الفصل الأول

مقالات المؤلفين الغربيين

لا بد للباحث في الفلسفة الإسلامية وتاريخها من الإلمام بمقالات مَن سبقوه في هذا الشأن، ليكونَ على بصيرة فيما يتخيَّره من وجهة النظر، وفيما يتحرَّى اجتنابه من أسباب الزَّلَل.

والسابقون إلى النَّظر في الفلسفة الإسلامية فريقان:
  • (أ)

    فريق الغربيين من مستشرقين ومشتغِلين بتاريخ الفلسفة.

  • (ب)

    فريق المؤلفين الإسلاميين.

وسنتناولهما على هذا الترتيب.

ليس من هَمِّنا أن نتقصَّى ما قاله علماء الغرب في الفلسفة الإسلامية منذ العصور البعيدة، فإنَّ ذلك على ما فيه من عسر قليل الغناء.

لكنا نريد أن نتتبع جملة نظر الغربيين إلى الفلسفة الإسلامية وحكمهم عليها منذ استقرت معالم النهضة الحديثة لتاريخ الفلسفة إلى أيامنا هذه؛ أي منذ صدر القرن التاسع عشر، كما يؤيد ذلك قول الأستاذ برِهْيِه:١
«ولئن كان مفكرو القرن الثامن عشر قد حاولوا أن يدخلوا في تاريخ الفلسفة وحدة واطرادًا، فإنَّ كل الشطر الأول من القرن التاسع عشر قد شهد مجهودًا في تشييد هذا الذي لم يكن إلا تخطيطًا.»٢
ولنا أن نعتبر ما يقوله «تِنِّمان».٣ في كتابه «المختصر في تاريخ الفلسفة»،٤ مُعبِّرًا عن رأي مؤرخي الفلسفة في الفلسفة الإسلامية في بداية القرن التاسع عشر، ذلك بأن «بروكر».٥ الألماني المتوفَّى سنة ١٧٧٠م هو أبو تاريخ الفلسفة، وتِنِّمان هو الخليفة الحق لبروكر كما يقول كوزان.٦

ثم نتتبَّع بعد ذلك نماذج من تطوُّر هذا الرأي حتى نصل إلى عهدنا الحاضر.

(١) قول تنمان

يقول تنمان بعنوان «عرب»:

«العرب شعب مجبولٌ على استعدادات قوية وثَّابة، ولقد كان أولًا صابئيًّا، ثم استمدَّ حماسة دينية وحربية من دين محمد المُتوفَّى سنة ٦٣٢م، وهو دين شهواني وعقلي معًا، ومن آثار خلفائه وتفاسيرهم لما يزعمونه وحيًا أوحاه الله إلى هذا النبي. وفي قليل من الزَّمن تغلب العرب على قسم عظيم من آسيا وأفريقيا وأوروبا، وأخضعوه للإسلام، وكان اختلاطهم بالأمم المغلوبة، خصوصًا السوريين واليهود واليونان، وتقدمهم في ألوان الترف وكل ما يستتبعه الترف، وحاجتهم إلى الاستعانة بصناعة الأجانب من الأطباء ومن المنجمين، وتأثير هؤلاء فيهم، كل أولئك ولَّد فيهم شهوة مُتأجِّجة إلى تحصيل المعارف، وقد عاون هذه النَّزعات خُلفاء العباسيين؛ المنصور الذي ولي الخلافة من سنة ٧٥٣م إلى سنة ٧٧٥م، والمهدي الذي توفِّي سنة ٧٨٤م، وهارون الرشيد المعاصر لشرلمان، وكان خليفة ما بين سنتي ٧٨٦، ٨٠٨م، والمأمون الخليفة من سنة ٨١٣ إلى سنة ٨٣٣م، والمُعتصم المتوفَّى سنة ٨٤١م. هؤلاء الخلفاء أَمَروا بنقل كتب اليونانيين إلى العربية وأنشئوا المدارس ودور الكتب الحافلة.»٧

ثم يقول في الفصل نفسه:

«يكاد يكون أرسطو مع شراحه إلى فيلوبنوس،٨ من بين سائر الفَلاسفة، هو الذي استرعى أنظار العرب، وقد تلقَّوْا جملة ما ألَّفه أرسطو، ولكنهم تلقَّوْها على الحقيقة عن تراجم ناقصة جدًّا بوساطة خادعة هي وساطة المذهب الأفلاطوني الجديد، وأضافوا إلى هذا دراسة العلوم الرياضية والتاريخ الطبيعي والطب، لكن عدة عقبات ثبَّطت تقدُّمهم في الفلسفة، وهذه العقبات هي:
  • (١)

    كتابهم المقدَّس الذي يعوق النظر العقلي الحر.

  • (٢)

    حزب أهل السنَّة، وهو حزب مستمسك بالنصوص.

  • (٣)

    أنهم لم يلبثوا أن جعلوا لأرسطو سُلطانًا مستبدًّا على عقولهم، ذلك إلى ما يقوم دون حُسن تفهمهم لمذهبه من الصعوبات.

  • (٤)

    ما في طبيعتهم القومية من مَيْل إلى التأثر بالأوهام.

من أجل ذلك لم يستطيعوا أن يصنعوا أكثر من شرحهم لمذهب أرسطو، وتطبيقه على قواعد دينهم الذي يتطلب إيمانًا أعمى، وكثيرًا ما أضعفوا مذهب أرسطو وشوَّهوه؛ وبذلك نشأت بينهم فلسفة تُشبه فلسفة الأُمم المسيحية في القرون الوسطى، تُعنَى بالبراهين الجدلية المُتعسِّفة وتقوم على أساس من النصوص الدينية.

ثم جاء التصوُّف٩ فعرض لهذا العلم المؤلَّف من اصطلاحات خاوية، وانضمَّ إليه، خصوصًا عند فرقة القائلين بوحدة الوجود من أهل التصوُّف الذي وضعه قبل القرن الثاني أو في ثناياه أبو سعيد أبو الخير١٠ ولا تزال الفرقة منتشرة في فارس والهند.
على أن الآثار الفلسفية العربية لمَّا تدرس إلا دراسة ضئيلة جدًّا لا تجعل علمنا بها مستكملًا.»١١

ثم قال المؤلف نفسه في فصلٍ عنوانه: «فرق الفلاسفة عند العرب»:

«كان يوجد غالبًا عند العرب طائفتان من الفلاسفة عظيمتان:
  • إحداهما: طائفة الفلاسفة على الحقيقة، وهم من القائلين بالوجود المثالي،١٢ يعتقدون تبعًا للمذهب الأفلاطوني الإسكندري أنَّ العالَمَ قديم، ويبحثون عن سبيل لوضع هذه الفكرة بالدين المنصوص، ويدخل في هذا القسم الزُّهَّاد الذين هم الصوفية.
  • والثانية: طائفة فلاسفة جدليين أهل نظر عقلي، هم المتكلمون أو المشَّاءون الذين تقوم عقائدهم على الأصول الدينية الواردة في القرآن، ثم يُحاولون أن يُبيِّنوا مبدأ العالم على وجه فلسفي، وهم يُقاومون الأوَّلين، وعِلْمنا بأمر الفريقين لا يزال علمًا ناقصًا.
    ثم يعدون طائفة ثالثة: هي طائفة الأشعرية المؤلَّفة من جبريين لا يَرَوْن للأشياء عِلَلًا إلا إرادة الله.»١٣
والذي يعنينا أن نلاحظه هو:
  • (أ)

    أن تنمان ينسب الفلسفة التي نحن بصددها إلى الشعب العربي.

  • (ب)
    ويعتبر هذه الفلسفة شاملة لما يُسَمَّى فلسفة على الحقيقة مع ما اتصل به عرضًا في بعض الأطوار من منازع الإشراقيين١٤ وشاملة لمذاهب المتكلمين.
  • (جـ)

    ثم هو يجعلُ هذه الفلسفة ليست في الغالب إلا شرحًا مُضعِفًا لمذهب أرسطو ومُفَسِّريه، وإلا تطبيقًا لهذا المذهب على قواعد الدين العربي.

  • (د)

    ويُعدِّد العقبات التي عاقتْ سَيْر الفلسفة عند العرب فيردُّها إلى دينية: وهي القرآن، وحزب أهل السنة؛ وقومية: وهي استعداد العرب للتأثر بالأوهام، وخضوع عقولهم لسلطان أرسطو.

  • (هـ)

    ثم ينتهي إلى الاعتراف المكرَّر بأنَّ مصنفات الفلاسفة من العرب لم تُدرَس حق دراستها.

(٢) روح العصر الدينية عند مؤلِّفي القرن التاسع عشر

وقد لا يخلو حديث تنمان عن العوامل المثبِّطة لرقي الفلسفة عند العرب من نفحة العاطفة الدينية، وتلك كانتْ يومئذٍ روح العصر، حتى عند الفلاسفة المشتغلين بتاريخ الفلسفة من أمثال «فكتور كوزان» الفيلسوف الفرنسي المُتوفَّى سنة ١٨٤٧م، الذي يقول في مُحَاضراته في تاريخ الفلسفة بجامعة باريس:١٥

قول كوزان

أيها السادة:

«المسيحية التي هي آخِر ما ظَهَر على الأرض من الأديان، هي أيضًا أكملها، والمسيحية تمام كل دين سابق، وغاية الثمرات التي تمخَّضت عنها الحركات الدينية في العالم، وبها خُتم الدين المسيحي ناسخٌ لجميع الأديان … كذلك كان الدين المسيحي إنسانيًّا واجتماعيًّا إلى أقصى الغايات، ومَن أراد دليلًا فلينظر ماذا أخرجتِ المسيحية وجماعة المسيحيين للناس؛ أخرجتِ الحرية الحديثة والحكومات النِّيابية، ثم لينظر من دون المسيحية ماذا أخرجتْ منذ عشرين قرنًا سائر الأديان.

ماذا أنتج الدِّين البرهمي والدين الإسلامي، وسائر الأديان التي لا تزال قائمة فوق ظهر الأرض؟

أنتج بعضها انحلالًا موغلًا، وبعضها أثمر استبدادًا ليس له مدًى.

أمَّا أوروبا المسيحية فهي لا سواها مهْد الحرية، ولو أنَّ المقام والوقت يُسعِدان، لأثبتُّ لكم أنَّ المسيحية التي كانت الحكومات النيابية ثمرة لها هي التي تستطيع وحدها أن تقوِّم هذه الصورة العجيبة من صور الحكم التي تؤلف بين النظام والحرية، والمسيحية أيضًا هي التي بعد أن صانت ذخائر الفنون والآداب والعلوم بعثتْها بعثًا قويًّا، المسيحية هي أصل الفلسفة الحديثة.»

(٣) روح العصر من ناحية التعصُّب للجنس

أما التعصُّب الجنسي على العرب الذي تبدو له بوادر في كلام تنمان فقد كان أيضًا في روح العصر، ولم يلبث «إرنست رنان».١٦ الفيلسوف الفرنسي المتوفَّى سنة ١٨٩٢م أنَّ زخرف له لباسًا علميًّا من أبحاثه في تاريخ اللغات السامية، ثم جعله حملة شعواء تصوِّب كتبه سهامها إلى الجنس السامي كله، وشاركه في حملته المستشرق الألماني «كرستيان لاسن».١٧ المتوفى سنة ١٨٧٦م.

(٣-١) ساميُّون وآريُّون

وتقسيم الناس إلى ساميين وآرييين هو من صُنْع علماء تاريخ اللغات في القرن التاسع عشر.

والسامي نسبة إلى سامٍ، على ما جاء في التوراة من أنه كان لنوح أبناء ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو الإسرائيليين وإخوانهم، وحام أبو الزنوج، ويافث أبو بقية البشر.

أما الآري فمنسوب إلى آريا، وآريا اسم شعب كان مهده النجد الفارسي من بلاد الأفغان وما إليها، ثم انحدر فيما حوالي ٢٠٠٠ عام قبل المسيح إلى الشمال الغربي من الهند، ومعه دين جديد من أديان الشرك هو دين الفيديين، له كتاب مقدَّس هو مجموع مزامير موجهة إلى الآلهة تُسمى: فيدا، وهو اليوم دين البراهمة ودين الهندوسيين لم يدخله إلا تغير يسير.

وقد كان لمزامير هذا الدين المُقَدَّسة وما ألهمتْه من فلسفة أثر كبير في حياة آسيا العقلية، ووصل صدى ذلك إلى أوروبا منذ القدم.

لذلك لم يَكَد يستقر الاستعمار الأوروبي في بعض أنحاء الهند حتى أقبل علماء أوروبا على دراسة الفيدا، وقد راعهم ما لاحظوا من التَّشابه بين اللغة السنسكريتية التي هي لغة الفيدا وبين اللغات الأوروبية.

وهكذا نشأ علم مُقارنة اللغات،١٨ فصُنِّفتِ اللغات أصنافًا، ورُدَّت كل مجموعة منها إلى أصل واحد، ثم جعل العلماء هذه الأنساب اللغوية أنسابًا للأمم التي تتكلم بها.

ونبتت في القرن التاسع عشر نظرية شعب آرى هو أصل للأمم الأوروبية ولبعض الأمم الآسيوية، ممَّن ترجع لغاتهم إلى أصل واحد هو اللغة السنسكريتية أو غيرها.

(٣-٢) رأي رنان في الساميين والآريين من الناحية الفلسفية

ويصرح رنان في كتاب «تاريخ اللغات السامية»١٩ بأنَّه أوَّل مَن قرَّر أنَّ الجنس السامي دون الجنس الآري، وتأثَّر برنان بعض معاصريه، ومَن جاء بعده؛ لوثوقهم بمعرفته في هذا الشأن؛ إذ هو قد عرف لغات سامية، وزار الساميين في بلادهم.

ومما ورد في كتاب رنان: «ابن رشد ومذهبه»:

«ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروسًا فلسفية، ومن عجائب القدر أنَّ هذا الجنس الذي استطاع أن يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتهم لم يُثمر أدنى بحث فلسفي خاص، وما كانت الفلسفة قط عند الساميين إلا اقتباسًا صرفًا جديبًا وتقليدًا للفلسفة اليونانية.»٢٠

وبذلك أدخل رنان في المباحث المتعلقة بتاريخ الفلسفة عند العرب دعوى الطبيعة السامية وجعلها أساسًا للحكم على تلك الفلسفة.

وعنده كما ورد مُفصَّلًا في كتاب «تاريخ اللغات السامية» أنَّ خواص النفس السامية تتجلَّى في انسياق فطرتها إلى التوحيد من جهة الدين، وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدنية.

أما النفس الآرية فيُميزها ميل فطري إلى التعدُّد وانسجام التأليف (ص١٦٥).

(٣-٣) نقد رأى رنان

ورأي رنان في الفلسفة عند العرب لا يخلو من اضطراب؛ فهو يقول في مؤلَّفه «تاريخ اللغات السامية»:٢١

«ومن الخطأ وسوء الدلالة بالألفاظ على المعاني أن نُطْلِقَ على فلسفة اليونان المنقولة إلى العربية لفظ «فلسفة عربية»، مع أنَّه لم يَظهَر لهذه الفلسفة في شبه جزيرة العرب مبادئ ولا مُقَدِّمات، فكل ما في الأمر أنَّها مكتوبة بلغة عربية، ثم هي لم تزدهر إلا في النواحي النائية عن بلاد العرب مثل إسبانيا ومراكش وسمرقند، وكان معظم أهلها من غير الساميين.»

وهو يقول في كتابه «ابن رشد ومذهبه» مرة، هذا القول:

«لا يزال حكمي بأن مباحث العقائد الدينية لم يكن لها كبير شأن في نشأة هذه الفلسفة العربية حكمًا جازمًا، وما صنع العرب شيئًا إلا أنهم تلقَّوْا جملة المعارف اليونانية في صورتها التي كان العالَم كله مسلِّمًا بها في القرنين السابع والثامن.»٢٢

ثم نجده يقول مرة أخرى:

«اتخذ العربُ من تفسير آراء أرسطو وسيلةً لإنشاء فلسفة ملأى بالعناصر الخاصة، المُخالِفة جدَّ المخالفة لما كان يدرس عند اليونان، وكذلك فعل فلاسفة القرون الوسطى.»٢٣

ويقول غير ذلك:

«إنَّ الحركة الفلسفية الحقيقية في الإسلام ينبغي أن تُلتَمَس في مذاهب المتكلمين.»٢٤

ويُستخلَص من أقوال رنان المختلفة بعد تجريدها من زينة البلاغة، وخيال الشعر، وثبات الحماسة، والهوى، والتناقض أن هناك فلسفة عربية هي تعريب الفلسفة اليونانية، وهناك فلسفة إسلامية هي علم الكلام. ويُصَرِّح رنان في كتبه بأنَّ في هذه الفلسفة الإسلامية موضعًا للطرافة.

ولعل رنان أوَّل مَن استعمل في الغرب كلمة «الفلسفة الإسلامية». ثم إنَّ رنان لا يرى رأي مَن سبقه في أنَّ العرب آثروا أرسطو على مَن عداه من فلاسفة اليونان وخصوه بالتقدير؛ فهو يذكر في كتاب «ابن رشد ومذهبه»:

«إن الأسباب التي يعلِّلون بها في العادة إيثار العرب لأرسطو هي أقرب إلى التمويه منها إلى الحق، فإنَّ العرب لم يؤثروا، إذا لم يكن ثمت اختيار عن روية، إنما تقبَّل العرب معارف يونان كما وصلتْ إليهم.»٢٥

وجملة القول: أنَّ رنان الذي هو خصيم الجنس السامي والدين الإسلامي جميعًا، كان فيما يتعلق بالفلسفة شديد الشكيمة على ما سَمَّاه «فلسفة عربية»، لكنه ألْيَن جانبًا لما دعاه «فلسفة إسلامية».

(٣-٤) نقد معاصري رنان لحكمه

على أنَّا نَجِدُ من مُعاصري رنان الفرنسيين مَن يرميه بالحَيْف في حكمه على الفلسفة عند العرب.

ففي كتاب دوجا٢٦ «تاريخ الفلاسفة المُتكلمين من المسلمين» المطبوع بباريس سنة ١٨٨٩م نجد رِواية ما يُورده شمويلدرز٢٧ الألماني في رِسالة له في المذاهب الفلسفية عند العرب نُشرت عام ١٨٤٢ من نحو قوله:
«لا نستطيع أن نَذْكُر قط فلسفة عربية على الوجه الدقيق لما يُفهَم من هذه العبارة كما نذكر فلسفة يونانية وفلسفة ألمانية … إلخ، ومهما ذكرنا هذه العبارة، فإنا لا نريد شيئًا غير الفلسفة اليونانية كما فهمها العرب.»٢٨
ثم نجد رواية ما قاله رنان في مثل هذا المعنى،٢٩ ثم يُعقِّب المؤلف على ذلك بقوله:

«فعند هذين العالِمين ليست الفلسفة العربية إلا تقليدًا للفلسفة اليونانية، ولم يكن لها أي نتاج خاص.

وهذه أحكام تذهب في البت إلى حدِّ الشطط، ومصدرها سوء التحديد للفلسفة وجهلنا بما للعرب من مصنفات غير شروحهم لمؤلفات أرسطو.

وما أسُوقُ إلا شاهدًا واحدًا:

فهل يظن ظان أن عقلًا كعقل ابن سينا لم يُنتِج في الفلسفة شيئًا طريفًا، وأنه لم يكن إلا مقلِّدًا لليونان؟

وهل مذاهب المعتزلة والأشعرية ليست ثمارًا بديعة أنتجها الجنس العربي؟

وعندي أنَّ طريقة العالِم «منك»٣٠ في التعريف بهذه الفلسفة أدنى إلى السداد.»٣١

وقول منك، على ما ذكره دوجا، هو:

«يمكننا أن نقول في الجملة إنَّ الفلسفة لدى العرب لم تتقيَّد بمذهب المشَّائين صرفًا، بل هي توشك أن تكون تقلَّبت في كل الأطوار التي مر بها العالَم المسيحي؛ ففيها مذهب أهل السنة الواقفين عند النصوص، ومذهب الشك، ومذهب التولد، بل فيها مذاهب شبيهة بمقال اسبينوزا٣٢ ومذهب وِحْدة الوجود الحديث.»٣٣

وبعدما بيَّن دوجا اختلاف الأقاويل في الفلسفة والغرض منها اختار أنَّ غرض الفلسفة هو تكوين عقائد جديدة، ثم قال: «مَن أراد أن يحكم في خصائص الفلسفة العربية حُكمًا سديدًا فعليه أن ينظر إليها من ناحية إصلاحها للعقائد، وتلك كما بيَّنَّا آنفًا حقيقة الغرض الذي ترمي إليه الفلسفة.

وعندي أنَّ النظر العقلي العربي كان على الحقيقة محاولة لإصلاح القرآن، وتكميل الإسلام؛ حاول ذلك المعتزلة قادة الحركة الفلسفية لدى المسلمين … وقد أنكروا عقيدة أنَّ القرآن غير مخلوق؛ لكي لا يمسوا وحدانية الله، وقرروا: عقيدة أنَّ القرآن مخلوق … وهم يقولون إنه كان من المستطاع أن يؤتى بخير٣٤ منه، وهذا التعرُّض لكتاب المسلمين المقدس بالبحث يكاد يكون من نوع ما فعل فلاسفة الأوروبيين في تمحيص التوراة والإنجيل كما تُمحَّص سائر الكتب.
وكذلك صنع داود اشتروس٣٥ ورنان في مؤلفاتهما.»٣٦

ومُنْك إذ يقول: «إن الفلسفة العربية تقلَّبت في جميع الأدوار التي مرت بها الفلسفة المسيحية» يُخالف قول تنمان: «إن كتاب الإسلام المقدس يعوق النظر العقلي الحر»، ويُثبِت أنَّ الإسلام ليس دون المسيحية اتساعًا لنمو الفلسفة وتطوُّرها، وهو أيضًا بقوله هذا لا يؤيد دعوى انحطاط الجنس السامي عن الجنس الآري فيما يتعلق بالبحث الفلسفي.

ولمُنْك رأيٌ مُخالِف لرأي رنان في اختيار المُسلمين لأرسطو يبيِّنه كما يلي:

«اختير أرسطو من بين الفلاسفة؛ لأنَّ منهجه التجريبي أدنى إلى موافقة ميل العرب العلمي الوضعي من منهج أفلاطون المثالي، ولأنَّ منطق أرسطو كان يعتبر سلاحًا مجديًا في المنازعات المُستمرة بين أهل المذاهب الكلامية.»٣٧

ومقال منك هذا يناقض رأي رنان في سبب إيثار العرب لأرسطو، ويناقضه أيضًا في دعوى الطبيعة السامية المجدبة في الفلسفة، فإنَّ الطبيعة العلمية الوضعية التي تلائم طبيعة أرسطو لا تكون جدبة من النَّاحية الفلسفية إلا إذا كانت طبيعية أرسطو المعلم الأوَّل جدبة من الناحية الفلسفية.

(٤) تلخيص اختلاف الرأي ما بين بداية القرن التاسع عشر ونهايته

كان الرأي العلمي عند الغربيين في الفلسفة العربية مُستهل القرن التاسع عشر مبنيًّا في جملته على القضايا الخمس التي استخلصناها من مقال تنمان، والتي كانت يومئذٍ تكاد تكون من المسلَّمات فيما يَظهَر. وفي أواخر ذلك القرن اختلف النظر في تلك الأحكام، ولم تَعُد مسلَّمة ما عدا قضية واحدة لعلها لا تزال إلى اليوم غير مكذَّبة: وهي أنَّ مُصنفات الفلاسفة الإسلاميين لمَّا تُدرَس حق دراستها؛ فلا اتفاق على التعبير بالفلسفة العربية نِسْبَة إلى الجنس العربي، ولا على بيان ما تَشْتَمل عليه هذه الفلسفة، ولا على أن الفلسفة العربية بأقسامها شرح مضعِف مشوِّه لمذهب أرسطو ومفسريه، وتطبيقٌ لهذا المذهب على نصوص الدين الإسلامي، ولا اتفاق على ما دَعَوْه عقبات ثبَّطت رقي الفلسفة الإسلامية.

دخلت كل هذه النَّظريات في دَوْر تمحيص علمي، وهدأتْ رويدًا سَورَة العصبية والهوى.

(٥) آراء الغربيين في الفلسفة الإسلامية في القرن الحاضر

وجاء القرن الحاضر، فماذا كان شأن الفلسفة الإسلامية عند الغربيين في القرن الحاضر؟

(٥-١) الخلاف في التسمية: إسلامية أو عربية؟

لا يزالون مختلفين في الوصف الذي يصفون به هذه الفلسفة؛ فمنهم مَن يقول: «فلسفة عربية»؛ لأنَّ رجالها كانوا يكتبون آثارهم بالعربية، كما فعل موريس دي ولف٣٨ الأستاذ بجامعة لوفان في كتابه «تاريخ فلسفة القرون الوسطى»٣٩ الذي نعتمد على طبعته الخامسة سنة ١٩٢٥، وكما فعل الأستاذ برهيه الأستاذ بالسربون في كتابه الكبير في «تاريخ الفلسفة» الذي ظهر أول أجزائه عام ١٩٢٦.

ويقتفي الأستاذ لطفي باشا السيد أثر هؤلاء في تصديره لتعريب كتاب أرسطو «الأخلاق إلى نيقوماخوس»؛ فهو يعبِّر بالفلسفة العربية.

ومنهم مَن يقول: «فلسفة إسلامية»، مثل هورتن٤٠ الألماني العالِم بالإسلاميات ومحرِّر الفصل الذي عنوانه «فلسفة» في دائرة المعارف الإسلامية، ومثل دي بور٤١ في كتابه في تاريخ الفلسفة الإسلامية، ومثل جوتييه،٤٢ والبارون كارا دي فو،٤٣ وغيرهم.

ويظهر أنَّ هؤلاء يَرَوْن أن هذه الفلسفة ليست عربية؛ لأنَّ جمهرة أهلها لم يكونوا من أصل ساميٍّ، ويرون أنها أحق أن تُضاف إلى الإسلام لأنَّ له فيها أثرًا ظاهرًا، ولأنها نشأت في بلاد إسلامية وعاشت تحت راية الإسلام.

وقد رأيت للدكتور جميل صليبا الدكتور في الفلسفة من جامعة باريس، كتابًا عنوانه: «بحث في الفلسفة الإلهية لابن سينا»،٤٤ طُبع بالفرنسية في باريس سنة ١٩٢٦، ناضل فيه نضالًا قويًّا عن الفلسفة العربية، وهذا الكتاب هو رسالته التي نال بها الدكتوراه من السربون.

ومن أمثلة نضاله فيما نحن بصدده قوله:

«إن الذين يجحدون وجود فلسفة عربية يثبتون وجود فلسفة إسلامية، بَيْدَ أن الإسلام، برغم كل ما نفذ إليه من العناصر الأجنبية، ظلَّ أثرًا من آثار العبقرية العربية.

أما أن أكثر الفلاسفة من أصل غير عربي؛ فلا نكران له، لكن الذي لا نجد له مستساغًا هو القول بأنَّ الفلسفة التي يُسميها العامة فلسفة إسلامية ليست تستند إلى الجنس العربي، نحن نتكلم عن فلسفة عربية كما نتكلم عن دين عربي.»٤٥

وقد يصدق هذا القول على رنان الذي جعل فلسفة عربية وفلسفة إسلامية.

أما أهل هذا العصر الذين يعبرون بالفلسفة العربية مرة وبالفلسفة الإسلامية أخرى لمعنًى واحد، فما أحسبهم يرمون بذلك إلى الغرض الذي يُنكِره المؤلف.

ومَثَلهم كمَثَل الجامعة المصرية نفسها، التي كانت إلى عهد قريب تستعمل في قوانينها ومناهجها ومكاتباتها العبارتين على أنهما مترادفتان.

وللأستاذ كارلو نلِّينو٤٦ رأيٌ يمس هذا الموضوع، بَسَطه في محاضراته في «علم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى» بما نصه:

«قد قلتُ في الدرس الماضي: إن محاضراتي ستدور على تاريخ علم الهيئة عند العرب في القرون الوسطى؛ أي لغاية سنة تسعمائة للهجرة النبوية تقريبًا، فينبغي الآن تعريف مَن يطلق عليه لفظ «العرب»، كلما يكون الكلام عن زمان الجاهلية أو أوائل الإسلام. لا شكَّ أن كلمة «العرب» مُستعملة بمعناها الحقيقي الطبيعي، المُشير إلى الأمة القاطنة في شبه الجزيرة المعروفة بجزيرة العرب، ولكن إذا كان الكلام عن العصور التالية للقرن الأول من الهجرة، اتخذنا ذلك اللفظ بمعنًى اصطلاحي وأطلقناه على جميع الأمم والشعوب الساكنين في الممالك الإسلامية، المستخدمين اللغة العربية في أكثر تآليفهم العلمية، فتدخل في تسمية (العرب) الفرس والهند والترك والسوريون والمصريون والبربر والأندلسيون وهلمَّ جرًّا، المتشاركون في لغة كتب العلم وفي كونهم تبعة الدول الإسلامية، ولو لم نُطلِق عليهم لفظ «العرب» كِدْنا ما نقدر نتحدث عن علم الهيئة عند «العرب» لقِلَّة البارعين فيه من أولاد قحطان وعدنان.»

قال ابن خلدون المتوفَّى سنة ٨٠٨ﻫ/١٤٠٦م في مقدمته:

«من الغريب الواقع أنَّ حمَلة العلم في المِلَّة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لُغته ومرباه ومشيخته، مع أنَّ الملة العربية وصاحب شريعتها عربي.»

فإن اعترض أحد على هذا الاصطلاح، وقال: إن استعمال لفظ «المسلمين» أصح وأصلح من استعمال لفظ «العرب»، قلتُ: إنَّ هذا أيضًا غير مصيب لسببين:
  • الأول: أن لفظ المسلمين يُخْرِج النصارى والإسرائيليين والصابئة وأصحاب ديانات أخرى، الذين لهم نصيب غير يسير في العلوم والتصانيف العربية، وخصوصًا فيما يتعلق بالرياضيات والهيئة والطب والفلسفة.
  • والثاني: أنَّ لفظ المسلمين يستلزم البحث أيضًا عمَّا صنَّفتْه أهل الإسلام بلغات غير العربية كالفارسية والتركية، وهذا خارج عن موضوعنا، فالأرجح أن نتفق فيما كثر استعماله عند الكَتَبة الحديثين ونتخذ لفظ «العرب» بالاصطلاح المذكور، أي نسبًا إلى لغة الكتب لا إلى الأمة (ج١، ص١٦–١٨).

(٥-٢) الرأي المختار في التسمية

وعندي أنَّ هذه الفلسفة قد وَضَع لها أهلها اسمًا اصطلحوا عليه؛ فلا يصح العدول عنه، ولا تجوز المشاحَّة فيه.

فإنا نجد مثلًا في كتابَيِ «الشفاء» و«النجاة» لابن سينا المتوفَّى سنة ٤٢٨ﻫ/١٠٣٧م التعبير بالمتفلسفة الإسلامية، ونجد في كتاب «المِلَل والنِّحَل» للشهرستاني استعمال كلمة «فلاسفة الإسلام» في مواضع متعددة، منها:

المتأخرون من فلاسفة الإسلام مثل يعقوب بن إسحاق الكندي، وحنين بن إسحاق … إلخ.٤٧ فهؤلاء المشتغلون بالفلسفة في ظل الإسلام من مسلمين وغير مسلمين يُسَمَّونَ فلاسفة الإسلام، وتُسَمَّى فلسفتهم «فلسفة إسلامية» بالمعنى الاصطلاحي، وهذا يرفع اعتراض الأستاذ نلينو على التعبير «بالمسلمين» بدل «العرب»، ويدخل في هذه التسمية ما كتبه الإسلاميون من الفلاسفة بلغات غير العربية كالفارسية والهندية والتركية، وإن أصبح درس هذه الآثار عسيرًا على غير أهل تلك اللغات أنفسهم أو مَن أحاط بلغاتهم وهم قليل.

ووردت عبارة «فلاسفة الإسلام» و«حكماء الإسلام» في كتاب «أخبار الحكماء» و«مقدمة ابن خلدون».

ولظهير الدين أبي الحسن البيهقي كتاب يُسمى «تاريخ حكماء الإسلام»، توجد منه نسخة فوتوغرافية بدار الكتب المصرية.٤٨

وجاء في كتاب «نزهة الأرواح وروضة الأفراح» في تواريخ حكماء المتقدمين والمتأخرين، لشمس الحق والدين الشهرزوري (نسخة فوتوغرافية بمكتبة الجامعة):

«نريد أن نضم إلى تواريخ القدماء تواريخ الحكماء المتأخرين من الإسلاميين.»

من أجل ذلك كله نرى أن نُسمي الفلسفة التي نحن بصددها كما سمَّاها أهلها «فلسفة إسلامية»، بمعنى أنها نشأت في بلاد الإسلام وفي ظل دولته، من غير نظر لدين أصحابها ولا لغتهم، ولا نرى في هذه التسمية موضع نقد يدعو للتفكير في تبديلها.

(٦) الخلاف في الحكم على الفلسفة الإسلامية في القرن الحاضر

وإذا كان بين المعاصرين من الغربيين خلاف في التعبير عن هذه الفلسفة يقسمهم قسمين؛ فإنهم فريقان أيضًا في الحكم على هذه الفلسفة: ففريق يمكن أن يُعتبر من نماذجه المستشرق جفوتْييه، الذي كان أستاذًا لتاريخ الفلسفة الإسلامية في الجزائر، وهو الفريق الأقل عددًا، يُقرر الحدود الفاصلة بين العقل السامي والعقل الآري حتى لا تتلاقى منازعها، ثم يبيِّن أنَّ الإسلام دين قوي في ساميته جدًّا، فلا يُمكن تصوُّر نظام أشد منه معارضة للفلسفة اليونانية القوية في آريتها جدًّا، وأنه كان أول واجب على الفلاسفة المسلمين أن يوقفوا بين هذين التيارين بحكم أنهم مسلمون مُتمسكون بدينهم، وبحكم أنهم فلاسفة همُّهم أن ينشروا مذاهب الفلسفة اليونانية.

ويقول جوتييه:

«إن الفلاسفة الإسلاميين لم يألوا جهدًا في القيام بواجبهم من هذه الناحية، وقد أبدَوْا في ممارسته على ما فيه من دقة وعناء خصالًا منقطعة النظير؛ من مهارة ونفاذ وبُعد نظر، ورأيُهم فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال هو مَعْقِد الطرافة في هذه الفلسفة اليونانية الإسلامية.»٤٩

ويبيِّن الأستاذ بعد ذلك أنَّ الفلسفة اليونانية هي التي ساقت فلاسفة الإسلام إلى هذا الاتجاه، وهي كانت مُسْتَمَدَّ عناصره، ذلك بأنَّ فكرة التوفيق بين الفلسفة والدين هي فكرة مزج واتصال، وليس غير التفكير الآري لمحاولة الاتصال بوسائط متدرجة في سلسلة متتابعة بين ضدين هما: الإسلام دين الفصل، وفلسفة الوصل اليونانية.

ولقد ذكرنا آنفًا مذهب رنان في خصائص الجنسين السامي والآري.

واختلفت المذاهب بعد رنان في تبيين هذه الخصائص؛ يقول مؤلف معاصر اسمه لابي٥٠ في كتاب له عنوان «المدنيات التونسية»:
«النفس اليهودية منساقة بفطرتها إلى المستقبل، والنفس العربية منساقة بفطرتها إلى الماضي، فهما متنافرتان، والنفس الأوروبية تختلف عنهما.»٥١

ويُريد جوتْييه أن يميز بين الجنس السامي والجنس الآري بخصائص أخرى يبيِّنها في كتابه «المدخل إلى دروس الفلسفة الإسلامية» كما يأتي:

«في كل مظاهر النشاط الإنساني، من أدناها كمسائل الطعام واللباس إلى أعلاها كالنظم السياسية والاجتماعية، تتجلَّى في الجنس الآري من ناحية، والجنس السامي معتبرًا في أخلص أنواعه أي النوع العربي نزعات أصلية متقابلة. العقل السامي يجمع بين الأشياء متناسبة وغير متناسبة، مع تركها منفصلة بلا رباط يصلها، متنقلًا بينها بوثبات مباغتة لا تدرُّج فيها.

أمَّا العقل الآري فعلى عكس ذلك، يؤلف بين الأشياء بوسائط تدريجية لا يتخطى واحدًا منها إلى غيره إلا على سُلَّم متداني الدرج لا يكاد يحس التنقل فيه.»٥٢

هذا وقد كادت تتلاشى في القرن العشرين فكرة إقحام السامية والآرية في الحكم على الفلسفة الإسلامية، وذلك بحكم تضاؤل نظرية السامية والآرية نفسها وضعف سنادها العلمي.

على أننا لا نُنْكِر أنه قد بقي أنصار لهذه النظرية من أمثال الأستاذ جوتييه.

وفي دائرة المعارف البريطانية عند الكلام على كلمة «عرب»:

إنه ليس من صواب الرأي ما فعله رنان ولَسِّنْ بإضافتهما صفات خاصة إلى الجنس السامي؛ هي في الواقع ناشئة عن عوامل خارجية، فهي نتيجة البيئة التي عاشوا فيها والأحوال التي اكتنفتْهم، ولو أنهم عاشوا في بيئة أخرى وفي أحوال مغايرة لكانت لهم صفات جديدة.

أما الأستاذ برهْيه، أستاذ تاريخ الفلسفة في السربون؛ فهو من حزب السامية والآرية، وإن لم يُغرِق في ذلك إغراق مواطنه جوتييه، يقول الأستاذ في كتابه في «تاريخ الفلسفة»:

«كان فلاسفة العرب ممَّن اعتنقوا الإسلام، وكانوا يكتبون آثارهم بالعربية، لكن جمهرتهم لم تكن من أصل سامي بل من أصل آري؛ لذلك الْتَمسوا موضوعات تفكيرهم في الكتب اليونانية، التي أخذ في ترجمتها إلى السريانية والعربية منذ القرن السادس المسيحيون النسطوريون، والْتمسوها أيضًا في الآثار المزدكية الباقية في فارس المختلطة أشدَّ الاختلاط بالآراء الهندية.»٥٣

والأستاذ في كلامه هذا يصرِّح بأصل من أصول الفلسفة الإسلامية أو عنصر من عناصرها الأجنبية، لم يكن واضحًا للباحثين في القرن التاسع عشر، مصرِّحًا به تصريحًا، وهو الأثر الهندي الفارسي.

أما الفريق الثاني من العلماء المعاصرين الغربيين الذين تصدَّوْا لدرس تاريخ الفلسفة الإسلامية من غير ذكر للآرية والسامية في حكمهم على هذه الفلسفة، فمن ممثِّليهم الأستاذ هورتن، الذي يقول في الفصل الذي كتبه في «دائرة المعارف الإسلامية» بعنوان «فلسفة»:

«يُراد بهذه الكلمة النزعة اليونانية في الحكمة الإسلامية، ويجب أن يُعتبر أيضًا إلى جانب ذلك ما بذله المفكرون من جهود عقلية مبنية على ما كان معروفًا في عصورهم من معاني البحث العلمي عن أحوال الوجود على ما هو عليه، أو على الأقل البحث عن مسائل متصلة بإدراك شامل للعالم، فهي بهذا الاعتبار ينبغي أن تُعَدَّ من الفلسفة، ذلك ينطبقُ أولًا على علم الكلام النظري الذي يرمي إلى رفع مستوى العقائد الإسلامية المحتوية على تصوُّر للوجود بالِغ من السذاجة حدَّ الطفولة، حتى تلتئم مع مطالب العلم في ذلك الزمان.»

وبعد أن بيَّن الأُستاذ ما في مذاهب المُتكلمين من آثار يونانية وفارسية وهندية، بل ومسيحية ويهودية، وبعد أن ألمَّ بأدوار علم الكلام، عاد إلى الفلسفة يبيِّن ما لها من شأن:

«ولتقدير ما للفلسفة الإسلامية من الشأن يجبُ البدء ببيان ما في مذهب أرسطو من النقص، ولا نظير لأرسطو في ضبط المعاني الجزئية، لكنه لم يفلح في تقدير نسق شامل للعالم كله مُعتبرًا في ثنايا صورة ذهنية واحدة؛ فهو لم يَرُدَّ جملة العالم إلى مبدأ واحد، إنما هي اثنينية تتقابل فيها الهيولى القديمة والله.

وفي هذا المذهب الأرسططاليسي عناصر علمية نظرية ممحصة، لكن النزوع القوي إلى الاعتماد على ما في الوجود الخارجي وحده يشوبها ويعطِّلها، أنَّى جاءت الصور إذا كان الله عقلًا صرفًا ليس له إرادة، وهو يُحيي العالَم باعتباره معشوقًا لا أنه العِلَّة الفاعلة، ثم هو يجهل الجزئيات، ذلك مذهب في الألوهية ليس بفلسفي، ثم جاءت الفلسفة الإسلامية مستمَدَّة من المذهب الأفلاطوني الجديد، فجاءت معها فكرة قوية هي فكرة الإمكان التي تُحيط بجملة الموجودات وتجمعها في وحدة، فكانت هذه الفكرة نورًا أضاء مسائل الموجودات الجزئية وأظهرها في أسمى مظاهرها.

كل شيء في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود، وهما أمران ممتازان في جوهرهما، وليس هذان الأمران بمتلازمين تلازمًا ضروريًّا، فالذي يهب الوجود للأشياء ابتداء ويحفظه عليها في البقاء لا بد أن يكون موجودًا واجب الوجود، فالعالم سَيْل من الوجود يفيض من مَعِين لا ينضب، ويغمر كل ما عدا الله.

هذا الرأي يتخلل تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى عهدنا الحاضر، ولا يزال يتجدد شرحه وإبرازه في الصور الواضحة، وابن رشد وحده هو الذي لم يفهمْه حق الفهم.

وناحية أخرى من نواحي الفلسفة الإسلامية آيتها إيمان أهل هذه الفلسفة بالدين، يعتقد هؤلاء الفلاسفة اعتقادًا جازمًا بأنَّ الإسلام هو أكمل وحي إلهي، النبي يرى في حالات إشراق وكشْف خارق للعادة، الحقائق الإلهية التي لا ينفُذُ إليها العقل البشري (أي: الغيب) ثم يبلغها للناس، أما الفيلسوف فيكشف بعقله الضعيف بعض هذه الحقائق غير مخالف لما نزل به القرآن، فكأنما وظيفة الفلاسفة الإسلامية الدعوة إلى دين الإسلام.»

وتبيين مذهب الفلاسفة الإسلاميين في الفرق بين النبي والحكيم، أو الفلسفة والدين على هذا الوجه، لا دقة فيه، وسنعرض لهذا البحث بعدُ.

(٦-١) إجمال الآراء في الفلسفة الإسلامية في القرن العشرين

ونعود إلى تقرير موقف الفلسفة الإسلامية عند الغربيين في القرن العشرين، مستندين إلى أقوال المؤلفين المعاصرين، فنُجمل هذا الموقف في الوجوه الآتية:
  • (أ)
    تلاشى القول بأنَّ الفلسفة العربية أو الإسلامية ليست إلا صورة مشوَّهة من مذهب أرسطو ومفسِّريه أو كاد أن يتلاشى، وأصبح في حكم المُسَلَّم أنَّ للفلسفة الإسلامية كيانًا خاصًّا يُميِّزها عن مذهب أرسطو ومذاهب مُفسِّريه: فإن فيها عناصر مُستمَدَّة من مذاهب يونانية غير مذهب أرسطو، وفيها عناصر ليست يونانية من الآراء الهندية والفارسية … إلخ، ثم إنَّ فيها ثمرات من عبقرية أهلها ظهرت في تأليف نَسَق فلسفي قائم على أساس من مذهب أرسطو، مع تلافي ما في هذا المذهب من النقص باختيار آراء من مذاهب أخرى وبالتخريج والابتكار، وظهرت أيضًا في أبحاثهم في الصلة بين الدين والفلسفة، ويقول وُلْف: «على أنَّه من الخطأ أن يُظَن أنَّ الفلسفة العربية هي نسخة منقولة عن مذاهب المشائية.»٥٤
    ثم يقول: «وبهذه المثابة انتهى العرب إلى نسق فلسفي فريد في بابه، يوفق بين مقالات مُتخالفة.»٥٥
    ويقول أيضًا: «وعلى كل حال، فليس ينبغي أن يعزب عن البال أنَّ فلاسفة العرب نَحَوْا في البحث عن الوجود منحًى مُستقلًّا، غير تابع لتعلقهم بالقرآن.»٥٦

    ولعل جهود الباحثين ستكشف عن وجوه بديعة من الفلسفة الإسلامية لمَّا تزل خافية.

  • (ب)
    تلاشى القول بأنَّ الإسلام وكتابه المقدس كانا بطبيعتهما سجنًا لحرية العقل، وعقبة في سبيل نهوض الفلسفة أو كاد يتلاشى، ووجد مَن يقول ما يقوله الأستاذ بيكافيه في كتابه: «تخطيط لتاريخ عام مُقارن لفلسفة القرون الوسطى» المطبوع سنة ١٩٠٥:٥٧
    «إذا قارنَّا بين المؤلَّفات التي قرأها المسيحيون الغربيون والمؤلفات التي كانت في متناول العرب، عرفنا أنَّ هؤلاء ينبغي أن يكونوا أدنى إلى الإبداع، فقد تميزوا بفضل معارفهم التي نسقوها، فكانوا في القرن الثالث عشر أساتذة أولئك، فعاونوا على تأسيس الفلسفة الكاثوليكية والكلام الكاثوليكي بما نقلوا عن القدماء وبما ولدتْه أفكارهم.» ويقول الأستاذ ليون جوتييه في مقال له نُشر في مجلة «تاريخ الفلسفة».٥٨ الجزء الرابع من السنة الثانية بعنوان: «إسكولاستية إسلامية وإسكولاستية مسيحية»،٥٩ ما نصه:

    «أمَّا في الإسلام فالفلسفة السكولاستية تنجو من هذه العبودية للكلام التي تدمغ السكولاستية المسيحية.

    هي بعيدة عن أن تكون من أي وجه خاضعة للكلام، بل لا يمكن أن يُقال إنها خاضعة للعقائد، هي شيء مختلف تمام الاختلاف؛ لأنَّ العقائد وسيلة لتحقيق مصلحة الجماعة، أو كما يُقال الآن «براجماتيك».٦٠ أمَّا تلك الفلسفة فهي وحدها التي تعبِّر عن الحقيقة النَّظرية بذاتها، على حين أنَّ العقيدة ليست إلا مثالًا تخييليًّا لها.

    والفلسفة التي تحترم العقائد الدينية الموجَّهة للجمهور لا لأهل النظر الفلسفي، لمكان نفعها للجماعة ولمصدرها الديني، ليست تُقيم وزنًا للكلام الذي تُبَيِّن خطره على الدين وعلى الجماعة.»

  • (جـ)

    أصبح لفظ الفلسفة الإسلامية أو العربية شاملًا، كما بيَّنه الأستاذ هورتن، لما يُسمى فلسفة أو حكمة ولمباحث علم الكلام، وقد اشتدَّ الميل إلى اعتبار التصوُّف أيضًا من شعب هذه الفلسفة، خصوصًا في العهد الأخير الذي عُني فيه المستشرقون بدراسة التصوُّف.

    ويَعُدُّ الأستاذ ماسينيون من متصوفة الإسلام الكِنْدي والفارابي وابن سينا وغيرهم من الفلاسفة في كتابه المطبوع سنة ١٩٢٩ المُسمى «مجموع نصوص لم تُنشَر متعلِّقة بتاريخ التصوُّف في بلاد الإسلام».٦١

(٦-٢) رأيٌ فيما تشمله الفلسفة الإسلامية

وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوُّف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل اللفظ شاملًا لهما فإنَّ «علم أصول الفقه» المُسَمَّى أيضًا: «علم أصول الأحكام» ليس ضعيف الصلة بالفلسفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو علم الكلام، بل إنك لترى في كتب أصول الفقه أبحاثًا يسمونها «مبادئ كلامية» هي من مباحث علم الكلام، وأظنُّ أن التوسُّع في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية سينتهي إلى ضم هذا العلم إلى شُعَبها، كما يوضحه بعض ما نعرض له فيما يأتي.

(٧) كلمة في جهود الغربيين

أما بعد؛ فإن الناظر فيما بذل الغربيون من جهود في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها لا يَسَعه إلا الإعجاب بصبرهم ونشاطهم، وسعة اطلاعهم وحُسن طريقتهم، وإذا كنَّا ألْمَعنا إلى نزوات من الضعف الإنساني تشوب أحيانًا جهودهم في خدمة العلم، فإنا نرجو أن يكون في تيقظ عواطف الخير في البشر وانسياقها إلى دعوة السلم العام والنزاهة الخالصة والإنصاف والتسامح، مدعاة للتعاون بين الناس جميعًا على خدمة العلم باعتباره نورًا لا ينبغي أن يُخالِط صفاءَه كدر.

وليس يُوئسنا من ذلك أن تهبَّ في بعض البلاد نزعات كانت ركدت ريحها، ليس من شأنها أن تخلِّص نفوس النَّاس من عوامل العصبية والهوى، مثل نظرية تفوق السلالة النوردية الشاملة لشعوب أوروبا الشمالية، التي تحيا في ألمانيا لهذا العهد، ومثل فكرة تفوق البيض على السود المنتشرة في أمريكا الشمالية، وفكرة تفوق الجنس الأبيض على الجنس الهندي التي دعت إلى تسمية المتولِّدين بين إنجليز وهنديين تسمية خاصة في بلاد الهند وفي بلاد أفريقيا الجنوبية، بل نحن نرجو أن يغلب العلم والحق هذه النزوات التي لا يسندها علم ولا حق، ويقوِّي رجاءنا أن نجد في أمريكا نفسها أصواتًا تقرر باسم العلم أحيانًا ما نقرره نحن الآن.

وفي مقال مُعرَّب عن مجلة «السينتفيك٦٢ أمريكان» نُشر في مجلة «المقتطف» (يونيو سنة ١٩٣٤) بعنوان: «بماذا تتفوق السلالات؟»:
«وليس في الدعوى القائمة على تفوق السلالة النوردية شيء جديد، بل هي ناحية جديدة من مذهب سَرَى في خلال القرن التاسع عشر، مؤدَّاه أنَّ بعض طوائف من الناس لها حق منزَّل في أن تَسود الطوائف الأخرى، ومن قبلِ ذلك أحسَّ المؤلف الإنجليزي دانيال٦٣ ده فوا مؤلف رواية «روبنسن كروزو» بأنه مطالَب من قِبَل نفسه بل ومن قِبَل الحق والعدل بأن يهبَّ إلى السخرية من مثل هذا الرأي الذي يرمي إلى تبوُّء سلالة معينة المكانة العليا في تاريخ الإنسانية، كأن هذه المكانة خاصة بها من طريق الوضع الإلهي، ولكن العواطف الإنسانية قوية لتأصلها في الطبيعة البشرية فتطغى على صوت العقل ونوازع المنطق؛ فتبدو نظرية التفوق العنصري أو تفوق سلالة خاصة مرة بعد أخرى في خلال عصور التاريخ، مع أنَّ العقل والعلم لا يؤيدان الأركان الواهية التي تقوم عليها.
ونحن الآن نشهد انبثاق هذه الفكرة أو هذه النزعة من جديد، بعدما كُنَّا قد ظننَّا أنه قد قُضي عليها في أواخر القرن التاسع عشر، ونظرية التفوُّق النوردي هي فرع من نظرية التفوُّق الآري، أي تفوق الشعوب الآرية التي كان زعيمها ذلك الأرستقراطي الفرنسي الكونت جوزيف آرثر جوبينو٦٤ المتوفَّى سنة ١٨٨٢، فده جوبينو هذا ذهب إلى أنَّ الشعوب الآرية وحدها دون غيرها هي التي خلَّفت كل ما له قيمة في الحضارة وحافظت عليه، وفكرة وجود سلالة آرية نشأت من تشابه اللغات الهندية الأوروبية ممَّا حدا إلى القول بأنَّها جميعها ترتدُّ إلى أصل واحد هي اللغة الآرية.

والقول بتفرع اللغات الهندية الأوروبية من اللغة الآرية قول له سند صحيح، أمَّا ما ذهب إليه جوبينو من أنَّ وجود لغة آرية أصلية تفرَّعت منها اللغات الهندية الأوروبية يقتضي كذلك وجود سلالة آرية، فقد كان وهمًا من الأوهام.

فلما خُلقت هذه السلالة الموهومة على الطريق المتقدِّم أُسندت إليها جميع الفضائل، وقيل إنها منبع جميع الحضارات العالمية من قديم الزَّمان إلى حديثه، وقيل إن النورديين هم سلالة الآريين الذين توطَّنوا شمال أوروبا في القِدَم، ومنهم الشعوب التيوتونية والأنجلو سكسونية، ومع ذلك لم يستطع أحد من العلماء أن يأتي بسند علمي واحد على أنَّ السلالة الآرية كانت موجودة حقيقة؛ إذ ليس ثمة علاقة حتمية بين اللغة والسلالة؛ فالآرية لغة، واستعمالها للدلالة على سلالة معينة كما يستعملها الألمان اليوم ليس له مسوغ علمي واحد.

أَمَّا الشعوب النوردية؛ فلا يُعلَم أصلهم على وجه التحقيق، بل ليس من المؤكد أنَّهم ينتمون إلى سلالة صريحة النسب.»

وقد قرأنا في مجلة «الشهر» الفرنسية جملة تتعلق بكتاب ظهر حديثًا اسمه «الآريون»، فيها إعراب عن منزع العلماء الفرنسيين المعاصرين في مسألة الآرية، وهذا تعريب تلك الجملة:

«الآريون:٦٥ كتاب مسيو جورج بواسُّون٦٦ الذي ظهر غير بعيد يعرض لمسألة جعلتْها الحوادث الحاضرة في مقدمة المسائل، وهي أثر الجنس في تكوين الشعوب الحديثة، وإذا كان العلم الألماني قد أوغل في الدراسات الآرية إيغالًا بعيدًا، فإنه انتحى نحوًا يجعل صحة نتائجه موضع إنكار من علماء البلاد الأخرى، أمَّا العلم الفرنسي فلم يُعطِ هذه الأبحاث من عنايته إلا بقدْر؛ لذلك لم يوجد إلى الآن مُصنَّف يتناول هذا الموضوع من كل جوانبه مبيِّنًا الطبيعة الحقة للطائفة الموسومة بالآرية، وأصولها الجنسية وتطوراتها في ثنايا الأجيال، وهذا ما عالجه مسيو جورج بواسون العالِم بما قبلَ التاريخ، المُحيط بآخِر ما دوَّن العلماء الفرنسيون والأجانب.
كان الاهتمام بدرس مسألة الآرية في فرنسا متروكًا إلى الآن لعلماء اللغات وحدهم، ويرى مسيو بواسُّون أنَّ ذلك خطأ، وأنَّ النهوض بهذه الأبحاث يستلزمُ أَلَّا ننسى أنَّ دعوى الآرية هي أولًا من مسائل العلم الباحث عن أصول الشعوب، وفوق ذلك فإن الوصول إلى الأصول الحقيقية لتاريخ الشعوب والمدنيات يقتضي الاستعانة بما انتهى إليه المُشتغلون بدرس ما قبل التاريخ، فمسيو بواسُّون يتخذ نمطًا في البحث يعتمد على علم اللغات، وعلم أصول الشعوب، وعلم ما قبل التاريخ معًا، وكتابه هو تاريخ حقيقي للتطوُّر الأوروبي منذ نشأة الأجناس الحاضرة إلى يومنا هذا، على طريقة التقسيم المسمَّاة بتركيب القياس.٦٧

وهذا التاريخ يُبيِّن كيف تكوَّنت الأُمم والشعوب في عهود التاريخ، وما هي العناصر التي كوَّنتْها، وأين نشأتْ منابتها، وكيف تنقَّلت في البلاد، وما مدنياتها المتعاقبة، وما أثرها في التطوُّر العام للإنسانية.

ونجد فيه أنَّ كل الأمم التي هي من الأسرة الآرية صيغت من خليط من عناصر الأجناس الأولى، وما يكون لأمة أن تعتز بأنَّ لها من النقاء حظًّا أكبر من حظ غيرها، على أنَّ هذا النَّقاء ليس ممَّا يُستطاع تحديده.

ثم إنَّ المدنية الآرية هي أثرٌ مُشترك لجميع العناصر الجنسية التي شملتْها هذه المدنية؛ إذ إنَّ كل عنصر ساهم فيها بشمائله ومعارفه على نِسَب متعادِلة.»٦٨

هوامش

(١) Émile Bréhier.
(٢) Histoire ds la Philosophie par Émile Bréhier, Tome I, p. 20.
(٣) Guillaume Théophile Tennemann المتوفى سنة ١٨١٩.
(٤) Manuel de l’histoir de la philosophi par Tennemanne. Traduit de l’allemand par V. Cousin, seconde édit 1839. نُشر لأول مرة بالألمانية سنة ١٨١٢، ونقله إلى الفرنسية سنة ١٨٢٩ الفيلسوف الفرنسي كوزان المتوفى سنة ١٨٤٧.
(٥) Jean Jacques Brücker.
(٦) Page XIV preace Tome I Manuel de l’histoir de la philosophi par Tennemanne. Traduit de l’allemand par V. Cousin, 2 édition, Paris 3819.
(٧) Tome, I, Page 356, 357.
(٨) يوحنا المُلقب فيلوبنوس Jean Philopon السكندري تُوفي نحو سنة ٦٠٨م ويُعرف أيضًا بيحيى النحوي.
(٩) le Mysticisme.
(١٠) لم أجِدْ ذكرًا فيما بين يديَّ من مراجع البحث لأبي سعيد أبي الخير، لكن يوجد أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز نسبة إلى خرْز الجلود من القِرَب ونحوها، من أهل بغداد، وقد ذكره صاحب كتاب «التعرف لمذهب أهل التصوُّف فيمن نشر علوم الإشارة كتبًا ورسائل»، قال: «ويُقال له لسان التصوُّف»، وقال السيد مصطفى العروسي في حاشيته على شرح الرسالة القشيرية: «هو شيخ الطائفة، غير أنَّه توفِّي على الأرجح سنة ٢٨٦ﻫ/٨٩٩م، وذلك يمنع أن يكون هو المراد بواضع علم التصوُّف قبل القرن الثاني أو في ثناياه.»
على أنَّ الأستاذ ماسينيون ذكر في كتابه «مجموعة نصوص لم تنشر مُتعلِّقة بتاريخ التصوُّف في بلاد الإسلام» ص٨٧: «أبا سعيد بن أبي خير المُتوفَّى سنة ٤٤٠ﻫ/١٤٠٨م، وذكر أنَّه خراساني، وأشار إلى أنه كان يتحلَّل من القيود الدينية، وكان ذا صلة بالفيلسوف ابن سينا»، وليس أبو سعيد بن أبي الخير هذا هو مقصود تنمان بالضرورة.
وفي كتاب «محاضرة الأوائل ومُسامرة الأواخر» للشيخ علاء الدين علي دده السكتواري البوسنوي المتوفَّى سنة ٩٩٨ﻫ/١٥٩٠–١٥٩٨م، ص٧٠:
«أوَّل مَن تكلم بمصر في ترتيب الأحوال ومقامات الأولياء — قدَّس الله سِرَّهم — ذو النون المصري المتوفَّى سنة ٢٤٥ﻫ/٨٥٩م — قدَّس الله سِرَّه ونفعنا بعلومه آمين (أوائل السيوطي). أول مَن تكلم ببغداد في مذهب الصوفية من صفاء الفكر والشوق والذوق والقُرْب والأُنس والمحبة والمعرفة والفناء والبقاء، وغيرها من المقامات والمنازل أبو حمزة محمد بن إبراهيم البغدادي الصوفي من أقران السَّرِيِّ السَّقَطيِّ، ومات سنة تسع وثمانين ومائتين (أوائل السيوطي). أول مَن سُمِّي بالصوفي وتكلم في علم القلوب أبو هاشم الصوفي (المتوفى سنة ١٠٥ﻫ/٧٣٣-٧٣٤م، كما في «أبجد العلوم»، ج١، ص٣٨٦، و«كشف الظنون»، ج١، ص٢٩٠)، كوفي المولد شامي المقام. قال أبو هاشم: لَقَلْع الجبال بالإبر أيسَرُ من إخراج الكِبْر من القلوب. وقال الثوري: لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفتُ دقيق الرياء وما كنتُ عرفت مَن الصوفي لولا أن أبا هاشم — قُدِّس سرُّه — من طبقات المشايخ (أوائل السيوطي). أول مَن تكلم بالعراق في بلدة مرو في الأحوال الصوفية وكان فقيهًا مُحدِّثًا إمامًا أبو العباس المروزي شيخ التصوُّف في زمانه — مات سنة ثلاثمائة ﻫ/٩١٢-٩١٣م (أوائل السيوطي) … أوَّل مَن تكلم في علم الفناء والبقاء أبو سعيد الخراز البغدادي شيخ الفقراء الصوفية تلميذ ذي النون المصري رحمهم الله (أوائل السيوطي) … أول حال رسول الله الخلوة، حيث تبتَّل إلى جبل حراء، حيث كان يخلو بربه ويتعبَّد، حتى قالت العرب إن محمدًا عشق ربه؛ قاله الغزالي.
أول مَن آثر العزلة والوحدة من الصحابة الكرام — رضي الله عنهم — أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، كما جاء في الخبر الصحيح في حقه: «يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليهما السلام»، وهو سيد أهل الخلوة من الصوفية. وفي الحديث المشهور أنه يأتي قُدَّام العلماء يوم القيامة؛ ذكره السيوطي.»
ولعل هذه النصوص تجمع جملة ما قيل فيمَن يصح أن يُنسَب التصوُّف إليهم.
(١١) Tome I, Pages 358-359.
(١٢) المثاليون ldéalistes.
(١٣) Tome I, Pages 363-364.
(١٤) قال طاش كبرى زاده المتوفَّى سنة ٩٦٢ﻫ/١٥٥٤-١٥٥٥م في كتاب «مفتاح السعادة»:
«ثم اعلم أنَّ أفلاطون الحكيم كان يُعلِّم بعضًا من تلامذته بطريق التصفية وإعمال الفكر الدائم في جناب القدس، وسُمُّوا بالإشراقيين، وبعضًا منهم بطريق البحث والنظر فسُمُّوا المشَّائين، لتردُّدهم على مجلسه، أو لأخذهم الحكمة وقت مشيه إلى تعليم أولاد السلطان، أو لتعليمهم وقت مشيه في بستان كان له، وأما في غير هذا الوقت فكان منقطعًا عن الناس، ورئيس طائفة المشَّائين هو أرسطو، وهو الذي دوَّن الحكمة البحثية (ج١، ص٢٤٢، ٢٤٣).»
(١٥) Cours de l’histoire de la Philosophie par V.Cousin‚ paris 1841‚ Tome‚ I‚ Page 48-49.
(١٦) Ernest Renan.
(١٧) Chrstian Lassen.
(١٨) Philologie Comparée.
(١٩) E. Rrnan: Histoire générale et systéme comparé des langues semitiques‚ Paris‚ VIe éd. T.I.P.4-5.
(٢٠) Averroés et l’Auerroïsme‚ Préface P. 7-8. 8e éd. 1925..
(٢١) Histoire générale et systéme comparé des langues semitiques‚ Paris‚ VIe éd. P. 10.
(٢٢) Aveiroés et l’Averroïsme‚ Avertissement‚ p. ll.
(٢٣) Page 89.
(٢٤) Page 89.
(٢٥) Page 93.
(٢٦) Gustave Dugat.
(٢٧) Schmôlders.
(٢٨) Histoire des philosophes et des théologiens musulmans‚ Paris 1878‚ Préface p. XV.
(٢٩) نفس المصدر P. XVI.
(٣٠) Salmon Munk المُستشرق الفرنسي الألماني الأصل المتوفَّى سنة ١٨٦٧.
(٣١) نفس المصدر صXVI-XVII.
(٣٢) Spinoza.
(٣٣) نفس المصدر صXVII وانظر p. 332-333Munk: Mélanges 1927.
(٣٤) يُشير بذلك إلى مذهب الصَّرْف في إعجاز القرآن. قال الخفاجي في كتاب «أسرار الفصاحة»: «إعجاز القرآن والخلاف الظاهر فيما به كان معجزًا على قولين؛ أحدهما: أنه خَرَق العادة بفصاحته، وجرى ذلك مجرى قلب العصا حية، وليس للذاهب هذا المذهب مندوحة عن بيان ما الفصاحة التي وقع التزايد فيها موقعًا خرج عن مقدور البشر.
والقول الثاني: أنَّ وجه الإعجاز في القرآن صَرْف العرب عن المعارضة، مع أنَّ فصاحة القرآن كانت في مقدورهم لولا الصَّرْف، وأمر القائل بهذا يجري مجرى الأول في الحاجة إلى تحقيق الفصاحة ما هي، ليقطع أنَّها كانت في مقدورهم ومن جنس فصاحتهم، ويعلم أنَّ مُسيلمة وغيره لم يأتِ بمُعارضة على الحقيقة؛ لأنَّ الكلام الذي أورده خالٍ من الفصاحة التي وقع التحدي بها في الأسلوب المخصوص» («أسرار الفصاحة» للأمير محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، طبعة الخانجي، ص٤).
(٣٥) David Strauss.
(٣٦) Dugat: XXII-XXIII.
(٣٧) Munk: Mélanges‚ Paris 1927 p. 312-313.
(٣٨) Maurice de Wulf.
(٣٩) Histoire de la philosophie médiévalé Louvain 1924.
(٤٠) Horten.
(٤١) De Boer.
(٤٢) L.Gauthier.
(٤٣) Carra de Vaux.
(٤٤) Djémil Saliba, Etude sur la Métaphysiqve d’Avioenne. Paris 1926.
(٤٥) pp. 24-25.
(٤٦) Carlo Nallino.
(٤٧) جاء في كتاب «طبقات الشافعية» لشيخ الإسلام تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي المتوفَّى سنة ٧٥٦ﻫ ما نصه: «تنبيه عجيب، وقع في كتاب «الملل والنحل» لأبي الفتح الشهرستاني في أوائله أن فلاسفة الإسلام الذين فسَّروا كتب الحكمة من اليونانية إلى العربية، وأكثرهم على رأي أرسطاليس، حنين بن إسحاق، وأبو الفرج المفسر، وأبو سليمان الشحري (السجزي)، ويحيى النحوي، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وأبو سليمان محمد بن معشر المقدسي، وأبو بكر بن ثابت بن قرة الحراني، وأبو تمام يوسف بن محمد النيسابوري، وأبو زيد أحمد بن سهل البلخي، وأبو مُحارب الحسن بن سهل القمي، وأبو حامد أحمد بن محمد الإسفزاري، وأبو زكريا يحيى بن الصيمري، وأبو نصر الفارابي، وطلحة النسفي، وأبو الحسن القاصري (العامري)، والرئيس أبو علي بن سينا. انتهى ملخصًا. وأبو حامد الإسفزاري المشار إليه فيلسوف من بلدة إِسْفزار، بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وبالفاء والزاي المكسورتين وفي آخرها الراء، مدينة بين هراة وسجستان، وإنما نبهتُ على هذا؛ لأنه تصحَّف على بعض الناس ممَّن تكلم معي وقال لي: كان الشيخ أبو حامد من فلاسفة الإسلام، فقلت له: إن الشيخ أبا حامد شيخ العراق لا يدري الفلسفة ولا هو من هذا القبيل. فأحضر إليَّ الكتاب، وقد تصحف عليه الإسفزاري بالإسفراييني فعرفتُه ذلك، ثم أحببتُ التنبيه على ذلك هنا؛ لئلا يقع فيه غيره كما وقع هو» (ج٣ ص٢٧).
(٤٨) طُبع أخيرًا في لاهور بعنوان: كتاب «تتمة صوان الحكمة»، بعناية الأستاذ محمد شفيع …
(٤٩) Léon Gauthier, Introductoon â l’étude de la Phiosophie Musulmane Paris 1923, P. 121.
(٥٠) Lapie.
(٥١) Les Civilisation Tunisiennes P. 19.
(٥٢) P. 66.
(٥٣) Emile Bréhier, Histoire de la Philosophie, Tome premier, P. 610.
(٥٤) Maurice de wulf, Histoire de la Philosophie Médiévale, Louvain, 1924t. 1, pp. 208-209.
(٥٥) Maurice de wulf, Histoire de la Philosophie Médiévale, Louvain, 1924t. 1, pp. 208-209.
(٥٦) Maurice de wulf, Histoire de la Philosophie Médiévale, Louvain, 1924t. 1, pp. 208-209.
(٥٧) Picavet, Eoquisse d’une Histoire générale et comparée des Philosphies Médiévale, Paris 1905, p. 160.
(٥٨) Revue d’Histoire de la Philosophie (Decembre 1928).
(٥٩) Scolastique Musulmane et Scolastique Chrétienne.
(٦٠) Pragmatique.
(٦١) Recueil de Textes Inédits concernant l’histoire de Mystipue en bays de L’lslam. Par Louis Massignon, paris, 1929.
(٦٢) Scientific American.
(٦٣) Daniel Defoe.
(٦٤) De Gobineau.
(٦٥) Les Aryens.
(٦٦) Georges Poisson.
(٦٧) Synthétique.
(٦٨) Le Mois, Octobre, 1934, Page 313.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤