كعكة في يد اليتيم

… منتهى أمله … صنع كعكة لأطفاله … وثوب لزوجته … وفي سبيل هذا الأمل … بذل ما يملك من حياة …

***

figure

رشف سيد ما تبقى من كوب الشاي في جرعة كبيرة، ومال برأسه قليلًا إلى الوراء بضع دقائق … ثم عاد إلى العمل.

وكأنما كان كوب الشاي والدقائق القليلة التي أراح فيها رأسه يوم عطلة كاملًا … فقد أحس بنشاط وحيوية كأنه لم يأكل منذ دقائق طعام إفطاره الجاف، وكأنما كانت حبات الفول التي نخرها السوس قِطعًا من الشواء سهلة الهضم لذيذة المذاق.

وأهوى سيد بالمطرقة على قطعة الجلد فاستوت، ومد يده إلى كوز النشاء فالتقط بإصبعه قطعةً صغيرةً أخذ يدهن الجلد بها حتى غطاها كلها، ثم ألصق فوقها القماش الأبيض، ثم نحاها بعيدًا، وسحب قطعةً أخرى من الجلد … وأهوى بالمطرقة من جديد … وتكررت العملية … كل واحدة منها تستغرق الوقت نفسه … تهوي المطرقة، وتمضي فترة سكون يسمع فيها حفيف يده تسوي النشاء على سطح الجلد، ثم تهوي المطرقة من جديد.

ومضى نصف ساعة … وامتلأت المنضدة الطويلة أمامه بقطع الجلد المبطنة بالقماش، ودارت عين سيد فاحصةً ما سَوَّى من القطع، ثم نهض إلى عمل جديد … وكان العمل الجديد أكثر تشويقًا لمن يراه.

كان وضع هذه القطع المتناثرة على قوالب الخشب في شكل الأحذية، وكان أقل سأمًا وانتظامًا عن العمل الأول، وأكثر تعقيدًا.

وكان يبدو لكل من يرى كل قطعة قد استوت على قالبها أن حذاءً جديدًا قد أوشك أن يكون، وكان يبدو لسيد وحده في كل قطعة ينتهي من إلصاقها وتشكيلها على القالب شيئًا آخر غير حذاء جديد، كانت تبدو له بضعة قروش تخرج من جيب صاحب المصنع لتنصبَّ في جيبه هو … وكان خياله يرسم لهذه القروش مصيرها منذ الآن، وقبل أن ينتهي الحذاء.

وكان هذا المصير منتهى أمله منذ أيام … فيوم أن ينتهي من إعداد بضعة أحذية في ساعات الليل بعد الإفطار … يوم يستطيع أن يفعل ذلك فسوف يحقق آمالًا كبارًا.

ولو أننا اقتحمنا على سيد خلوته منذ بضع ليال، وقبل أن يبدأ عمله الإضافي في ساعات الليل في المصنع، خلوته إلى زوجته في الدار التي يسكنها، وبعض الدور حجرة واحدة، لوجدناه يحدث سنية، والعيال نيام قائلًا: وماذا قالت فاطمة؟

– قالت أبي تأخر، وقد غالبني النعاس … هل ذهب ليأتي بالكعك؟

– وماذا قلت لها أنت؟

– لم أقل شيئًا، وإنما قال لها أخوها، وهو يتثاءب إن الكعك يأتي في آخر رمضان … وكذلك الثياب الجديدة.

ويخلع سيد حذاءه، ثم يستلقي على الفراش ويمضي في صمت عميق تقطعه سنية قائلةً: إنهما ليسا بحاجة إلى ثياب، سأصنع لفاطمة ثوبًا من ثوبي القديم الأزرق، فما زال قماشه متينًا … أما حسن …

ويقاطعها في ضحكة حزينة: ستصنعين له بدلةً من أي ثوب من أثوابك؟

وتصمت سنية في هذه المرة، ويجيب سيد عنها قائلًا: حتى ولو لم يكن هناك عيد بعد عشرين يومًا يا سنية، فإن الولد والبنت في حاجة إلى ثياب جديدة، ولقد دبرت الأمر.

وتنظر سنية عن غير قصد إلى السوار الذهبي النحيل الباقي في يدها من عشرة أساور كانت لديها، ثم يتملكها الرعب، وتسترد أنفاسها على صوت سيد.

– لقد طلب صاحب المصنع أن نعمل بنصف أجر كل ليلة بعد الإفطار حتى السحور وبذلك …

وتعاود سنية النظر إلى السوار في اطمئنان … ويمضي هو في الحديث.

– وبذلك سيكون لدي — إذا واظبت على السهر — بضعة جنيهات تكفي لكسوتهما ولشراء الكعك، ها أنتِ ذي تريْنَ أن الله كريم يا سنية.

وينتهي بهما الحديث تلك الليلة من ليالي أول رمضان، ولو أننا عدنا إليهما بعد عدة ليالٍ بعد منتصف الليل لوجدنا سيد قد تمدد على الفراش دون أن يخلع حذاءه هذه المرة، لقد بلغ به التعب مداه، ولقد راع سنية ما يلقاه من ضنى، وما يكلف نفسه من جهد، فهي تقول له: وماذا تنفعنا أو تنفع العيال الثياب الجديدة؟ وبأي شهية سيأكلون الكعك إذا سقطت أنت مريضًا على العيد؟ هل هناك إنسان يحتمل العمل من مشرق الشمس حتى منتصف الليل مثلك؟

ويجيبها سيد، وهو يتكلف الرضاء: لا عليك، ولا على الأولاد … إن العمل لا يُمْرِض يا سنية، وإنما البطالة … لست وحدي الذي أعمل، إن هناك غيري عشرات، سوف ننسى هذا التعب حينما نقضم الكعك، ونرى فاطمة وحسن يزهوان بالثياب الجديدة …

ويصمت لحظةً ليعود: هل تحبين الكعك يا سنية؟ إني لا أذكر أنك طلبت مني الكعك مرةً واحدةً منذ تزوجنا، حتى قبل أن يأتي الأولاد، كنت أنا دئمًا الذي أذكر أن العيد قد قرب فأشتري لك الدقيق والسمن لتصنعيه.

وتطويهما الذكريات تلك الليلة … ثم يغالب النعاس سنية، وتنتاب سيد موجة من الأرق تحمل معها عشرات الذكريات.

ذكريات كلها تتصل بسنية، يذكر سيد أن سنية زُفَّت إليه منذ عشر سنوات … وذكر أنها ما طلبت منه خلال الأعوام العشرة شيئًا لنفسها في سنوات الحرب، السنوات الخضر، كان هو الذي يذكر دائمًا ما تحتاج إليه فيشتريه، كانت الدنيا إذ ذاك دنيا، كان يعمل بالجيش، وكان يعول أمه وأخته عدا سنية، ومع ذلك فقد كان لا يعاني ما يعانيه الآن.

ما تغيرت موارده، ولكن الدنيا هي التي تغيرت … إنه ليتحسر الآن على أيام الحرب … ثم يعود إلى سنية … لماذا لا تطلب شيئًا لنفسها أبدًا؟ أهي لا تحتاج حقًّا إلى ثياب؟ أم هي تشفق به؟ لو أنه طاوعها فصنعت من ثوبها الأزرق ثوبًا لفاطمة فبماذا تخرج إلى السوق، وتزور أهلها؟ هل عندها عدا هذا الثوب الأزرق غير ثوب واحد آخر؟

وتثور نفسه على نفسه، وتمضي موجة الإعجاب بسنية إلى منتهاها، فيهمُّ بخياله خاطر: «لا بد أن أشتري ثوبًا لسنية، إنها تستحق ثوبًا جديدًا» ويرتطم خاطره الجديد بحقيقة تهبط على خياله كما يهبط الطير الجارح … وتموت خواطره جميعًا، ويستسلم للنعاس … ما من شك أنه لن يستطيع أن يشتري ثوبًا لسنية.

إن قصارى ما يكسبه بعمله في الليل من نقود لا يكاد يكفي إلا ثياب طفليه، وبضع أقات من الكعك … ولن ترضى سنية ألا يكتسي العيال، أو يحرموا من الكعك لتخطر هي في ثوب جديد.

وها هو ذا سيد حيث تركناه أول القصة يترجم ما أنتجت يداه من أحذية جديدة إلى أمتار في ثياب العيال، وأقراص من الكعك.

ولقد انتصف الليل، ونهض سيد فجمع ما أنتجت يداه، ونحَّاه جانبًا، ورأى لأول مرة منذ بضع ساعات من حوله من زملاء … ودبت في الحجرة الحياة، وغادر سيد وزملاؤه المصنع، وطواه الظلام في طريقه إلى المنزل، ونام الليل نومًا هادئًا لم تزعجه الخواطر ولا الأحلام، وصحا في الصباح نشيطًا كأنه قضى ليلةً كاملةً في فراش وثير.

وكانت فاطمة ما زالت نائمة … وكان حسن يلهو بقصاصات من الورق عند باب الحجرة، فترك ما بيديه، وهُرِع إلى أبيه، وصحت فاطمة على صوت أبيها، وهو يصف لحسن ثوب العيد الذي سوف يشتريه له بعد ساعات، ويحدثه عن الكعك اللذيذ الذي سيفطرون به في صباح العيد.

وأعاد سيد الحديث نفسه لفاطمة … ثم حانت منه التفاتة إلى سنية فوجدها تنصت في غبطة وفرح … وكأنه سيشتري لها هي أيضًا ثوبًا، وغادر سيد داره غارقًا في دنيا الفرحة، وسار نحو المصنع، وسبقت خواطره الساعات الباقية، واستعرض في خياله يومه الحافل … سيمضي في عمله حتى الثانية عشرة والنصف، ثم ينهض مع زملائه فيجتازون الممر الضيق الموصل بين المصنع والمتجر فيقفون صفًّا أمام عبد السميع أفندي الكاتب الذي ينادي كلًّا منهم باسمه … إنه دائمًا الرابع، وسوف يتقدم فيقبض أجره كاملًا، ثم يقبض ثلاثة جنيهات أجره الإضافي، ثم يعود من الطريق نفسه حتى المصنع، وعند الباب سيجد هو وزملاؤه حنفي القهوجي واقفًا في الانتظار ليستقضيهم ثمن ما شربوه خلال الشهر من قهوة وشاي ونارجيلات، وسيتكرر ما يحدث كل شهر، سيطول النقاش بين حنفي وبين بعض زملاء سيد، إن الخلاف يكون دائمًا حول بضعة فناجين من القهوة أو أكواب من الشاي يضيفها حنفي زيادةً على حسابهم، أو ينكرون هم أنهم أخذوها، وإنه ليعلم أن حنفي يضيف أحيانًا من عنده، ولكنه يعلم أيضًا أن بعض زملائه يصر على أن ينكر بضعة فناجين أو أكواب، إن الخلاف ينتهي دائمًا بأن يتخلى حنفي عن نصف ما يضيف من مشروبات حتى ليبدو أن حنفي قد جرى على هذه السياسة وألِفَها الجميع … ولو أن حنفي طلب يومًا حسابه المضبوط لخسر بضعة قروش ثمن المشروبات التي سوف ينكرها عملاؤه.

إن سيد أسعد كثيرًا من زملائه … إنه لا يتعاطى غير كوب من الشاي عند انتصاف النهار … أما هذا الشهر فهو قد صام رمضان، ولن يدفع غير ثمن أكواب الشاي التي ارتشفها بعد الإفطار خلال أسابيع ثلاثة، إنه أسعد من كثير منهم أيضًا؛ لأن أحدًا غير حنفي لا ينتظره عند باب الخروج.

لن ينتظره صبي البقال الذي ينتظر زميله عبد العال … ولا المرابي الذي ينتظر مصطفى ليحصل منه على الفائدة الشهرية الفادحة لقرضه اليسير، ولن يجد امرأةً تنتظر نفقتها الشهرية، وعلى كتفها طفل رضيع، كما تنتظر مطلقة زميله رضوان خروج طليقها، وقد علا صياحها وشكواها، إنه سيخرج مرفوع الرأس إلى المتجر الصغير عند رأس الشارع فيشتري ثوبًا جميلًا لفاطمة — قماش ثوب تخيطه له سنية — ثم يمضي بعد ذلك إلى الحي القريب فيشتري حُلةً متواضعةً لحسن، ثم يذهب إلى بائع الكعك فيشتري أقتين من الكعك، لقد كانت سنية تصنع الكعك بيديها من قبل، أما الآن فإنها لن تستطيع … إن الحصول على دقيق صعب والحصول على بضعة أرطال من المسلى الصناعي أصعب من الحصول على الدقيق، وأصعب من الحصول على قدر من السكر … إن سيد يتحسر على أيام الحرب الآن، ويذكر كم كان بطرًا من الناس أن يصفوها بالغلاء والضيق.

ثم يمضي سيد إلى البيت فرحًا بحمله الغالي … إنه سيحمل آماله الكبار خلال ثلاثة أسابيع من الضنى والسهر … سيحمل البهجة إلى أعز قلوب لدى قلبه، وتقف خواطر سيد عند أسرته المرحة بما يحمل لها من هناء، ويقف عند مدخل الشارع حيث يقوم المصنع ليتأمل واجهات المتاجر، وقد فاضت بمعروضاتها الجميلة … لسوف يشتري ثوب فاطمة من بين هذه المعروضات … ثم يمضي ثانيًا في الطريق حتى يصل إلى متجر الأحذية فيتمهل قليلًا، وينظر إلى ما تزدان به واجهة المتجر من أحذية أنيقة لامعة، لقد أسهمت يداه في صنع كل زوج من هذه الأحذية، ولقد اختلط بكل زوج منها قطرات من عرقه وأنفاسه.

وتحين منه التفاتة فيرى الثمن المكتوب على صنف من هذه الأحذية، ويلحظ شيئًا لا يثير التفاته ولا يعنيه … لقد تغير الثمن المكتوب عما كان عليه بالأمس، كان ثمن الزوج بالأمس مائة وسبعين قرشًا فأصبح اليوم مائتين وخمسين.

ويحاول عقله الصغير أن يجد لذلك سببًا فلا يسعفه الإدراك، وإنما يسعفه خاطر عابر فيشكر الله؛ في قلبه لأن طفليه ليسا بحاجة إلى أحذية، وتخترق عيناه زجاج الواجهة في نظرة سريعة فيلمح عبد السميع أفندي منهمكًا في إعداد أوراقه، شأنه كل أول شهر فيتملكه الفرح، وينسى ارتفاع ثمن الأحذية.

وتمضي ساعات العمل، وينتصف النهار، وتدق الساعة دقتها مؤذنةً بالنصف بعد الثانية عشرة، وينهض سيد وينهض زملاؤه، ويسيرون في الممر الضيق نحو المتجر، ويقفون صفًّا أمام عبد السميع أفندي، ويأتي دور سيد فيقبض مرتبه في لهفة، ثم يقبض أجره الإضافي ليس ثلاثة جنيهات كما توقع، وإنما جنيهان وثمانون قرشًا، ويدرك سيد بعد حوار قصير مع عبد السميع أفندي أنه لم يخطئ الحساب، وإنما هي عشرون قرشًا، مجرد قروش قليلة خصمت في سبيل ما دفعه صاحب المصنع لجمعية من جمعيات البر …

ولم يكن عبد السميع أفندي كاذبًا، إنه يضع أمامه الصحيفة التي نشر فيها اسم صاحب المصنع، وتبرعه الكريم، وقد رأى سيد اسم صاحب المصنع بعينيه، وليس له أن يشك في دقة حساب عبد السميع أفندي بعد ذلك، إنه يحمل ثروته راضيًا، ويخرج من الممر الضيق ليتهيأ للخروج.

ويمضي ليحقق آماله للكبار … إن العشرين قرشًا ستؤثر قليلًا في ميزانيته لكنها لن تعصف بشيء مما انتواه.

ويقف سيد يقلب القماش الجميل في متجر الأقمشة، ويروقه أحد أثواب القماش فيدقق فيه النظر، وتمر بخياله صورة فاطمة، وقد ارتدت ثوبًا من هذا القماش، ويسأل البائع عن الثمن …

ويذكر البائع ثمنًا يتخاذل أمامه سيد، وتمتد يده بحثًا عن قماش أرخص، ويقول البائع، وهو يقص الثوب أرخص قماش استطاعت نقود سيد أن تحتمله: كل شيء قد ارتفع … العيد قد قرب، وشدت الأسعار.

وتمر بخيال سيد صورة لم يُعِرْها التفاتًا في الصباح، لقد ارتفع ثمن الحذاء أيضًا اليوم، الحذاء الذي يصنعه هو وزملاؤه زاد ثمنه ثمانين قرشًا.

وينقد البائع الثمن، وينصرف ليشتري حلةً لحسن، وتطرق سمعه مرةً أخرى — وهو ينقد البائع ثمن الحلة الصغيرة المتواضعة — أحاديث السعر الذي ارتفع، يقول له البائع: الدنيا عيد، وكل شيء قد غلا ثمنه … كانت هذه الحلة أقل ثمنًا منذ شهر واحد، بل منذ أسبوع واحد، ثم ارتفع ثمن كل شيء.

وتبدو صورة واجهة المتجر — متجر الأحذية — واضحةً لعيني سيد، حيث ارتفع ثمن الحذاء بالأمس فقط … ويحاول سيد أن يربط بين سعر الحذاء وسعر الثوب … وسعر الحُلة الصغيرة المتواضعة، ولكن عقله الصغير لا يمضي بعيدًا، إنه يقف عند كلمة عيد، العيد هو الذي رفع الأسعار فطارت قروشه التي أجهد نفسه طوال ليالي رمضان من أجلها، ومع ذلك فقد نفدت هذه القروش … ولم يشترِ الكعك بعد … الكعك الذي سألت عنه فاطمة، ومنَّاها به سيد ذات ليلة …

لو لم ترتفع الأسعار لما أعجزه أن يشتري الكعك … كانت ستبقى معه القروش الثمانون ليشتري أقتين ونصفًا من الكعك، ثمانون قرشًا هي كل ما يحتاج إليه … ويمضي عقله ثانيًا في خواطر سابحة، يمضي إلى بائع الحُلل الصغيرة … لقد أخذ منه هذا الرجل الثمانين قرشًا ثمن الكعك، أو هو بائع الثياب، الثياب الجميلة التي اشترى من أرخصها ثوبا لفاطمة هو الذي غصبه الثمانين قرشًا، أو …؟

تمر بعقله صورة المتجر … متجر الأحذية من جديد … الأحذية التي صنعها بيديه هو وزملاؤه.

الأحذية التي ارتفع سعر كل منها ثمانين قرشًا … الثمانون قرشًا ثمن الكعك، زوج واحد من الأحذية التي يصنعها … وأقتان ونصف من الكعك، وعبثًا حاول سيد أن يطرد الصورة، صورة زوج الأحذية، وأقات الكعك الضئيلة، عبثًا حاول أن ينسى الورقة الصغيرة المثبتة فوق الحذاء، الورقة التي رفعت ثمنه … ثمانين قرشًا … اختلطت في رأسه الصور، وكان قد وصل إلى بائع الكعك، فألقى نظرةً على الأقراص المتراصة في كوم ضخم، وحاول أن يقف، ولكن عقله رده في سرعة فابتعدت قدماه، وكأنما خشى أن تغلبه نزواته، وآب إلى المنزل بحمله الصغير … ثوب فاطمة وحُلة حسن، وتلقاه الصغيران في غبطة وفرح، ومرت لحظات سعيدة أفاق بعدها على صوت حسن: وأين الكعك يا أبي؟

والتقت عيناه بعيني سنية … وعلى غير قصد منها نظرت إلى سوارها النحيل في رعب، ولم تفُتْ سيد هذه المرة نظرتها، ومرت لحظة أجاب بعدها سيد: غدًا سآتيكم بالكعك …

وخرج سيد بعد لحظات ميممًا شطر المصنع، وجلس بين زملائه يعمل في صمت وكآبة، ومرت ساعات النهار حتى الإفطار بطيئةً مملةً، وأخذ العمال ينصرفون مهرولين، وظل سيد مكانه … وسأله واحد منهم: ألا تذهب لتفطر في بيتك يا سيد؟

وقال سيد: لدي ستة أزواج أعدها على القوالب، ولقد ضاعت مني ساعات الظهيرة، سأفطر هنا في المصنع.

وانكفأ سيد على العمل، وكأنه بقي فعلًا لكي يعمل … ومرت ساعات الليل الأولى، وانصرف مع زملائه عند منتصف الليل.

وقالت سنية، وهي تفتح له الباب: متى تنتهي من هذا السهر المضني، إننا لا نريد كعكًا.

وأجاب سيد، وفي صوته عزيمة رجل قادر: بل سآتيكم بالكعك غدًا صباحًا.

– ومن أين تأتي به، ولم يبقَ لديك غير مرتب الشهر، ألن ندفع إيجار المنزل يا سيد؟ أم نصوم شهرًا آخر من أجل الكعك؟

– لن نصوم يومًا، ولن تبيعي السوار يا سنية …

ولم تسأل سنية، وإنما أرسلت عيناها عشرات الأسئلة، ولم يُجِبْ سيد، وإنما أغمض عينيه كأنما استسلم للرقاد، وطال إغماضه، وطالت يقظته كأنه يرى بخياله شيئًا لا يريد أن يراه بعينيه، ومر الليل وجاء النهار، ووقف سيد، وقد انتصف النهار يتلقى عشرات الأسئلة: هل كسرت الصندوق الصغير يا سيد؟

– كم كان في الصندوق يا سيد؟

– كم أخذت من النقود؟

ويجيب سيد في اضطراب، وكأنه يكذب: كان الصندوق مغلقًا ففتحته.

– لست أعرف كم كان في الصندوق.

– أخذت ثمانين قرشًا.

ويصيح عبد السميع أفندي: نعم أخذ ثمانين قرشًا فقط … هذا حق.

ويتلقى سيد سؤالًا آخر: ولكن لماذا لم تأخذ غير ثمانين قرشًا؟

ويجيب سيد: كنت محتاجًا إليها …

– لماذا؟

ويسكت سيد … وتمر بخاطره صورة واجهة المتجر، وصورة أكوام الكعك، ويجيب سيد في إلحاح، وكأنه يكذب: كنت محتاجًا إليها … كنت محتاجًا إلى ثمانين قرشًا.

وتمضي فترة صمت يقطعها صوت المحقق: أتعرف أنك متهم بالسرقة يا سيد، أين خبأت الثمانين قرشًا؟

ويجيب سيد في حسرة: إنها هنا في جيبي.

ويمد يده فيخرج القروش الثمانين، ويقدمها في ذلة إلى المحقق قائلًا: كنت محتاجًا إليها، إنها ثمانون قرشًا فقط.

– أعرف ذلك يا سيد لكنا سنقبض عليك بتهمة السرقة مع ذلك، لقد سرقت هذه الثمانين قرشًا.

ويبكي سيد لأول مرة … ويصيح في حرارة وضراعة، وكأنه لا يكذب: لم أسرق شيئًا … هذه الثمانون قرشًا كنت محتاجًا إليها.

ويطرق المحقق، ثم يشيح برأسه كأنما لا يريد أن يرى وجه سيد، ويهب عبد الحميد واقفًا، ثم يمضي في الغرفة جيئًا وذهابًا، ثم يقف فجأةً، ويقول: وهل كنت أستطيع أن أرى وجه سيد، وقد ارتسمت عليه مظاهر يأس هائل قاتل؟ لقد أحسست بحقارتي، وأنا أصدر أمري بالقبض عليه …

ما من واحد من زملاء سيد إلا وأقر بأنه خير منهم جميعًا، وعبد السميع أفندي كاتب المحل يقسم لي أغلظ الأيمان أنه برغم اعتراف سيد لا يصدق أنه يسرق، ويصمت عبد الحميد مرةً أخرى، ثم يعود إلى حديثه في اضطراب: ومع ذلك فبين يدي قانون … قانون يلقي بسيد إلى السجن، ولا يستطيع أن يفعل شيئًا لصاحب المصنع، وتاجر الثياب، وتاجر حلل الأطفال الصغار، قانون لا يستطيع أن يجفف قطرةً من دموع سنية، وهي تروي لي كيف قضى سيد ثلاثة أسابيع يعمل ساعات الليل ليشتري ثياب العيال، وأقراص الكعك، قانون يأبى أن يضع مع سيد في قفص الاتهام إنسانًا آخر …

ويعود عبد الحميد إلى كرسيه، وقد هدأت ثورته يستطرد في الحديث: لقد أفرج عن سيد بضمان … وخرج ليقضي العيد مع سنية وطفليه، إنهم لن يذوقوا الكعك في العيد … لقد رُدَّت الثمانون قرشًا لصاحب المصنع … وبعد العيد.

ويعود عبد الحميد إلى قلقه من جديد.

– بعد العيد … سأقف يومًا لأتهم سيد بخيانة سيده … وسرقة مصنعه … وكسر صندوق صغير فيه نقود … وسأطلب الحكم عليه بالسجن … سوف أتكلم طويلًا عن الشرف والأمانة، وأكيل اللعنات على اللصوص والمعتدين … ولكني …

ويعلو صوت عبد الحميد: ولكني أقسم لكم … لن يكون سيد هو الذي أقصده … إن سيد قد يسجن، وقد يحكم عليه مع وقف التنفيذ لكنه لن ينال شيئًا من لعناتي.

وينظر عبد الحميد إلى الفضاء، ويخفت صوته، وكأنه يهمس في حلم: كم كان حكيمًا ذلك الذي صور العدالة في صورة امرأة عمياء تحمل ميزانها … إنها لا تدري أحيانًا أي معدن نفيس تشيل به إحدى كفتيها، وقد أثقلت الأخرى بالأوزار …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤