الفصل الأول

بداية التفكير الفلسفي الإسلامي

من أجل هذا رأينا أنَّ البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يكون أدنى إلى المسلك الطبيعي، وأهدى إلى الغاية حين نبدأ باستكشاف الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي في سلامتها وخلوصها، ثم نُساير خُطاها في أدوارها المُختلفة، من قبل أن تدخل في نطاق البحث العلمي، ومن بعد أن صارت تفكيرًا فلسفيًّا.

وجريًا على هذه الخطة نشرع في البحث عن بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين.

والبحث في بداية التفكير الفلسفي الإسلامي يستدعي إلْمَامه بحال الفكر العربي واتجاهاته حين ظهر الإسلام.

(١) العرب عند ظهور الإسلام

ومهما يكن من أمر العرب عند ظهور الدين المُحمدي، فإنَّهم لم يكونوا في سذاجة الجماعات الإنسانية الأُولى من الناحية الفكرية التي تهمنا، يدل على ذلك ما عُرف من أديانهم، وما روي من آثارهم الأدبية.

(١-١) الدين والجدل الديني

جاء الإسلامُ والعرب في تشعب ديني وبوادر انبعاث إلى نهضة دينية، والقرآن هو أصدق مرجع في تصوير حالة العرب من هذه النَّاحية، فإن القرآن هو أقدم ما نعرفه من الكتب العربية، وهو بما لقي من العناية بحفظه على مر العصور أجدر المراجع بالثقة، وقد جمع القرآن الأديان التي كان للعرب اتصال بها في عهده في الآية ١٧ من السورة ٢٢: الحج، مدنية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

كان في العرب يهود ونصارى، وكان فيهم صابئة ومجوس، ثم كان فيهم مشركون … ومذهب الصابئة — على ما يُحيط بتاريخه من غموض — يكادُ يتم الاتفاق على أنَّه يُقرُّ بالألوهية، ويرى أنا نحتاج إلى معرفة الله ومعرفة أوامره وأحكامه إلى متوسط، لكن ذلك المتوسط يكون روحانيًّا لا جسمانيًّا، ففزعوا إلى هياكل الأرواح، وهي الكواكب، فهم عَبَدة الكواكب.

أما المجوس، فهم ثَنَوية: أثبتوا للعالم أصلين اثنين مُدبرين يقتسمان الخير والشر، يسمُّون أحدهما النور، والآخَر الظلمة.

وأما المشركون، فهم طوائف مختلفة: فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة وقالوا بالطبع المحيي والدهر المُفني، وهم الذين أخبر عنهم القرآن في قوله: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ،١ وقوله: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ منْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.٢
وصنف أقرَّ بالخالق وأثبت حدوث العالم وأنكر البعث والإعادة، وهم الذين أخبر عنهم القرآن في قوله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.٣
ومنهم مَن أقرُّوا بالخالق، وأثبتوا حدوث العالم وابتداء الخلق، وأقرُّوا بنوع من الإعادة، وأنكروا الرُّسل وعبدوا الأصنام، وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الآخرة، وحجُّوا إليها وقرَّبوا القرابين، وهم الدهماء من العرب، وهم الذين حكى الله قولهم في آية: أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا منْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.٤
وقد كان صنف من العرب يعبدون الملائكة أو الجن لتشفع لهم إلى الله، ويزعمون أنها بنات الله، وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ،٥ وقوله: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ.٦
وكان بين هذه الأديان والنِّحَل جدال ونزاع. قال الشافعي في «الأُم»: «فكانت المجوس يدينون غير دين أهل الأوثان، ويُخالفون أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى في بعض دينهم، وكان أهل الكتاب اليهود والنَّصارى يختلفون في بعض دينهم.»٧ وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في مثل قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ،٨ وقوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا منْ قَبْلُ،٩ وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا من الْكِتَابِ يُؤْمنُونَ بِالْجِبْتِ١٠ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى من الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا.١١

وكان هذا الجدل يتناول بالضرورة شئون الألوهية والرِّسالة والبعث والآخرة والملائكة والجن والأرواح، ويدعو إلى المُوازنة بين المذاهب المختلفة في تلك الشئون، وقوي أمر هذا الجدل الديني في ذلك العهد، حتى تولَّدت نزعة ترمي إلى تلمُّس دين إبراهيم أبي العرب.

ذكر ابن هشام المتوفى بالفسطاط سنة ٢١٨ﻫ/٨٣٣م في سيرته:

«دين العرب: قال ابن إسحاق: واجتمعت قريشٌ يَومًا في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يُعَظِّمونه وينحرون له، ويعكفون عنده ويديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، فخلص منهم أربعة نفر نجيًّا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضُكم على بعض، قالوا أجَلْ، وهم وَرَقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزى، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحُوَيْرث، وزيد بن عمرو بن نُفَيْل.

فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نُطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم، الْتَمِسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم؛ فأمَّا ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علمًا من أهل الكتاب، وأمَّا عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم … قال ابن إسحاق: وأمَّا عثمان بن الحويرث فقَدِم على قيصر ملك الروم فتنصَّر وحسُنَت منزلته عنده.

قال ابن إسحاق: وأمَّا زيد بن عمرو بن نفيل؛ فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والمَيْتة والدم والذبائح التي تُذبَح على الأوثان، ونَهى عن قتْل الموءودة، وقال: أعبد رب إبراهيم، ونادى قومه بعَيْب ما هم عليه.»١٢

وذكر المسعودي المتوفى بالفسطاط سنة ٣٤٦ﻫ/٩٥٧م في «مروج الذهب» أسماء أناس من العَرب دَعَوْا قومَهم إلى الله ونبَّهوهم على آياته في زمن الفترة، كقُسِّ بن ساعدة الإيادي، ورباب السَّبْتي وبَحِيرا الرَّاهب، وكانا من عبد القيس.

كل ذلك يدلُّ على أنَّ العرب عند ظهور الإسلام كانوا يتشبَّثون بأنواع من النظر العقلي يُشبه أن تكون من أبحاث الفلسفة العلمية، لاتصالها بما وراء الطبيعة من الألوهية وقِدَم العالم أو حدوثه، والأرواح والملائكة والجن والبعث ونحو ذلك.

(١-٢) التفكير العملي

وقد كان عند العرب نوع آخَر من التفكير عمليٌّ، دَعَتْ إليه حاجة الجماعة البشرية، لا يتصل بما كان يتنازعهم من مُختلف العقائد والنحل.

قال صاعد بن أحمد المتوفى سنة ٤٦٣ﻫ/١٠٧٠-١٠٧١م في كتابه «طبقات الأُمم»، بعد أن ذكر معرفة العرب لأحكام لغتها ونظم الأشعار وتأليف الخطب وعلم السِّيَر:

«وكان للعرب مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغايبها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها، على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة، لا على طريق تعلُّم الحقائق، ولا على سبيل التدرُّب في العلوم.»١٣
وكان عند العرب طائفة مميزة يُسمونهم حكماءهم، جمع حكيم، ويسمونهم حكامًا أيضًا جمع حاكم أو حَكَم، ومن أمثالهم: «في بيته يُؤتَى الحَكَم»، وهم علماؤهم الذين كانوا يَحْكمون بينهم إذا تنافروا في الفضل والحسب، وغير ذلك من الأمور التي كانت تقع بينهم.١٤

ومن حكماء العرب أطباؤهم؛ لما كان لهم من العلم والتجربة ونفوذ الكلمة.

وكان لهؤلاء المُفكرين أمثال تجري على ألسنتهم شعرًا أو نثرًا، حِكَمًا بالغة من ثمار الاختبار والعقل الرَّاجح، وكانت هذه الأمثال عند العرب تُراثًا علميًّا ثمينًا، يتنافسون في الاحتفاظ به، وقد وُجِّهت العناية إلى جمع هذه الأمثال وتدوينها منذ عهد يزيد الأول المتوفى سنة ٦٤ﻫ/٦٨٣-٦٨٤م ذخيرة أدبية، ثم عُني بها بعد ذلك الفلاسفة.»١٥

وتُسمى هذه الأمثال حكمة وحُكْمًا وفي الحديث: «إنَّ من الشعر لحُكْمًا»؛ أي كلامًا نافعًا، يمنع من الجهل والسفه، وينهى عنهما، ويُروى: «إنَّ من الشعر لحكمة»، وهو بمعنى الحكم، كما في «لسان العرب».

(١-٣) الحكمة

ومهما اختلفت العبارات في بيان معنى «الحكمة» في لسان العرب، فقد يوشك أن يتفق اللغويون على أنَّ عناصر الحكمة هي إتقان في العلم والعمل يمتنع معه الزَّيغ والفساد والجور، أو هي العلم الكامل النافع. وفي «كشف البزدوي»: «والحكمة، لغةً، اسم للعلم المتقن والعمل به. ألا ترى أنَّ ضده السفه، وهو العمل على خلاف موجب العقل، وضد العلم الجهل.»١٦

«والحكم لا يختلف عن الحكمة اختلافًا كبيرًا.

فالحكيم هو العاقل الخبير الماهر، وهو المعنى العبري، وقبل ذلك الآرامي للفظ hkm ومن هذا المعنى الأصلي جاء في الاستعمال عند العرب لفظ حاكم بمعنى قاضٍ ووالٍ، ولفظ حكيم بمعنى طبيب.»١٧

ويؤخذ من ذلك أنَّ ما وسم به العرب علماءهم من صفات الحكمة والحكم كانت تعبِّر عن معانٍ مُتقاربة من العلم والفقه، بما يُفيد صلاحًا للناس في أبدانهم ويُحقق معنى العدل والنظام بينهم، ويمنع الخصام.

قال الآلوسي في «بلوغ الأرب»: «حكام العرب في الجاهلية: الحاكم منفِّذ الحكم كالحَكَم محركة، جمعه حُكَّام، وحكام العرب علماؤهم الذين كانوا يحكمون بينهم إذا تشاجروا في الفضل والمجد، وعلو الحسب والنَّسب، وغير ذلك من الأمور التي كانت تقع بينهم، وكان لكل قبيلة من قبائلهم حَكَم يتحاكمون إليه، وهم كثيرون لا يَسَعُهم الحَصْر.»١٨

ولعَلَّنا إذا استعرضنا باختصار تاريخ جماعة من حُكماء العرب الذين يقول فيهم أبو الفتح محمد الشهرستاني المتوفى ٥٤٨ﻫ/١١٥٣م في «كتاب الملل والنحل»:

«ومنهم — أي من الفلاسفة — حُكماء العرب، وهم شِرذمة قَليلةٌ؛ لأنَّ أكثرهم حكمُهم فلتات الطبع وخطرات الفكر، ورُبَّما قالوا بالنبوات.» استطعنا أن نتبيَّن مجال معارفهم ومذاهب تفكيرهم، وقد ذكر الجاحظ المُتوفى ٢٥٥ﻫ/٨٩٦م في كتاب «البيان والتبيين» أسماء جماعة من هؤلاء الحكماء فقال: «ومن القدماء ممَّن كان يُذكر بالقدر والرِّياسة والبيان والخطابة والحكمة والدهاء والنكراء:١٩ لقمان بن عاد، ولقيم بن لقمان، ومُجاشع بن دارم، وسليط بن كعب بن يربوع، سمَّوْه بذلك لسلاطة لسانه، وقال جرير: إنَّ سليطًا كاسمه سليط، ولُؤي بن غالب، وقُسُّ بن ساعدة، وقُصَيُّ بن كلاب، ومن الخطباء البُلَغاء والحكام الرؤساء أكثم بن صيفي، وربيعة بن حذار، وهَرِم بن قطبة، وعامر بن الظَّرِب، ولبيد بن ربيعة.»

ومن هؤلاء الحُكماء الحارث بن كلدة الثقفي، وقد ترجم له ابن أبي أُصيبعة المصري المتوفى ٦٦٨ﻫ/١٢٦٩م في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، وذكره الوزير جمال الدين القفطي المُتوفى سنة ٦٤٦ﻫ/١٩٤٨م في كتابه «إخبار العُلماء بأخبار الحكماء». كان الحارث من الطائف وسافر البلاد وتعلَّم الطب بفارس وتمرَّن هناك، وكان يضرب العود، تعلَّم ذلك بفارس أيضًا، وعاش إلى زمن معاوية، ومن حِكَمه المأثورة: دافِعْ بالدواء ما وجدتَ مدفعًا، ولا تشربْه إلا من ضرورة؛ فإنه لا يُصلِح شيئًا إلا أفسد مثله.

ورُوي أنه لما احتُضر اجتمع الناس إليه فقالوا: مُرْنا بأمر ننتهي إليه بعدك، فقال: لا تتزوجوا من النِّساء إلا شابَّة، ولا تأكلوا الفاكهة إلا في أوان نضجها، ولا يتعالَجَنَّ أحدكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بالنورة٢٠ في كل شهر؛ فإنها مُذيبة للبلغم مُهلِكة للمُرَّة مُنبِته للحم، وإذا تغدَّى أحدكم فليَنَم على إثر غدائه، وإذا تعشَّى فليخطُ أربعين خطوة.»

ومن حكماء العرب أكثم بن صيفي بن رباح، وكان حَكَمًا من حُكَّام تميم، فصيحًا عالمًا بالأَنْسَاب، وأدرك أوائل الإسلام، ومن حِكَمه: مقتل الرجل بين فكَّيْه، ويلٌ لعالِم أمرٍ من جاهِله. وذكر الآلوسي من حِكَم أكثم بن صيفي: إنَّ قول الحق لم يَدَعْ لي صديقًا، يتشابه الأمر إذا أقبل، وإذا أدبر عرفه الكَيِّس والأحمق، لا تغضوا عن اليسير فإنه يجني الكثير، حيلة مَن لا حيلة له الصبر.

وقال الآلوسي في أكثم بن صيفي: «وكان من حديثه أنَّه لمَّا ظهر النبي — صلى الله تعالى عليه وسلم — بمكة ودعا إلى الإسلام بعث أكثم ابنَه حبيشًا، فأتاه بخبره فجمع بني تميم وقال: يا بني تميم، لا تُحضِروني سفيهًا فإنه مَن يسمع٢١ يَخَل، إنَّ السفيه يوهن مَن فوقَه، ويُثبِّت مَن دونه، لا خير فيمَن لا عقل له، كبرت سِنِّي ودخلتْني ذِلة، فإذا رأيتم منِّي حسنًا فاقبلوه، وإن رأيتم مني غير ذلك فقوِّموني أستَقِمْ، إن ابني شافَهَ هذا الرجل مُشافهة، وأتاني بخبره، وكتابه يأمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأخذ فيه بمحاسن الأخلاق، ويدعو إلى توحيد الله — تعالى — وخلع الأوثان وترك الحَلِف بالنيران، وقد حَلفَ (عرف) ذوو الرأي منكم أنَّ الفضل فيما يدعو إليه، وأنَّ الرأي ترك ما ينهى عنه، إنَّ أحق النَّاس بمعونة محمد ومساعدته على أمره أنتم، فإن يكن الذي يدعو إليه حقًّا فهو لكم دون الناس، وإن يكن باطلًا كنتم أحق الناس بالكف عنه والستر عليه، وقد كان أسقف نجران يحدِّث بصفته، وكان سفيان بن مجاشع يُحدِّث به قبله وسمَّى ابنَه محمَّدًا، فكونوا في أمره أولًا ولا تكونوا آخرًا، ائتوا طائعين قبل أن تأتوا كارهين.

إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينًا كان في أخلاق الناس حسنًا، أطيعوني واتبعوا أمري أسأل لكم أشياء لا تُنزَع منكم أبدًا، وأصبحتم أعزَّ حيٍّ في العرب وأكثرهم عددًا وأوسعهم دارًا؛ فإني أرى أمرًا لا يَجْتنبه عزيز إلا ذل، ولا يلزمه ذليل إلا عَزَّ، إنَّ الأول لم يَدَع للآخر شيئًا، وهذا أمر له ما بعده، ومَن سبق إليه غمر المعالي واقتدى به التالي، والعزيمة حزم والاختلاف عجز.

فقال مالك بن نويرة: قد خرف شيخكم، فقال أكثم: ويلٌ للشَّجِيِّ٢٢ من الخَلِيِّ، ولهفي على أمر لم أشهده، ولم يسبقني؛ فذهب مثلًا.»٢٣

ومنهم عامر بن الظَّرِب العَدْواني من حُكَّام قيس، وكانت العرب لا تَعدِل بفهمه فهمًا، ولا بحُكْمه حُكْمًا، ومن كلماته: «مَن طلب شيئًا وجده، وإن لم يجده يوشك أن يقع قريبًا منه، رُبَّ زارع لنفسه حاصد سواه، رُبَّ أكلة تمنع أكلات.»

ومنهم عبد المطلب بن هاشم جد النَّبي ، وكان من حُكَّام قريش، وتُؤثَر عنه سُنَن جاء القرآن بأكثرها: كالمنع من نكاح المحارم وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة.

بل قد ذكر المؤرخون أسماء حكيمات من العرب طبيبات وغير طبيبات: كزينب طبيبة بني أود، كانت عارفة بالأعمال الطبية، خبيرة بالعلاج ومُداواة آلام العين والجراحات، مَشهورة بذلك، قال أبو الفرج الأصبهاني في كتاب «الأغاني»: «أخبرنا مُحَمَّد بن خلف المرزُباني قال: حدثني حمَّاد بن إسحاق عن أبيه عن كناسة عن أبيه عن جَدِّه قال: أتيتُ امرأة من بني أود لتكحِّلني من رمد كان أصابني فكحَّلتْني، ثم قالت: اضطجع قليلًا حتى يدور الدواء في عينيك، فاضجعتُ ثم تمثلتُ قول الشاعر:

أمخترمي ريب المنوم ولم أزُر
طبيب بني أود على النأي زينبا

فضحكت ثم قالت: أتدري فيمَن قيل هذا الشعر؟ قلت: لا، قالت: فيَّ والله قيل هذا، وأنا زينب التي عناها، وأنا طبيبة بني أود، أفتدري مَن الشاعر؟ قلت: لا. قالت: عمك أبو سماك الأسدي.»

ومن حكيمات العرب اللواتي اشتُهِرن بإصابة الحُكْم، وفصل الخصومات وحُسن الرأي خُصَيْلة بنت عامر بن الظرب العَدْواني، ولعلها هي التي كان أبوها عامر يقول لها: مسِّي سُخَيْل بعدَها أو صَبِّحي بناء على أنَّها كانت تُسمى سُخَيْلا أيضًا. قال الميداني عند شرحه لهذا المثل:

«سخيل: جارية كانت لعامر بن الظرب العدواني، وكان عامر حَكَم العرب، وكانت سُخيل ترعى عليه غنمه، فكان عامر يُعاتبها في رَعْيتها إذا سرحت قال: أصبحتِ يا سخيل، وإذا راحت قال: أمسيتِ يا سخيل، وكان عامر عيَّ في فتوى قوم اختلفوا إليه في خنثى يحكم فيه، وسهر في جوابهم ليالي؛ فقالت الجارية: أتْبِعْه المَبَال فبأيهما بال فهو هو، ففُرِجَ عنه وحكم به، وقال: مَسِّي سُخَيْل بعدها أو صبحي. أي: بعد جواب هذه المسألة لا سبيل لأحد عليك بعد ما أخرجتِني من هذه الورطة، يُضْرَب لمن يُباشر أمرًا لا اعتراض لأحد عليه فيه.»

وذكر الآلوسي في «بلوغ الأرب» من حُكَّام العرب غير مَن ذكرنا: حاجب بن زرارة من حكام تميم، وله معرفة تامَّة بأخبار العرب وأحوالها وأنسابها، وكان من مشاهير فُصَحاء زمانه، والأقرع بن حابس من حكام تميم، وكان مرجعهم في واقعاتهم ومنافراتهم، كان حكمًا في الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم، وربيعة بن مخاشن وضَمرة بن ضمرة وكلاهما من تميم، وغيلان بن سلمة الثقفي من حكام قيس، وقد أَدرك الإسلام، وهاشم بن عبد مناف، وتنافرت قريشٌ وخزاعة إليه فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطاعة، وأبا طالب عم النبي وناصره، والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص، وكان من حكام قريش وأدرك الإسلام ولم يُسلِم، والعلاء بن حارثة القرشي، وربيعة بن حذار الأسدي، ويعْمُر بن عوف الشَّدَّاخ الكناني، وكان من حكام كنانة، وصفوان بن أُمَيَّة، وسلمى بن نوفل وكلاهما من حكام كنانة، ومالك بن جبير العامري، كان من حكام العرب وحكمائهم، ومن كلامه الذي ضُرب به المثل: على الخبير سقطتَ. وعمرو بن جمعة الدوسي، واختلفوا في أنه أدرك الإسلام، والحارث بن عباد الرَّبعي من حكام ربيعة وفرسانها، والقَلَمَّس الكناني.

وذكر الآلوسي أنَّه كانت في نِسَاء العرب جملة اشتُهرنَ بإصابة الحكم وفصل الخصومات وحُسن الرأي في الحكومة منهن، هند بنت الخُسِّ الإيادية، وجُمْعَة بنت حابس الإيادي، وصُحْر بن لقمان أو أخته، وحَذَام بنت الريان وهي القائلة: لو ترك القطا ليلًا لنام.٢٤

ولسنا نقطع بأنَّ ما رُوي من هذه الأخبار صحيح ثابت، ولكنَّا نرى أنه في جملته يكفي في الدلالة على وجهة التفكير الذي كان يُسَمَّى حكمة عند العرب وحكمًا، ويُسمى أهله حكماء وحكامًا، وهو تفكير عملي مُتَّصل بالفصل فيما يقع بينهم من نزاع، والفتوى فيما يحدث لهم من أقضية، والطب لمَا يعرض لهم من مرض.

وبالجملة فقد كان العرب حين نزول القرآن في منازعة وجدل في العقائد الدينية، وكان البحث في إرسال الرسل والحياة الآخرة وبعث الأجساد بعد الموت، موضع الأخذ والرد على الخصوص بين النِّحَل المتباينة.

قال الآلوسي في «بلوغ الأرب»: «وشُبُهات العرب كانت مقصورة على إنكار البعث وجحد إرسال الرسل؛ فعلى الأول قالوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، إلى غير ذلك من الآيات، وذكروا ذلك في أشعارهم، قال قائلهم:

حياة ثم موت ثم نشر
حديث خرافة يا أم عمرو

وقال شدَّاد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك يرثي كُفَّار قريش يوم بدْر لمَّا قُتلوا وألْقاهم النبي في القليب، وهي البئر التي لم تُطوَ:

يُحَدِّثنا الرسول بأنْ سَنَحْيَا
فكيفَ حياة أصداءٍ وهامِ!
وأراد الشاعر إنكار البعث هذا الكلام كأنَّه يقول: إذا صار الإنسان كهذا الطائر، كيف يصير مرة أخرى إنسانًا؟ وأمَّا على الثاني فكان إنكارهم لبعث الرسل في الصورة البشرية أشدَّ وإصرارهم على ذلك أبلغ، وأخبر عنهم التنزيل بقوله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا إلى غير ذلك من الآيات.٢٥

وكان يُعِدُّ العرب للجدل الديني ويحفِّزهم إليه، إمَّا الدفاع عن أديانهم الموروثة ضد الأديان الدخيلة عليهم، وإما المهاجمة لهذه الأديان جميعًا من أجْل ما يلتمسون من الدين الحنيف، دين إبراهيم، وهو دين قومي كانت تشرئبُّ إليه أُمَّة تدبُّ فيها مبادئ الحياة القومية.

وكان عندهم نوع من النظر العقلي هو أهدأ من هذا وأقل عنفًا، هو علم الطبقة المميزة، وهو علم الحكمة النافعة في الحياة.

(٢) العرب بعد ظهور الإسلام: دين وشريعة

جاء الإسلام يقرِّر أن الدين الحق واحد، هو وحي الله إلى جميع أنبيائه، وهو عبارة عن الأُصول التي لا تتبدل بالنسخ، ولا يختلف فيها الرسل، وهي هدًى أبدًا.

أمَّا الشرائع العملية، فهي مُتفاوتة بين الأنبياء، وهي هدًى ما لم تُنسَخ، فإذا نُسِخَت لم تبقَ هدًى. وفي القرآن الكريم: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ منْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ،٢٦ وفي القرآن أيضًا: شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ….٢٧

وقال مجاهد في معنى هذه الآية: أوصيناك يا محمد وإياهم دينًا واحدًا.

وروى الطبري المتوفى سنة ٣١٠ﻫ/٩٢٢-٩٢٣م عن قتادة في تفسير قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا منْكُمْ شِرْعَةً وَمنْهَاجًا٢٨ «يقول: سبيلًا وسُنَّة، والسُّنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يُحِلُّ الله فيها ما يشاء ويحرِّم ما يشاء بلاءً ليعلم مَن يُطيعه ممَّن يَعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يُقبَل غيره التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل.»٢٩

وروى الطبري عن قتادة أيضًا: «الدين واحد، والشريعة مختلفة.»

وقال الزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ﻫ/١١٤٣-١١٤٤م في تفسيره «الكشاف» «قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.٣٠

والمُراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده، وأصول الدين دون الشرائع فإنها مُختلفة، وهي هدًى ما لم تُنسَخ، فإذا نُسخت لم تبقَ هدًى، بخلاف أصول الدين فإنها هدًى أبدًا.»

والإسلامُ يجمع بين الدين والشريعة، أمَّا الدين فقد استوفاه الله كله في كتابه الكريم، ولم يَكِل الناس إلى عقولهم في شيء منه، وأمَّا الشريعة فقد استوفى أصولها ثم ترك للنظر الاجتهادي تفصيلها، جاء في القرآن المجيد: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا،٣١ وكان نزول هذه الآية في يوم عرفة عام حج النبي حجة الوداع، ولم يعِشِ النبي بعد نزولها إلا إحدى وثمانين ليلة، ولم يَمُتْ رسول الله حتى كَمُل الدين. روى الطبري عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وهو الإسلام. قال: «أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمَّه الله — عزَّ وجلَّ — فلا ينقصه أبدًا، وقد رَضِيَه الله فلا يسخطه أبدًا.»

قال الشاطبي المُتوفى سنة ٥٩٠ﻫ/١١٩٣-١١٩٤م في كتاب «الاعتصام»:

«فلم يبقَ للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميلات إلا وقد بُيِّنت غاية البيان. نعم، يبقَى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولًا إلى نظر المجتهد، فإنَّ قاعدة الاجتهاد أيضًا ثابتة في الكتاب والسُّنة، فلا بد من إعمالها ولا يَسَع تركها، وإذا ثبتت في الشريعة أشعرت بأنَّ ثمَّ مجالًا للاجتهاد، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه، ولو كان المُراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل، الجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم، وقد نصَّ العُلماء على هذا المعنى؛ فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يُجرَى عليها ما لا نهاية له من النوازل.»٣٢
وفي «الرِّسالة» للشافعي: «قال الشافعي: فجِماع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تعبَّدهم به لمَا مضى من حكمه — جلَّ ثناؤه — من وجوه: (١) فمنها ما أبانه لخلقه نصًّا مثل جُمَل فرائضه في أن عليهم صلاة وزكاة وحجًّا وصومًا، وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بيَّن نصًّا. (٢) ومنها ما أحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيه — صلى الله تعالى عليه وسلم، مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتهما، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل في كتابه. (٣) ومنها ما سنَّ رَسول الله — صلى الله تعالى عليه وسلم — مما ليس لله — عزَّ وجلَّ — فيه نص حكم، وقد فرض الله — عزَّ وجلَّ — في كتابه طاعة رسوله والانتهاء إلى حكمه، فمَن قَبِل عن رسول الله — صلى الله تعالى عليه وسلم — فبفرض الله — جلَّ ثناؤه — قبل. (٤) ومنها ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.»٣٣

(٢-١) الإسلام والجدل في الدين

وقد بُعث محمد بدين الإسلام داعيًا إلى الوحدة في الدين وإلى التآلف، ناهيًا عن الفرقة، كما في آيات كثيرة من القرآن، منها: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا،٣٤ ومنها قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا منْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ،٣٥ وقال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ …،٣٦ وقال: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا منْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ،٣٧ وقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ منْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ،٣٨ وقال: وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.٣٩
وكان على القرآن أن يُجادل مُخَالفيه من أرباب الأديان والملل في العرب ردًّا للشبهات التي كانوا يُثيرونها حول عقائد الدين الجديد، على أنَّه كان لا يَمُدُّ في حبل الجدل حرصًا على الألفة، وكثيرًا ما تُخْتَم آيات الجدال بمثل قوله: إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ،٤٠ وقوله: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ،٤١ وقوله: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.٤٢
هذا الجدل٤٣ في العقائد عرض له القرآنُ للحاجة، وعلى مقدارها من غير أن يُشجع المسلمين على المُضي فيه، بل هو قد نفَّرهم منه في قوله: وَمن الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.٤٤ جاء في كتاب «مختصر جامع بيان العلم» لابن عبد البر: «وعن العوَّام بن حوشب عن إبراهيم التيمي في قوله تعالى: «فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء»، قال: «الخصومات بالجدال في الدين».» وهذا يتفق مع قول كثير من المفسِّرين كالزمخشري والبيضاوي.
ودعا القرآن إلى الأخذ في هذا الجدل برفق عند الحاجة إلى الجدال، في مثل قوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ،٤٥ وقوله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا،٤٦ وقوله: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا منْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ،٤٧ وقوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ،٤٨ وقوله: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ،٤٩ وقوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ منْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ منْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.٥٠

(٢-٢) الإسلام والحكمة

وإذا كان القرآن قد نفَّر المسلمين من الجدل في أمور العقائد، فإن القرآن قد ذكر الحكمة التي كانت معروفة عند العرب، وكانت شرفًا لأهلها وجاهًا، وأثنى عليها وشجَّع على حياتها ونموها.

والقرآنُ إنَّما استعمل الحِكْمَة والحُكْم وما إليهما في معانيها اللغوية، أو في معانٍ ذات نسب واتصال بها شديد.

ويُفسِّر مالك الحكمةَ في كثير من آيات القرآن بالفقه في دين الله والعمل به، كما رواه ابن عبد البر في كتاب: «مختصر جامع بيان العلم وفضله».

ويقول الشافعي في كتاب «الرسالة» في أصول الفقه، بعد أن أورد آيات فيها ذكر الكتاب والحكمة ما نصه:

«قال الشافعي: فَذَكَرَ الله — عزَّ وجلَّ — الكتاب وهو القرآن: وذَكَر الحكمة فسمعتُ مَنْ أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: «الحكمة سُنَّة رسول الله ، قال الشافعي: وهذا يُشبه ما قاله، والله أعلم.» وقال الشافعي في «الرسالة» أيضًا: «وفيما كتبنا في كتابنا هذا من ذكر ما منَّ الله به على العباد من تعلُّم الكتاب والحكمة دليل على أن الحكمة سُنَّة رسول الله.»٥١
ويقول الطبري في تفسير آية: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ منْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا:٥٢ «ويعني بالحكمة ما أُوحي إلى رسول الله من أحكام دين الله ولم ينزل به قرآن، وذلك السنة.»

وفي كتاب «أصول الفقه» لفخر الإسلام البزدوي عند الكلام على «علم الفروع» وهو الفقه: «وقد دلَّ على هذا المعنى: (أي إنَّ العمل بالعلم مُعتبر في معنى الفقه) أنَّ الله — تعالى — سَمَّى علم الشريعة «حكمة»، فقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وقد فسر ابن عباس — رضي الله عنهما — الحكمة في القرآن بعلم الحلال والحرام، وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، أي: بالفقه والشريعة، والحكمة في اللغة هي العلم والعمل، فكذلك موضع اشتقاق هذا الاسم، وهو الفقه، دليل عليه: وهو العلم بصفة الإتقان مع اتِّصال العمل به، والموعظة الحسنة هي التي لا يخفى على مَن تعظه أنك تُناصحه وتقصد نفعه فيها، ووصف الموعظة بالحسنة دون الحكمة؛ لأنَّ الموعظة رُبَّما آلت إلى القبح، بأن وقعت في غير موضعها ووقتها.

قال ابن مسعود — رضي الله عنه: «كان النبي يتخوَّلنا٥٣ بالموعظة مخافة السآمة.» فأمَّا الحكمة فحسنة أينما وُجدت، إذ هي عبارة عن القول الصواب والفعل الصواب.»٥٤

وفي كتاب «المبسوط» لشمس الدين السَّرَخْسي»:

«وأما علم الفقه والشرائع فهو الخير الكثير، قال الله عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا. قال ابن عباس — رضي الله تعالى عنه: «الحكمة في معرفة الأحكام من الحلال والحرام.»»٥٥

وفي «شرح تنوير الأبصار في فقه الإمام الأعظم»:

«وقد مدحه الله تعالى بتسميته خيرًا بقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وقد فسَّر الحكمة زمرة أرباب التفسير بعلم الفروع الذي هو علم الفقه.»٥٦
وجُملة القول أن الحكمة في آية يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ،٥٧ هي الحكمة بمعناها اللغوي؛ أي العلم النافع والفقه في شئون الحياة بتعرُّف الحق فيها وإمضائه.

وفي تفسير الطبري لهذه الآية:

«يعني بذلك — جلَّ ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل مَنْ يشاء من عباده، ومَن يُؤْتَ الإصابة منهم في ذلك فقد أوتيَ خيرًا كثيرًا، وقد بَيَّنا فيما مضى معنى الحكمة وأنها مأخوذة من الحُكمْ وفصل القضاء، وأنها الإصابةُ بما دَلَّ على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع.»

وفي كتاب «العواصم من القواصم» لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي:

«الحكمة» وليس للحكمة معنًى إلا العلم، ولا للعلم معنًى إلا العقل، إلا أن في الحكمة إشارة إلى ثمرة العلم وفائدته، ولفظ العلم مُجرد عن دلالته على غير ذاته، وثمرة العلم العمل بموجِبِه والتصرُّف بحكمه، والجرْي على مقتضاه في جميع الأقوال والأفعال.٥٨

والنظر فيما ورد في القرآن والسنة من استعمال كلمة «الحكمة» يدل على أن المراد بها العلم الذي يتصل بالعمل. وفي حديث الصحيحين: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها.»

كان لهذه المعاني الدينية التي قرَّرها الإسلام منذ نشأته أثرها العظيم في توجيه النظر العقلي عند المسلمين في عهدهم الأول، فكرهوا البحث والجدل في أمور الدين.

قال ابنُ عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ﻫ/١٠٧٠-١٠٧١م في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»:

«ونهى السلف — رحمهم الله — عن الجدال في الله — جلَّ ثناؤه — في صفاته وأسمائه، وأمَّا الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنَّه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع إلى الأصول للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك؛ لأن الله — جلَّ وعزَّ — لا يوصف عند الجماعة — أهل السُّنَّة — إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ، أو أجمعت الأمة عليه، وليس كمثله شيء فيدرَكَ بقياس أو إنعام النظر، وقد نُهِينا عن التفكُّر في الله، وأُمِرنا بالتفكُّر في خلقه الدالِّ عليه، وعن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: «كان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدِّين أكرهه، ولم يَزَلْ أهل بلدنا يكرهونه وينهَوْن عنه، نحو الكلام في رأي جهم، والقَدَر وما أشبه ذلك، ولا أُحب الكلام إلا فيما تحته عمل.»٥٩
وقال أيضًا في الكتاب نفسه: «وقال أحمد بن حنبل: لا يُفلِح صاحب كلام أبدًا، ولا نكاد نرى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دَغَل، وقال مالِك: أرأيت إن جاءه مَن هو أجدل منه، أيَدَع دينه كل يوم لدين جديد؟ وقال ابن عبد البر أيضًا: «قال أبو عمر: تَنَاظَر القوم وتجادلوا في الفقه، ونُهوا عن الجدال في الاعتقاد؛ لأنَّه يؤدي إلى الانسلاخ من الدين، ألَا ترى مُناظرة بِشْر في قوله — عزَّ وجلَّ: مَا يَكُونُ منْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ، حين قال: هو بذاته في كل مكان، فقال له خصمه فهو في قلنسوتك وفي حُشِّك وفي جوف حمار، تعالى الله عمَّا يقولون، حكى ذلك وكيع — رحمه الله — وأنا والله أكره أن أحكي كلامهم قبَّحهم الله، فعن هذا وشبهه نَهَى العُلماء، وأمَّا الفقه فلا يوصل إليه، ولا يُنال أبدًا دون نظر وتفهُّم له.»٦٠

وفي كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة ٢٧٦ﻫ/٨٨٩-٨٩٠م بصدد الطعن على المختلفين في أصول الدين:

«قال أبو محمد: ولو كان اختلافهم في الفروع والسُّنن لاتَّسع العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم مع ما يدَّعونه لأنفسهم، كما اتَّسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسْوة بهم، ولكن اختلافهم في التوحيد وفي صفات الله — تعالى — وفي قدرته. وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح. وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبيٌّ إلا بوحي من الله تعالى.»٦١

ويقول ابن قتيبة نفسه في كتاب «الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمُشبِّهة»:

«وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في مُعادلة الصبر بالشكر. وفي تفضيل أحدهما على الآخر. وفي الوساوس والخطرات، ومجاهدة النفس وقمع الهوى، فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولُّد والطفرة والجُزْء والعرَض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، وقد تشعبت بهم الطرق، وقادهم الهوى بزمام الردى.»٦٢
وجاء في كتاب «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: «وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانًا، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم، لم يَسوموها تأويلًا، ولم يُحرِّفوها عن مواضعها تبديلًا، ولم يُبدو لشيء منها إبطالًا، ولا ضربوا لها أمثالًا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقَّوْها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرًا واحدًا، وأجرَوْها على سنن واحد، ولم يعملوا كما فعل أهل الأهواء والبِدَع، حيثُ جعلوها عِضين وأقرُّوا ببعضها، وأنكروا بعضها، من غير فرقان مبين، مع أنَّ اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقرُّوا به وأثبتوه.»٦٣

فالمسلمون في الصدر الأول كانوا يرون أن لا سبيل لتقرير العقائد إلا الوحي، أمَّا العقل؛ فمعزول عن الشرع وأنظاره كما يقول ابن خلدون في المقدمة. وفي كتاب «النبوات» لابن تيمية:

«فصل: قد ذكرنا في غير موضع أنَّ أصول الدين الذي بعث الله به رسوله محمدًا ، قد بيَّنها الله في القرآن أحسن بيان.»٦٤

وكانوا يرون أنَّ التناظر والتجادل في الاعتقاد يُؤَدِّي إلى الانسلاخ من الدين، من أجل ذلك كان المسلمون عند وفاة النبي على عقيدة واحدة إلا من كان يُبْطِنُ النِّفاق، ولم يَظهَر البحث والجدل في مسائل العقائد إلا في أيام الصحابة، حين ظهرت بِدَع وشُبَه اضطُرَّ المسلمون إلى مدافعتها.

وفي كتاب «التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية من فِرَق الهالكين» لأبي المظفر طاهر بن محمد الإسفراييني المُتوفى سنة ٤٧١ﻫ/١٠٧٨م:

«وظهر في أيام المُتأخرين من الصحابة خلاف القدرية، وكانوا يخوضون في القدر والاستطاعة كمَعْبَد الجُهَني، وغيلان الدمشقي، وجَعْد بن دِرْهم، وكان يُنكِر عليهم مَنْ كان قد بقي من الصحابة.»٦٥

ومن ثَمَّ تفرَّقت الفِرَق، ونشأ علم الكلام حجاجًا للمُبتدعة الحائدين عن طريق السلف والمُخالفين للدين، ونشأ على أنه ضرورة تُقدَّر بقدرها.

أمَّا النظر العقلي في المسائل الشرعية العملية؛ فقد نشأ في الإسلام مؤيدًا من الدين، وقد ورد في الكتاب والسُّنَّة الثناء على الحكمة والحكم والتنويه بفضلهما، فمهد ذلك لانتعاش النَّظر العقلي في الشئون العملية، وهو نوع من التفكير كانت العرب مُسْتَعِدَّة لنموه بينها على ما أشرنا إليه آنفًا، ووجدت الحاجة إلى هذا النظر في استنباط أحكام الوقائع المُتجدِّدة التي لم يكن من المُمكن أن تُحيط بها النصوص الشرعية.

قال ابن عبد البر في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: «وقال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله إلى يومنا هذا وهلمَّ جرًّا، استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم.»

وسنَّ الرسول لولاته في الأمصار أن يجتهدوا رأيهم حين لا يجدون نصًّا، وجاء في القرآن نفسه بأحكام كُلِّف بها المسلمون على أن يكون سبيلهم في طاعتها الاسترشاد بالعقل، كما في مسألة التوجُّه إلى القِبْلة للبعيد عن الكعبة، وقد فصَّل الشافعي، المتوفى سنة ٢٠٤ﻫ/٨١٩-٨٢٠م ذلك في «رسالته» فحدث الاجتهاد في التشريع الإسلامي منذ عهد الإسلام الأوَّل في كنف القرآن بترخيص من الرسول عليه السلام.

وقد روى ابن عبد البر في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: «عن معاذ أنَّ رسول الله ، لمَّا بعثه إلى اليمن قال له: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أَقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال فبسُنَّة رسول الله ، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال أجتهد رأيي لا آلُو، قال: فضرب بيدِه في صدري، وقال الحمد لله الذي وفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله.»

وروى ابن عبد البر أيضًا: عن ابن عمر، قال رسول الله ، يوم الأحزاب: «لا يصلي أحد العصر إلا في بني قُرَيْظة.» فأدركهم وقت العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي ولم يُرد منَّا ذلك، فذُكر ذلك للنبي ، فلم يعنِّف واحدة من الطائفتين، قال أبو عمر: هذه سبيل الاجتهاد على الأصول عند جماعة الفقهاء.٦٦

(٢-٣) الاجتهاد بالرأي هو بداية النظر العقلي

هذا الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعِيَّة هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين، وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب من الدين، ونشأت منه المذاهب الفقهية وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم «أصول الفقه»، ونبت في تربته التصوُّف أيضًا كما سنبيِّنه، وذلك من قبل أن تفعل الفلسفة اليونانية فعلها في توجيه النظر عند المسلمين إلى البحث فيما وراء الطبيعة والإلهيات على أنحاء خاصة.

والباحثُ في تاريخ الفلسفة الإسلامية يجبُ عليه أولًا أن يدرس الاجتهاد بالرأي منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نَسَقًا من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده.

يجبُ البدء بهذا البحث؛ لأنَّه بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين، والترتيب الطبيعي يقضي بتقديم السابق على اللاحق، ولأنَّ هذه النَّاحية أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثرًا بالعناصر الأجنبية، فهي تمثِّل لنا هذا التفكير مُخلصًا بسيطًا يكاد يكون مسيرًا في طريق النمو بقوته الذاتية وحدها، فيسهل بعد ذلك أن نتابع أطواره في ثنايا التاريخ، وأن نتقصَّى فعله وانفعاله فيما اتصل به من أفكار الأمم.

هوامش

(١) الآية: ٢٩، سورة ٦، الأنعام، مكية.
(٢) آية: ٢٤، سورة: ٤٥، الجاثية، مكية.
(٣) آية: ٧٨ و٧٩، سورة: ٣٦ يس، مكية.
(٤) آية: ٣ سورة: ٣٩، الزمر، مكية.
(٥) آية: ٥٧، سورة: ١٦، النحل، مكية.
(٦) آية: ١٩، سورة: ٤٣، الزخرف، مكية.
(٧) ج٤، ص٩٦.
(٨) آية: ١١٣، سورة: ٢، البقرة، مدنية.
(٩) آية: ٣٠، سورة: ٩، التوبة، مدنية.
(١٠) في كتاب «المفردات في غريب القرآن» للراغب الأصفهاني: «جبت: قال الله تعالى: يُؤْمنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ. الجبت والجبس الفسل الذي لا خير فيه، وقيل التاء بدل من السين تنبيهًا على مبالغته في الفسولة، كقول الشاعر: عمرو بن يربوع شرار النات؛ أي خسار الناس، ويُقال لكل ما عُبد من دون الله جبت، وسُمي الساحر والكاهن جبتًا. وفي الكتاب نفسه في مادة «طغى»: «والطاغوت عبارة عن كل متعدٍّ وكل معبود من دون الله، ويُستعمل في الواحد والجمع، قال: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ووَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ وأَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ويُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ، فعبارة عن كل متعد، ولما تقدم سمي الساحر والكاهن والمارد والجن، والصارف عن طريق الخير طاغوتًا، ووزنه فيما قيل فَعَلوت نحو جبروت وملكوت، وقيل أصله طغووت، ولكن قلب لام الفعل نحو صاعقة وصاقعة ثم قلب الواو ألفًا لتحركه وانفتاح ما قبله.
(١١) آية: ٥١، سورة: ٤ النساء، مدنية.
(١٢) «سيرة ابن هشام»، ج١.
(١٣) «طبقات الأمم»، طبعة بيروت، ص٤٥.
(١٤) في كتاب «بلوغ الأرب في أحوال العرب» للسيد محمد شكري الآلوسي: «كانت العرب في الجاهلية إذا تنازع الرجلان منهم في الشرف تنافروا إلى حكمائهم، وسنذكرهم إن شاء الله قريبًا، فيفضلون الأشرف، ونافر معناه حاكم في النسب، وسُميت منافرة لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة: أنا أعز نفرًا، وقد ألف أبو عُبَيْدة وغيره من الأئمة البارعين في اللغة كتبًا في منافرات العرب (ج١، ص٣١١-٣١٢)، وذكر الآلوسي من المنافرات الشهيرة التي وقعتْ بين العرب في الجاهلية: (١) منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة، وقد جعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية، ثم إلى أبي جهل بن هشام، فلم يقولا بينهما شيئًا، ثم رجعا إلى هرم بن قطبة بن سنان فحكم بينهما. (٢) منافرة بني فزارة وبني هلال، وقد تنافروا إلى أنس بن مدرك. (٣) منافرة جرير البجلي وخالد بن أرطأة الكلبي إلى الأقرع بن حابس. (٤) منافرة القعقاع بن زرارة وخالد بن مالك إلى أكثم بن صيفي. (٥) منافرة هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس إلى الكاهن الخزاعي.
(١٥) «دائرة المعارف الإسلامية»، بروكلمان، كلمة Arabie.
(١٦) «كنز الوصول» للبزدوي المتوفى سنة ٤٨٢ﻫ/١٠٨٩-١٠٩٠م مع شرحه «كشف الأسرار» لعبد العزيز البُخاري المتوفى سنة ٧٣٠ﻫ/١٣٢٩-١٣٣٠م.
(١٧) «دائرة المعارف الإسلامية»، لفظ حكيم.
(١٨) ج١، ص٣٣٨.
(١٩) النَّكْر والنَّكراء والنكراء، والنكر بالضم: الدهاء والفطنة «قاموس».
(٢٠) النورة: القَطِران، وانْتَار وانْتَوَر وتَنَوَّر: تطلَّى بالنورة.
(٢١) في كتاب «مجمع الأمثال» للميداني: «المعنى مَن يسمع أخبار الناس ومعايبهم يَقَع في نفسه عليهم المكروه» (ج٢، ص١٦٩).
(٢٢) ج١، ص٣٣٨-٣٣٩، وقد وردت هذه القصة في كتاب «مجمع الأمثال» للميداني المتوفى سنة ٥١٨ﻫ/١١٢٤م، ج٢، ص٢١٧.
(٢٣) في «مجمع أمثال العرب»: «… امرأة كانت في زمن لقمان بن عاد، وكان لها زوج يُقال له الشجي، وخليل يُقال له الخلي، فنزل لقمان بهم، فرأى هذه المرأة ذات يوم انتبذت من بيوت الحي، فارتاب لقمان بأمرها فتَبِعها، فرأى رجلًا عرض لها ومَضَيَا جميعًا وقَضَيَا حاجتهما، ثم إنَّ المرأة قالت للرجل: إني أتماوت فإذا أسندوني في رجمي فائْتِني ليلًا فأخْرِجْني، ثم اذهب إلى مكان لا يعرفنا أهله، فلما سمع لقمان ذلك قال: ويلٌ للشجيِّ من الخليِّ فأرسلها مثلًا» (ج١، ٢٦٩).
(٢٤) ج، ص٣٣٨، ٣٧٨.
(٢٥) ج٢، ص٢١٣–٢١٥.
(٢٦) آية: ٤٣، سورة: ٤١، فصلت، مكية.
(٢٧) آية: ١٣، سورة: ٤٢، الشورى، مكية.
(٢٨) آية: ٤٨، سورة: ٥، المائدة، مدنية.
(٢٩) عند تفسير هذه الآية في «تفسيره».
(٣٠) آية: ٩٠، سورة: ٦، الأنعام، مكية.
(٣١) آية: ٣، سورة: ٥ المائدة، مدنية.
(٣٢) ج٣، ص١٩٧-١٩٨.
(٣٣) ص٥، طبع الحسيني بك.
(٣٤) آية: ١٠٣، سورة: ٣، آل عمران، مدنية.
(٣٥) آية: ٦٤، سورة: ٣، آل عمران، مدنية.
(٣٦) آية: ١٣، سورة: ٤٢، الشورى، مكية.
(٣٧) آية: ١٠٥، سورة: ٣، آل عمران، مدنية.
(٣٨) آية: ١٥٩، سورة: ٦، الأنعام، مكية.
(٣٩) آية: ٤٦، سورة: ٨، الأنفال، مدنية.
(٤٠) آية: ٣، سورة: ٣٩، الزمر، مكية.
(٤١) آية: ٦٨-٦٩، سورة: ٢٢ الحج، مدنية.
(٤٢) آية: ١٦٤، سورة ٦ الأنعام، مكية.
(٤٣) الجدل: القوة والخصومة. وفي اصطلاح المنطقيين: قياس مؤلَّف من قضايا مشهورة أو مُسَلَّمة لإنتاج قول آخر، والجدلي قد يكون سائلًا وغاية سعيه إلزام الخصم وإقحام مَن هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان، وقد يكون مجيبًا وغرضه ألَّا يَصِير مطرح الإلزام («دستور العلماء»، ج١، ص٣٨٥).
(٤٤) آية: ١٤، سورة: ٥ المائدة، مدنية.
(٤٥) آية: ١٢٥، سورة: ١٦ النحل، مكية.
(٤٦) آية: ٥٣، سورة: ١٧ الإسراء، مكية.
(٤٧) آية: ٤٦، سورة: ٢٩ العنكبوت، مكية.
(٤٨) آية: ٢٠، سورة: ٣ آل عمران، مدنية.
(٤٩) آية: ١٣٩، سورة: ٢ البقرة، مدنية.
(٥٠) آية: ١٣٦، سورة: ٢ البقرة، مدنية.
(٥١) ص٧، طبع الحسيني بك.
(٥٢) آية: ٣٤، سورة: ٣٣ الأحزاب، مدنية.
(٥٣) يتخوَّلنا: قال ابن الأثير: قال أبو عمرو: الصواب يتحولنا بالحاء غير معجمة؛ أي يطلب الحال التي ينشطون فيها للموعظة فيعظهم فيها ولا يكثر عليهم فيمَلُّوا («لسان» مادة حول وخول)، والسياق يؤيده.
(٥٤) ج١، ص١٣، طبع دار السعادة سنة ١٣٠٨.
(٥٥) ج١، ص٢.
(٥٦) ج، ص٢٨-٢٩.
(٥٧) آية: ٢٦٩، سورة: ٢ البقرة، مدنية.
(٥٨) ج١، ص٢٠٥–٦٠٥، طبع المطبعة الجزائرية الإسلامية سنة ١٣٤٦ﻫ/١٩٢٧م.
(٥٩) ص١٥٣.
(٦٠) ص١٥٦–١٥٨.
(٦١) «تأويل مختلف الحديث»، مطبعة كردستان العلمية، القاهرة سنة ١٣٢٦، ص١٧.
(٦٢) ص٩، من طبع مطبعة السعادة، القاهرة سنة ١٣٤٩ﻫ.
(٦٣) ج١، ص٥٥.
(٦٤) ص١٤٥.
(٦٥) من نُسخة خطية بمكتبة الأزهر، رقم ٤٨ توحيد.
(٦٦) ص١٣٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤