ردي على المعارضين

تحدثنا في الفصل السابق عن معارضة غالبية هيئة المفاوضة لمشروع المعاهدة المبرمة في لندن، وقلنا: إن هذه المعارضة لم تكن مبنية على أسباب لها وزن يذكر، ووعدنا بإقامة الدليل على سلامة موقفنا، وعلى ما قلناه من أن ما عدنا به من لندن يعتبر تحسينًا ذا شأن حتى على مشروع الهيئة، الذي اعتبر بالإجماع المشروع الذي لا يمكن قبول ما هو أدنى منه … ويقتضينا الإنصاف — وقد نشرنا فيما مضى المشروع الذي أقررناه أنا ومستر بيفن في ٢٥ أكتوبر سنة ١٩٤٦ — أن نورد هنا نص البيان، الذي نشرته غالبية هيئة المفاوضة المصرية، في ٢٦ نوفمبر سنة ١٩٤٦، وقد تضمن الأسباب التي دعت هذه الغالبية إلى عدم الموافقة على المشروع الجديد:
  • (١)

    بتاريخ ١٧ سبتمبر سنة ١٩٤٦ تقدم الجانب البريطاني بمشروع اتفاق نص في الفقرة الثانية من المادة الثانية منه على أنه «في حالة تهديد سلامة أية دولة من الدول المجاورة لمصر، اتفق الطرفان الساميان على أن يتشاورا معًا؛ لأجل القيام بالعمل الذي تتبين ضرورته، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لإعادة السلم إلى نصابه.»

    ولكن الهيئة رفضته في مذكرتها الإجماعية، التي أقرتها بجلسة ٢٣ سبتمبر سنة ١٩٤٦ لما تبين لها من أن الارتباط به قد يؤدي إلى اتخاذ مصر قاعدة لأعمال حربية، وما يستتبع ذلك من احتمال عودة القوات البريطانية إلى احتلال أراضيها، فضلًا عن أن عبارة «تهديد السلامة» عبارة مطاطة تحتمل تأويلات متباينة.

    وبمراجعة مشروع «بيفن – صدقي» يتبين أن هذا النص، وإن كان قد حذف من المادة الثانية إلا أنه أضيف بما يحقق كل معناه، ويكاد يتفق مع حرفه، إلى المادة الثالثة.

    ولم يكن من المستطاع أن نقبل ما سبق أن تقرر رفضه بالإجماع، ولا أن نجيز نصًّا يجر البلاد إلى الاشتراك في اتخاذ تدابير غير محددة، قد يكون منها تعكير صفو العلاقات الودية بين مصر ودولة أخرى، أو تسليم مرافقنا أو بعضها إلى السلطات العسكرية البريطانية، مما يؤدي — كما سبق القول — إلى اتخاذ مصر قاعدة لأعمال حربية.

    أما إبدال كلمة «عمل» بكلمة «تدابير»، فإنه لا يغير من الموقف شيئًا؛ لأن من التدابير ما قد ينتهي إلى أعمال عدائية أو ذات نتائج خطيرة.

  • (٢)

    أما عن مطلبي الأمة الأساسيين: الجلاء ووحدة وادي النيل، فقد وقع إجماع الهيئة — فيما يختص بالجلاء — على أن تقدير ثلاث سنوات أجلًا لإتمامه تقدير مبالغ فيه، وأن الجلاء مستطاع في أقل من هذا الأجل بكثير من الناحية المادية، وخاصة إذا لوحظ أن العمليات الحربية توقفت توقفًا تامًّا منذ أكثر من سنة، وكان من المفروض أن تبدأ القوات البريطانية، التي جلبت بسبب الحرب في الجلاء عن المدن والأراضي المصرية، عقب توقف العمليات الحربية مباشرة، لا سيما وأن معاهدة سنة ١٩٣٦ نفسها لم تجز لهم إلا البقاء في منطقة محدودة، وبقوات محدودة العدد لا تزيد على عشرة آلاف جندي وأربعمائة طائرة.

    figure
    الجلسة الأولى بين وفد المفاوضين المصريين والبريطانيين، وقد وقف اللورد ستانسجيت يلقي خطابه وإلى يمينه السفير البريطاني — سير رونالد كامبل.
    figure
    وصل إسماعيل صدقي باشا إلى لندن في ١٧ أكتوبر سنة ١٩٤٦ لاستئناف المفاوضات مع مستر أرنست بيفن — وزير الخارجية البريطانية — وقد وقفا في انتظار مستر كليمنت اتلي رئيس الوزارة.
  • (٣)

    وقد كان البروتوكول الخاص بالسودان، طبقًا للنص الذي اقترحته الهيئة يتضمن تعهد الطرفين «بالدخول فورًا في مفاوضات بقصد تحديد نظام الحكم في السودان في نطاق مصالح الأهالي السودانيين، على أساس وحدة وادي النيل تحت تاج مصر.»

    وجاء النص في مشروع الاتفاق الأخير بأن «السياسة، التي يتعهد الطرفان باتباعها في السودان في نطاق وحدة مصر والسودان، تحت تاج مصر المشترك ستكون أهدافها الأساسية تحقيق رفاهية السودانيين، وتنمية مصالحهم وإعدادهم إعدادًا فعليًّا للحكم الذاتي، وتبعًا لذلك ممارسة حق اختيار النظام المستقبل للسودان، وأنه إلى أن يتسنى للطرفين بالاتفاق بينهما تحقيق هذا الهدف، بعد التشاور مع السودانيين تظل اتفاقية سنة ١٨٩٩ سارية، وكذلك المادة ١١ من معاهدة سنة ١٩٣٦ مع ملحقها، والفقرات من ١٤ إلى ١٦ من المحضر المتفق عليه المرافق للمعاهدة المذكورة نافذًا.»

ومن المقارنة بين النصين يتبين:

  • أولًا: أنه بينما يشير مشروع — بيفن صدقي — في الفقرة الأولى إلى السياسة، التي يتعهد الطرفان باتباعها في السودان في نطاق وحدة مصر والسودان تحت تاج مصر، فإن الفقرات التي تلتها تجرد الوحدة من كل خصائصها.
  • ثانيًا: يحتفظ النص المشار إليه بالحالة الراهنة في السودان، دون أن يعد بإجراء أية مفاوضات لتعديلها بما يتفق مع الاعتراف بوحدة البلدين تحت تاج مصر.
  • ثالثًا: أن النص على تخويل السودان حق اختيار نظامه المستقبل يمهد السبيل لفصل السودان عن مصر، ويلزمنا منذ الآن بقبول مبدأ الفصل، وفي ذلك هدم حتى للوحدة الاسمية في ذاتها، فإذا قورن ذلك بما هو جار فعلًا في السودان الآن تبينت خطورة النتائج المترتبة على هذا النص.

ولا عبرة بما جاء في المذكرة التفسيرية، التي أعدها دولة صدقي باشا من أن كل تعديل يطرأ على نظام الحكم في السودان إنما يكون في نطاق الوحدة، فإنه فضلًا عن أن عبارة النص جلية في هذا الصدد، فإن تفسير دولة صدقي باشا تفسير من جانب واحد غير ملزم للطرف البريطاني.

وغني عن البيان أن حرصنا على تحقيق وحدة وادي النيل وحدة فعلية لا ينطوي على أية نية من نوايا التوسع أو الاستعمار، ولكنه حرص جاء محققًا لما تجلى من رغبة شعب وادي النيل، في تأليف وحدة تؤكدها الروابط التاريخية والجغرافية والاقتصادية والروحية، ولا تتعارض مع رغبة المصريين والسودانيين معًا في إقرار الحكم الذاتي للسودان، بل تساعد عليه.

لهذه الأسباب رفضنا المشروع بوضعه الجديد، ورأينا إصدار هذا البيان الموجز؛ توضيحًا للموقف الذي آثرناه قيامًا بواجبنا، وتأدية للأمانة الموكولة إلينا.

شريف صبري – علي ماهر – عبد الفتاح يحيى – حسين سري – علي الشمسي – أحمد لطفي السيد – مكرم عبيد

وقد كان للبيان الذي أعلنه حضرات أعضاء الغالبية من المفاوضين المصريين أهميته وخطورته، وكان له بطبيعة الحال أثر ذو شأن على الرأي العام، وإن لم يمتد هذا الأثر إلى البرلمان … وننشر اليوم البحث المقارن الذي وضعناه في مختلف المشروعات، وأخصها مشروع هيئة المفاوضة ومشروع لندن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤