سبعة في صورة

ويل للمقدسات الزائفة من لحظات الشك، إنها تلقى خلالها من الذين آمنوا بها أكثر مما تلقى من أعدائها.

***

figure

عشرة أعوام مرت لم أرَ فيها هذه الصورة …

لقد كانت إذ ذاك تحتل إطارًا جميلًا، وتتخذ مكانها على الحائط بين عدد من الصور الأخرى، صورة عهد التلمذة اللذيذ.

ولأمر ما تغيرت الحال … فإذا بيد الزمان، لا يدي أنا تنتزع صور ذلك العهد … ومن بينها هذه الصورة، وتلقي بها جميعًا في صندوق خشبي … يضم مع هذه الصور عشرات من الرسائل، وقصاصات الصحف والمذكرات.

وانتقل الصندوق الخشبي معنا من منزل إلى منزل، كأنه قطعة من الأثاث حتى فكرت زوجتي آخر الأمر في أن تزين حجرة مكتبي ببعض صور صباي، ففتحت الصندوق، ونفضت ما تراكم على محتوياته من تراب، واختارت ثلاث صور.

الصورة الأولى: أبدو فيها، وقد أمسكت بكمان، وتهيأت للعزف، وصاحت زوجتي: قل لي إذًا إنك كنت موسيقيًّا، لمَ أخفيت عليَّ ذلك؟ أهذا هو سر حبك للموسيقى إلى الآن؟

والصورة الثانية: أبدو فيها ممشوق القد في ثوب رياضي ممسكًا بمضرب التنس.

وصاحت مرةً أخرى: يا مضروب … كان من الممكن أن تصبح بطلًا متقاعدًا، لماذا هجرت الرياضة؟

وأمسكت بالصورة الثالثة، وصاحت، وهي تغالب الضحك: أنت تتسلق الجبال، وتضرب الخيام؟! في الكشافة كنت؟ وترفض الآن الذهاب إلى رحلة قمرية إلى الأهرام بالترام؟

وصمَتُّ حتى فرغت من الأسئلة، ثم شرحت لها الأمر.

قلت لها: إنني ما أمسكت في حياتي بمضرب التنس، ولا حنوت على كمان، ولا ذهبت إلى رحلة في الجبل إلا مرةً واحدةً، المرة التي التقطت فيها هذه الصور.

فقالت في نظرة مستفهمة: كيف؟

– كنت أمثل دور عضو جمعية الموسيقى … وعضو جمعية التنس، وعضو جمعية الكشافة.

ووجدتها غارقةً في صمتها، ودهشتها فزدتها إيضاحًا: كنا في مدرسة أهلية … وكانت الحكومة تعطي إعانةً للمدارس الأهلية، وكان من شروط الإعانة أن تكون المدارس التي تطمع في الإعانة تباشر ألوانًا من النشاط الاجتماعي والرياضي والفني … فجمعنا الناظر ذات يوم قبيل نهاية العام والتُقِطَت لنا هذه الصور ليقبض هو الإعانة.

ولم أعرف هل اقتنعت زوجتي أم لا؟ ولكنها أجابت: على أية حال … إن هذه الصور تظهرك في أحسن أوضاعك، سأعلقها هنا في حجرتك لتوهم البسطاء ممن لا يعرفونك بأنك كنت فتًى متعدد النشاط.

ثم صاحت فجأةً، وقد أمسكت بصورة: يا حفيظ! ما لكم واقفين هكذا، وكأنكم قد قتلتم قتيلًا؟ سبعة شبان يحملقون في المصور بصرامة.

وأمسكت بالصورة … الصورة التي كانت تحتل إطارًا جميلًا في حجرة مكتبي من عشرة أعوام وتأملتها … ثم قلت لزوجتي: قال لنا المصور انظروا إلى العدسة فنظرنا جميعًا، وجمعنا رجولتنا في نظرة صارمة … آه لو عرفت كم ضحكنا بعد أن التُقِطَت الصورة.

– على أية حال لن أعلقها، هذه الصورة مكانها هنا كما كانت … في الصندوق.

وخرجت زوجتي، وقد حملت معها الصور الثلاث، وامتدت يدي إلى الصندوق، فأخرجت الصورة من جديد … الصورة التي كانت تحتل إطارًا جميلًا ذات يوم … صورة «الشلة» التي جمعها الزمان منذ عشرين عامًا … ثم …

لقد أحسنت زوجتي صنعًا … هذه صورة مكانها قبو الذكريات، لو أن زوجتي علقتها اليوم في حجرة مكتبي لما وجدت جوابًا لمن يسألني، وهو يتأمل الصورة، وأين هؤلاء الأصدقاء؟ وأين ذهبت هذه الصداقة؟

أين ذهبت؟ إي وربي، أين ذهبت هذه الصداقة؟ هل أستطيع أن أجيب؟ هل أروي قصةً لا تُشَرِّف أحدًا من السبعة الواقفين في الصورة وكأنهم، كما تقول زوجتي، قد قتلوا قتيلًا؟

إننا لم نكن بعدُ قد قتلنا قتيلًا حين التُقِطَت هذه الصورة لكننا قتلناه بعد ذلك … قتيلًا غاليًا عشنا في ظله عشرين عامًا، وإني لأذكره الآن.

وكأننا: أنا وحمدي وعبد القادر وسعيد ومصطفى وعلي ومحمود، كأننا ما زلنا بعدُ في ظلال هذا القتيل، صداقة الطفولة والصبا والشباب … حمدي واقف في أقصى اليمين، ومحمود في أقصى اليسار، وفي وسط الصورة سعيد … وحول سعيد من اليمين واليسار أنا وعبد القادر ومصطفى وعلي … ولا ينقص الصورة شيء لتروي قصة حادث القتل الفظيع.

هؤلاء هم أبطالها … من عجب أن تضعهم الأقدار في الصورة، كما وضعتهم في القصة سواء بسواء، إن حمدي ومحمودًا كانا في القصة … كما هما في الصورة، على الهامش، وسعيد … إنه في وسط الصورة … ولقد كان أيضًا مركز القصة، وأنا على مقربة من سعيد، بالضبط كما شاءت الأقدار أن أكون في القصة، لقد كنت على مقربة من سعيد، وإن لم أقم بأي دور كان، شأني كمرتاد الحانة التي ينشب فيها عراك، فيأخذ البوليس بتلابيب كل روادها، وغالبيتهم لم تشترك في المعركة … أجل … شهدت القصة، لا مع الجمهور، وإنما على المسرح مع الأبطال.

ولو ذُكِر ممثلو القصة بحسب ظهورهم على مسرحها لذُكِرْت أنا قبل أي واحد من هؤلاء، أنا الذي عرفت سعيدًا بمصطفى، ودعوتهما إلى داري غداة يوم التقينا فيه لأول مرة بعبد القادر، وعن طريق عبد القادر تعرف كل منا بعلي وحمدي ومحمود.

في اليوم الذي التُقِطت فيه هذه الصورة، كان قد مر على هذا التعارف بضعة أعوام، وكان أول فصول القصة وأجملها … لم يهبط عليه الستار بعد … الفصل الحافل بالبهجة والمرح والهناء …

لقد هبط عليه الستار ذات يوم، ونحن نغادر باب الجامعة شبانًا قد أتموا دروسهم، وشرعوا يتهيئون للحياة العملية، لقد كان فصلًا سعيدًا، وتلاه الفصل الثاني، ولم يكن أقل منه بهجةً، فصل قضيناه نشوى بخمر الرجولة الباكرة، فرقتنا سبلنا في الحياة، وجمعتنا السهرات الجميلة في بيت عبد القادر … والمائدة الشهية في «شقة» علي، والنزهات المرحة في سيارة سعيد.

ونزل الستار عن هذا الفصل أيضًا ذات مساء … نزل على نهاية سعيدة هي زواج سعيد بالفاتنة الناعمة سهام، وقلنا جميعًا حين قدمنا إلى خطيبته قبيل نزول الستار … قلنا في غبطة وغيظ معًا: فزت يا وغد … إنها قطعة فنية.

وقال سعيد، وهو يضحك: وقطعة ثمينة أيضًا … إنكم لم تعرفوا من أخلاقها ما أعرف، إنها آية في الأدب والذكاء.

وبدأ الفصل الثالث، وقد دخل في القصة بطل جديد هو سهام، وبدا في أول الأمر أن دورها لن يكون هامًّا …

كانت كما وصفها حمدي ذات يوم كطاقة جميلة من الزهر، ستتخذ مكانها من المنظر لتزيد في بهائه … ولكن طاقة الزهر تحركت ذات يوم من مكانها في صدر المنظر … وما دار بخَلَد واحد منا … حتى سعيد نفسه أنها ستكون البطل الوحيد الذي سينزل عليه الستار، وأننا سنصبح في نهاية القصة مجرد صورة مكانها قبو الذكريات … نحن الذين صفقنا لها حين تحركت من مكانها … وحين قامت بدور البطلة … البطلة التي أعدت لنا موائد أشهى من كل الموائد التي نعمنا بها في دار صديقنا علي، وسهرات أنستنا سهرات عبد القادر …

مر عام على زواج سعيد بسهام، واحتفلنا في نهايته بذلك اليوم السعيد الذي وهبنا الله فيه هذه الطاقة الجميلة من الزهر.

ومرت بعد العام بضعة شهور، وذهبنا جميعًا ذات يوم إلى السينما … كانت سهام تجلس بين سعيد وبيني، وإلى جانبي جلس عبد القادر، وإلى جانب سعيد جلس علي، وانتهى الفيلم، نهاية حزينة طوتنا جميعًا في صمت خانق، وقلت ممزقًا هذا الصمت: ما رأي سهام في الفيلم؟

وأجابت: نهاية فظيعة … مسكينة البطلة لم تكن تستحق هذا المصير.

ولم أعلق على رأيها، ولكنَّ عليًّا اندفع كعادته في تبرير نهاية الفليم، لقد انتهى الفيلم بانتحار البطلة، وكانت القصة تدور حول طموحها ورغبتها في أن تصل إلى الجاه والثراء، حتى لقد لفظت في سبيل أطماعها الحب الوحيد الصادق في حياتها.

اندفع علي يقول: ماذا كنت تتوقعين وقد علقت آمالها بأطماع كبيرة لم يكن في مقدورها أن تنالها؟ لقد كانت تعيش حياةً هادئةً، وكان «جاك» البطل يحبها، وكان سيسعدها حتمًا، لكنها آثرت أن تلقي بنفسها في تيار المغامرات!

فقالت سهام: هل تعيب عليها رغبتها في حياة أفضل؟

وأجاب علي: ومن قال إن الحياة الأفضل لا توجد إلا في القصور؟ ألم تترك «جاك» لتذهب مع ذلك المليونير لمجرد أنه غني واسع الثراء؟ تذكري منظرها وهي تدير نظرها في أنحاء قصره مبهورةً بما حولها، ولم يمضِ على موقفها القاسي مع من أحبها غير ساعات …

وتقاطعه سهام: إنك عاطفي أكثر من اللازم … إن الذي أحبها هذا كان خاملًا، كل ما يملكه حديث الحب.

وكان من الممكن أن يمضي نقاشنا على هذا الوجه لا ثمرة له، نقاش يدور حول قصة سينما … قصة لم تحدث … لولا أن عبد القادر نظر إلى سهام قائلًا: ماذا كنت تفعلين يا سهام لو كنت مكانها؟

ولم تتردد سهام طويلًا، ولم يَبْدُ أيضًا أنها تمزح، وإن طغى الضحك على صوتها، فقالت: كنت أفعل ما فعلت، لكنني كنت أحتاط للمستقبل، لاحظ أنها لم تنتحر إلا حين ذهبت إلى الشاب الذي أحبها بعد أن طردها المليونير، فطردها هو أيضًا بدوره … أنا ما كنت أدع الأمر يمضي إلى هذا الحد أبدًا …

وإني لأذكر الآن رنين صوتها، وهي تقول هذه الكلمة باستنكار، وإني لأذكر الآن حديثنا، أنا ومصطفى، بعد أن ودعنا سعيدًا وسهامًا والآخرين، وسرنا وحدنا نثرثر بعد منتصف الليل.

دار حديثنا إذ ذاك كله عن سعيد وسهام، ولا أدري بالضبط كيف بدأ الحديث، ولكني أعرف أن سهام لم تكن في تلك اللحظة في مكانها من نفسي … كانت قد تزحزت قليلًا، وقد أكون أنا الذي بدأت الحديث فخطأت رأيها.

على أية حال، لقد تطرق بنا الحديث حتى تغلغل في بيت سعيد، وأخذ يزيح بلا سبب الغلالات الجميلة التي كسونا بها سهام، ولم يكن هذا غريبًا … إن في حياة كل إنسان لحظات يصبح فيها أشد ما يكون تهيؤًا لفحص عقائده ومقدساته بقسوة قد لا يجرؤ عليها غيره.

والويل للعقائد والمقدسات الزائفة من هذه اللحظات، إنها تلقى إذ ذاك منا — نحن الذين آمنَّا بها حينًا — ما لا تلقاه من الذين كفروا بها طوال الحياة.

ولقد كانت سهام إحدى مقدسات الشلة، وكنا أنا ومصطفى نجتاز إحدى هذه اللحظات … نجتازها فجأةً بلا مقدمات … حديث السينما التافه من الصعب أن يكون أساسًا، وآراء سهام في الحب والحياة قد تكون مجرد ثرثرة في الطريق …

ما الذي جعلنا إذن نتحدث عن سهام، وبالطريقة التي تحدثنا بها، بل ما الذي جعلني أنا أستمع لكل ما قاله مصطفى تلك الليلة، كأنه صادف هوًى في نفسي؟

من المؤكد أنه ليس حديث السينما، ولا ثرثرة سهام وآراؤها الجريئة … هي «الكبسولة» التي انفجرت ففجرت البارود، وملأت الجو بهذا الدويِّ الرهيب … لكنها كانت مجرد كبسولة، أو لعل الكبسولة كانت قولي: عجيب هذا الرأي من سهام … لو أن غيرها يقوله … لكن هي؟!

واتصل اللهب بالبارود، فأجابني مصطفى، وكأنه يجاهد كلامًا غير ما يقول: إن العجيب هو أن يكون لها رأي غير هذا، أليست امرأةً؟

واستنكرت قوله … وليتني ما استنكرته: امرأة! هل تنسى أنها سهام … زوجة سعيد؟

– إن الذي يقتلني هو أنني لا أستطيع أن أنسى ذلك.

– يقتلك! لكن لماذا؟ إنك ثائر.

لكن مصطفى كان أكثر من ثائر، كان كمن يئوده عبء ثقيل صبر على احتماله طويلًا، ثم تهاوت أعصابه، واسترخت فسقط العبء على الأرض.

– لست ثائرًا، وإنما أكاد أجن … ألا يرى سعيد ما نراه؟ لقد كان أكثرنا تجارب … ألا يرى ما تفعل سهام؟

– وماذا تفعل سهام يا مصطفى، ولا تقره أنت؟

– هؤلاء السادة الجدد الذين نراهم في بيت سعيد … متى كانوا أصدقاء؟

– هذا سؤال نوجهه إلى سعيد لا إليها … ومع ذلك فأنا أجيبك عليه، عن أيهم تسأل؟

– ذلك السيد المنتفخ «م» باشا الذي ملأ صيته أنوف الأشراف بما هو أكثر من الزكام … ما الذي جعله الآن قاسمًا مشتركًا في كل سهرة … منذ متى كان صديقًا لسعيد؟

– إن الرجل صاحب يد جليلة على سعيد … ألا تعلم أنه صاحب نفوذ؟ ثم إن الرجل يمضي السهرة معنا كأنه أحدنا … إنه ديموقراطي الخلق.

– والسيد الآخر الذي ظهر فجأةً «ع» بك، ذلك الأمي الذي يقرأ ويكتب بعناء، ما الذي جمعه بنا؟ وأي حديث راقه من أحاديثنا حتى أصبح يشاركنا في مجلسنا كل ليلة …؟ هل هو حديث الخراف والديكة التي انهالت على بيت سعيد؟!

وصحت بمصطفى: ألم أقل إنك ثائر ومجنون؟ هؤلاء أصدقاء سعيد … يروقهم مجلسه كما يروقك ويروقني … كيف تعرف عليهم؟ ألم تعرف أن ذلك يرجع إليه وحده، وهذا شأنه دون سواه؟ لقد أنستك ثورتك أكثر مما يجب.

وصمت مصطفى لحظةً، وكدت أحس بالجو الثقيل الذي نشره ينزاح بعيدًا لولا أنه عاد يقول في تراخٍ: لو رأيت بعينك ما رأيت لثرت أكثر مني … هذا إذا كنت تضع سعيدًا حيث وضعناه من نفوسنا من زمن … لو رأيت سهامًا، وهي قابعة في سيارة صاحبنا المنتفخ، ولو رأيت صاحبنا المنتفخ نفسه، وهو يصعد إلى السيارة ويجلس إلى جوارها.

وأعترف أني دهشت لهذا الذي يقوله مصطفى … ومن المؤكد أني ثرت عليه، وقاطعته والتمست لهذا اللقاء الأعذار.

وأعترف أيضًا أني تخاذلت، وأنا أسمع أبعد من هذا الذي رواه، سهام تلقى هذا وذاك خلال ساعات النهار حين يكون سعيد في عمله، ليس السيد المنتفخ وحده … وليس الثري الأمي … وإنما ثالث ورابع.

ويل للمقدسات الزائفة من لحظات الشك، إن هذه اللحظات تستبدل بعيون الحب العمياء عيونًا واعيةً حذرةً ذاكرةً.

في خلال بضعة شهور من هذا اليوم كان كل منا يرى في بيت سعيد ما لم يكن قدره من قبل، وكان كل منا يلحظ من تصرفات سهام ما يثير أشد الرجال غباءً وغفلةً.

ولكن سعيدًا كان يفوق أشد الرجال غباءً وغفلةً، كان لا يثيره شيء بل كان يبدو أنه راضٍ بكل شيء.

وعلل عبد القادر ذلك ذات يوم فقال: إن سعيدًا قد تغير، وإنه يريد أن يصل إلى الثراء والجاه معًا؛ لأن سهام تريد ذلك.

واندفع عليٌّ كعادته: أو لم تقل رأيها بصراحة ليلة كنا في السينما؟ … إنه لا يريد أن يكون العاشق الذي تتركه في منتصف الطريق.

وخرج حمدي من هامشه فقال: وماذا أنتم فاعلون؟ هذا هو سعيد، إما أن تقبلوه كما هو، وإما أن ندعه في حاله … هل فيكم من يجرؤ على أن يحدثه بشيء؟

– أنا أجرؤ أن أحدثه لو أن لذلك أية فائدة تعود عليه، إنه راضٍ عن ذلك.

وكان مصطفى هو الذي يتكلم في استنكار.

– قد يكون سعيد كما تقولون يمنح زوجته الكثير من الحرية، ويفتح بيته لأصدقاء جدد قد يعاونونه فيما رسمه لنفسه من مستقبل، لكن من يجرؤ منكم على أن يتهمه بأنه يعرف السوء عن سهام ويسكت.

وسكتوا جميعًا … وإني لأذكر الجو الخانق الذي عشنا فيه تلك الليلة، وأذكر أيضًا أن غالبيتنا منذ ذلك اليوم قد آثرت ألا تثير الموضوع، ولم يكن يواصل الحديث فيه غير مصطفى …

حتى جاءني مصطفى يومًا، وفي يده رسالة وصلت إليه بالبريد …

رسالة تحمل توقيع سعيد، وفيها يعلن سعيدٌ مصطفى بأنه يقطع علاقته به بعد ما تبين نذالته وحقارته التي لم يكن يتصورها.

وتتلخص هذه النذالة وهذه الحقارة في أن مصطفى قد حاول أن يغري سهام، وطارحها هواه، وطلب منها موعدًا بالتليفون … وفي الرسالة، إن لم تخُنِّي ذاكرتي، هذه الجملة:

لقد روت لي سهام كل شيء، وهي خجِلة تبكي … أما خجلها فيرجع إلى المستوى الذي انحدر إليه بعض أصدقائي، وأما بكاؤها فلأنها ربما كانت تنوب عني في ندب صداقتنا الطويلة.

وطويت الرسالة وأنا مذهول، ثم انتبهت على صوت مصطفى، وهو يقول لي: توقعت كل شيء إلا هذا … لو أنها فعلت ذلك مع أحدكم لكان معقولًا … لكن معي أنا؟

ومضت فترة قبل أن أعي كلماته لأسأله ما يعني … لمَ لا يستبعد حدوث ذلك مع أحدنا، ويستبعد حدوثه معه هو؟ وأعادني إلى ذهولي جوابه الجريء.

– ذلك لأني الوحيد بينكم الذي فعل ذلك حقًّا.

– فعل ذلك؟ … أنت؟ … طارحتها هواك، وطلبت منها موعدًا هل جننت؟

– قد أكون جننت … لكن ذلك حدث … أما الذي لم يحدث، فهو ما قالته لسعيد من أنها رفضت لقائي … ولم يحدث ذلك أول أمس كما تقول بل منذ شهر …

ولم أفهم شيئًا، فعاد مصطفى يقول: صبرًا حتى تسمع القصة التي يسبقها اعتراف قصير، هو أنني أحببت سهام فعلًا، ليس اليوم ولا أمس، وإنما منذ رأيتها أول مرة، أحببتها كما يجوز أن تحبها أنت، أو يحبها غيرك … أحببتها وطويت على هذا الحب جوانحي، فلم يعرفه أحد حتى هي نفسها … ذلك هو اعترافي القصير … أما ما حدث فهو أنني لقيتها منذ شهور … لم أطلب منها موعدًا، ولم أدبر لقاءنا، وإنما كان ذلك مصادفةً.

وفي هذا اللقاء لا أعرف كيف جرتني هي إلى الحديث عن نفسي، ولا أعرف أيضًا كيف واعدتها على اللقاء في اليوم التالي، وإن كنت أقسم أني ما رتبت أن تمضي الأمور على هذا الوضع.

وفي لقاء اليوم التالي صارحتها بحبي … فعلت هذا، وأنا أكاد أبكي لما يريبني من تصرفاتها، وأعترف أني كنت قد فقدت كل سلطان على عقلي وأعصابي، وأعترف أيضًا أن شبح سعيد ظل بيننا برغم ما أصابي من انهيار، فما لمست غير يدها في قبلة أحسست أنها أحرقت شفتي، وانتهى لقاؤنا لا كما ينتهي لقاء العشاق على وعد باللقاء، وإنما كما ينتهي غرام يائس لا خير فيه … وكل ما فعلته بعد ذلك أنني كنت أحادثها بين الحين والحين بالتليفون، فأثرثر معها بضع دقائق، وما خطر ببالي مرةً واحدةً أن أطلب منها موعدًا … حتى كان يوم الثلاثاء الماضي، إذ رأيتها تجلس في سيارة إلى جانب ذلك الشاب الذي رأيناه عند سعيد منذ بضعة أسابيع، ذلك الشاب الذي قال عنه حمدي إنه قد ورث بضعة ألوف، كانا وحدهما، وكان يطوق خصرها بذراعه في طريق الصحراء، فجن جنوني، وما كاد الصباح يطلع عليَّ حتى أمسكت بالتليفون أعاتبها في حسرة على ما رأيت، فإذا بها تنكر في شدة، وإذا بحديثنا ينتهي، وقد أغلقت المكالمة في عنف … ثم يكون اليوم الجمعة فتصل إليَّ هذه الرسالة بالبريد.

ويصمت مصطفى لحظةً، ثم يقول: كنت على وشك أن أذهب لسعيد لأقص عليه ما حدث لولا خشيتي مما يحل به لو عرف الحقيقة.

– ماذا ستصنع إذن؟

– لا شيء، لا أعرف ماذا أصنع؟

أما أنني أبديت رأيًا فيما فعله مصطفى فذلك حق، لقد صببت عليه سيلًا من اللوم والتقريع … لم ألُمْهُ لأنه أحب سهام، بل لأنه واعدها على اللقاء.

لكني في قرارة نفسي أحسست أن ما فعله هو قد أفعله أنا، وأن الفخ الذي وقع فيه … قد يقع فيه أي إنسان.

ولقد صدق إحساسي حين لقيت سعيدًا بعد ذلك … فإذا به يفاجئني برأيه … لا في مصطفى فقط … وإنما في ثلاثة غيره من أفراد شلتنا ليس فيهم أنا ولا حمدي ولا محمود.

لقد اعترفت له سهام … اعترفت بأن عليًّا، وعبد القادر قد حاولا معها المحاولة نفسها وإن لم يصلا إلى قحة مصطفى … وكان سعيد مقتنعًا بما تقول؛ لأن دموع سهام قد استطاعت أن تنبت في قلبه أقسى الكراهيةً لهؤلاء الثلاثة.

أما أنا فقد غادرته تلك الليلة لآوي إلى داري مبكرًا، ولأجلس إلى مكتبي أتأمل صورتنا … نحن السبعة.

ومرت أيام … أيام ثقيلة كالجبال … لقيت خلالها عبد القادر ومصطفى وبقية الصحاب في أكثر من مكان … إلا بيت سعيد … وكان حمدي آخر من لقيت منهم خلال تلك الأيام … لقيته وأنا في طريقي إلى بيت سعيد، فدعوته للذهاب معي، فإذا به يعتذر في لباقة، فلا أكاد ألح عليه حتى يقول: أوتريدني أن أصدق ما نسب إلى علي وعبد القادر؟ إن ذهابي معناه أن أصدق ما نسب إليهما، وأنا لا أصدق حرفًا واحدًا منه، إن أضعف الإيمان ألا تطأ قدماي بيت سعيد …

ومضيت وحدي … مضيت لأجد نفسي غريبًا في بيت غريب حتى سعيد نفسه بدا لي غريبًا في حديثه وتفكيره وتصرفاته.

وما استطاعت بسمات سهام ولباقتها ونعومتها أن تزيل وحشتي من هذا الجو الذي لا أعرف فيه إلا وجهها ووجه سعيد.

وكان سعيد فرحًا في ذلك اليوم، فقد اشترى حجرةً جديدةً للمائدة، وكان حديثه كله عما اعتزمه هو وسهام من إعادة تأثيث البيت … البيت الذي مر على تأثيثه عامان فقط، ومضى يصور ما سوف يبدو عليه بيته حين يعمر بالأثاث الجديد.

وخرجت قبيل منتصف الليل، واستطعت أن أنام بعد ساعة من التفكير المضطرب في كل ما حدث، وكانت هذه آخر ليلة زرت فيها سعيدًا.

ظلت الصورة في مكانها في الإطار الجميل بعد ذلك، ظلت بضعة شهور حتى سقطت ذات يوم؛ إذ وهن الخيط الذي كانت معلقةً به على الحائط فانقطع، ولم أجد في نفسي أية رغبة لتعليقها من جديد، فوضعتها شقيقتي في الصندوق الخشبي مع شتى الصور والمذكرات، وضعتها لتُنقَل معي إلى بيت الزوجية أثرًا من آثار الشباب، وها أنا ذا أعيدها من جديد.

صورة السبعة الذين قتلوا قتيلًا … ويا له من قتيل غالٍ …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤