سعد … عدلي … ثروت … كما عرفتهم

انتهيت في الكلمة السابقة إلى سنة ١٩٢٧، وأهم حادث فيها كان فقد البلاد لزعيمها العظيم سعد زغلول، وقد مر بك كيف كان اتصالي به، وصداقتي له، كما مرت بك زمالتي للمرحومين عدلي يكن باشا وثروت باشا وصداقتي لهما، واشتراكي معهما في الحكم والمفاوضات، وتصريح ٢٨ فبراير، ولعل من المفيد للجيل الحاضر، وقد وصلت إلى هذه المرحلة من الذكريات أن أقول كلمة في كل من هؤلاء العظماء الثلاثة.

سعد زغلول

كان سعد زغلول عندما عرفته أكبر مني سنًّا، وأعلى مركزًا، فكانت علاقتي به في بادئ الأمر علاقة صغير بكبير، فقد كنت في أوائل حياتي مساعدًا للنيابة بينما كان هو مستشارًا في الاستئناف، ثم اتصلت به في الحركة الوطنية ورافقته في الأسر، بل تمتعت بتقديره وعرفت من صفاته ما يعرفه الصديق عن صديقه، فشهدت فيه من كرم النفس ولطف الشمائل، والترفع عن الصغائر ما جعله محل احترام أصدقائه، وحبهم له وتعلقهم به، هذا إلى شخصيته القوية، وزعامته الوطنية التي كانت تسيطر على الجميع.

كان سعد زعيمًا وطنيًّا بكل ما تؤديه هذه الكلمة من المعاني؛ ولو أن كلمة «زعيم» لا تمنع أنه كان سياسيًّا قديرًا، وقائدًا ماهرًا في أوقات الشدائد، وربانًا بارعًا صارع الأنواء والأمواج، وواجه الأخطار، فلم تؤثر في عزيمته، ولم تزعزع من جبروت نفسه وإرادته.

وكانت شجاعته وبلاغته وسعة إطلاعه، وكثرة تجاربه مما هيأ له التأثير العميق بين الجماهير، فاشتد حبها له، وإعجابها به، وانقيادها لكل ما يبديه من رأي، وإصغاؤها لكل ما يهتف به من قول، فامتلك الأفئدة والنفوس، وبقي طول حياته الزعيم الأكبر.

صحيح أنني اختلفت معه، وصحيح أنه كان للرجل أخطاء — ومن ذا الذي لا يخطئ — وصحيح أنه كانت فيه عيوب، ولكنها كما يقول الفرنسيون، العيوب التي تلازم الصفات الكبيرة، وقد قيل عني في باريس ما دعاه إلى تصديق عبارات ألقاها إليه بعض الواشين، ولكن عندما تلاقينا ووقف على الحقيقة لم نلبث أن تفاهمنا، ولم يكن بيني وبينه في بعض المواقف إلا ما يكون بين رجلين مختلفين في الرأي لمصلحة بلدهما، فكنت أجله كل الإجلال، وكان يشملني بتقديره، حتى إذا زالت أسباب الخلاف عاد اتصالنا وتعاوننا معًا، وقد بقي الاحترام والإجلال من جانبي، والعطف والتقدير من جانبه حتى توفي — رحمه الله — وكانت أخريات أيامه تمتاز فيما يختص بشخصي بعطف شامل، بل بمحبة فائقة، فإذا ذكرته تمثلت أمامي مواهبه العظيمة التي فقدناها وخسرتها مصر من كل الوجوه.

عدلي يكن

شرفني عدلي باشا بصداقته ومحبته، وكان كسعد باشا يكبرني سنًّا ومركزًا، وقد كان وكيلًا معينًا للجمعية التشريعية، وكان سعد وكيلًا منتخبًا، وكان رئيسًا للوزارة التي فاوضت اللورد كرزون، وكنت وزيرًا في تلك الوزارة، ومع أنه رجل تعلم تعليم أولاد الذوات في القرن التاسع عشر، ولم يكن يحمل شهادات عالية، ولكنه عاش طويلًا في فرنسا، ومرت به تجارب كثيرة، وخالط كبار القوم، وكان في مبدأ حياته سكرتيرًا لنوبار باشا رئيس الوزارة المصرية في عهد الخديوين، وتقلب في عدة مناصب مما أتاح له أن يشهد حوادث عدة، ويستفيد منها في سداد الرأي وقوة الحكم وبعد النظر.

كان عدلي باشا سياسيًّا حكيمًا، بل هو في رأيي من أكبر رجال السياسة، وكان على الرغم من ترفعه ومظهره الذي لا يدل على عزم وهمة، صاحب إرادة قوية، وهمة عالية … وكانت صفته الكبرى اتزانه وصحة حكمه على الأشياء؛ لأنه كان كثير التفكير يوازن بين كل الاعتبارات إذا شرع في اتخاذ قرار في أي موضوع.

وقد امتاز عدلي — رحمه الله — بالترفع عن الخصومات الحزبية الرخيصة، ومع أنه ترأس حزبًا، فلم يكن رجلًا حزبيًّا بل كان رجلًا قوميًّا عامًّا، ولم تدفعه حزبيته في يوم من الأيام إلى مخاصمة أحد، أو إلى الدخول في جدال شخصي، هذا إلى نزاهته، وقدرته الكبيرة على التوجيه والإرشاد، وكان يؤثر العمل المفيد الهادئ بعيدًا عن التأثر بالعواطف، أو الاندفاع مع أهواء الجماهير، ولم تكن وطنيته تسمح بالتفريط في أي حق من حقوق بلاده، وقد رأيت كيف كان موقفه من مفاوضاته مع اللورد كرزون، وكيف رفضها وطلق الوزارة بإباء وشمم.

عبد الخالق ثروت

أما المرحوم ثروت باشا، فماذا أقول فيه، وقد كان زميلًا وصديقًا لي منذ الصبا، ومنذ كنا تلميذين في مدرسة الحقوق؟! كان يسبقني بسنتين، وقد عشنا صديقين ورفيقين طول الحياة، وكان شعلة متوقدة من الذكاء والنبوغ، ولا أذكر أنني رأيت شخصًا في ذكائه وألمعيته، وقد أتاحت له ثقافته العالية وسعة اطلاعه أن يكون على جانب عظيم من الإلمام باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، وأن يكون كاتبًا بليغًا، ومشرعًا قانونيًّا من الطبقة الأولى، ودستوريًّا من الطراز الأول.

ولي أن أقول اليوم: إنه لما قبلت الحكم في سنة ١٩٣٠، كان قد سبق لي التفاهم معه قبل وفاته في شأن تعديل الدستور، حتى نتفادى ما يسمح به هذا الدستور من طغيان الأكثريات على الأقليات، وقد وافقني على ذلك، وأعتقد أنه لو كان حيًّا في ذلك الحين لكان أميل إلى التعديل منه إلى الإجراء، الذي قامت به وزارة محمد محمود باشا من وقف الدستور والحياة النيابية لعدة سنوات.

وكان ثروت باشا إلى علمه وفضله جم التواضع، راغبًا عن المظاهر، وكان من طبقة أولئك الرجال ذوي الكرامة الذين لا يسعون وراء الحكم، بل إن الحكم هو الذي يبحث عنهم ويسعى إليهم …

وكانت وطنيته صافية صريحة لا شائبة فيها، بل كان متعصبًا في وطنيته، وفي التمسك بحقوق أمته ودستور بلاده، وقد لاقت وزارته الأولى نهايتها في نوفمبر سنة ١٩٢٢ بسبب موقفه الوطني الحازم أمام العناصر الرجعية، التي كانت تحاول الكيد للدستور، وكادت وزارته الثانية تستقيل بسبب أزمة المفتش العام الإنجليزي للجيش المصري وإصرار ثروت باشا على موقفه من إلغاء منصب هذا المفتش، حتى إن المرحوم سعد زغلول باشا — وكان وقتئذ رئيسًا لمجلس النواب أيام الائتلاف — طلب مني أن أسعى لديه بما لي من صداقة معه ليخفف من غلوائه في هذا الظرف الدقيق.

ولصديقي المرحوم ثروت باشا من المواقف الوطنية الأخرى ما يشهد بحرصه الشديد على مصلحة بلاده، وتضحياته في سبيل خدمتها، وأذكر أنه رفض رياسة الوزارة حين عرضت عليه في فجر الثورة الوطنية سنة ١٩١٩ بعد استقالة رشدي باشا؛ لعدم سماح الإنجليز للوفد المصري بالسفر إلى مؤتمر الصلح، وذلك على الرغم من صغر سنه، وعلى الرغم مما لهذا المركز من مقام عظيم، وبخاصة في نظر الشباب مما كان محل إعجاب سعد باشا في ذلك الحين.

أزمة المفتش العام

ولا بد لي من أن أقول كلمة عن أزمة المفتش العام لعلاقتها بثروت باشا، وبتصريح ٢٨ فبراير الذي كان لي شرف الاشتراك فيه، فقد حدث أن لجنة الحربية في مجلس النواب اقترحت عند نظرها لميزانية الجيش إلغاء منصب السردار سبنكس باشا؛ لتنافيه مع مسئولية الوزير أمام البرلمان، وتحسين أسلحة الجيش وأدواته، وترقية التعليم في المدرسة الحربية، واقترح بعض أعضائها تعديل قانون مجلس الجيش، بحيث لا يكون سبنكس باشا عضوًا فيه على مثال مجلس الجيش الإنجليزي، فاتصل نبأ هذه الاقتراحات بدار المندوب السامي، وكان وقتئذ اللورد جورج لويد، فاعتبر ذلك تحديًا لسلطة بريطانيا الحربية في مصر، وحظي بمقابلة جلالة الملك فؤاد، وتبودلت بينه وبين ثروت باشا المقابلات، ثم قدم مذكرة إلى الحكومة المصرية يشرح فيها وجهة النظر البريطانية، وتتلخص هذه المذكرة في أن أحد تحفظات تصريح ٢٨ فبراير، الذي منع تدخل أية دولة أجنبية في شئون مصر يجعل لإنجلترا حق الإشراف على الجيش المصري، ورد ثروت باشا بأنه كان من الذين اشتغلوا في جميع أدوار تصريح ٢٨ فبراير، ولم ترد مسألة الجيش البتة في أي نص منه، ولا في أية مفاوضة من مفاوضاته؛ ولهذا السبب ترى الحكومة المصرية أن هذه المسألة من المسائل الخاصة بها. فلم ترتح بريطانيا إلى هذا الرد، ولم يتزحزح ثروت باشا عن موقفه، فأرسلت بريطانيا ثلاث بوارج إلى المياه المصرية بقصد التهديد، والحقيقة أن هذه المظاهرة البحرية لم تكن تنطوي على شيء من الكياسة السياسية!

وقد ألقى السير أوستن تشمبرلن وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم تصريحًا عن مسألة الجيش المصري في ذلك الحين، فرأيت من واجبي أن أوجه إلى رئيس الحكومة المصرية سؤالًا في هذا الشأن، وفي شأن البوارج الإنجليزية، ولا أفشي سرًّا إذا ما قلت الآن إنه سؤال متفق عليه مع ثروت باشا، وقد قلت فيه: «… إني أشعر بأن الشعب المصري — وقد أظهر بلسان ممثليه المرة بعد المرة شدة رغبته في دوام حسن التفاهم مع الدولة الإنجليزية — يتولاه الألم كله؛ إذ يرى أن حرصه على ذلك التفاهم قد قوبل من الحكومة البريطانية بذلك الإجراء، الذي لم تجر العادة به إلا بين المتخاصمين.

وأما بيان وزير الخارجية البريطانية، فلا يخفف من وقعه غير الشعور بأنه لم تصل إليه بعد كل الحقائق، التي يمكن أن يبني عليها حكم صحيح … والذي زاد من ألم كل مصري في الآونة الحاضرة، ما جاء في بيان وزير الخارجية من أن إرسال البوارج الحربية قد بني على ما اعتقدوه من أن هناك مجهودات، ومساعٍ تُبذل لإثارة اضطراب سياسي، يعرِّض أرواح الأجانب ومصالحهم لأكبر الخطر …

وإذا كان في هذه المأساة — كما هو الشأن في أكثر النوازل — ما يبعث على بعض التسلية، فقد يكون فيما صرح به وزير الخارجية البريطانية من الرغبة في أن تسوى المشكلة الحاضرة بطريقة ودية، تصون مصالح الحكومتين … وإني إذا وجهت اليوم سؤالي إلى دولة رئيس الوزراء بشأن ما تنويه الحكومة تلقاء الحوادث الحاضرة، فإني لا أشك لحظة في أن الموقف الذي ستتخذه حكومتنا الدستورية، سيكون كما عودتنا موقف حزم وحكمة يتجلى فيه التصميم الأكيد على المحافظة على مصالح البلاد.»

وقد رد ثروت باشا على ذلك ردًّا سياسيًّا حكيمًا، ثم أعقبت هذه الأزمة زيارة جلالة الملك لإنجلترا، فكان من شأن هذه الزيارة أن تبددت السحب، التي ظهرت في جو العلاقات المصرية الإنجليزية، وساعدت ثروت باشا على الدخول في محادثات شخصية مع السير أوستن تشمبرلن للوصول إلى اتفاق يصلح أساسًا لمفاوضات رسمية؛ لتسوية المسألة المصرية من جميع الوجوه، وقد أدت هذه المحادثات إلى ما سمي «مشروع ثروت-تشمبرلن»، وكان رأيي فيه وقتئذ أنه خطوة إلى الأمام بعد تصريح ٢٨ فبراير، وكانت السيطرة الإنجليزية ما زالت مهيمنة على البلاد، والإنجليز هم أصحاب الحل والعقد، ولم تكن المسألة المصرية — في هذا الوضع — بالتي تحل طفرة واحدة، بل بتفاهم يتلوه تفاهم …

وكانت سياسة ثروت باشا ستؤدي إلى أفول نجم اللورد جورج لويد — وقد كان نجمه ساطعًا — ولكن مع الأسف فقد كانت السياسة الحزبية له بالمرصاد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤