أقوى من الشرف

كان حبه لها كل شيء … كان آماله، كان نجاحه … كان أقوى من الشرف نفسه …

***

figure

حينما تحتفظ برسائل أصدقائك، فإنك تجد عملًا مسلِّيًا حين تخلو لنفسك وتجلس إلى هذه الرسائل وتقلب فيها … وتقرؤها واحدةً واحدةً، إن كل رسالة تستدعي بعض خواطرك عنها، وتكون معها صورة لصديق أو قصة له، ربما كانت قصة حياته كلها أحيانًا …

إني أفعل ذلك الآن، وأنا جالس إلى مكتبي في هدأة الليل لا أجد ما أعمله … أقلب رسائل أصدقاء الزمن الماضي، لا أفض إحداها حتى تنقلني إلى ماضٍ بعيد … وكأنها عصا ساحر تفعل الأعاجيب، هذه رسالة من سعيد يزف إليَّ نبأ نجاحه في البكالوريا، إن الخواطر تتزاحم في رأسي … ليالي المذاكرة في منزله والصحاب الأربعة الذين كانوا يذاكرون معنا … ليالي مايو الساخنة تبعث في سحب الدخان المنعقدة في الحجرة لهبًا … فيصيح سعيد: لمَ لا يكون الامتحان في الشتاء؟

ويضحك إبراهيم، وهو يقول: كنا برضه حانعرق لو عملوا الامتحان في يناير.

وتتوالى الذكريات، وتدخل خلالها رسائل سعيد كأنها الأعمدة الحديدية …

إن المذكرات والرسائل تبدوان معًا كبناء ضخم … وإني لأطوف بهذا البناء … إني أعرفه تمامًا، إن خيالي يفتح أبوابًا من الذكريات، وكأنه يفتح أبوابًا موصدةً في البناء، إنه يجوس في الحجرات والممرات والدهاليز منذ التقينا في المدرسة الخديوية عام ١٩٢٩.

وفجأةً تكتشف الذاكرة ذكرى مطويةً، وينفرج الطريق … هذا جناح آخر من البناء … يقود إلى بناء آخر … إلى حياة صديق آخر كان معنا … هذه رسالة من سعيد تذكر لي الأيام السعيدة التي قضاها هو وعبد الجواد بالإسكندرية.

إني أذكر هذه الأيام … كنت قد رسبت في المجموع، فكُتِب عليَّ أن أقضي الصيف في القاهرة لأستعد لامتحان الدور الثاني … إن سعيدًا يكتب لي من الإسكندرية قائلًا:

ليتك كنت معنا … إننا نقضي هنا أيامًا لطيفةً، وقد استطعت أن ألتقط من فوق رمال الشاطئ ثلاث فتيات، أوزع وقتي بينهن بالقسطاس، وأنت تعرف عبد الجواد وطبعه الحنبلي؛ فهو يصر على أن الإسكندرية بحر بالنهار، ونوم طويل بالليل … وعبثًا حاولت أن «أشبكه» مع إحدى الفتيات الثلاث … وعلى فكرة سيعود عبد الجواد بعد باكر إلى البلد، وربما عدت أنا بعده بأيام.

إن ذاكرتي تسوق إليَّ القصة الآن من بدايتها … فعبد الجواد هو صديق سعيد منذ الطفولة، وهما من بلد واحد، وقد عرفتهما في وقت واحد، وظلت صداقتنا قائمةً حتى بعد أن تخرجنا في الجامعة، وتفرقنا في طلب العيش.

وشاءت الظروف أن تجمع سعيدًا وعبد الجواد مرةً ثانيةً؛ فقد نقل سعيد إلى طنطا حيث كان عبد الجواد قد فتح مكتبه، وبدأ يُكَوِّن لنفسه مكانًا ممتازًا بين محامي المدينة، ولأدع أحد رسائل سعيد إليَّ تتحدث:

وتخيل عبد الجواد … حين رآني أمامه في حجرة مكتبه بطنطا قضينا الدقائق العشر الأولى في عناق وتحيات، وقصصت عليه أني نُقِلْت إلى طنطا، وقبل أن تمر نصف ساعة على لقائنا كنا نسير في الطريق نحو داره، وبعد الغداء قص علي نبأ خطبته لابنة لأحد معارف والده من القاهرة، إنه يستعد للزواج فعلًا، وقد حضرت والدته إلى طنطا لتشرف على تأثيث منزله … إن طنطا بديعة، ويُخَيَّل لي أني سأقضي فيها أيامًا سعيدةً، وإن كنت أحس أني مهدد بالزواج؛ لأن صديقي الوحيد فيها سيتزوج.

وتزوج عبد الجواد فعلًا، وحضرنا حفلة زفافه في القاهرة، وكانت ليلةً لا ننساها أنا وسعيد؛ فقد كدنا نضرب المطرب الذي غنى في الفرح؛ لأننا طلبنا منه أغنيةً معينةً فلم يُغَنِّها … وقد شربنا أنا وسعيد وثملنا، ولعلنا أضحكنا الناس في تلك الليلة أكثر مما أطربهم المطرب الثقيل الظل.

وقال لي سعيد وهو يترنح ونحن في طريقنا بعد الفرح: سهرة مدهشة!

وأجبته وأنا أكثر ترنحًا: تعرف يا واد أن الجواز لذيذ.

وأجابني، وقد وقف متصنعًا الاتزان: على أن نحضر مدعوين فقط.

وتعالى ضحكنا، وودعت سعيدًا عند باب الفندق الذي ينزل فيه، وقال لي: سأصحو مبكرًا لأحضر سيارتي من الجراج، وسأتولى نقل المحكوم عليهم بالزواج إلى منزل الزوجية في طنطا بسيارتي … لقد اتفقت مع عبد الجواد أن أمُرَّ عليه الساعة ١١٫٣٠.

وضحكت لفكرة استيقاظه مبكرًا؛ فقد كان الفجر يؤذن حين استأنفت أنا السير إلى منزلي … وسافر عبد الجواد وعروسه إلى طنطا بسيارة سعيد بعد ظهر اليوم التالي، وعاشا حياةً هانئةً طيبةً … حياةً لمست أنا مقدار بهجتها حين ذهبت إلى طنطا بعد ذلك بعدة شهور، وتغدينا ومعنا سعيد.

كان كل شيء ينطق بأن عبد الجواد سعيد … البيت المنظم الأنيق، والعذوبة التي يتحدث بها الزوجان، ونظرات الحنان التي يتبادلانها، كل شيء يدل على أن زواج عبد الجواد كان موفقًا.

وقال لي سعيد بعد ذلك إنه يقضي أغلب وقته معهما، وإنه سوف ينتهي به الأمر إلى الزواج.

وإذا ضمنت أني سأجد زوجةً مثل منيرةٍ فثق أني سأتزوج فورًا، إن عبد الجواد زوج مثالي حقًّا؛ لكنه لم يكن ليحظى بهذه السعادة لو لم تكن زوجته بدورها زوجةً مثاليةً.

وقص على سعيد كيف فتح زواج عبد الجواد أبواب الرزق أمامه؛ فقد اتسعت أعمال مكتبه ففكر في أن يفتح مكتبًا آخر في المحلة الكبرى، وأن منيرة تشجعه على ذلك، وستسافر معه إلى المحلة لتشرف على تأثيث المكتب.

وبعد الظهر اجتمعنا، أنا وسعيد وعبد الجواد ومنيرة، في شقة سعيد لنشرب الشاي، ورأى عبد الجواد تمثالًا لطيفًا من البرونز على مكتب سعيد، تمثالًا لفتاة تحمل قيثارةً، أعجب به، وسأل سعيدًا من أين اشتراه؟ وصمت سعيد برهةً، ثم قال: تعرف لقد كنت أفكر منذ مدة عن مكان هذا التمثال الملائم، لقد تذكرت الآن أنه ظهْرُ البيانو الفخم في منزل الأستاذ عبد الجواد، يجب أن نصحح الأوضاع.

وحمل عبد الجواد التمثال بعد إلحاح سعيد إلى منزله، وقال سعيد وهو يودعني على محطة طنطا: كنت أبحث عن مكان نظيف أضع فيه هذا الأثر الغالي، الحمد لله الذي أعجبهم التمثال … أنت تعرف كم هو غالٍ عندي.

وكنت أعرف فعلًا قصة هذا التمثال … إنه الأثر الباقي لسعيد من شقيقه الذي تُوفِّي في باريس منذ أعوام، وهو يدرس الفن … التذكار الوحيد الذي أرسله لسعيد قبيل وفاته بأسابيع … وكان سعيد يحتفظ به، ويحرص عليه.

إن حياة الزوجين تمضي في طريقها، ورسائل سعيد تصل حلقات الذكريات … في كل منها ذكر لعبد الجواد وأخباره، لقد أصبح عبد الجواد من أشهر محامِيْ طنطا، ونجح مكتبه في المحلة، وهو يذهب إلى المحلة ثلاث مرات في الأسبوع … وفي كل رسالة من رسائل سعيد يأتي ذكر عبد الجواد، فهو منذ حضرت شقيقته لتقيم معه في طنطا يرى عبد الجواد وزوجته كل يوم تقريبًا، بل يقضيان معًا أغلب الليالي … وفي إحدى هذه الرسائل يقول:

… إننا الآن كأسرة واحدة، وقد كان لمنيرة الفضل الأكبر في أن تنسى شقيقتي نكبتها في زواجها فهي تزورها باستمرار، وحينما تضطر للبقاء في المنزل تصر على أن تدعو شقيقتي لتقضي اليوم معها … كنت وعدتنا أن تحضر في شم النسيم، فأرجو ألا تنسى وعدك، وسوف تحضر شقيقتي الصغرى وزوجها وأخي أحمد، وربما حضرت والدتي أيضًا، وستكون فرصةً لترى أسرتي ما دمت لا تراها، ولا تزور أحدًا منهم في القاهرة.

وقد وفيت بالوعد، وذهبت لأقضي مع الصحاب شم النسيم في حديقة أحد أصحاب سعيد من أعيان طنطا، وكان يومًا لطيفًا، وقص عليَّ سعيد ما لم يخبرني به من قصة شقيقته؛ فقد كانت متزوجةً برجل محترم يشغل منصبًا كبيرًا، ثم دب بينهما الخلاف أخيرًا؛ إذ نقلت إليها إحدى صديقاتها نبأ علاقة بين زوجها وإحدى الراقصات مما أثارها، وعبثًا ذهبت الجهود لإصلاح ما بين الزوجين؛ فقد أصرت على الطلاق، وتم الطلاق فعلًا، وقد دعاها سعيد للإقامة معه فترةً لتُسَرِّي عن نفسها … فقد كانت المسكينة تحب زوجها برغم كل ذلك، وبعد شم النسيم جاءتني رسالتان من سعيد خلال شهر، وإني أعترف أن شيئًا في الرسالتين لم يسترْعِ اهتمامي أول الأمر؛ في الأولى يجيء ذكر عبد الجواد وزوجته في سطر واحد، مجرد ملء خانة تعوَّد أن يملأها سعيد …

… سافرت شقيقتي إلى مصر؛ لأن موعد نظر القضية التي رفعتها لضم طفليها إليها قد حان، وقد زرنا عبد الجواد، وودعتهما شقيقتي، وهما بخير، وقد قال لي عبد الجواد إنه كتب لك ليهنئك بالدرجة.

أما الرسالة الثانية، فقد كانت بعد ذلك بأسبوعين، وكنت قد سمعت أن شقيقته قد ربحت قضيتها، وحكمت المحكمة لها بضم الطفلين، فكتبت لسعيد أهنئه بهذا النصر السخيف خصوصًا، وأنه كان مهتمًا بالقضية اهتمامًا كبيرًا، مصدره لهفة أخته على طفليها الصغيرين اللذين انتزعهما الأب منها وأخفاهما عنها، وكتب سعيد يرد على رسالتي وينبئني بمساعي الصلح التي يبذلها زوج شقيقته، وأنه كتب لأبيه بألا يتشدد، وأن الأَوْلَى أن يتصالح الزوجان بعد أن رأى بعينيه مدى حالة أخته بعد الطلاق، وفي هذه الرسالة ورد ذكر عبد الجواد مرةً واحدةً، وفي جملة واحدة.

… زرت عبد الجواد أمس، وهو يهديك أزكى تحياته …

أما ما وراء هذا التطور في رسائل سعيد فهو أن عبد الجواد اضطر إلى أن يزيد نشاطه في مكتبه في المحلة، وأصبح يذهب إليها أربعة أيام في الأسبوع، وبدأ يركز قضاياه في يومين في طنطا هما الأربعاء والخميس، ثم يسافر السبت والأحد والاثنين والثلاثاء إلى المحلة، يسافر كل يوم بأول قطار، ويعود آخر النهار؛ ولذلك وجد سعيد أنه من الإرهاق أن يزوره في غير أيام الخميس أو الجمعة، وكان يحضر إلى مصر في كل أسبوعين مرةً، فأصبح بذلك لا يزور عبد الجواد إلا كل أسبوعين مرةً … إن الحياة مشاغل … هكذا قال لي سعيد، وهو يحدثني عن تزايد عمل عبد الجواد، وعن انشغاله هو في عمله المصلحي:

تصور أنني أذهب إلى مكتبي صباحًا ومساءً بعد أن مرض أحد زملائي، وتحولَتْ عليَّ أعماله.

إن كل شيء يمضي في طريقه طبيعيًّا حتى تصل إليَّ هذه الرسالة التي أقرؤها الآن … أقرؤها متماسكًا شعوري، وأكاد أتخيل شعور سعيد الذي تنمُّ عليه سطور رسالته …

إني اكتب لك هذه الرسالة، وأنا أكاد أحترق من الحيرة والقلق … ولا أدري هل لي الحق في هذه الحيرة أو لا؟ لقد حاولت أنا شخصيًّا أن أصل إلى تفسير فلم أوفق، ودعني أقص عليك ما حدث أولًا، وأرجوك إذا اهتديت إلى حل أن تخبرني به … إنني شخصيًّا لا أجد حلًّا … ولا تعليلًا.

في الأسبوع الماضي خرجت يوم الثلاثاء من مكتبي في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وكان معي أحد زملائي في العمل لنقوم بمعاينة منزل تريد أن تشتريه الحكومة، فوجدت منيرة تغادر منزلًا من المنازل الجديدة التي بنيت في نهاية شارع «…» هذا ما حدث في صورته المبسطة … وما رأيته … فلم يلفت نظري بالمرة، خصوصًا وأن منيرة لم ترَني … وفي عصر ذلك اليوم مر عليَّ بالمنزل عبد الجواد ليدعوني للعشاء احتفالًا بعيد زواجه زاعمًا أنه قد أخفى ذلك على زوجته ليفاجئها، وأخفاه عليَّ لكيلا أتعب نفسي في إحضار هدية والوقت آخر شهر، وذهبنا للعشاء، وقضينا وقتًا لطيفًا، ونسيت بالمرة أني رأيت منيرة في الصباح، نسيت … لولا أن طرق أذني صوت منيرة تقول لزوجها: زرت اليوم أسما هانم، وقضيت عندها ساعتين، وقد تحسنت صحتها، ويقول الدكتور إنها ستغادر الفراش بعد شهر على الأكثر.

وأنت لا تعرف أسما هانم بالطبع … ولكني أعرف أنها زوجة القاضي الشرعي، وهي سيدة محافظة، وهذا لا يهمك بالطبع لكن المهم هو أن أسما هانم هذه تسكن في ناحية نائية من مدينة طنطا، في الطرف الآخر من المدينة، ذكرت إذ ذاك فقط ما حدث ظهر ذلك اليوم، وقفز إلى ذهني ما لم ألتفت إليه أول الأمر … المنزل الذي رأيت منيرة تغادره، إنني أعرف من يقطنه، في الدور الأعلى أحد تجار المدينة متزوج بسيدة يونانية لا تزور أحدًا أبدًا، وهي لا تتكلم العربية، ولم يمضِ على زواجهما شهور، وفي الدور الثاني يقيم عبد الستار أفندي كبير كُتَّاب المحكمة الأهلية، وهو رجل محافظ، حتى إن نوافذه على الشارع لا تفتح أبدًا … ولا أعرف أن زوجته صديقة لمنيرة … ويبقى بعد ذلك الدور الأول … إن ساكنه هو الشاب الرقيع الدكتور محجوب، ولا إخالك قد نسيته، إنه صاحب صديقنا حسان، وصاحب الحديقة التي قضينا فيها شم النسيم، والذي كاد يقتلنا أنا وأنت بنظرته، ولا أدري كيف يطيقه حسان، هل يمكن أنك ستقول ذلك … وأنا أيضًا قلت ذلك لنفسي أكثر من مرة، واستبعدته بعنف أكثر من مرة لكنه مع ذلك كان، وللأسف الشديد، الحقيقة بعينها … فمنيرة تذهب إلى هذا الوغد في منزله، وإليك البرهان

فقد دعاني حسان بعد ذلك بيومين لسهرة عنيفة في منزله … سهرة وجدت فيها الدكتور محجوب، وأخذنا نشرب … أنت تعرف أني أقلعت عن الإفراط في الشرب؛ لذلك شربت كأسين فقط … أما هو وحسان فقد شربا حتى ثملا، وأخذا يثرثران … وسمعت وسط الثرثرة لسان هذا النذل يلفظ اسم منيرة، فاعتدلت في جلستي، ويظهر أنه لحظ ذلك مني، فحاول أن يدير الحديث، ولا أدري من أين جاءني الدهاء إذ ذاك … لقد ابتسمت ونظرت إليه في خبث، وقلت له: سبحان الله … حانخبي على بعض … ما إحنا عارفين … وكأني بذلك قلت له كلمة السر … فقد انطلق في عنف يمزق الثوب الأبيض الجميل، ثوب الطهارة الذي كانت تتَّشِحُ به منيرة أمام عيني، لقد تعرف بها قبل أن تتزوج، ثم رآها في طنطا، وجددا عهد الصداقة … جدداه في هذه المرة على حساب صديقنا عبد الجواد المسكين، إنه هو الذي يهمني في الموضوع، إنني أكتب لك هذه الرسالة، وأنا لا أكاد أتصور كيف سأرى منيرة بعد ذلك؟ وهل سأتمالك نفسي عن احتقارها؟ … اليوم هو الأربعاء والمفروض أنني سأراها غدًا … سأراها وهي تبتسم في حنان، وتتكلم في عذوبة تفيض على عبد الجواد المخدوع، فلا يدري شيئًا مما حوله … إني أكاد أنفطر حزنًا، وأتفجر غيظًا، ولن أستطيع أن أكتم الأمر عن عبد الجواد طويلًا، خير له أن يعرفه مني وبطريقتي الخاصة، من أن يعرفه قصةً فاضحةً تملأ كل الأسماع قبل أن تصل إليه، عندئذ سيكون الوقت قد فات لإنقاذ سمعته …

إني أذكر الآن كيف فجعني هذا النبأ، ليس من أجل عبد الجواد، ولكن فجيعتي العظمى كانت في منيرة، تلك السيدة التي احترمتها لأنها زوجة طيبة، فإذا بها تنهار أمام عيني كما ينهار تمثال من الرمل، وراعتني فكرة سعيد، ولم أكن أرى رأيه في إطلاع عبد الجواد، وكنت أظن أن محاولةً مع منيرة، محاولةً لتقويمها، قد تجدي، ولقد كتبت لسعيد فعلًا، وأعترف أني لم أكن مقتنعًا بأن مثل هذه الزلة ممكن إصلاحها؛ لذلك كانت رسالتي، على ما أذكر، مجرد دعوة إلى التمهل والتريث، ولم أقترح عليه أن يواجه منيرة بجرمها … وتخيلت موقفي أنا لو أن زوجتي خانتني، فوجدتني أوثر ألف مرة أن أعرف خيانتها، وأضع حدًّا لصلتها بي، ذلك خير ألف مرة من أن أكون الزوج المخدوع.

وسبق السيف العذل … فقد وصلت رسالتي لسعيد بعد أن كان قد قام، كصديق شهم يغار على عرض صديقه، بإطلاع عبد الجواد على كل شيء.

واعترفت منيرة … وكتب سعيد في رسالته التالية يقول:

… أؤكد لك أني أحسنت صنعًا … لقد ماتت الفضيحة في مهدها … واجه عبد الجواد زوجته فاعترفت، وعرض عليها الطلاق فقبلت، وقد تم كل شيء في هدوء ودون ضجة، وعادت منيرة أمس إلى القاهرة، وكان الله في عون عبد الجواد في الأيام القليلة المقبلة … إنه سوف يعاني بضعة أيام، ثم ينسى … وأنا لا أغادره دقيقةً واحدةً، لقد كانت الصدمة قويةً عليه، لكن عبد الجواد رجل وسوف يفيق منها.

هل أفاق عبد الجواد؟

لقد ظننت ذلك كما ظن سعيد، ولكن ما حدث بعد ذلك كان مروعًا … لقد أخذ يصفي أعماله في مكتب المحلة بحجة أن أعصابه لا تحتمل كثرة السفر، وفي طنطا ظل مكتبه ناجحًا، ولكنه اختفى عن أنظار أصدقائه؛ فكان يأوي كل مساء إلى منزله فلا يغادره … وقد أحس سعيد نفسه بعد مدة أن عبد الجواد يؤثِر أن ينفرد بنفسه، فكتب إليَّ في إحدى رسائله يقول:

لا أدري ماذا حل بعبد الجواد … إنه انقطع عن كل الناس حتى عني أنا … إنه يزعم أن وراءه عملا كثيرًا، وأنه يشتغل في المنزل … لقد زرته مرتين، فأحسست أنه يتمنى لو تنتهي زيارتي سريعًا.

وقابلت عبد الجواد بعد ذلك في القاهرة فراعني لقاؤه الفاتر، وتحيته السريعة، وشرود ذهنه، ثم تعجُّله الانصراف … إن الحوادث التالية كشفت عما تطور إليه حال عبد الجواد، فبعد عام واحد كتب إليَّ سعيد:

لقد صفى عبد الجواد أعماله في طنطا لكي يفتتح مكتبًا فخمًا في القاهرة، وأنا لا أرى في ذلك خطأً فعبد الجواد محامٍ ناجح، وميدان القاهرة أوسع، ومنه ينتقل لميادين كثيرة من النشاط … ربما كان النشاط السياسي أحدها … وهذا الميدان يوصل كما تعرف إلى الوزارة أحيانًا، ولعلك تذكر أن عبد الجواد كان يتمنى دائمًا أن يصبح وزيرًا للعدل؛ لأن قوانين كثيرةً في حاجة إلى الإصلاح والتعديل، وسوف يكون هو الوزير الذي يجرؤ على إجراء هذا التعديل.

هذا ما قاله سعيد في رسالته، أما ما رأيته أنا فقد كان عبد الجواد نفسه … بعد هذه الرسالة بأيام، رأيته يجلس على مقهى في شارع عماد الدين، لقد هب للقائي، وبعكس لقائه الأول أحسست أنه يريد أن يثرثر معي فجلست، وأخذ يحدثني عن مشروعاته … إنه سيفتتح مكتبًا كبيرًا في القاهرة في أفخم حي من أحيائها، وسيشتغل إلى جانب ذلك بالتجارة، ويحشر نفسه في الأوساط الاقتصادية، لقد كان نجاحه في طنطا سهلًا، وسوف يكون نجاحه في القاهرة أسهل، وتركت عبد الجواد تلك الليلة، وأنا مغتبط حقًّا بقوته واحتماله وروحه المتجددة، وتمنيت له التوفيق في حياته الجديدة … وقابلت عبد الجواد بعد ذلك ثلاث مرات في المقهى نفسه، وكان كما قال لي يُعِدُّ العُدَّة لإنشاء مكتبه الجديد، وأخذ يذكر لي الأماكن التي رآها، والأحياء التي سيختار في أحدها مكتبه … وكان يحمل في جيبه رسومًا لتصميم حجرة المكتب، وغرف الموظفين، وصالون فاخر لاستقبال زوار المكتب.

ومر عام، ورأيت عبد الجواد في المقهى نفسه، كان يجلس إلى ثلاثة من أصدقائه قدمني إليهم، وأعترف أن اسمًا منهم لم يسترعِ انتباهي، وإنما استرعى انتباهي هيئة هؤلاء الأصدقاء … ملابسهم الرثة، وطريقة حديثهم، ليس فيهم محامٍ واحد من زملائه … كلهم أساتذة، ولكنني لم أعرف في أي شيء … إن طريقة حديث عبد الجواد نفسها لم تعجبني، ثم كئوس الخمر الفارغة على المائدة، وأطباق المزة، إن الجو كان جو سهرة لا جو حديث عن العمل.

ومال عليَّ عبد الجواد هامسًا: الأستاذ الانصاري ده تاجر مهول، وحايشترك معايا …

وكنت على وشك أن أسأله، عما تم بمكتب المحاماة، لولا أن استطرد هو: وعلى فكرة أنا قررت أن أترك المحاماة.

ونهضت بعد مدة وجيزة، وقد تملكني الأسى، إلى أين يسير عبد الجواد؟ ترى هل هو يحطم حياته الآن؟ أو هو يبني حياةً جديدةً حقًّا؟

إنه كان يحطم حياته إذ ذاك، كان يُقَوِّضُ البناء الضخم الذي شاده منذ ولج باب المدرسة طفلًا … إلى يوم أصبح محاميًا ممتازًا … كان يقوضه في نوبة يأس كما يُقَوِّض المثَّال التمثال الرائع حين يجحد الناس عمله.

أجل كان يهوي على ماضيه المجيد بالمِعْوَل … كان يهوي ببطء، ولكن في قسوة وعنف … لم يستأجر مكتبًا للمحاماة، وإنما ظل يقضي يومه على المقهي، وتدرج من الكأس إلى الكئوس، وتهاوى ما جمعه من مال، والتف به هؤلاء الأوغاد الذين أسماهم أساتذة فعجلوا بإفلاسه.

إن الثقافة والعلم والمدنية وكل صفات الفضيلة … بل كل ملكات العقل نفسه ليست سوى عادات تقتلها عادات مضادة، لنأخذ النظافة مثلًا … رباط الرقبة الأنيق … وإني لأذكر كيف كان عبد الجواد يعتني برباط رقبته، وأذكر كيف كان يعتني بوضع منديله الحريري في جيب الصدر، إن عبد الجواد هذا اختفى بعد عامين ليحل محله شخص مهمل الهندام قد تعقد رباط رقبته، وتدلي إلى صدره، وتكوم منديل الصدر، كأنه خرقةً تطل من الجيب، إن سحب الفاقة لم تجر ذيولها على ثيابه فحسب، وإنما مشت إلى عقله … عقله المرتب المنظم الذي يسكب أفكاره على لسانه في أناقة وتمهل قد استحال خلية نحل اختلطت بها معارفه.

لكأن عقله قد اهتز هزةً عنيفةً خلطت ما فيه خلطًا فظيعًا، وأسالته في عنف على لسانه … إنه يثرثر … عبد الجواد المنطقي المحاذر قد أضحى ثرثارًا مشوش الحديث … حتى لغته المهذبة قد حلت محلها لغةً سوقيةً لا يتكلم بها المتعلمون.

كذبت نفسي حين لقيته بعد ذلك عدة مرات في أن الذي أراه وأحدثه هو عبد الجواد، وفي كل مرة كنت أراه أحس أن شيئًا قد اختفى من معالم الصديق القديم، حتى استحالت عليَّ معرفته ذات يوم، وحتى اضطر أن يناديني مرةً، وهو يعبر الطريق قائلًا: أنت نسيتني؟

وقلت في حرج: أنا أبدًا … إنني لم أرَك.

وكاد لساني يقول: لم أعرفك، وكرر وهو يرتعش: لا أبدًا، أنت نسيتني … نسيت عبد الجواد.

وكدت أقول له إنه هو الذي نسي، بل نسي عمره، أو أُنْسِيَ هذا العمر، فأخذ جسده يرتعش كأنه شيخ محطم بالٍ …

– أنت معاك فكة؟

وترنحت لحظةً … هذه اللهجة أعرفها … أعرفها من طبقة معينة من الأفاقين … طائفة تجلس أحيانًا إلى جانبك في المقهى، أو تلقاك في الطريق … أو تزورك في مكتبك، طائفة تعرف واحدًا منها بلا شك إذا كنت من رواد المقاهي أو الملاهي … بعضهم أنيق وجيه، وبعضهم مهلهل الثياب، لكنهم جميعًا يتساوون في الاستجداء بنفس التعبير الأنيق الوجيه.

– معاك فكة؟

لكن عبد الجواد ليس أفاقًا … ومددت يدي فأخرجت حافظة نقودي، وفتحتها لعبد الجواد … وقال عبد الجواد، وهو يمد يده: لا … أنا عايز خمسين قرش بس … متشكر.

ولوى وجهه وسار، واستطعت أن ألمح قطرات الدم الأحمر الباقية في عروقه، وهي تصعد إلى وجنتيه ضعيفةً باهتةً … إنها قطرات خجل، على أي حال … ما زال هناك … وراءها … أثر من عبد الجواد الصديق.

لكن هذا الأثر اختفى على مر الأيام … وأصبح عبد الجواد أقل حياءً وخجلًا … وأعترف أنني بدأت أضيق بسطواته … وأنني قصرت محفظتي، وبدأت أحدد بنفسي ما أعطيه له … ثلاثين قرشًا … عشرين قرشًا … عشرةً … خمسةً.

ثم … ثم وجدته يترنح من السكر ذات مرة، وأشفقت على أمعائه من السم الزعاف الذي تستطيع أن تقدمه له القروش الخمسة، فقلت: ليس معي فكة يا عبد الجواد.

ولم يكن في العروق قطرات باقية من الدم الأحمر، ولم يلْوِ وجهه، وإنما قال: ولا قرشين صاغ؟

ودفعت له بضعة قروش، وسرت في طريقي.

بدت لي الحياة إذ ذاك شائهةً دميمةً … دمامة حاضر عبد الجواد المعتم القذر … الحمد لله … هكذا يدفعنا حب الذات أحيانًا كلما قارنا بين أنفسنا وبين غيرنا من المنكودين لأن نقول: الحمد لله! إن الله يعلم أن في هذه الحمد أحيانًا من الملق أكثر مما فيه من الإيمان، إني أجمع الآن حزمة الرسائل من جديد، رسائل الأصدقاء، وأضعها في الصندوق، وكأني أضع الماضي خلف ظهري … وأحاول أن أنسي قصة عبد الجواد بعد أن انتهت … بعد أن جست خلالها، ما أعتم حجراتها الأخيرة، وما أفسد هواءها، إني لأحس حاجةً لكي أخرج إلى الحياة … إلى الهواء والنور بعد هذا الظلام …

وربما ظن من يقرأ هذه السطور أني قصرت في سرد القصة، لقد ألف الناس أن يطووا أبطال القصص في الأكفان، أو يكسوهم ثياب الزفاف … أو يصعدوا بهم إلى أعلى درجات المجد، أو يهبطوا بهم إلى أسفل دركات الحضيض … ألف الناس دائمًا أن يعرفوا مصير أبطال القصص … إن مصير عبد الجواد هو هذا الحضيض حيث خلفته تلك الليلة يجر قدميه المرتعشتين ويتجه، وقد أمسك بالقروش في يده المتدلية نحو أقرب حانٍ، وحين خلفته بعد ذلك عشرات المرات يسير في الطريق نفسه، وقد ازداد انهيارًا … وإني لأذكر آخر ذكريات شبحه المتداعي، يوم مر عليَّ عبد الجواد ساعة الغروب، وأنا جالس أقطع الوقت في انتظار موعد … كان المقهى خاليًا فدعوته إلى الجلوس وطلبت له فنجانًا من القهوة، وأخذت أستمع إلى ثرثرته … ثم سألته وقد حان موعدي وتأهبت للخروج: ألا ترى منيرة أبدًا يا عبد الجواد؟

إنه لم يُجِبْ على سؤالي، وإنما ضحك … ثم مرت بجبينه سحابة كئيبة سرعان ما اختفت، وعاد إلى ضحكه … وما زلت أذكر نظرته التي صحبت هذه السحابة … لقد كانت نظرةً رأيت فيها عبد الجواد الذي أعرفه … نظرة فيها معنى هائل، نظرة تجعلني إلى الآن كلما ذكرت عبد الجواد أسأل نفسي هذا السؤال: تُرَى إلى أي مدًى أصاب سعيد حين صارح عبد الجواد بخيانة منيرة؟ إني لأشك أحيانًا أنه أصاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤