الأكشاك الخشبية

كان يجب أن يملأ نفسي شعور الاشمئزاز، ولكن القدر أراد غير ما أردت …

***

figure

أريد أن أذكر بالضبط ما حدث في ذلك اليوم من أيام شهر يوليو سنة ١٩٣٥ المكان الذي بدأت فيه القصة، وكيف بدأت؟ إن الذاكرة لا تسعفني، فبداية القصة غامضة، والمكان نفسه قد غيرته الأيام، ولو ملكت عصا ساحر فمحوت ذلك الصف الأنيق من أكشاك الاستحمام النظيفة ذات النظام الدقيق، والتي تمتد على شاطئ البحر الآن، ولو استطعت أن أحل مكانها تلك الأكشاك التي كان يقيمها الأهالي إذ ذاك كل حسب هواه، وغناه … بعضها حقير تآكل خشبه، والبعض الآخر كبير زاهي الألوان كثير النقوش.

كان شاطئ البحر إذ ذاك كأنه معرض للطبقات، وكانت أزياء الناس نفسها كأزياء المهرجان، وإني ليتملكني الضحك الآن، وأنا أتخيل نفسي بلباس البحر الذي اشتريته إذ ذاك، وكنت أزهو به، كان مخططًا باللونين الأبيض والأحمر، وكأنني أحد نزلاء السجون الأمريكية … بل حين أتخيلها هي أيضًا بلباس البحر العجيب من القطن الرخيص … كان هذا اللباس أهم قطعة في أثاث الكابين الذي كان يملكه صديقنا عبد السلام، كان لباسًا للطوارئ … ما أكثر الطوارئ على شاطئ البحر في حياة عزب يملك كشكًا خشبيًّا للاستحمام.

ولأعد للقصة …

القصة حيث أذكر لا حيث بدأت، ففي عصر أحد الأيام أقبلت سامية، وكنا أربعة نجلس أمام الكابين، فحيت الثلاثة الآخرين بأسمائهم … وحيتني أنا بالتحية نفسها، وإن لم تعرف الاسم، وارتاحت نفسي لبساطتها، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وعلى حين فجأة نهضت سامية تقول: ما حدش منكم ناوي ينزل البحر؟

وصمت الثلاثة، وأدرت رأسي في وجوههم، فوجدتهم يرفضون جميعًا فتحرك لساني، وقلت: أنا … إذا لم يكن لديك مانع …

وضحكت ضحكةً ساحرةً، وقالت: أنا … وأي مانع … تفضل …

وتفضلت فدخلت الكابين، وخلعت ملابسي، وارتديت لباس البحر المخطط، وخرجت لكي أتلقى تعليقات الأصدقاء الثلاثة المضحكة، وما لبثَتْ أن دخلت هي أيضًا إلى الكابين، وخرجت بعد دقائق ترتدي المايوه المتهدل كأنه غضون في جسد عجوز جاوزت المائة، وجرت إلى الماء، وسرت أنا في وقار الخجل حتى لحقت بها، وأخذنا نضرب في الماء صامتين، وقالت سامية، وهي تجمع خصلات شعرها خلف رأسها: إن الماء لذيذ جدًّا في ساعة الغروب.

وأجبت، وأنا أنظر إلى جسدها البديع: لقد شرب كل حرارة الشمس في النهار، ولم يفقدها بعدُ، قالت: إني أحب دائمًا حمام الصباح الباكر، وساعة الغروب … إن البحر يكون هادئًا ودافئًا … أما ساعة الضحى والظهر فإنه يكون كحلقة السمك …

ولفت نظري تعبيرها الأخير فقلت: أنتِ من الإسكندرية؟

– لي فيها الآن أربع سنوات … أنت من الإسكندرية؟

وأجبت: أبدًا … سأعود بعد أسبوع واحد إلى القاهرة …

وقضينا نصف ساعة في الماء وخرجنا، فهرولت هي إلى داخل الكابين، وجلست أنا على مقعد خشبي حتى ارتدت ملابسها وعادت، فدخلت بدوري … وكنت أصلح رباط رقبتي أمام المرآة حين دخل عبد السلام ليقول لي: سنترك لك مفتاح الكابين؛ لأننا ذاهبون إلى سيدي بشر.

ووجدتني أجيب: وسامية؟

وأسرع عبد السلام يجيب ضاحكًا: متخافش يا عم … سنتركها لك … حلال عليك … إن لدينا موعدًا مع ثلاثة أقمار.

– تتركها لي … لكنني …

– لكنك ماذا؟ تصرَّف يا أستاذ.

ودعوني الآن أقص عليكم كيف تصرفت ذلك المساء … جلست أنا وسامية أمام الكابين نصف ساعة حتى أوشكت الشمس على المغيب، وظل عقلي يبحث عن الطريقة المثلى لقضاء ليلة ممتعة، وأعترف هنا أن لياليَّ الممتعة … إلى تلك الليلة، لم تكن تتعدى سهرةً على شاطئ النيل مع فتاة أحببتها … سهرةً تمتد حتى الساعة العاشرة والنصف، نئوب بعدها إلى منازلنا، حتى بَرِمَت الفتاة بسهراتي وملَّتْها، فهجرتني برسالة وداع رقيقة معتذرة أن أهلها اكتشفوا السر وعرفت بعد ذلك أنها هي التي اكتشفت السر… أن حبي لها لن يستطيع أن يجلب إلى أذنيها وجيدها تلك الحلى التي رأيتها تتحلى بها بعد ذلك بشهور في صحبة شاب وارث يؤمن بالجدران الأربعة أكثر من إيماني أنا بشاطئ النيل السعيد، وللمصادفة المحضة أن النيل لا يصل إلى الإسكندرية، وأن سامية لم تقع في نفسي موقع فتاتي الأولى التي كان يخيل إليَّ كلما جلست معها، أني في حلم سعيد …

ولذلك قلت: هل تمانعين في أن نذهب إلى السينما؟

– لا أمانع لكن لاحظ شيئًا … أريد أن أكون في منزلي قبل منتصف الليل …

وذهبت إلى السينما، واخترت بخبرتي في خلوة العشاق البريئة مقعدين يتيمين في أقصى الصالة يقعان بين المدخل، وبين عمود ضخم من البناء …

وأطفئت الأنوار، وبدأت قصة الشاشة، واستمرت قصتنا في فصلها الثاني، ومددت يدي فطوقت سامية في حذر ورقة … وأعترف أن أهدافي إذ ذاك لم تكن تعدو الإحساس بخصر دافئ يشاركني في السهرة، وبأنني لست وحيدًا، وإنما أجلس إلى فتاة … ولكنني لم أكد ألف يدي حولها حتى سحبت نفسها في فزع قائلةً: لا لا … هنا لا … يمسكونا بعدين، خلينا أما نخرج من السينما، عندنا وقت لنصف الليل.

وحددت هذه الجملة في حديثها خطوط الفصل الثالث من قصة تلك الليلة، فحينما انتهى العرض خرجنا وركبنا الترام إلى حيث أقيم أنا في الفندق المتواضع … وصعدت سامية معي درج الفندق دون أي تردد أو خوف، ودخلت معي إلى حجرتي في شجاعة، كأنها تأتي أمرًا عاديًّا من أمور حياتها العادية … وكان يجب أن يملأ رأسي شعور الاشمئزاز، فقد عرفت بالضبط ما هو موضع سامية في المجتمع، ومن هي بالنسبة لأصدقائها … ومن هي بالنسبة إليَّ … صيد ساعة لا أكثر ولا أقل … وكان يجب إذا لم يملأني الاشمئزاز أن يكف عقلي عن التفكير فيها، وأن أترك لحواسي أن تتمتع بذلك الغذاء الجسدي الناضج … كان يجب هذا أو ذاك … ولكن القدر أراد غير ما أردت، وأصر على أن يصنع من القصة القصيرة ذات الفصل الواحد الستار الذي ينزل قبل الختام حرصًا على آذان الناس، وأذواقهم النظيفة …

أصر القدر على أن يصنع من هذه القصة المتداولة الحدوث قصةً طويلةً ذات عدة فصول … وتكون النتيجة … هي ما يحدث دائمًا حين يحاول المرء أن يجعل القصة القصيرة ذات الموضوع التافه قصةً طويلةً ذات أربعة فصول … أن تتغير فصول القصة، وأن يتلف موضوعها، وأن تنتهي نهايةً سخيفةً … لقد وقع القدر في الخطأ نفسه، أطال القصة فتعثرت في الطريق … بل تعثر بطلها نفسه الذي هو أنا، وبدأ في الكثير من أجزائها أحمق غاية الحمق … وجلست سامية على مقعد، وجلست أمامها أتأمل وجهها الوسيم، وقد خلا من كل مسحة شر أو إثم … لم تكن سامية قد أوغلت بعدُ في عامها العشرين، ومع ذلك فها هي ذي أمامي امرأة … وسألتها وأنا أشعل سيجارتي: هل أنت متزوجة؟

وأجابت دون تردد: أبدًا … لم أتزوج …

ومرة أخرى رفض عقلي أن يشمئز … بل لعله زاد تسلطًا على حواسي …

– أهلك في الإسكندرية؟

وأجابت: آه … ولا …

وأصر عقلي على أن يضيع الوقت في سماع القصة … وفي توسيع فصولها.

– لا أفهم … هل تعنين أنهم ماتوا؟

وفتحت بهذا السؤال ستار القصة عن مشهد مؤثر، فقد انهمرت دموع سامية … وعلا نشيجها … وطار من جو الغرفة آخر ظل للبهجة … وقمت بدور الرجل النبيل فخففت عنها، وأخذت أواسيها حتى جفت آخر دمعة، ونطقت أول حرف من مأساة حياتها الدامية، مأساة حياتها الدامية! أليس هذا تعبيرًا جميلًا يهز المشاعر؟ ثم، ألم أصبح أنا — بفضل سلطان عقلي على حواسي — ممثلًا تراجيديًّا يجيد أن يبكي، ويُبكي الجماهير أيضًا؟ ألم أصبح شيئًا آخر غير هذا الشاب الذي صعد درج الفندق قافزًا لينعم بغذاء شهيٍّ لجسده الجائع؟ شيئًا نبيلًا يسمع قصةً داميةً، فتعجبه فيصر على أن يضع لها نهايةً سعيدةً؟

وتملكني كبرياء الخالق الذي يصنع القصص، وأنا أسمع ختام رواية سامية، وقال عقلي لنفسي: «إن القصة لم تنتهِ، ولا يمكن أبدًا أن تنتهي قصة على هذا الشكل السخيف … فتاة يغرر بها شاب فيجعلها تترك أهلها، وتندفع في هواه حتى لا تفرق بين جسدها وقلبها، فإذا بالنذل (رأيي أنا في صديق سامية الأول) … فإذا بالنذل يمضغها لحمًا، ثم يلفظها عظمًا، وتملَّكني الزهو، وأنا أتأمل عقلي، وهو يلقي هذا السؤال في تحدٍّ وبراعة … وكانت نفسي أسلمت آخر رغبة لها في قوام سامية وجسدها … أسلمتها في يأس؛ لأنها كانت شديدة الإيمان بعقلي إذ ذاك … وقلت لسامية بنفسي وعقلي ولساني معًا: لا يا سامية! لا تسخطي هكذا على الحياة البشرية، ليس كل الناس وحوشًا كصديقك محيي، لقد كنت صغيرةً، وغرر بك … أنا معك أنك لن لا تستطيعي العودة إلى أهلك … ولكنك أيضًا لا يجب أن تستمري في هذه الحياة.

– وكيف أعيش؟

وما زلت أذكر إلى الآن أروع جملة نطقت بها على مسرح الحياة، حين أجبت سامية في حزم وعزم وتُؤَدَةٍ: ستعيشين، كما كان يجب أن تعيشي قبل أن يغرر بك النذل محيي.

وطويت ستار هذا الفصل بيدي، وأنا أطفئ نور حجرتي بعد أن أوصلت سامية إلى منزلها، وعدت إلى حجرتي لأنام هادئًا مطمئن الضمير قرير العين، ورفع الستار عن الفصل قبل الأخير، وأنا أؤكد أنه قبل الأخير لكي أطمئنكم على أن الرواية لن تطول حتى يعلو تثاؤبكم، وتتحرك أجسادكم في قلق كأنها تدعوني لأختصر القصة … إني لن أختصر القصة؛ لأنها من تلقاء نفسها أوشكت على النهاية …

إن ستار هذا الفصل يفتح في شقة صغيرة بشارع ضيق من شوارع القاهرة التي يسميها الناس، امتهانًا لأصحابها، حواري وأزقَّة، إنه ليس زقاقًا ضيقًا، وليس حارةً حقيرةً، وإنما هو شارع متواضع، والشقة نفسها ثلاث حجرات، والأثاث هو الأثاث نفسه الذي كان عندي قبل بداية القصة، لم يزد عليه غير بضعة أوانٍ وأدوات الزينة لامرأة ترضى من زينتها بالقليل، وأنا وسامية وخادمة صغيرة في هذه الشقة … أنا وسامية زوجان، دخلت هي بيت الزوجية لتمحو آثامها، وتتطهر من ماضيها، ودخلت أنا بيت الزوجية لأضيف إلى كتاب حياتي صفحةً بيضاء أتقرب بها إلى الله، وما أجمل أن يصنع الإنسان الخير! وما أجمل أن يكون الزواج حسنةً من الحسنات، ومنةً على الزوجة! أليس ذلك فارقًا كبيرًا بيني وبين الكثيرين؟ أن أعيش من زوجة تشعر في الصباح وفي المساء أنني لست زوجًا فحسب، وإنما ملاك رحمة يأسو الجراح؟

واستمر هذا الفصل — بمنظره نفسه الذي سردته لكم — عامًا كاملًا، ويجب أن أعترف أن كل ما جد على سامية هو حياة الشرف.

إن مواردي لم تكن لتسمح بأن تبدو سامية خيرًا مما كانت من قبل، ولا أن تأكل خيرًا مما كانت تأكل … كنا نذهب كل أسبوع مرةً إلى السينما، ونتنزه بقية الأيام على شاطئ النيل السعيد حيث أخرج لساني لذكرى الفتاة التي أحببتها ذات يوم، وأنا أقول: هربت مني لتنعمي بحياة الرذيلة … وها هي ذي امرأة قد هربت من حياة الرذيلة لتحيا حياتي المتواضعة، يا قصيرة النظر، إنها قد وجدت من يئويها … أما أنت فهل ستجدين يومًا من يئويك؟

وكان قلبي يفيض بالفرح والسرور، وأنا لا أسمع جوابًا على هذا السؤال … وأحس بالرثاء للهاربة المسكينة، وفي خلال العام لم يحدث بيني وبين سامية أي خلاف، وإن كنت ألحظ أحيانًا وجومها وشرودها، وألحظ أحيانًا أخرى نزعة كآبة تجعلها تقضي ساعات نزهتنا على شاطئ النيل ساكنةً لا تتكلم … وكنت أعلل ذلك دائمًا بأنه قلق السعيد على سعادته خوفًا من أن تفلت يومًا من بين يديه، أو ندم الخاطئ على خطئه الماضي يشتد وطأةً كلما ازداد نقاءً وطهارةً … ظل هذا تعليلي طوال الأيام الأخيرة من عام زواجنا الأول حتى كان يوم عيد زواجنا فأردت أن أزيدها عطفًا، وقررت أن أحتفل بهذا اليوم … قررت فيما بيني وبين نفسي، ولم أقل شيئًا … وأخذت أفكر كيف أحتفل بعيد الزواج فخطر لي أول الأمر أن أقيم وليمةً صغيرةً، وأدعو أصحابي ليروا بعيونهم ما فعلت من مجد … ولكني استبعدت الخاطر لعدة أسباب، فأعز أصدقائي بينهم عبد السلام، وقد حل بيننا جفاء خفيف اصطنعته بنفسي لكي أبعد عن حياتي الجديدة ظلال الماضي المعتمة في حياة سامية … أما بقية الأصدقاء فقد أطالوا لسانهم في زواجي، واستهجنوا تصرفي، ولن يقنعهم الطعام الجديد، ولا السهرة اللطيفة بأنهم كانوا خاطئين … إنما الذي يقنعهم فعلًا هو أن تمر على هذا الزواج سنوات يبدو فيها كأنه حصن متين، وانتهيت إلى رأي، ثوب جديد، وسهرة رائعة، هذا هو خير احتفال بزواجنا، وأحسن هدية أقدمها لسامية.

وأحضرت الثوب، وأخفيته حتى قبل الغروب … ودعوت سامية من المطبخ حيث كانت تعد العشاء، وقلت بلهجة الآمر: اخلعي ثوبك هذا، وارتدي هذا الثوب الجديد، واستعدي للخروج بعد عشر دقائق …

وخرجنا إلى الطريق، وأخذنا نتصفح الإعلانات، وقلت: ما رأيك في فيلم مصري؟

وقالت سامية بلهفة: لا مانع … أنت تعرف أني لا أحب الأفلام الإفرنجية التي ترغمني عليها كل أسبوع.

وسارعت بالضحك، فأضاعت سحابة الضيق التي كانت توشك أن تجثم على صدري، فقد كنت أظنها إلى اليوم سعيدةً بسهرتنا الأسبوعية … وابتعت تذاكر السينما، ودخلت أنا وسامية حتى وصلنا إلى الباب، وإذا بضوضاء شديدة وتصفيق وهتاف … ووجدت عامل الباب يسحب يده دون أن يأخذ التذاكر من يدي، ثم يشير إلينا أن نفسح الطريق … وصلنا أنا وسامية إلى أحد الجانبين، وإذا بصفين من الشبان يفسحون الطريق للقادم العظيم … وقلت لسامية قبل أن يتقدم موكب القادم: إنه، بلا شك، وزير خطير، أو … ولكني لم أتم، فقد بدا أمامنا الوزير الخطير بطلعته البهية، ولم يكن وزيرًا، وإنما حسناء، حسناء رائعة القوام تخطر في معطف من الفراء الأبيض الناصع، أخذت تخطر حتى أصبحت أمامنا، ورأتها عيناي في وضوح، واستطعت خلال هالة الأناقة، وبرغم شعرها المصفف كأنه سبائك الذهب أن أتبين الوجه، وتنطلق من فمي صيحة تقابلها صيحة أخرى من سامية … وقلت لسامية، وأنا لا أملك دهشتني بعد أن ابتعد موكب الحسناء: تعرفي دي مين؟

وأجابت سامية بانفعال وبلهجة لعلي لم أسمعها منها من قبل ذلك اليوم: مين؟ خديجة المفعوصة … اللي كانت …

ووصفتها بأوصاف تتشابه مع أوصافها هي — حين عرفتها — وأخذت تذكر زمالتها لها فترةً من حياتها، حياتها الماضية التي طوتها، وطهرتها في بيت الزوجية … وكنت أنا أتوقع أن تجيب على سؤالي بأنها لا تعرفها، فأقص عليها قصة حبي القديم مع هذه الحسناء حين كانت فتاةً فيها كل جمال البراءة والصبا، تقنع بالنزهة على شاطئ النيل السعيد، لكنني آثرت أن أسكت، وأنا أدفن حديثي في أعماق نفسي.

وسرت مع سامية حتى مقاعدنا التي وصلنا إليها بمشقة لانهماك الناس في استقبال القادمة الحسناء بطلة الفيلم … وصديقة المليونير الذي يتربع على عرش من عروش الصناعة والمال، ولم أصفق أنا مع الجمهور، ولم تصفق سامية، وكانت لدينا أسبابنا القوية لهذا الإعراض عن تحية النجمة الفاتنة، أما أنا فقد كنت مؤمنًا أشد الإيمان بأن هذه النجمة اللامعة … كانت أعلى مكانًا، وهي تجلس إلى جانبي على شاطئ النيل … وأما سامية … فلم أدرك ساعتها حقيقة مشاعرها … وإنما أدركتها بعد ذلك بأيام، أدركتها حين عدت إلى المسكن ظهر أحد الأيام، ولم يكن قد مضى شهر على عيد زواجنا فوجدت غدائي معدًّا، وسامية قد غادرت المنزل بعد أن تركت لي رسالةً قصيرةً تطلب مني فيها الطلاق لأنها لم تعد تطيق هذه الحياة.

إنكم تتحركون كأن القصة قد انتهت، ولكنها لم تنتهِ بعد، فهذا هو الفصل قبل الأخير، وهو أطول فصول القصة؛ إذ إنه استغرق عامًا.

أما الفصل الأخير فهو قصير جدًّا، إنه أقصر مما تتصورون، ولست أنا الذي أرفع عنه الستار، إن ذلك ليس عجيبًا في القصص القصيرة حين ندَّعي القدرة فنمد فصولها ونوسعها لنخلق منها قصةً طويلةً، فكثيرًا ما يحصل أن نرتبك، ونقف قبل النهاية حائرين حيرة أبطال القصة لا يدرون ماذا يفعلون … إن القدر نفسه يرفع الستار عن الفصل الأخير، ويحظى وحده بإعجاب الجماهير، أو سخطهم على حد سواء … ويرفعه ذات مساء من هذا الصيف … أي بعد أربعة عشر عامًا من بداية القصة، وفي أحد الأكشاك الخشبية، ليس على شاطئ البحر، فقد أحالت يد الأيام أكشاكه الحقيرة المتناثرة إلى صف أنيق … إن الفصل الأخير في كشك خشبي حقير في الناحية الأخرى من الشاطئ عند الأنفوشي ليس كشك استحمام … وإنما مسرح متواضع يؤمه الأطفال والرجال ليقزقزوا اللب، ويتفرجوا على راقصة بدينة، ورواية مضحكة، ورواية محزنة أيضًا يموت فيها كل الممثلين … وفي هاتين الروايتين تظهر سامية في دور صغير.

وسكت عبد الرءوف … ونهضنا لنستنشق الهواء … ولاحت لنا من شرفة الشقة في البناية المرتفعة في ستانلي حيث يقيم عبد الرءوف وأسرته، لاحت لنا سلسلة الأضواء الممتدة على الكورنيش حتى الناحية الأخرى من الشاطئ، وقال عبد الرءوف، وهو يشير إلى هناك: آه! هناك يا أستاذ، سامية، لقد عادت إلى الكشك الخشبي الحقير، ما أعجب ما ينهي القدر بعض الأقاصيص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤