطاني والسير رونالد كامبل، انتهينا إلى صيغة أعلنا بمقتضاها أن الباب لا يزال مفتوحًا لتبادل جديد في الآراء بقصد الوصول إلى نتيجة ملائمة لمصالح البلدين … وقد كان مفهومًا — وهذا على الأقل من الناحية الرسمية — أن عقدة العقد هي مسألة السودان، وبالأخص مسألة «السيادة» عليه، التي بدأ الإنجليز ينازعون حق مصر الصريح فيها، على أنه قد تبين في غضون المناقشات الحادة التي تميز بها الدور الأخير من المفاوضات في النطاق المصري أن عوامل جديدة سيطرت على الموقف، بعضها يرجع إلى تحول في وجهة النظر العامة تلقاء أغراض المعاهدة، وبعضها إلى تيارات بدأت خفية — أو على الأقل غير واضحة — ثم أصبحت سافرة وأكثرها من صنع المؤثرات السياسية والحزبية، التي وجدت في مناقشات المعاهدة ومداولاتها المضنية، مرعًى خصيبًا تتغذى فيه المساعي والأطماع ذات الطابع الداخلي المحض … ومن أسف أنها امتدت إلى دائرة المفاوضة نفسها، وهي التي كان يجب ألا تتطاول إلى حرمها المساعي والتدبيرات.

محاولة جديدة لتعكير الجو

وقد غدا أمر المحالفة مع بريطانيا ممقوتًا لدى فريق من الرأي العام، الذي صوروا له هذه المحالفة في صورة قيد جديد تكبل به مصر، فترزح تحت نيره كما كان الحال في الزمن الغابر، وأصبح هذا الفريق يعتقد أنه بشيء من الضغط، ومن معاملة إنجلترا بالشدة والحزم نتخلص من المحالفة والتزاماتها، ونتخلص تبعًا لذلك من لجنة الدفاع ومن مخاوفها وأخطارها، ونفرض نحن على إنجلترا الجلاء التام الناجز، ونضطرها اضطرارًا إلى ترك السودان، وإلى الاعتراف بحقوقنا على هذا القطر من غير منازع ومن غير مقابل!

وإذا سألت: «كيف يكون الاعتراف من جانب بريطانيا وحدها، ونحن في حِل من كل شيء؟» قالوا: حسبنا قوة الحق والعدل التي لا تقف في سبيلها قوة مهما عظم بطشها واشتد خطرها … وقالوا أيضًا: «ما لنا ولإنجلترا وعندنا حلفاؤنا الطبيعيون من العرب الذين تربطنا بهم الأواصر المتينة، والذين يهبون لنجدتنا متى حزب الأمر، وأحدقت بنا الأخطار …!»

وكان كل ذلك — مع الأسف — وليد الأوهام والأفكار غير الناضجة، وبالأخص وليد سياسة المزايدة، التي كان الساسة يعملون لها ألف حساب، وهي السياسة التي طالما أفسدت على مصر ثمار جهودها وخيبت آمالها …

وقد كان لبيان الوفد المصري بالاعتراض على كل محالفة مع إنجلترا الأثر الكبير في أذهان قوم تولاهم الملل والسأم، كما سبق لنا القول … وهنا رأيت من حسن التصرف وضعًا للأمور في نصابها الصحيح، أن أرفع استقالة الوزارة إلى السدة الملكية، ذاكرًا في كتابي «أني قد مضيت وزملائي في القيام بمهمة المفاوضات، وقطعنا شوطًا كبيرًا منها، ولم تبق إلا مرحلة كنت وما زلت كبير الرجاء أن نجتازها في نجاح وتوفيق، غير أن متاعب داخلية قد نبتت، وتفاقم أمرها بغير مبرر له وزن، وأصبح من العسير علي أن أستمر في الاضطلاع بالعبء الجسيم في وجه هذه المتاعب؟ وقد رأيت أن أفتح الطريق لغيري، وأن أضع الأمر بين يديكم (مخاطبًا جلالة الملك) لتتصرفوا فيه بحكمتكم السامية؛ وليستطيع من يخلفني أن يعالج البقية الباقية من شئون المفاوضات، بما يحقق للبلاد ما رجوناه لها من استقلال وحرية في ظل الكرامة القومية.»

على أن هذه الاستقالة لم تقبل ووجه إلى النطق السامي في أول أكتوبر سنة ١٩٤٦، بأن استمر في العمل على «تحقيق أهداف البلاد الوطنية التي هي أعز أمانينا.»

التفاؤل

ويحسن هنا أن أشير إلى أسباب التفاؤل، التي حدت بي إلى المضي في المفاوضات وقتذاك رغم ما أحاط بها من متاعب، وما تولى القوم في مصر من ملل وسأم، ورغم محاولات العاملين على إفساد الجو السياسي بمصر بتغليب عناصر المزايدة، والتطرف على عناصر الحكمة والاعتدال …

وقد كنت متفائلًا؛ لأن المصاعب ليس معناها الفشل والإخفاق، بل قد توائم التفاؤل وقد تعالج، ويستعان عليها به … ومن الذي كان يتصور من العقلاء أن قضية كبيرة الشأن كالقضية المصرية تنتهي في كلمات، أو في تبادل المذكرات، أو تُحل بضيق الصدر وقلة الصبر من أحد الجانبين المتفاوضين أو من كليهما، ومع ذلك فقد كانت ثلاثة أرباع المسائل، التي تناولتها المفاوضة بين مصر وبريطانيا قد انتهت إلى التفاهم التام، بل وضعت لها الصيغ الملائمة، فصار مفروغًا منها.

مسألة السيادة … ووحدة الوادي

أما مسألة السودان، فهي التي أشعرت بوادرها بما تنطوي عليه من اختلاف بين وجهتي النظر واستعصاء الحل، غير أنني كنت كبير الأمل في أن الجانب المصري سوف يوفق إلى إقناع الجانب البريطاني، بأننا لا نطلب جديدًا غير موجود، وإنما نطلب الاعتراف بحقوق قائمة لا شك فيها مستندة إلى مظاهرها القانونية والفعلية، فإن السيادة على وادي النيل ووحدة ذلك الوادي الممثلتين في التاج المصري، حقيقتان ملموستان برغم محاولة الحكام البريطانيين، وبالأخص المحليون منهم تجاهلهما، أو الغض من شأنهما.

لم يكن مطلب مصر في مسألة السودان مستندًا إلى نزعة استعمارية، أو ميل إلى سيطرة يتولاها المصريون على شعب يعتبرونه شعبًا شقيقًا عزيزًا على قلوبهم، وإنما يقصد المصريون أن يحفظوا لأهل السودان عهد الأخوة الكاملة الشاملة، المؤسسة على ما أوجدته الطبيعة من التعاطف والتحاب بين الأخ الكبير والأخ الصغير.

فإذا ما تبين الإنجليز هذه الحقائق كان الرجاء عظيمًا في ألا يتشبثوا بما يتجافى والأوضاع السليمة فيما يتعلق بالسودان، خصوصًا وقد صار واضحًا استمساك المصريين بهذه الأوضاع الأساسية، التي لا يستطيعون التغاضي عنها بأية حال في حين أنهم في استمساكهم هذا منزهون عن مظنة الشهوة والغرض.

figure
أعضاء الوفد البريطاني في المفاوضات يتوسطهم لورد ستانسجيت، وإلى يمينه السير رونالد كامبل السفير البريطاني، وإلى يساره المستشاران العسكريان.
figure
إسماعيل صدقي باشا رئيس المفاوضين المصريين، وإلى يمينه لورد ستانسجيت، رئيس وفد المفاوضين الإنجليز في جلسة هادئة بسراي الزعفران، عقب النقاش الذي دار بشأن مسألة السودان.
figure
اختلى إسماعيل صدقي باشا بالسير رونالد كامبل السفير البريطاني طويلًا في برج العرب … وهو هنا يتحدث إلى السفير عن الإصلاحات التي أدخلت على منطقة برج العرب خلال فترة الاستراحة من المفاوضات.

التحالف قائم … ولا بد منه

أما رغبتنا في التحالف معهم، فلم نكن بحاجة إلى التدليل عليها، كما أنه لم تكن بنا من حاجة للبحث عن أمة كبيرة تساعدها وتساعدنا عند وقوع الخطر … فإن بيننا وبين بريطانيا العظمى حلفًا قائمًا فعلًا ظهر أثره في أثناء الحرب الأخيرة، وجنى الإنجليز من مزاياه بقدر ما جنى المصريون، فلم نكن ذوي مصلحة في النكول عن حلف الإنجليز، فتستفيد من ذلك دولة أخرى.

وقد أقرت مصر وجهة النظر هذه، جاعلة شرطها الأساسي في تجديد العهد مع بريطانيا العظمى ضرورة استقلال البلاد استقلالًا صحيحًا لا شائبة فيه، مظهره الجلاء التام، مستمسكة بأمنية غالية أخرى وهي حل مسألة السودان، والانتهاء من الوضع الشاذ الخاص به، وذلك على أساس وحدة الوادي في رعاية تامة لرفاهية الشعب السوداني الشقيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤