السودان بين الإنجليز والخديو عباس

تحدثت عن مقتل بطرس غالي باشا رئيس النظار سنة ١٩١٠، وكيف كانت مكانته عند الخديو عباس حتى إنه بكى لمصرعه، وذهب بنفسه إلى المستشفى لزيارته وقبَّله في وجهه وهو يعاني سكرات الموت.

والحق أن بطرس باشا لم يكن خائنًا لبلاده، كما يصوره حادث مقتله، أو على الأقل في اعتقاد قاتله، فقد كان — رحمه الله — مخلصًا لوطنه محبًّا لحرية بلاده، وكانت له مواقف في الوزارة تدل على مبلغ إيمانه بحقوق أمته، ورغبته في خلاصها من الأجنبي.

ولو لم يكن بهذه الصفة لما حاز ثقة الخديو عباس، الذي كان يشجع الحركة الوطنية والعاملين لها، ويتمنى أن يكون على رأس أمة حرة مستقلة لا يسومها الاحتلال الهوان، ولا يهدده المحتلون بالخلع عن أريكة البلاد بين حين وآخر …!

كانت السياسة الإنجليزية تهدف من زمن بعيد إلى التدخل في شئون السودان، والاشتراك في حكمه، أو على الأصح التفرد بحكمه دون مصر، فعلى أثر انتهاء الحملة السودانية التي أقحم الإنجليز أنفسهم فيها مع الجيش المصري، وكان على المصريين العبء الأعظم من تضحيات في الأنفس والأموال، كما كان الحال دائمًا، إذ لا يمكن أن ننسى أن الجيش المصري قد أبيد في حوادث الدراويش، وهو تحت إمرة قواد من البريطانيين لم يحسنوا تصريف الأمور — وعلى أثر انتهاء تلك الحملة سافر اللورد كرومر سنة ١٨٩٨ إلى السودان، وخطب في «أم درمان» وفي «الخرطوم» خطبتين وضحت فيهما أغراض الحكومة البريطانية — تلك الأغراض، التي تضمنتها فيما بعد «اتفاقية السودان»، فقد قال اللورد كرومر:

إني أعد نفسي سعيدًا بمقابلتي لكم لأهنئكم على الخلاص من استبداد حكومة الدراويش، بفضل ما أظهره السردار كتشنر وضباطه من الحذق في تدبير القتال، وما برهنت عليه الجنود البريطانية والمصرية من الشهامة والثبات.

وقد شاهدتم العلمين الإنجليزي والمصري يخفقان على هذا المكان، وفي هذا إشارة إلى أنكم ستُحكمون في المستقبل بملكة إنجلترا وخديو مصر.

والنائب الوحيد في السودان عن الحكومتين البريطانية والمصرية، سيكون سعادة السردار الذي أودعت فيه جلالة الملكة وسمو الخديو تمام ثقتهما.

واعلموا أن البلاد السودانية لا تستمد أحكامها من القاهرة ولا من لندن، بل إن السردار وحده هو الذي سيقوم بالعدل فيما بينكم، فلا يجب التعويل على أحد غيره، ولست أشك في أنه يحقق أمانيكم، ويحقق لكم كل ما ترجون.

هذا ما قاله اللورد كرومر قبل اتفاقية السودان بعام، وكان لهذه التصريحات الخطيرة وقع شديد في جميع الأوساط المصرية، وأحدثت دهشة عند الخديو وسائر الوطنيين والمسئولين عن مصير مصر والسودان.

اتفاقية السودان

ظهرت آثار تلك التصريحات في مشروع اتفاقية السودان فيما بعد، وكانت إنجلترا في ذلك الحين أقوى دولة في العالم، وهي الدولة الوحيدة وقتئذ في توجيه السياسة العالمية، والتحكم في مصير الأمم، ولم تكن المبادئ الحديثة التي نسمعها الآن قد خرجت إلى الوجود، وكان احتلالها لمصر ما زال له سلطانه وخطره، وكان المعتمد البريطاني له السلطة الفعلية في البلاد، وكان يتدخل في الكثير من الشئون، كما كان المستشار المالي الإنجليزي يحضر جلسات مجلس النظار.

وكانت تركيا صاحبة السيادة في ذلك الزمان في دور الاحتضار، وكانت سيادتها اسمية وكان نفوذ إنجلترا على ضفاف البسفور يماثل نفوذها على ضفاف النيل، فكان من الطبيعي أن تطمع بريطانيا في مصر، وأن تجرؤ على التصرف في أقدارها إن طوعًا، وإن كرهًا … ولذلك كانت اتفاقية السودان بمثابة إملاء من الغاصب القاهر على المغصوب العاجز، ومن القوي الجبار على الضعيف المكبل.

وحدث أن زار اللورد كرومر الخديو عباس بعد رحلته في السودان، وبعد تلك التصريحات الخطيرة التي ألقاها على أهاليه، فأشار في حديثه معه إلى أن اللورد سالسبوري وزير الخارجية البريطانية بعث إليه بمشروع اتفاق إنجليزي مصري يختص بالسودان، وأنه سلم نسخة منه لوزير الخارجية المصرية بطرس غالي باشا.

ومع أن عقد اتفاق سياسي مع مصر على هذا الوجه فيه اعتداء على السيادة التركية، إلا أن الإنجليز لم يأبهوا بها؛ لأنها كانت اسمية، وكانت صاحبة هذه السيادة واهنة القوى ضعيفة الشأن أمام الإنجليز الأقوياء.

وكان مشروع هذه الاتفاقية قد جاء من لندن مكتوبًا مهيأ للتنفيذ، واستطاعت بريطانيا في هذه الظروف أن تجبر مصر على قبوله بحذافيره، وأن يضطر مجلس النظار إلى قبوله سنة ١٨٩٩.

ومن الغريب أن الإنجليز بعد عقد هذه الاتفاقية، التي حصلوا فيها على إقحامهم في حكم السودان، قد طالبوا مصر بأن تدفع لهم نفقات الجنود الإنجليزية في الحملة السودانية، وقد دفعتها مصر مرغمة …!

ذكرت كل ما تقدم للتاريخ؛ لأني لم أكن إذ ذاك قد بدأت حياتي العامة، ولكني إذا ما ذكرت ذلك، وذكرت اتفاقية السودان، أشعر بأن سعيي الأخير لبعث سيادة مصر على السودان، وجعلها وحدة كاملة تحت التاج المصري — مما كان قاب قوسين أو أدنى — هو سعي يشرفني، إذا ما قارن القارئ ما كنا فيه في ذلك الحين بما كنا سنفوز به في مفاوضاتي الأخيرة …!

اتصالي بالملك فؤاد

كانت سياسة الإنجليز في مصر ترمي إلى محاربة التعليم، وبخاصة التعليم العالي؛ لأنه ينير البصائر، ويدفع المصريين إلى محاربة الاحتلال والتمسك بالحرية والاستقلال.

ولهذا عندما نجح مشروع إنشاء الجامعة المصرية الأهلية سنة ١٩٠٦، لم يصادف هوى في نفوسهم، وقام اللورد كرومر يحاربه، ويدعو إلى إنشاء الكتاتيب، وينادي بأن الأمة في حاجة إلى التعليم الأولي قبل التعليم العالي، ولكن القائمين بهذا المشروع لم يعبَئوا بذلك، وساروا في طريقهم، بل إنهم استفادوا من الدعوة إلى نشر التعليم الأولي.

وقد تألف مجلس إدارة الجامعة الأهلية، وكنت أحد أعضائه، وكان من زملائي فيه المرحومون عبد الخالق ثروت باشا، ومحمد علوي باشا، وإسماعيل حسنين باشا ومرقس حنا باشا، وعلي بهجت بك وغيرهم.

وأجمع اختيارنا لرياسة الجامعة على «الأمير» أحمد فؤاد «الملك فؤاد الأول»، وقد صادف ذلك ارتياحًا عامًّا، لما عُرف به من تشجيع المشروعات العلمية والعمرانية، وكان له الفضل في نجاح الجامعة المصرية قبل أن تُضم إلى الحكومة، ثم بعد أن ضُمت، وأصبحت بجهوده المشكورة من أكبر الجامعات، ومن جهتي الشخصية يسرني أن أقول: إنه كان أول اتصال لي بالمرحوم الملك فؤاد، هذا الاتصال الذي نما، وكان له أثره العظيم فيما بعد.

سياسة الخديو عباس

تولى الخديو عباس أريكة مصر وهو شاب، وكان ولا شك وطنيًّا صميمًا، ولكن بعض نواحي سياسته وتصرفاته أتاحت للإنجليز زيادة التدخل في شئون مصر.

وقد رأيت كيف أنه مكن اللورد كتشنر من التدخل في الأوقاف، حتى تحولت من ديوان إلى وزارة، وكيف أدى به السعي وراء المادة في مسألة سكة حديد مريوط إلى أزمة بينه وبين الإنجليز … وقد كانت الإشاعات عن تقرب الخديو من الألمان، ومساعدته للطليان وتشجيعه للحركات المعادية للإنجليز، وجمع الطوائف حوله، مما أخافهم منه، وكان له أثره بعد ذلك في إقصائه عن العرش.

وكان مما نبه الإنجليز إلى الخديو عباس، وزاد في حذرهم منه تلك الرحلة التي قام بها في الوجه البحري سنة ١٩١٤، وكنت وقتئذ ناظرًا «وزيرًا» للزراعة في وزارة رشدي باشا. فقد أُعدت هذه الرحلة إعدادًا ضخمًا، ووُضع لها برنامج حافل بالاستقبالات والمظاهرات في كثير من المدن، وتقرر أن يتناوب النظار «الوزراء»، ورئيسهم مرافقة الخديو، وقُسمت الرحلة إلى مناطق، وكان من نصيبي أن أكون في معيته من إيتاي البارود إلى الإسكندرية وكنت وقتئذ أتمتع بثقته، بل بعطفه.

وحدث قبيل هذه الرحلة أن عرض مشروع قانون الجمعيات التعاونية الزراعية على الجمعية التشريعية، وكان فريق من الأعضاء على رأسهم المرحوم سعد زغلول باشا معارضين في هذا المشروع، وكانت وجهة الخلاف في تقرير رقابة الحكومة على الجمعيات التعاونية، فذهبت للدفاع عن رأي الحكومة في وجوب رقابتها على هذه الجمعيات، كما هو الشأن في البلاد الأخرى، واستطعت أن أفوز بموافقة الأغلبية.

كان هذا الفوز مما اغتبطت به كثيرًا لاعتقادي بفائدته للمصلحة العامة؛ ولأن الرأي العام كان قد اهتم الاهتمام كله للموضوع، وقد ظهرت آثار هذا الاغتباط على وجهي عند مقابلتي للخديو في إيتاي البارود، فسألني سموه عن سبب انشراحي واغتباطي، فأجبت: ذلك يا أفندينا؛ لأن حكومتكم قد فازت اليوم بمطلبها فيما يتعلق برقابتها على الجمعيات التعاونية.

وكنت أنتظر من سموه أن يبتهج بهذا الفوز، وأن يهنئ وزيره على نجاحه، ولكنه كان على العكس من ذلك، ما كدت أتم عبارتي حتى عبس في وجهي، وقال: وماذا فعل سعد زغلول؟

وسكت … وأدركت من ذلك أنه كان عالمًا بما بيتته المعارضة في هذا الموضوع، وقد بقي عابسًا فترة من الزمان …!

أغا خان وعرش مصر

سافر الخديو عباس إلى استانبول في صيف ذلك العام، وقبل أن تقوم الحرب العالمية بقليل، وسافرت إلى فيشى، وصادف أن كان معي سعد زغلول باشا ومصطفى فهمي باشا وكثيرون غيرهما، وأُعلنت الحرب الكبرى وقتئذ، فبعث الخديو يستدعيني من فيشى إلى استانبول، فلم أستطع السفر إليه في هذه الظروف، وتوقعت أن الإنجليز سوف ينتهزون فرصة قيام الحرب لإقصائه عن عرش مصر، وقد صح بعد ذلك ما توقعته، فمنعوه من العودة ثم أعلنوا خلعه، وكان أغا خان قد حضر لمصر في ذلك الحين، فأشيع أنه هو المرشح لعرش البلاد، وأن الإنجليز سيختارونه ملكًا عليها ولكن هذه الإشاعة لم يكن لها نصيب من الصحة، واختير السلطان حسين كامل، وأعلنت الحماية على مصر، على نحو ما هو معروف.

الرقي الصناعي

وكان المرحوم حسين رشدي باشا صديقًا لي، وقد زاملته في الوزارة في المدة التي توليت فيها وزارة الزراعة، ثم وزارة الأوقاف. فلما استقلت منها أثناء الحرب وصرت بعيدًا عن قيود الحكومة أراد أن يستفيد من تجاربي، فاختارني رئيسًا للجنة التجارة والصناعة، وكان الغرض منها ترقية الشئون الاقتصادية وفي مقدمتها الصناعة؛ لأن مصر في ذلك الحين كانت مكتفية بثروتها الزراعية، وقد قامت هذه اللجنة بمهمتها على الرغم من أن الإنجليز كانوا يضعون في سبيلها العقبات، وقد وضعت تقريرًا هامًّا عن الصناعة والتجارة في مصر، والنظام الذي يجب أن يقوم لإحياء الصناعات المصرية وترقيتها، وكان هذا التقرير هو الدستور الذي قامت عليه مصلحة التجارة والصناعة، ثم وزارة التجارة والصناعة فيما بعد.

وقد تضمن نظامًا جديدًا للضريبة الجمركية جعلها على صورة تحمي الصناعات المصرية من المنافسة الأجنبية، وكانت هذه الحماية هي أساس الرقي الباهر الذي وصلت إليه هذه الصناعات؛ حتى أصبحت الثروة الصناعية في مصر ذات مكانة لا تقل في أهميتها عن مكانة الثروة الزراعية، وقد كانت مصر إلى ذلك الحين بلدًا زراعيًّا فقط.

figure
محمد سيد أحمد باشا جد إسماعيل صدقي باشا لوالدته، ورئيس ديوان الأمير محمد سعيد.
figure
أحمد شكري باشا والد إسماعيل صدقي باشا … كان وكيلًا لوزارة الداخلية في عهدي إسماعيل وتوفيق.
figure
إسماعيل صدقي باشا في سن العشرين … حينما كان في وظيفة مساعد نيابة في بلدة إيتاي البارود.
figure
صدقي باشا بين طلبة السنة الثانية من مدرسة الحقوق، الجالسون من اليسار: محمد توفيق نسيم، فمحمد زكي، فأحمد لطفي السيد، فمحمد بيومي، فمحمد عبد الهادي الجندي … والواقفون من اليسار: محمود الطوير، فمحمد فهمي، فإسماعيل صدقي، فبيومي محمد، فتوفيق حقي، فإسماعيل الحكيم.
figure
إسماعيل صدقي باشا في سنة ١٨٩٤ حين نال ليسانس الحقوق، وقد وقف بين بعض زملائه، وهم الواقفون من اليسار إلى اليمين: محمود عبد الغفار، فإسماعيل صدقي، فمحمد عبد الهادي الجندي، فمحمود الطوير، فمحمد بيومي … والجالسون من اليسار: أحمد لطفي السيد، فمحمد زكي، فتوفيق حقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤