الفصل الثالث

الرأي وأطواره

ذكرنا في الفصل السابق مذاهب الباحثين في تاريخ الفقه الإسلامي ومصادره في أدواره المُختلفة تمهيدًا لدرس نشوء الرأي في الإسلام وأطواره.

ونُريد بالرَّأي في هذا الموضع معناه اللغوي أو ما يقرب من معناه اللغوي؛ ففي «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير» لأحمد بن محمد بن علي المَقَّرِي الفيومي المتوفى سنة ٧٧٠ﻫ/١٣٦٨م:

«الرأي في اللغة العقل والتدبير، ورجل ذو رأي أي بصيرة وحذق بالأمور، وجمع الرأي: آراء.» وفي «النهاية في غريب الحديث والأثر» لمحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الملقَّب بابن الأثير الجَزَري المُتوفى سنة ٦٠٦ﻫ/١٣٠٩م: وفي حديث عمر وذكر المتعة: «ارتأى امرؤ بعد ذلك ما شاء أن يرى»؛ أي فَكَّر وتأنَّى، وهو افتعل من رؤية القلب أو من الرأي، ومنه حديث الأزرق بن قيس: وفينا رجلٌ له رأي، يُقال فلان من أهل الرَّأي؛ أي يرى رأي الخوارج ويقول بمذهبهم، وهو المراد ها هنا، والمحدِّثون يسمون أصحاب القياس أصحاب الرأي، يعنون أنَّهم يأخذون برأيهم فيما يُشكل من الحديث أو ما لم يأتِ فيه حديث ولا أثر.»

وفي «المغرب في ترتيب المعرب» لأبي الفتح المطرزي المُتوفى سنة ٦١٠ﻫ/١٣١٣م «والرَّأي ما ارتآه الإنسان واعتقده، ومنه ربيعة الرأي — المتوفى سنة ١٣٦ﻫ/٧٥٣-٧٥٤م على الصحيح — بالإضافة، فقيه أهل المدينة، وكذلك هلال الرَّأي بن يحيى البصري المُتوفى سنة ٢٤٥ﻫ/٨٥٩-٨٦٠م.»

وقد بيَّن ابن قيِّم الجوزية معنى الرَّأي المُراد بيانًا واضحًا، مُعتمدًا على أصله اللغوي، فقال في كتاب «إعلام الموقعين عن رب العالمين»:١ «والرَّأي، في الأصل، مصدرُ رأى الشيء، يراه، رأيًا. ثم غلب استعماله على المرئِيِّ نفسه، من باب استعمال المصدر في المفعول كالهوى في الأصل مصدر هَويَه يَهواه، هوًى. ثم استُعمل في الشيء الذي يُهوَى — يُقال: هذا هوى فلان.
والعرب تُفرِّق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالِّها، فتقول: رأي كذا في النوم رُؤيا، ورآه في اليقظة رؤية، ورأى كذا، لمَا يُعلم بالقلب ولا يُرى بالعين، رأيًا، ولكنهم خصُّوه بما يراه القلب بعد فِكْر وتأمُّل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تعارض فيه الأمارات، فلا يُقال لمَن رأى بقلبه أمرًا غائبًا عنه مما يحس به إنه رأيه، ولا يقال أيضًا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الأمارات إنه رأى وإن احتاج إلى فكر وتأمُّل كدقائق الحساب ونحوها.»٢ وفي «إرشاد الفحول» للشوكاني:٣ «واجتهاد الرأي كما يكون باستخراج الدليل من الكتاب والسنَّة يكون بالتمسُّك بالبراءة الأصلية أو بأصالة الإباحة في الأشياء أو الحظر على اختلاف الأقوال في ذلك، أو التمسُّك بالمصالح، أو التمسك بالاحتياط.»٤

(١) القياس

والرأي بهذا المعنى مُرادف للقياس بالمعنى العام، قال الشوكاني في كتاب «إرشاد الفحول» في بيان معنى القياس:

«والقياس هو في اللغة تقدير شيء على مثال شيء آخر وتسويته به، وقيل هو مصدر قِسْتُ الشيء إذا اعتبرتُه أَقِيسه قَيْسَا وقِيَاسًا، ومنه قَيْس الرأي، وسُمِّي امرؤ القَيْس لاعتباره الأمور برأيه، وله في الاصطلاح معانٍ؛ منها بَذْل الجهد في طلب الحق.»٥

(٢) الاجتهاد

والاجتهاد مرادف للقياس فهو مرادف للرأي أيضًا، يقول الشافعي في «الرسالة»:

«قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد، أم هما مفترقان؟ قلتُ: هما اسمان لمعنًى واحد.»٦

وقد شرح أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي المُلقَّب بسيف الدين الآمدي المُتوفى سنة ٦٣١ﻫ/١٢٣٣-١٢٣٤م في كتاب: «الإحكام»، معنى الاجتهاد فقال:

«أمَّا الاجتهاد فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوُسْع في تحقيق أمر من الأمور مُستلزم للكلفة والمشقة؛ ولهذا لا يُقال: اجتهد فلان في حمل خردلة، وأمَّا في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يُحَسُّ من النفس العجز عن المزيد فيه.»٧

فالرأي الذي نتحدَّث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط الأحكام الشرعية وهو مُرادنا بالقياس والاجتهاد، وهو أيضًا مُرادف للاستحسان والاستنباط، قال ابن حزم في كتاب «الإحكام»:

«الباب الخامس والثلاثون، في الاستحسان والاستنباط وفي الرأي وإبطال كل ذلك. قال أبو محمد، رحمه الله: إنما جمعنا هذا كله في باب واحد لأنها كلها ألفاظ واقعة على معنًى واحد، لا فَرْقَ بين شيء من المُراد بها، وإن اختلفت الألفاظ، وهو الحُكم بما رآه الحاكم أصلحَ في العَاقبة وفي الحل، وهذا هو الاستحسان لما رأى برأيه من ذلك، وهو استخراج ذلك الحكم الذي رآه.»٨

ودرْس نُشوء الرَّأي وأطواره يستدعى الإلمام به في عهد الإسلام الأول؛ أي في حياة النبي ثم تتبُّع ما مرَّ به من الأدوار بعد ذلك.

(٣) الرأي في عهد النبي

الرأي في عهد النبي يشتمل على وجهين؛ أحدهما: تشريع النبي نفسه بالرأي من غير وحي. والثاني: اجتهاد الصحابة في زمن النبي واستنباطهم برأيهم أحكامًا ليست بعينها في الكتاب ولا في السُّنَّة.

(٣-١) اجتهاد النبي

أَمَّا جواز الاجتهاد من النبي فيما لا وحي فيه ووقوعه، فقد استدلوا عليه بأدِلَّة كثيرة، نُورِدُ منها ما يأتي نقلًا عن كتاب «الإحكام» للآمدي: «قال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ،٩ والمُشاورة إنما تكون فيما يُحكَم فيه بطريق الاجتهاد، لا فيما يُحكَم فيه بطريق الوحي.
وروى الشعبي١٠ أنَّه كان رسول الله ، يقضي القضية وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به، فيترك ما قضى به على حاله ويستقبل ما نزل به القرآن. والحكم بغير القرآن لا يكون إلا باجتهاد،١١ وروي عن النَّبي أيضًا أنه قال في مكة: «لا يُخْتَلى خلاها ولا يُعضَد شجرها»، فقال العباس: إلا الإذخر. فقال : «إلا الإذخر.»١٢
ومعلوم أنَّ الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة فكان الاستثناء بالاجتهاد، وأيضًا ما روي عنه أنَّه قال: «العلماء ورثة الأنبياء.» وذلك يدلُّ على أنه كان متعبَّدًا بالاجتهاد، وإلا لَمَا كان علماء أمَّتِه وارثة لذلك عنه، وهو خلاف الخبر.»١٣

«وممَّا احتُجَّ به على وقوع الاجتهاد من النَّبي ما روي عنه أنه لمَّا سألتْه الجارية الخثْعَميَّة وقالت: يا رسول الله، إنَّ أبي أدركتْه فريضة الحج شيخًا زمنًا لا يستطيع أن يحج، إنْ حججتُ عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: «أرأيتِ لو كان على أبيك دَيْن فقضيتِهِ أكان ينفعه ذلك؟» قالت: نعم، قال: «فدَينُ الله أحق بالقضاء.» ووجه الاحتجاج به أنَّه ألْحَق دَين الله بدَين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه، وهو عين القياس …

وأيضًا ما روي عنه أنَّه قال لأُم سلمة وقد سُئلت عن قُبلة الصائم: «هلا أخبرتِهِ أني أُقبِّل وأنا صائم؟» وإنما ذكر ذلك تنبيهًا على قياس غيره عليه، وأيضًا ما رُوي عنه أنَّه علَّل كثيرًا من الأحكام، والتعليل موجبٌ لاتباع العِلَّة أينما كانت، وذلك هو نفس القياس؛ ومن ذلك قوله : «كنتُ نهيتُكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي لأجْل الدَّافَّة١٤ فادخروها»، وقوله: «كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور، ألَا فزوروها؛ فإنَّها تُذكِّركم بالآخرة»، ومنها قوله لمَّا سُئِلَ عن بيع الرُّطب بالتمر: «أينقص الرطب إذا يبس؟» فقالوا: نعم، قال: «فلا، إذَنْ»، ومنها قوله في حق مُحْرِم وَقصَت١٥ به ناقته: «لا تُخَمِّروا رأسه ولا تقرِّبوه طيبًا فإنه يُحشَر يوم القيامة مُلَبِّيًا»، ومنها قوله في حق شهداء أُحُد: «زَمِّلوهم١٦ بكُلُومهم ودمائهم؛ فإنهم يُحشرون يوم القيامة وأوداجهم١٧ تشخب١٨ دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك»، ومنها قوله في الهرة: «إنها ليست بنجسة؛ إنها من الطَّوَّافين عليكم والطوافات»، وقوله: «إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل؛ فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتتْ يده»، وقوله في الصيد: «فإنْ وَقَعَ في الماء فلا تأكل منه؛ لعلَّ الماء أعَانَ على قتْلِه»، وأيضًا قوله: «أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي»، والرأي إنما هو تشبيه شيء بشيء، وذلك هو القياس، إلى غير ذلك من الأخبار المُختَلِف لفظها، المُتَّحِد معناها، النازِل جملتها منزلة التواتر، وإن كان آحادها آحادًا.»١٩
واستُدلَّ أيضًا على وقوع القياس من النَّبي ، بما يأتي: قوله لرجل سأله حين قال: «في بُضْع أحدكم صدقة»، فقال: «أيقضي أحدُنا شهوته ويُؤجَر عليها؟» فقال: «أرأيتَ لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟» فقال: نعم، قال: «فذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر»، وقال لمَن أنكر ولدَه الذي جاءت به امرأته أسود: «هل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «فما ألوانها؟» قال: حُمْر. قال: «فهل فيها من أوْرَق؟» — لونه كلون الرماد — قال: نعم، قال: «فمن أين؟» قال: «لعلَّه نَزَعه عِرق»،٢٠ فقال: «وهذا لعله نزعه عرق»، وقال لعمر، وقد قبَّل امرأته وهو صائم: «أرأيتَ لو تمضمضتَ بماء؟» وقال: «يَحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.» وهذه الأحاديث ثابتة في دواوين الإسلام، وقد وقع منه قياسات كثيرة، حتى صنَّف الناصح الحنبلي جزءًا في أقيِسته.٢١
ويقول الشوكاني ما يدلُّ على أنَّه لا نزاع في حجية القياس الصادر منه ونص كلامه: «وكذلك اتفقوا على حجية القياس الصادر منه — ٢٢

ومما يدخل في هذا الباب ما جاء في كتاب «مرآة الجنان وعبرة اليقظان» للإمام عبد الله بن أسعد بن علي بن سُليمان اليافعي اليمني المكي المُتوفى سنة ٧٦٨ﻫ/١٣٦٧م: «قُتَيْلة بضم القاف وفتح المثناة من فوق وتسكين المثناة من تحت، ابنةُ النضر بن الحارث التي أنشدتْ عَقِب وقْعة بدر الأبيات التي من جملتها:

«ظلت سيوف بني أبيه تنوشُه … إلخ.»

فقال : «لو سمعتُ شعرها قبل أن أقتله لمَا قتلتُه.» قلت: وهذا مما احتج به للقول الصحيح أنَّ النبي ، كان له أن يجتهد في الأحكام.»٢٣
«والمختار جوازُ الخطأ على النبي في اجتهاده، لكن بشرط ألَّا يُقرَّ عليه، ودليل ذلك من الكتاب قوله تعالى: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ.٢٤
وذلك يدلُّ على خطئه في إذنه لهم، وقوله — تعالى — في المفاداة في يوم بدر: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله: لَوْلَا كِتَابٌ من اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ حتى قال النبي : «لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه إلا عمر»؛ لأنه كان قد أشار بقتْلهم ونَهَى عن المفاداة، وذلك دليل على خطئه في المفاداة.٢٥
وأمَّا السنة فما روي عن النَّبي أنه قال: «إنَّما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إليَّ، ولعل أحدكم ألحن بحجته من بعض، فمَن قضيتُ له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار.» وذلك يدلُّ على أنَّه قد يقضي بما لا يكون حقًّا في نفس الأمر.»٢٦
ومما يتصل بهذا المقام ويُوَضِّحه ما ذكره ابن قيم الجوزية في كتاب «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»، حيثُ يقول: «فإن الله — سبحانه — أرسل رسله وأنزل كُتُبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل، الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثَمَّ شرع الله ودينه … بل قد بيَّن الله — سبحانه — بما شرعه من الطرق أنَّ مَقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام النَّاس بالقسط، فأي طريق استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، ليست مُخالِفة له، فلا يُقال إنَّ السياسة العادلة مُخالِفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحنُ نُسَمِّيها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإِنَّما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات؛ فقد حبس رسول الله، ، في تهمة وعاقب في تهمة لمَّا ظهرت أمارات الريبة على المتهم … وقد منع النبي ، الغالَّ من الغنيمة سهمَه وحرَّق متاعه هو وخلفاؤه من بعده، ومنع القاتل من السَّلَب لمَّا أساء شافعه على أمير السرية، فعاقب المشفوع له عقوبة للشفيع، وعزم على تحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة، وأضعف الغُرْم على سارق ما لا قطع فيه، وشرع فيه جلدات نكالًا وتأديبًا، وأضعف الغرم على كاتم الضالة عن صاحبها، وقال في تارك الزَّكاة: «إنَّا آخذوها منه وشطر ماله عزمة (أي: فريضة) من عزمات ربنا»، وأمَرَ بكسْر دِنان الخمر، وأمر بكسر القدور التي طُبخ فيها اللحم الحرام.»٢٧

(٣-٢) اجتهاد الصحابة في عصر النبي في حضرته وفي غيبته

أمَّا وقوع الاجتهاد من الصَّحابة في عصر النبي في حضرته فيدل عليه قول أبي بكر — رضي الله عنه — في حق أبي قتادة، حيثُ قتل رجلًا من المشركين فأخذ سلبَه٢٨ غيرُه: «لا نقصد إلى أسد من أُسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه.» فقال النبي : «صدق وصدَّق في فتواه.»٢٩ ولم يكن قال ذلك بغير الرأي والاجتهاد، وأيضًا ما رُوي عن النبي، ، أنَّه حكَّم سعد بن معاذ في بني قُرَيظة، فحكم بقتلهم وسبْي ذراريهم بالرأي، فقال : «لقد حكمتَ بحكم الله من فوق سبعة أرقعة»،٣٠ وأيضًا ما روي عنه أنه أمر عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر الجهني أن يحكما بين خصمين، وقال لهما: «إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة.»٣١

ويَدُلُّ على جواز الاجتهاد من الصحابة في غيبة النَّبي ، في حياته ما رُوي عن النَّبي أنه قال لمُعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيًا: «بِمَ تحكم؟» قال: بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد؟» قال: فبسُنَّة رسولِ الله، قال: «فإن لم تجد؟» قال: أجتهد رأيي. والنبي أقرَّه على ذلك، وقال: «الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يحبه الله ورسوله.»

وأيضًا ما رُوي عنه، أنَّه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري، وقد أنفذهما إلى اليَمَن: «بِمَ تقضيان؟» فقالا: إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا في السنة قِسْنَا الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به — صرَّحوا بالعمل بالقياس، والنَّبي أقرَّهما عليه فكان حجة — وأيضًا ما رُوي عنه أنه قال لابن مسعود: «اقضِ بالكتاب والسنة إذا وجدتَهما، فإذا لم تجد الحكم فيهما اجتهد برأيك.»٣٢

وقد جمع ابن حزم حُجَج القائلين بالرأي، قال في كتاب «الإحكام»: «وأمَّا الرأي؛ فإنهم احتجوا في تصويب القول به، بقول الله عزَّ وجل: «وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على اللهِ»، وبقوله تعالى: «وأمرهم شورى بينهم».

ومن الحديث بالأثر الصحيح في مُشاورة النبي المسلمين فيما يعملون لوقت الصلاة قبل نزول الأذان، فقال بعضهم: نار، وقال بعضهم: بوق، وقال بعضهم: ناقوس، وبما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس، ثنا أبو داود، عن الزهري، وذكر حديث مشاورة النبي أصحابه في القتال يوم الحديبية، قال الزهري: فكان أبو هريرة يقول: ما رأيتُ أحدًا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله

حدثنا المهلب، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن حسين، قال: سُئِلَ رسول الله عن الحزم، فقال: تستشير الرجل ذا الرأي ثم تمضي إلى ما أمرك به، وبه إلى ابن وهب، عن عيسى الواسطي يرفعه، قال: ما شَقِيَ عبدٌ بمشورة ولا سَعِد عبدٌ استغنَى برأيه.

حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه قال: «جاء خصمان إلى رسول الله قال لي: «يا عمرو، اقض بينهما.» قلت: أنت أوْلى مني بذلك يا نبي الله، قال: «وإن كان»، قلتُ: على ماذا أقضي؟ قال: «إن أصبتَ القضاء بينهما فلك عشر حسنات، وإن اجتهدتَ فأخطأتَ فلك حسنة.»

قال سعيد بن منصور: وحدثنا فرج بن فضالة عن رَبيعَة بن يزيد، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله ، مثله، إلا أنه قال: «إن أصبتَ فلك عشرة أجور، وإن أخطأتَ فلك أجر واحد.» عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ أنَّ رسول الله، ، لمَّا أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله عزَّ وجلَّ. قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: فبسُنَّة رسول الله . قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسول الله.»

كتب إليَّ يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، عن علي بن أبي طالب، قال: قلتُ: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم يمضِ فيه منك سنة؟ قال: «اجمعوا له العالمين — أو قال: العابدين — من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد.»

حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثني ابن غنم أنَّ رسول الله، ، لمَّا خرج إلى بني قُرَيْظَة والنضير، قال له أبو بكر وعمر: «يا رسول الله، إنَّ الناس يزيدهم حرصًا على الإسلام أن يَرَوْا عليك زيًّا حسنًا من الدنيا، فانظر إلى الحلة التي أهداها لك سعد بن عبادة فالْبَسها فليَرَكَ اليوم المشركون أنَّ عليك زيًّا حسنًا.» قال: «أفعل وايمُ الله، لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتُكما في مشورة أبدًا، ولقد ضرب لي ربي لكما مثلًا، فأمثالكما في الملائكة كمثل جبريل وميكائيل، فأمَّا ابن الخطاب فمَثَله في الملائكة كمَثَل جبريل، إنَّ الله لم يدمر أمة قط إلا بجبريل، ومَثَله في الأنبياء كمثل نُوح إذ قال: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ من الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ومثل ابن أبي قُحافة في الملائكة كمثل ميكائيل؛ إذ يستغفر لمَن في الأرض، ومَثَله في الأنبياء كمثل إبراهيم، إذ قال: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا من النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ منِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ولو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتُكما في مشاورة أبدًا، ولكن شأنكما في المشاورة شيء كمَثَل جبريل وميكائيل ونوح وإبراهيم».»٣٣

وقد ذكر ابن حزم هذه الأدلة بيانًا لحجة القائلين بالرأي، ثم كرَّ عليها يُنازع في دلالتها؛ ولذلك قال بعد ما ذكر:

«قال أبو محمد: هذا كل ما موَّهوا به، ما نعلم لهم شيئًا غيره، وكله لا حجة لهم في شيء منه.»٣٤

(٣-٣) أصول التشريع في عهد النبي

ويتبيَّن مِمَّا ذُكِر أنه كان في العصر الذي عاش فيه النبي ، أصل للتشريع هو الرأي. قال المُزَنِي: «الفقهاء من عصر رسول الله إلى يومنا وهلُمَّ جرًّا، استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم»،٣٥ وذلك إلى جانب الكتاب والسنة.

أمَّا الكتاب فهو القرآن، وهو الكلام المُنَزَّل على الرَّسول، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلًا متواترًا، وأمَّا السنة في اصطلاح أهل الشرع، عند الكلام على الأدلة الشرعية، فهي ما صدر عن النَّبي غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير، والحديث هو قول الرسول وحكاية فعله وتقريره.

وقيل الحديث خاص بقول الرَّسول دون رواية ما يدل على فعله أو تقريره، وقد يُطلق الحديث على ما يشمل قول الصحابة والتابعين والمروي من آثارهم. وفي كتاب «مناقب الإمام الشافعي» لفخر الدين الرازي:

«إنَّ الحديث عبارة عن القرآن وعن خبر الرسول، وقد ساق الأدلة على أنَّ لفظ الحديث متناوِل للقرآن تارة والخبر أخرى.»٣٦

قال الدهلوي في «حجة الله البالغة»، مُبَيِّنًا طريقة تشريع النبي بسنته في بساطة ويُسر أيام حياته:

«اعلم أنَّ رَسُول الله لم يكن الفقه في زمانه الشريف مدوَّنًا، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذٍ مثل البحث من هؤلاء الفقهاء، حيث يبيِّنون بأقصى جهدهم الأركان والشروط وآداب كل شيء ممتازًا عن الآخَر بدليله، ويفرضون الصور، يتكلمون على تلك الصور المفروضة، ويحدُّون ما يَقبَل الحدَّ، ويحصرون ما يقبل الحصر، إلى غير ذلك من صنائعهم، أمَّا رسول الله فكان يتوضَّأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن يُبيِّن أن هذا ركن وذلك أدب، وكان يُصَلِّي فيَرَوْن صلاته فيُصلُّون كما رأَوْه يُصلي، وحجَّ فرَمَقَ الناس حجَّه ففعلوا كما فعل؛ فهذا كان غالب حاله ولم يُبيِّن أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة والفساد إلا ما شاء الله، وقلَّمَا كانوا يسألونه عن هذه الأشياء.

عن ابن عباس — رضي الله عنهما — قال: ما رأيتُ قومًا كانوا خيرًا من أصحاب رسول الله ما سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض، كلُّهن في القرآن، منهن: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ،٣٧وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ.٣٨ قال: ما كانوا يسألون إلا عمَّا ينفعهم، وقال ابن عمر: لا تسأل عمَّا لم يكن، فإني سمعتُ عمر بن الخطاب يلعن مَن سأل عمَّا لم يكن.

قال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما أدري ما هي، ولو علمناها ما حلَّ لنا أن نكتمها.

عن عمر بن إسحاق، قال: لَمَنْ أدركتُ من أصحاب رسول الله أكثر ممَّن سبقني منهم، فما رأيتُ قومًا أيسر سيرة ولا أقلَّ تشديدًا منهم، وعن عبادة بن يسر الكندي، وسُئِلَ عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: أدركتُ قومًا ما كانوا يشددون تشديدكم ولا يسألون مسائلكم (أخرج هذه الآثار الدارمي).»٣٩
وكان يستفتيه النَّاس في الوقائع فيُفتيهم، وتُرفع إليه القضايا فيقضي فيها، ويرى الناسَ يفعلون معروفًا فيمدحه، أو مُنكَرًا فيُنكِر عليه، وكل ما أفتى به مُستفتيًا أو قضى به في قضية أو أنكره على فاعله كان في الاجتماعات.٤٠

(٣-٤) الاختلاف في الرأي في ذلك العهد

ولم يكن للخلاف الذي ينشأ حتمًا عن الاجتهاد بالرأي أثر ظاهر في التشريع لذلك العهد، وهو تشريع — كما رأينا — بسيط، لجماعة تأخذ باليسر في أمرها والبساطة، كان النبي غير بعيد من القوم، يفصل بينهم فيما هم فيه مختلفون من أمر الأحكام.

قال ابن حزم: «وقد كان الصحابة يقولون بآرائهم في عصره فيبلغه ذلك، فيصوِّب المُصيب، ويُخطِّئ المخطئ.»٤١
وكان ينهاهم عن التفرُّق والتنازع في الدين اتِّباعًا لما جاء به القرآن، من مثل قوله تعالى: وَلَوْ كَانَ منْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا،٤٢ وقوله: ،٤٣ وقوله: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ،٤٤ وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ منْهُمْ فِي شَيْءٍ،٤٥ وقوله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا.٤٦ روي أنَّه نهى الصحابة لمَّا رآهم يتكلَّمون في مسألة القدر، وقال: إنما هلك مَن قبلكم لخوضهم في هذا، وقال : عليكم بدين العجائز، وهو ترك النظر، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة الخوض والنظر في المسائل الكلامية مطلقًا، ولو وُجد ذلك منهم لنُقل كما نُقل عنهم النظر في المسائل الفقهية.٤٧
وكان التنازع والاختلاف — حتى فيما عدا المسائل الكلامية — أشدَّ شيء على رسول الله وكان إذا رأى من الصحابة اختلافًا يسيرًا في فهم النصوص يظهر في وجهه، حتى كأنما فُقئ فيه حب الرمان، ويقول: أبهذا أُمرتم؟٤٨
ويقول ابن حزم: «قال أبو محمد: وقد ذمَّ الله — تعالى — الاختلاف في غير ما موضع في كتابه؛ قال الله عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ،٤٩ وقال تعالى: فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ منْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الْحَقِّ بِإِذْنِهِ،٥٠ وقال تعالى مفترضًا للاتفاق، وموجبًا رفض الاختلاف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا … الآية، إلى قوله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ،٥١ وقال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا منْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.٥٢ فصحَّ أنه لا هُدى في الدين إلا ببيان الله — تعالى — لآياته، وأنَّ التفرق في الدِّين حرام لا يجوز، وقال تعالى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ،٥٣ وقال تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ،٥٤ وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ،٥٥ وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ منْهُمْ فِي شَيْءٍ،٥٦ وقال تعالى: وَلَوْ كَانَ منْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.٥٧

حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، نا حماد بن زيد، ثنا أبو عمران الجوني، قال: كتب إليَّ عبد الله بن رباح الأنصاري، أنَّ عبد الله بن عمرو، قال: هجَّرتُ إلى رسول الله يومًا، فسَمِع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله ، يُعرَف في وجهه الغضب فقال: «إنَّما هلك مَن كان قبلكم باختلافهم في الكتاب.»

حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، ثنا أبو إسحاق البلخي، ثنا الفهري، ثنا البخاري، ثنا أبو الوليد هو الطيالسي، ثنا شعبة، أخبرني عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النَّزَّال بن سَبْرة، قال: سمعتُ عبد الله بن مسعود، قال: سمعتُ رجلًا قرأ آية سمعتُ من رسول الله خلافَها فأخذتُ بيَدِه فأتيتُ به رسول الله ، فقال: «كلاكما محسن.» قال شعبة: أظنه قال: «لا تختلفوا، فإن مَن قبلكم اختلفوا فهلكوا.»

حدثنا محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخُشَني، ثنا بُندار، ثنا غُندَر، ثنا شعبة، عن عبد الله بن ميسرة عن النَّزَّال عن ابن مسعود عن النبي بهذا الحديث، وذكر شعبة في آخره، قال: حدثني مِسعَر عنه يرفعه إلى ابن مسعود عن رسول الله قال: «لا تختلفوا.»

حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة، ثنا عن محمد بن زياد، سمع أبا هريرة عن النبي قال: «ذروني ما تركتُكم؛ فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم.» وبه إلى مسلم، ثنا يحيى بن يحيى، وإسحاق بن منصور، وأحمد بن سعيد بن صخر الدارمي، قال يحيى: أنا أبو قُدامة الحارث بن عبيد، وقال إسحاق: ثنا عبد الصمد، وهو ابن عبد الوارث التنوري، ثنا همام، وقال أحمد ثنا حبان، ثنا أبان، قالوا كلهم ثنا أبو عمران الجوني عند جندب بن عبد الله البَلْخي عن النبي أنه قال: «اقرءوا القرآن ما ائتلفتْ عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا.» وبه إلى مسلم، حدثني زهير بن حرب، ثنا جرير، عن سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «إن الله — تعالى — يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.»

قال أبو محمد: ففي بعض ما ذكرنا كفاية؛ لأنَّ الله — تعالى — نص على أنَّ الاختلاف شقاق وأنه بَغيٌ، ونهى عن التنازع والتفرُّق في الدين، وأوعد على الاختلاف بالعذاب العظيم وبذهاب الريح، وأخبر أن الاختلاف تفرقٌ عن سبيل الله، ومَن عاج عن سبيل الله فقد وقع في سبيل الشيطان.»٥٨

(٣-٥) نظرة إجمالية

وجملة القول أن التشريع في عهد النبي كان يقوم على الوحي من الكتاب والسُّنة، وعلى الرأي من النبي ومن أهل النظر، والاجتهاد من أصحابه بدون تدقيق في تحديد معنى الرأي، وتفصيل وجوهه، وبدون تنازع ولا شقاق بينهم.

فرأى كل صحابي ما يسَّره الله له من عبادته (أي النبي) وفتاواه وأقضيته، فحفظها وعقلها، وعرف لكل شيء وجهًا من قِبَل حفوف القرائن به. فحمل بعضها على الإباحة، وبعضها على النَّسْخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده، ولم يكن العمدة عندهم إلا وجدان الاطمئنان والثلج٥٩ من غير الْتِفات إلى طريق الاستدلال، كما نرى الأعراب يفهمون مقصود الكلام فيما بينهم، وتثلج صدورهم بالتصريح والتلويح والإيماء من حيث لا يشعرون.٦٠

وفي نُسخة خطية بدار الكتب الأهلية بباريس من كتاب «طبقات الفقهاء» للشيخ أبي إسحاق إبراهيم الفيروزآبادي الشيرازي:

«ذِكْر فقهاء الصحابة رضي الله عنهم: اعلم أنَّ أكثر أصحاب رسول الله الذين صحبوه ولازَموه كانوا فقهاء؛ وذلك أنَّ طريق الفقه في حق الصحابة، خطاب الله عزَّ وجلَّ، وخطاب رسوله ، وما عقل منها، فخطاب الله — عزَّ وجلَّ — هو القرآن، وقد أُنزل ذلك بلغتهم على أسباب عرفوها، وقصص كانوا فيها، فعرفوها مسطورة ومفهومة ومنطوقة ومعقولة؛ ولهذا قال أبو عبيدة في كتاب «المجاز»: لم ينقل أنَّ أحدًا في الصحابة رجع في معرفة شيء من القرآن إلى رسول الله ، وخطاب رسول الله أيضًا بلغتهم، يعرفون معناه ويفهمون منطوقه وفحواه، وأفعاله هي التي فعلها من العبادات والمُعاملات والسِّيَر والسياسات، وقد شاهدوا ذلك كله وعرفوه، وتَكَرَّر عليهم وتحرَّوْه؛ ولهذا قال : «أصحابي كالنُّجوم، فبأيِّهم اقتديتم اهتديتم.» ولأنَّ مَن نظر فيما تعلَّموه عن رسول الله من أقواله، وتأمَّل ما وصفوه من أفعاله في العبادات وغيرها، اضطر إلى العلم بفقههم وفضلهم، غير أنَّ الذي اشتُهر منهم بالفتاوى والأحكام، وتكلم في الحلال والحرام جماعة مخصوصة … إلخ.»

(أ) المُفتون من الصحابة في عهد النبي

«وكان يُفتي في زمن النبي من الصَّحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبدالرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وأُبَيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وعمَّار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، وسلمان الفارسي، رضي الله عنهم.»٦١

ويقول ابن حزم: «المُكثِرون من الصحابة — رضي الله عنهم — فيما رُوي عنهم من الفتيا، عائشة أم المؤمنين، عمر بن الخطاب، ابنه عبد الله، علي بن أبي طالب، عبد الله بن العباس، عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، فهم سبعة يُمكن أن يُجمع من فتيا كل واحد منهم سِفْرٌ ضخم، وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين فتيا عبد الله بن العباس في عشرين كتابًا، وأبو بكر المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.

والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا، رضي الله عنهم: أم سلمة أم المؤمنين، أنس بن مالك، أبو سعيد الخدري، أبو هريرة، عثمان بن عفان، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن الزبير، أبو موسى الأشعري، سعد بن أبي وقاص، سلمان الفارسي، جابر بن عبد الله، معاذ بن جبل، أبو بكر الصديق، فهم ثلاثة عشر فقط، يمكن أن يُجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جدًّا، ويُضاف إليهم طلحة، الزبير، عبد الرحمن بن عوف، عمران بن الحصين، أبو بكرة، عبادة بن الصامت، مُعاوية بن أبي سفيان، والباقون منهم — رضي الله عنهم — مُقلُّون في الفتيا، لا يُروَى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، والزِّيادة اليسيرة على ذلك فقط، يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصِّي والبحث.»٦٢

وكان التشريع على الوجه الذي ذكرنا كافيًا في إقامة الدين وسياسة جماعة قريبة عهد بحياة البداوة، لا تزالُ تخطو خطواتها الأولى في سبيل تكوين الدولة وإقرار النظام.

(ب) شرائع العرب قبل الإسلام

على أنَّ الرسول — عليه السلام — إنَّما كان يُريد بشريعته إصلاح ما عند العرب لا تكليفهم بما لا يعرفونه أصلًا.

قال الدهلوي: «وكان الأنبياء — عليهم السلام — قبلَ نبيِّنا يَزيدون ولا ينقصون ولا يبدِّلون إلا قليلًا، فزاد إبراهيم — عليه السلام — على ملة نوح — عليه السلام — أشياء من المناسك وأعمال الفطرة والختان، وزاد موسى — عليه السلام — على ملة إبراهيم — عليه السلام — أشياء؛ كتحريم لحوم الإبل ووجوب السبت، ورجْم الزنا وغير ذلك، ونبيُّنا زاد ونقص وبدَّل، والنَّاظر في دقائق الشريعة، إذا استقرأ هذه الأمور وجدها على وجوه: منها أنَّ الملة اليهودية حملها الأحبار والرهبان فحرَّفوها بالوجوه المذكورة فيما سبق، فلمَّا جاء النبي ردَّ كل شيء إلى أصله، فاختلفت شريعته بالنسبة إلى اليهودية، التي هي في أيديهم، فقالوا هذه زيادة ونقص وتبديل، وليس تبديلًا في الحقيقة.

ومنها أنَّ النبي بُعث بعثة تتضمن بعثة أخرى:
  • فالأولى: إنما كانت إلى بني إسماعيل، وهو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا منْهُمْ، وقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، وهذه البعثة تستوجب أن يكون مادة شريعته ما عندهم من الشعائر وسنن العبادات ووجوه الارتفاقات؛ إذ الشرع إنما هو إصلاح ما عندهم لا تكليفهم ما لا يعرفونه أصلًا، ونظيره قوله تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ، وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا منْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ.
  • والثانية: كانت إلى جميع أهل الأرض عامة.»٦٣ فكان العرب حين يدخلون في الإسلام يظلون بالضرورة على شريعتهم كما هي، إلا ما يغيره الدين الجديد.

ويبيِّن هذا المعنى ما ذكره مؤلفو أصول الفقه عند الكلام على شرع مَن قبلنا، قالوا: إنَّ العلماء اختلفوا في النبي ، وأمته بعد البعثة، هل هم متعبَّدون بشرع مَن تقدَّم؟

وقد ذكر الشوكاني في كتاب «إرشاد الفحول» أقوالًا أربعة في ذلك:
  • (١)

    أنه لم يكن مُتعبَّدًا باتِّباع شرع مَن قبله، بل كان منهيًّا عنه، ونَسَب الآمدي هذا المذهب للأشاعرة والمعتزلة.

  • (٢)

    أنه كان مُتعبَّدًا بشرع مَن قبله إلا ما نُسخ منه، ونقل هذا المذهب عن أصحاب أبي حنيفة، وعن أحمد في إحدى الروايتين، وعن أصحاب الشافعي.

  • (٣)

    الوقف. حكاه ابن القشيري وابن برهان.

ثم زاد الشوكاني مذهبًا رابعًا، فقال: «وقد فصل بعضهم تفصيلًا حسنًا، فقال: إنه إذا بلغنا شرع مَن قبلنا على لسان الرَّسول، أو لسان مَن أسلم، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، لم يكن منْسُوخًا ولا مخصوصًا فإنه شرع لنا، وممن ذكر هذا القرطبي.» وذيَّل الشوكاني بقوله: «ولا بُدَّ من هذا التفصيل على قول القائلين بالتعبُّد لما هو معلوم من وقوع التحريف والتبديل، فإطلاقهم مقيَّد بهذا القيد، ولا أظن أحدًا يأباه.»٦٤

وفي كتاب «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم:

«وأمَّا شرائع الأنبياء — عليهم السلام — الذين كانوا قبلَ نبينا محمد ، فالنَّاس فيها على قولين: فقوم قالوا هي لازمة لنا ما لم نُنْهَ عنها، وقال آخرون هي ساقطة عنَّا ولا يجوز العمل بشيء منها إلا أن نُخاطب في ملَّتنا بشيء موافق لبعضها، فنقف عنده ائتمارًا لنبينا ، لا اتباعًا للشرائع الخالية.»٦٥
وذكر علماء أصول الفقه خلافًا آخر في النبي ، قبل بعثته، هل كان متعبَّدًا بشرع أم لا. فقيل إنه كان متعبدًا قبل البعثة بشريعة آدم، وقيل بشريعة نوح، وقيل بشريعة إبراهيم، وقيل كان متعبدًا بشريعة موسى، وقيل بشريعة عيسى، وقيل كان على شرع من الشرائع، ولا يُقال كان من أمة نبي ولا على شرعه، وقيل كان متعبدًا بشريعة كل مَن قبله من الأنبياء إلا ما نُسخ منها واندرس، وقال بعضهم: بل كان على شريعة العقل، وقيل بالوقف.»٦٦

وليس يعنينا أن نعرض لاستدلالات هذه المذاهب ومناقضاتها؛ فذلك ما لا طائل تحته.

(ﺟ) النبي وشريعة العقل

ولكنَّ الذي يعنينا أنَّ من عُلماء المسلمين مَن يرى أنَّ النبي كان على شريعة العقل قبل أن يأتيه الوحي، ومنهم مَن يَرى في الشرائع الماضية أصلًا من أصول التشريع الإسلامي، وذلك يبيِّن وجه ما أشرنا إليه من كفاية التشريعات القليلة التي رُويت عن عهد النبي لحاجات الأمة العربية في ذلك الحين.

وعلى الذي أسلفناه من قول بعض الأئمة: إنَّ النبي كان مُتعبدًا قبل الوحي بشريعة العقل، فإنَّ ذلك يقتضي أن يكون النبي ظلَّ على هذه الشريعة بعد الوحي إلا ما غيَّره الشرع الجديد، والعقل كان أصلًا من أصول تشريعه فيما لم ينزل به تنزيل.

وإذا كان شرع مَن قبلنا معتبرًا في التشريع الإسلامي حين لا يَرِد في الإسلام ما يُبطِله، فمعنى ذلك أنَّ شرائع مَن قبلنا كانت أصلًا من أصول التشريع في صدر الإسلام، يثبت بها الحكم فيما لم يَرِد في الدين الجديد.

وقد ذكر علماء الأصول الاستصحاب باعتباره أصلًا من أصول الفقه في بعض المذاهب.

قال الشوكاني: «الاستصحاب أي استصحاب الحال لأمْر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي، ومعناه أنَّ ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل، مأخوذ من المصاحبة وهو بقاء ذلك الأمر ما لم يوجد ما يُغيره؛ فيُقال الحكم الفلاني قد كان فيما مضى، وكل ما كان فيما مضى ولم يظن عدمه فهو مظنون البقاء … العقل في الأحكام الشرعية كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره، وكنفي صلاة سادسة.

قال القاضي أبو الطيب: وهذا حجة بالإجماع من القائلين بأنَّه لا حكم قبل الشرع، قال: الثالثة: استصحاب الحكم العقلي عند المعتزلة، فإنَّ عندهم أن العقل يحكم في بعض الأشياء إلى أن يَرِد الدليل السمعي، وهذا لا خلاف بين أهل السنة في أنه لا يجوز العمل به؛ لأنَّه لا حكم للعقل في الشرعيات.

قال: الرابعة: استصحاب الدليل مع احتمال المعارض، إما تخصيصًا إن كان الدليل ظاهرًا، أو نسخًا إن كان الدليل نصًّا، فهذا أمر معمول به إجماعًا، وقد اختُلف في تسمية هذا النوع بالاستصحاب، فأثبته جمهور الأصوليين، ومنعه المحقِّقون، منهم: إمام الحرمين في «البرهان»، والكِيَا في «تعليقه» وابن السمعاني في «القواطع»؛ لأنَّ ثبوت الحكم من ناحية اللفظ لا من ناحية الاستصحاب.

قال: الخامسة: الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع، وهو راجعٌ إلى الحكم الشرعي، بأن يُتفَق على حكم في حالة ثم تتغير بصفة المجمع عليه؛ فيختلفون فيه فيستدل مَن لم يغيِّر الحكم باستصحاب الحال، مثاله إذا استدلَّ مَن يقول إنَّ المُتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته؛ لأنَّ الإجماع مُنْعَقد على صحتها قبل ذلك فاستُصحِب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مُبطِلة، وكقول الظاهرية يجوز بيع أم الولد؛ لأنَّ الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد، فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد، وهذا النوع هو محل الخلاف كما قاله في «القواطع»، وهكذا فرض أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها.»٦٧

وبذلك يتبيَّن أنَّ الاستصحاب في بعض صوره أصل من أصول التشريع، يزيد على الأصول التي ذكرناها، ويؤيد اعتبار حكم العقل وشرع مَن قبلنا في تقرير الأحكام العملية في الإسلام.

وبناء على ما ذكرنا تكون مصادر الحكم في عهد النبي غير ضيقة بما تستلزمه حاجات الجماعات ولا حاجات الأفراد.

(٤) الرأي في عهد الخلفاء الراشدين

مضى عهد النبي ، وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين منذ سنة ١١ﻫ/٦٣٢م إلى ٤٠ﻫ/٦٦٠م.

وقد اتَّفق الصحابة على استعمال القياس في الوقائع التي لا نصَّ فيها من غير إنكار من أحد منهم، وابنُ حزم نفسه مع إنكاره للرأي يقول: «قال أبو محمد: فقد ثبت أنَّ الصحابة — رضي الله عنهم — لم يُفتوا برأيهم على سبيل الإلزام ولا على أنه حق، ولكن على أنه ظن يستغفرون الله — تعالى — منه، أو على سبيل صلح بين الخصمين.»٦٨ ويقول أيضًا في الكتاب نفسه: «وأمَّا القول بالرأي والاستحسان والاختيار فكثير منهم — رضي الله عنهم — جدًّا، ولكنه لا سبيل إلى أن يوجد لأحد منهم أنه جعل رأيه دينًا أوجبه حكمًا، وإنَّما قالوا إخبارًا منهم بأنَّ هذا الذي يسبق إلى قلوبهم، وهكذا يظنون، وعلى سبيل الصلح بين المُختصمين، ونحو هذا.»٦٩

ويكفينا من ابن حزم الظَّاهري أن يعترف بوقوع الرأي من الصحابة كثيرًا، وإن ذهب في تأويل وقوعه مذهبًا عجبًا.

(٤-١) عهد أبي بكر

فمن ذلك رجوع الصحابة إلى اجتهاد أبي بكر — رضي الله عنه — في أخذ الزكاة من بني حنيفة وقتالهم على ذلك، وقياس خليفة رسول الله على الرسول في ذلك بوساطة أخذ الزكاة للفقراء وأرباب المصارف. ومن ذلك قول أبي بكر لمَّا سُئِلَ عن الكلالة: «أقول في الكلالة برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنِّي ومن الشيطان، الكلالة ما عدا الوالد والولد.» ومن ذلك أنَّ أبا بكر ورَّث أم الأم دون أم الأب، فقال له بعض الأنصار: لقد ورَّثتَ امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثْها، وتركتَ امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركتْ، فرجع إلى التشريك بينهما في السدس؛ ومن ذلك حكم أبي بكر بالرأي في التسوية في العطاء حتى قال له عمر: كيف تجعل مَنْ تَرَكَ دياره وأمواله، وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرهًا؟ فقال أبو بكر: إنما أسلموا لله وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ،٧٠ وحيث انتهت النوبة إلى عمر فرَّق بينهم. ومن ذلك قياس أبي بكر تعيين الإمام بالعهد على تعيينه بعقد البيعة، حتى إنه عهد إلى عمر بالخلافة، ووافقه على ذلك الصحابة.٧١
«ومن ذلك أنَّ الصحابة قدَّموا الصديق في الخلافة وقالوا: رضيه رسول الله لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟ فقاسوا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة، وكذلك اتفاقهم على كتابة المصحف وجمع القرآن فيه، وكذلك اتفاقهم على جمع الناس على مصحف واحد، وترتيب واحد، وحرف واحد.»٧٢
ومن ذلك — كما في «الطرق الحكمية»٧٣ — أنَّ أبا بكر حَرَّق اللوطية وأذاقهم حرَّ النار في الدنيا قبل الآخرة … فإنَّ خالد بن الوليد — رضي الله عنه — كتب إلى أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلًا يُنكَح كما تُنكَح المرأة، فاستشار الصديق أصحاب رسول الله ، وفيهم علي بن أبي طالب — رضي الله عنه، وكان أشدهم قولًا، فقال: إن هذا الذنب لم تَعصِ به أمة من الأمم إلا واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتم، أرى أن يُحرقوا بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد أن يُحَرقوا. فحَرَّقوهم.

(٤-٢) عهد عمر

ومن ذلك ما روي عن عمر، أنَّه كتب إلى أبي موسى الأشعري: اعرف الأشباه والأمثال ثم قِسِ الأمور برأيك. وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى شريح: إذا وجدتَ شيئًا في كتاب الله فاقضِ به ولا تلتفت إلى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقضِ بما سنَّ رسول الله ، فإنْ أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يَسُنَّ رسول الله ، فاقضِ بما أجمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنَّة رسول الله ، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فإن شئتَ أن تجتهد رأيك فتقدَّم، وإن شئتَ أن تتأخَّر فتأخَّر، وما أرى التأخُّر إلا خيرًا لك (ذكره سفيان الثوري عن الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه).٧٤
ومن ذلك أنَّه لمَّا قيل لعمر إن سَمُرَة قد أخذ الخمر من تجار اليهود في العُشُور، وخلَّلها وباعها، فقال: قاتَلَ اللهُ سمرةَ! أمَا علم أن رسول الله قال: «لعن الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحوم فجَمَلوها،٧٥ وباعوها وأكلوا أثمانها»؟ قاس الخمر على الشحم، وأن تحريمها تحريم لثمنها.

ومن ذلك أنَّه جلد أبا بكرة؛ حيث لم يُكمِل نصاب الشهادة، بالقياس على القاذف وإن كان شاهدًا لا قاذفًا.

ومن ذلك أنَّ عمر حَرَّق حانوت خمَّار بما فيه، وحرَّق قريبة يُباع فيها الخمر، وحرَّق قصر سعد بن أبي وقاص لمَّا احتجب في قصره عن الرعية، ودعا محمد بن مسلمة فقال: اذهب إلى سعد بالكوفة فحَرِّق عليه قصره ولا تحدثنَّ حدثًا حتى تأتيني، فذهب محمد إلى الكوفة فاشترى من نَبَطيٍّ٧٦ حزمة من حطب وشرط عليه حملها إلى قصر سعد، فلمَّا وصل إليه ألقى الحزمة فيه وأضرم فيها النار، فخرج سعد فقال: ما هذا؟ قال: عزمة أمير المؤمنين فتركه حتى أحرق، ثم انصرف إلى المدينة، فعرض عليه سعد نفقة، فأبى أن يَقبَلَها، فلمَّا قَدِم على عمر قال: هلَّا قبلتَ نفقته! قال: إنَّك قلتَ لا تحدثن حدثًا حتى تأتيني.

وحلق رأس نصر بن حجاج ونفاه من المدينة لتشبيب النِّساء به، وضرب صبيغ بن عسيل التميمي على رأسه لمَّا سأله عمَّا لا يَعنِيه، وصادر عمَّاله، فأخذ شطر أموالهم لمَّا اكتسبوها بجاه العمل، واختلط ما يخصون به بذلك، فجعل أموالهم بينهم وبين المسلمين شطرين.

وألزم الصحابة أن يقلوا من الحديث عن رسول الله ، لمَّا اشتغلوا به عن القرآن؛ سياسة٧٧ منه، إلى غير ذلك من سياساته التي ساس بها الأمة رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية — رحمه الله: ومن ذلك إلزامه للمطلِّق ثلاثًا بكلمة واحدة بالطلاق، وهو يعلم أنها واحدة، ولكن لمَّا أكثر الناس منه رأى عقوبتهم بإلْزامهم به؛ ومن ذلك منعه بيع أمهات الأولاد، وإنما كان رأيًا منه رآه للأمة، وإلا فقد بِعْن في حياة الرسول ، ومدة خلافة الصديق؛ ولهذا عزم علي بن أبي طالب على بيعهن، وقال إنَّ عدم البيع كان رأيًا اتفق عليه هو وعمر، فقال قاضيه عَبِيدة السلماني: يا أمير المؤمنين، رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك، فقال: اقضوا بما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف، فلو كان عنده نص من رسول الله بتحريم بيعهن لم يُضِف ذلك إلى رأيه ورأي عمر، ولم يقل إني رأيتُ أن يُبَعْن.٧٨

(٤-٣) عهد عثمان

ومن ذلك قول عثمان لعمر في واقعة: «إنْ تتبع رأيك فرأيك أسَدُّ، وإنْ تتبع رأي مَن قبلَك فنِعْم ذلك الرأي!» ولو كان فيه دليل قاطع على أحدهما لم يَجُزْ تصويبهما.

وجمع عثمان الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله القراءة بها، لمَّا كان ذلك مصلحة، فلمَّا خاف الصحابة — رضي الله عنهم — على الأُمة أن يختلفوا في القرآن، ورأَوْا أنَّ جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد عن وقوع الاختلاف فعلوا ذلك، ومنعوا الناس من القراءة بغيره.٧٩

(٤-٤) عهد علي

ومن ذلك قول علي — رضي الله عنه — في حدِّ شارب الخمر: إنه إذا شرب سَكِر، وإذا سَكِر هَذى، وإذا هذى افترى، فحدُّوه حَدَّ المفترين. قاس حَدَّ الشارب على القاذف.

ومن ذلك أنَّ عمر كان يشك في قَوَد القتيل الذي اشترك في قتْله سبعة، فقال له علي: يا أمير المؤمنين، أرأيتَ لو أن نفرًا اشتركوا في سرقة أكنتَ تقطعهم؟ قال: نعم، قالوا: كذلك، وهو قياس للقتل على السرقة.

ومن ذلك تحريق علي — رضي الله عنه — الزنادقة الرافضة وهو يعلم سنة رسول الله في قتل الكافر، لكن لمَّا رأى أمرًا عظيمًا جعل عقوبته من أعظم العقوبات ليزجر الناس عن مثله؛ ولذلك قال:

لمَّا رأيتُ الأمر أمرًا منكرَا
أجَّجتُ ناري ودعوتُ قُنبَرَا
وقنبر غلامه.٨٠
ومن ذلك قول علي في المرأة التي أُجهِضت بفَزَعها بإرسال عمر إليها: أمَّا المأثم فأرجو أن يكون منحطًّا عنك، وأرى عليك الدية، فقال له: عزمتُ عليك ألَّا تبرح حتى تَضرِبَها على بني عديٍّ، يعني قومه، وألْحَقه عثمان وعبد الرحمن بن عوف بالمؤدِّب، وقالا: إنما أنت مؤدِّب ولا شيء عليك. وروى هذه الواقعة ابن عبد البر على الوجه الآتي: «وعن عمر في المرأة التي غاب عنها زوجها، وبلغه أنه يُتَحَدَّثُ عندها، فبعث إليها يَعِظها ويذكِّرها ويُوعِدها إن عادت، فمخضت فولدت غلامًا فصوت ثم مات، فشاور أصحابه في ذلك، فقالوا: والله، ما نرى عليك شيئًا، وما أردتَ بهذا إلا الخير. وعليٌّ حاضر. فقال: ما ترى يا أبا حسن؟ فقال: قد قال هؤلاء، فإن يك هذا جهد رأيهم فقد قَضَوْا ما عليهم، وإن كانوا قاربوك فقد غشُّوك، أما الإثام فأرجو أن يضعه الله عنك بنيَّتِك وما يُعلَم منك، وأمَّا الغلام فقد والله غرمتَ، فقال له أنت والله صدقتَني، أقسمتُ عليك لا تجلس حتى تقسمها على بني أبيك، يريد بقوله بني أبيك، أي: بني عدي بن كعب رهط عمر رضي الله عنه.»٨١
«ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لزوجته: أنتِ عليَّ حرام، حتى قال أبو بكر وعمر هو يمين، وقال علي وزيد هو طلاق ثلاث، وقال ابن مسعود هو طلقة واحدة، وقال ابن عباس هو ظِهَار.٨٢

(٤-٥) ظهور الخلاف بالرأي في الأحكام

وفي هذا العصر ظهر الخلافُ بالرَّأي في مسائل الأحكام، قال الشاطبي في كتاب «الاعتصام»: «ولقد كان حريصًا على أُلْفَتِنا وهدايتنا حتى ثبت من حديث ابن عباس — رضي الله عنهما — أنَّه قال: لمَّا أُحضر النبي ، قال — وفي البيت رجالٌ فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: «هلمَّ أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده.» فقال عمر: إنَّ النبي ، غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله، واختلفَ أهلُ البيت واختصموا، فمنهم مَن يقول: قرِّبوا يكتب لكم رسول الله ، كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم مَن يقول كما قال عمر. فلمَّا كثر اللغط والاختلاف عند النَّبي قال: «قوموا عني»؛ فكان ابن عباس يقول: إنَّ الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. فكان — والله أعلم — وحيًا أوحاه الله إليه، أنه كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة، فتخرج الأمة من مقتضى قوله: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ بدخولها تحت قوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، فأَبى الله إِلَّا ما سبق في علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم.»٨٣

وفي شرح السيد الشريف على «المواقف»: «قال الآمدي: كان المسلمون عند وفاة النبي على عقيدة واحدة وطريقة واحدة، إلا مَن كان يُبطِن النفاق ويُظْهِرُ الوفاق، ثم نَشَأ الخلاف فيما بينهم أولًا في أمور اجتهادية لا تُوجب إيمانًا ولا كفرًا، وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم، وذلك كاختلافهم عند قول النبي في مرض موته: «ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعدي»، حتى قال عمر: إنَّ النبي قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله.

وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي: «قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع.» وكاختلافهم بعد ذلك في التخلُّف عن جيش أُسامة، فقال قومٌ بوجوب الاتباع لقوله عليه السلام: «جهزوا جيش أسامة. لعن الله مَن تخلَّف عنه»، وقال قوم بالتخلُّف انتظارًا لمَا يكون من رسولِ الله في مَرَضِهِ، وكاختلافهم بعد ذلك في موته حتى قال عمر: مَن قال: إنَّ مُحَمَّدًا قد مات علوتُه بسيفي، وإنما رُفع إلى السماء، كما رُفع عيسى بن مريم، وقال أبو بكر: مَن كان يعبُد مُحَمَّدًا فإنَّ مُحَمَّدًا قد مات، ومَن كان يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت، وتلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ منْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ … الآية. فرجع القوم إلى قوله، وقال عمر: كأنِّي ما سمعتُ هذه الآية إلا الآن.

وكاختلافهم بعد ذلك في موضع دفنه بمكة أو بالمدينة أو القدس، حتى سَمِعُوا ما رُوي عنه، من أنَّ الأنبياء يُدفَنون حيث يموتون، وكاختلافهم في الإمامة، وثبوت الإرث عن النبي كما مر. وفي قتال مانعي الزَّكاة حتى قال عمر: كيف نُقاتلهم وقد قال : «أمِرْتُ أن أُقاتل النَّاس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم»؟ فقال له أبو بكر: أليس قد قال: «إلا بحقِّها»؟ ومن حقِّها إقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة، ولو منعوني عقالًا ممَّا أدَّوْه إلى النبي لقاتلتُهم عليه.

ثم اختلافهم بعد ذلك في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة، ثم في أمر الشورى حتى استقر الأمر على عثمان، ثم اختلافهم في قتله. وفي خلافة علي ومعاوية، وما جرى في وقعة الجمل وصفين، ثم اختلافهم أيضًا في بعض الأحكام الفروعية كاختلافهم في الكلالة، وميراث الجد مع الأخوة، وعَقل الأصابع، وديات الأسنان، وكان الخِلافُ يتدرج ويترقى شيئًا فشيئًا إلى آخِر أيام الصحابة.»٨٤

وقد عرض ابن حزم في كتاب «الإحكام» لقِصَّة الصحيفة التي تعتبر أول خلاف قائم على الرأي ظهر في الإسلام فقال: «عن ابن عباس قال: لما اشتد برسول الله وجعه، قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعدي»، فقال عمر: إنَّ النبي غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، فقال: «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع»؛ فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه.

وحدثنا عبد الله بن ربيع عن ابن عباس فذكر هذا الحديث وفيه: أن قومًا قالوا عن النبي في ذلك اليوم: «ما شأنه؟ هَجَر؟» قال أبو محمد هذه زلَّة العالم التي حُذِّر منها الناس قديمًا، وقد كان في سابق علم الله — تعالى — أن يكون بيننا الاختلاف، وتضل طائفة، وتهتدي بهدى الله أخرى، فلذلك نطق عمر ومَن وافقه ممَّا نطقوا به، مِمَّا كان سببًا إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده، ولم يَزَلْ أمر هذا الحديث مهمًّا لنا وشجًى في نفوسنا وغُصَّة نألم لها، وكنا على يقين من أنَّ الله — تعالى — لا يَدَع الكتاب الذي أراد نبيه ، أن يكتبه فلن يضل بعده دون بيان؛ لِيَحْيَا مَن حيَّ عن بينة إلى أن منَّ الله — تعالى — بأن أوجَدَناه، فانجلت الكُرْبة، والله المحمود، وهو ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله في مرضه: «ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنَّى مُتَمَنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبَى الله والنبيون إلا أبا بكر.»

قال أبو محمد: هكذا في كتاب عن عبد الله بن يوسف. وفي أم أخرى: «ويأبى الله والمؤمنون»، وهكذا حدثناه عبد الله بن ربيع عن عائشة عن النبي ، وفيه أن ذلك كان في اليوم الذي بُدئ فيه بوجعه الذي مات فيه.

قال أبو محمد: فعلمنا أنَّ الكتاب المُراد يوم الخميس قبل موته بأربعة أيام كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا، إنَّما كان في معنى الكتاب الذي أراد أن يَكْتُبه في أول مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليالٍ؛ لأنه ابتدأ وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين وأراد الكتاب الذي قال فيه عمر ما قال يوم الخميس بعد أن اشتد به المرض، ومات يوم الإثنين، وكانت مدة علَّته، اثني عشر يومًا، فصحَّ أن ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلَّا يقع ضلالة في الأمة بعده ٨٥

(أ) أسباب الاختلاف

ويُشير ابن حزم إلى أسباب الاختلاف الحادث في هذه القصة. وفي نحوها مما وقع في عهد الصحابة بقوله:

«وقد تجد الرَّجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره؛ حتى يُفتي بخلافه، وقد يعرض هذا في آي القرآن، وقد أمر عُمَر على المنبر بألَّا يُزاد في مهور النِّساء على عدد ذكره، فذكرتْه امرأة بقول الله تعالى: «وآتيتم إحداهن قنطارًا»، فترك قوله وقال: كل واحد أفْقَهُ منك يا عمر! وقال: امرأة أصابتْ وأمير المؤمنين أخطأ.

وأمر برجم امرأة ولدتْ لستة أشهر، فذكَّره عليٌّ بقول الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، مع قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، فرجع عن الأمر برجمها، وهمَّ أن يسطو بعُيَيْنَة بن حصن؛ إذ قال له: يا عمر، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فذكَّره الحرُّ بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول الله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وقال له: يا أمير المؤمنين، هذا من الجاهلين، فأمسَكَ عمر، وقال يوم مات رسول الله : والله، ما مات رَسُول الله ، ولا يموت حتى يكون آخرنا — أو كلامًا هذا معناه — حتى قُرئت عليه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، فسَقَط السيف من يده، وخَرَّ إلى الأرض وقال: كأني والله لم أكن قرأتُها قط. فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن، وقد ينساه البتة، وقد لا ينساه بل يذكره، ولكن يتأوَّل فيه تأويلًا فيظن فيه خصوصًا أو نَسْخًا أو معنًى ما.»٨٦ وبقوله أيضًا: «والله العظيم، قسمًا برًّا، ما اختلف اثنان قط فصاعدًا في شيء من الدين إلا في منصوص بيِّن في القرآن والسنة، فمن قائل: ليس عليه العمل، ومن قائل: هذا تُلُقِّي بخلاف ظاهره، ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا منسوخ، ومن قائل: هذا تأويل؛ فعلى هذا، وعلى النسيان للنص، كان اختلاف مَن اختلف في خلافة أبي بكر.»٨٧
وابن حزم يُريد بذلك أن يفر من جعل الاختلاف بين الصحابة كان بسبب الرأي، ولا شك أنَّ ما ذَكره من أسباب الاختلاف صحيح، ولكنَّ الرُّكون إلى الرأي هو سبب الاختلاف؛ حتى في هذا الذي يورده، وقد صرَّح الشاطبي في كتاب «الاعتصام»٨٨ بأنَّ الله — تعالى — حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالًا للظنون، وأنَّ مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة، وإنا نقطع بأنَّ الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممَّن حصل له محض الرَّحمة وهم الصحابة ومَن اتبعهم بإحسان، رضي الله عنهم، وأنَّهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه.

(ب) تفاوت الخلاف في عهود الخلفاء الراشدين

ولم يكن وقوع الاختلاف مطردًا على سواء في عهود الخلفاء الراشدين.

ويقول ابن قيِّم الجوزية في كتاب «إعلام الموقعين»: «وأمَّا الصديق فصان الله خلافته عن الاختلاف المُستقر في واحد من أحكام الدين، وأمَّا خلافة عمر فتنازع الصحابة تنازعًا يسيرًا في قليل من المسائل جدًّا، وأقرَّ بعضهم بعضًا على اجتهاده من غير ذم ولا طعن، وترجع قلة الاختلاف في عهد عمر إلى حزمه٨٩ وحريته وحُسن سياسته واعتماده على الشورى.٩٠
فلما كانت خلافة عثمان اختلفوا في مسائل يسيرة صحب الاختلاف فيها بعض الكلام واللوم، كما لام عليٌّ عثمان في أمر المتعة٩١ وغيرها، ولامه عمار بن ياسر وعائشة في بعض مسائل قسمة الأموال والولايات.

فلما أفضتِ الخلافة إلى عليٍّ — كرَّم الله وجهه — صار الاختلاف بالسيف.»

وقال الدهلوي في هذا المعنى: «وأكابر هذا الوجه (يُريد الفتوى) عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، رضي الله عنهم؛ لكن كان من سيرة عمر — رضي الله عنه — أنه كان يُشَاور الصحابة ويُناظرهم حتى تنكشف الغُمَّة ويأتيه الثَّلَج، فصار غالب قضاياه وفتاواه مُتَّبعة في مشارق الأرض ومغاربها، وهو قول إبراهيم (يريد النَّخعي): لمَّا مات عمر — رضي الله عنه — ذهب تسعة أعشار العلم، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: كان عمر إذا سلك طريقًا وجدناه سهلًا، وكان عليٌّ — رضي الله عنه — لا يُشاوِر غالبًا، وكان أغلب قضاياه بالكوفة، لم يحملها عنه إلا ناس، وكان ابن مسعود — رضي الله عنه — بالكوفة، فلم يحمل عنه غالبًا إلا أهل تلك الناحية، وكان ابن عباس — رضي الله عنهما — اجتهد بعدَ عصر الأولين؛ فناقضهم في كثير من الأحكام، واتَّبعه في ذلك أصحابه من أهل مكة، ولم يأخذ بما تفرَّد به جمهور أهل الإسلام، وأما غير هؤلاء الأربعة فكانوا يراوون دلالة — يُريد الاستنباط — ولكن ما كانوا يميِّزون الركن والشرط من الآداب والسنن، ولم يكن لهم قول عند تعارض الأخبار وتقابل الدلائل إلا قليلًا، كابن عمر، وعائشة، وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم.»٩٢

(٤-٦) أصول الأحكام الشرعية في هذا العهد

وفي هذا العهد صارت أصول الأحكام الشرعية أربعة: الكتاب، والسنة،٩٣ والرأي أو القياس، والإجماع؛ أي: ما عليه جماعة المسلمين من التحليل والتحريم.

(أ) الإجماع

قال الشافعي: «ومَن قال بما تقول به جماعة المُسلمين فقد لزم جماعتهم، ومَن خالف ما تقول جماعة المسلمين؛ فقد خالف جماعتهم التي أُمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأمَّا الجماعة فلا يكون فيها كافة غفلة عن معنى كتاب الله — تعالى — ولا سنة، ولا قياس، إن شاء الله تعالى.»٩٤

وليس يخلو من غموض هذا المعنى الذي اتفق المُختلفون عليه في بيان معنى الإجماع، ثم اختلفوا توضيحه.

قال ابن حزم: «اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أنَّ الإجماع من علماء أهل الإسلام حجة، وحق مقطوع به في دين الله عزَّ وجلَّ، ثم اختلفنا: فقالت طائفة: هو شيء غير القرآن وغير ما جاء عن النبي ، لكنه أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نصَّ فيه لكن برأي منهم أو بقياس منهم على منصوص، وقُلنا نحن: هذا باطل ولا يُمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص من قرآن أو سُنَّة عن رسول الله ، يبين في أن قول المختلفين هو الحق.»٩٥
وقال ابن حزم: «قال أبو محمد: فقالت طائفة: الإجماع إجماع الصحابة — رضي الله عنهم — فقط، وأمَّا إجماع مَن بعدهم فليس إجماعًا، وقالت طائفة: إجماع أهل كل عصر إجماع صحيح، ثم اختلف هؤلاء، فقالت طائفة منهم: إذا صح إجماع كل عصر فهو إجماع صحيح، وليس لهم ولا لأحد منْ بعدهم أن يقول بخلافه، وقالت طائفة منهم أخرى: بل يجبُ مُراعاة ذلك العصر، فإنِ انقرضوا كلهم ولم يحدثوا ولا أحد منهم خلافًا لما أجمعوا عليه؛ فهو إجماع قد انعقد لا يجوز لأحد خلافه، وإن رجع أحد منهم عمَّا أَجمَع عليه مع أصحابه؛ فله ذلك، ولا يكون ذلك إجماعًا، وقالت طائفة: إذا اختلف أهل عصر في مسألة ما؛ فقد ثبت الاختلاف، ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدًا، وقالت طائفة: إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما، ثم أجمع أهل العصر الذي بعدهم على بعض قول بعض أهل العصر الماضي؛ فهو إجماع صحيح لا يَسَع أحدًا خلافه أبدًا: وقالت طائفة: إذا اختلف أهل العصر على عشرة أقوال مثلًا أو أقل أو أكثر؛ فهو اختلاف فيما اختلفوا فيه، وهو إجماعٌ صحيح على ترك ما لم يقولوا به من الأقوال، فلا يَسَع أحدًا الخروج على تلك الأقوال كلها، وله أن يتخيَّر منها ما أدَّاه إليه اجتهاده، وقالت طائفة: ما لا يُعرَف فيه خلاف فهو إجماع صحيح، لا يجوز خلافه لأحد، وقالت طائفة: ليس هو إجماعًا، وقالت طائفة: إذا اتفق الجمهور على قول، وخالفهم واحد من العلماء، فلا يُلتفت إلى ذلك الواحد، وقول الجمهور هو إجماع صحيح، وهذا قول محمد بن جرير الطبري، وقالت طائفة: ليس هذا إجماعًا، وقالت طائفة: قول الجمهور والأكثر إجماع، وإن خالفهم مَنْ هو أقل منهم عددًا، وقالت طائفة: ليس هذا إجماعًا: وقالت طائفة: إجماع أهل المدينة هو الإجماع، وهذا قول المالكيين، ثم اختلفوا، فقال ابن بكير منهم وطائفة معه: سواء كان عن رأي أو قياس، أو نقلًا، وقال محمد بن صالح الأبهري منهم وطائفة معه: إنما ذلك فيما كان نقلًا فقط، وقالت طائفة: إجماع أهل الكوفة، وهذا قول بعض الحنفيين، وقالت طائفة: إذا جاء القول عن الصاحب الواحد أو أكثر من واحد من الصحابة، ولم يُعرف له مخالف منهم فهو إجماع، وإن خالفه مَن بعدَ الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول بعض الشافعيين وجمهور الحنفيين والمالكيين، وقال بعض الشافعيين: إنَّما يكون إجماعًا إذا اشتُهر ذلك القول فيهم، ولم يُعرف له منهم مخالف، وأمَّا إذا لم يُشتَهر ولا انتشر، فليس إجماعًا، بل خلافه جائز.»٩٦

(ب) الإجماع طور من أطوار الرأي

كل هذه المعاني المُختلفة للإجماع لم تُفَصَّل هذا التفصيل إلا حينما دُوِّنَتِ العلوم ونُظِّمت قواعدها، لكنَّها تدل على أنَّ الإجماع في نشأته كان معنًى مُبهمًا صالحًا لأن يُحْمَل على كل هذه المعاني، كما كان الرَّأي نفسه مبهمًا غير مقسَّم ولا معيَّن، وما الإجماع في بدء أمره إلا طور من أطوار الرأي ومظهر من مظاهر تنظيمه، وتنظيم التشريع والديمقراطية به، في دولة أخذت تخرج من دور البداوة إلى صورة من صور الحكم الديمقراطي المنظم.

(ﺟ) شأن عمر في هذا الباب

ومن الطبيعي أن يكون شأن عمر بن الخطاب في هذا الباب شأنًا كبيرًا، فإنه أول مَن وضع الأُسس الأولى لتنظيم العمل الحكومي في الدولة الإسلامية؛ فإنَّ أبا بكر إنما استطاع في مدة حُكمه اليسيرة أن يقمع الفِتَن ويفتح اليمامة وبعض أطراف العراق والشام، والذي عُرف عنه من شئون التنظيم الحكومي هو أنَّه أول مَن اتخذ الحاجب وصاحب الشرطة في الإسلام، أمَّا عمر فقد فتح الفتوحات وكثر المال في دولته إلى الغاية حتى عمل بيت المال، ووضع للديوان، ورتب لرعيته ما يكفيهم، وفرض للأجناد، كما في «تاريخ الخميس».٩٧
وجاء أيضًا في الكتاب نفسه: «وأول مَن وضع التاريخ بعام الهجرة وضعه في السنة السابعة عشرة، وهو أوَّل مَن جمع الناس على إمام في قيام رمضان، وأول مَن أخَّر المقام عن موضعه وكان ملصقًا بالبيت، وقيل بل أول مَن أخَّره رسول الله ، وأول مَن حمل الدرة لتأديب الناس وتعزيرهم، وفتح الفتوح ووضع الخراج، ومَصَّر الأمصار، واستقضى القضاة ودَوَّن الديوان وفرض العطية.»٩٨

وجاء في كتاب: «الإدارة الإسلامية في عز العرب»: للأستاذ محمد كرد علي بك المطبوع سنة ١٩٣٤م:

«ومما تعلقت به هِمَّة عمر إحداثُ أوضاع جديدة اقتضتْها حالة التوسع في الفتوح: فهو أول مَنْ حمل الدِّرَّة، وهو أوَّل مَن دوَّن الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم، دوَّنها عَقِيل بن أبي طالب ومخْرَمة بن نوفل، وجبير بن مُطْعِم، وكانوا من نُبَهاء قريش لهم علم بالأنساب وأيام الناس.

والديوان: الدفتر أو مجتمع الصحف، والكتاب يُكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وعرَّفوا الديوان بأنَّه موضع لحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومَن يقوم بها من الجيوش والعمال، وأُطلق بعد حين على جميع سجلات الحكومة، وعلى المكان الذي يجلس فيه القائمون على هذه السجلات والأضابير والطوامير، وثبتَ أَنَّه كان له سجن، وأنه سجن الحُطَيْئة على الهَجْو، وسجن صبيغًا على سؤاله عن «الذاريات»، و«المرسلات» و«النازعات» وشبههن، وضربه مرة بعد مرَّة ونفاه إلى العراق، وكتب ألَّا يُجالسه أحد، فلو كانوا مائة تفرقوا عنه، حتى كتب إليه عامله أن حسُنت توبته، فأمره عمر فخلَّى بينه وبين الناس، وكانت أعمال عمر جدًّا كلها، لا يجوز لأحد أن يجلس في المسجد في غير أوقات الصلاة، وبنى في المسجد رحبة تُسَمَّى البطيحا. قال: مَنْ كان يُريد أن يلفظ أو ينشد شعرًا أو يرتفع صوته فليخرج إلى الرَّحبة، وما كان المسجد في أيامه لغير الصلاة والقضاء، وكان الخلفاء يجلسون في المسجد لقضاء الخصومات، ولما كثُرت الفتوحات وأسلمت الأعاجم وأهل البوادي وكثُر الولدان أمر عمر ببناء بيوت المكاتب، ونصب الرجال لتعليم الصبيان وتأديبهم.

وضع عمر أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل، وقيل إنَّ أول ديوان وُضِعَ في الإسلام هو ديوان الإنشاء، ودواوين الشام تكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية ودواوين مصر بالقبطية يتولَّاها النَّصارى والمجوس دون المسلمين، والسبب في تدوين الدواوين أنَّ عامل عمر على البحرين أتاه يومًا بخمسمائة ألف درهم، فاستعْظَمَها، وجعل عليها حراسًا في المَسْجِد، فأشار عليه بعض مَنْ عرفوا فارس والشام أن يدوِّن الدواوين يكتبون فيها الأسماء، وما لواحد واحد، وجعل الأرزاق مشاهرة، وجعل عمر تابوتًا — أي صندوقًا — لجمع صكوكه ومعاهداته، وجَنَّد الأجناد — أي ألَّف الفيالق — فصيَّر فلسطين جندًا، والجزيرة جندًا، والموصل وقِنَّسْرين جندًا، وأصبح كل جند في الشام والعراق يتألف من مقاتلة المسلمين يقبضون أعطياتهم من البلد الذي نزلوه، فأصبحت الجندية خاصة بفئة المسلمين، ويسير الناس بقضِّهم وقَضِيضهم إلى الزحف عند الحاجة حتى النساء والأولاد، وما كان الجند يجعلون كلهم في المسالح، بل يترك بعضهم في البلاد يكونون على استعداد للوثبة عند أوَّل إشارة، والغالب أنه كان يُترك فَضْلٌ في بيوت الأموال خارج الحجاز؛ ليُستخدم في طارئ إذا طرأ، وما كانت الصوافي تُحمل كلها إلى الحجاز بل يُدَّخر بعضها في بيوت الأموال في الشام والعراق ومصر، وجزء عظيم من دخل الدولة يُصرف في الوجوه التي أشرنا إليها.

وعمر هو أول مَن لُقِّب بأمير المؤمنين، وأوَّل مَن استقضى القضاة، وأول مَن أحدث التاريخ الهجري فأرَّخ سنة ستة عشر لهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، فكان أوَّل مَن أرَّخ الكتب وختم على الطين. قال اليعقوبي: وأمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكًا من قراطيسه ثم يختم أسفلها، فكان أول مَن صك وختم أسفل الصكاك، وغيَّر أَسْمَاء المُسلمين بأسماء الأنبياء، وكان أوَّل مَن مصَّر الأمصار: مصَّر المصرين البصرة والكوفة، وكان إذا جاءتْه الأقضية المعضِلة قال لعبد الله بن العباس: إنَّها قد طرأت علينا أقضية وعُضَل فأنت لها ولأمثالها، ثم أخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحدًا سواه، وكان في المسائل العامة يسأل الناس في المسجد عن آرائهم ثم يعرض رأيه ورأيهم على مجلس شوراه، وهم من كبار الصحابة، فما استقرَّ عليه رأيهم أمضاه.

فكانت أعماله ثمرة ناضجة من الآراء الصائبة؛ ولذلك ندرت هفواته في الإدارة بالقياس إلى غيره؛ لأنه يتروَّى ويعمل بآراء أهل الرأي، ولمَّا أرسل عبدَ الله بن مسعود إلى العراق وزيرًا ومُعلِّمًا مع عمار بن ياسر الذي ولاه الإمارة كتب إلى أهل العراق: «وقد جعلتُ على بيت مالكم عبد الله بن مسعود وآثرتُكم به على نفسي.» وقد يبعثُ إلى بعض الأقطار عاملًا على الصلاة والحرب ويُسَمِّيه أميرًا، وعاملًا على القضاء وبيت المال ويُسَمِّيه مُعَلِّمًا ووزيرًا، كما فعل في العراق، أو يجمع للعامل بين الصلاة والخراج كعامل مصر.

وتقسيم العمالات في الشام يختلف عن اليمن، وعامل البحرين لا يكون كعامل اليمامة، وقد يبعث أُناسًا لمساحة الأرض، وأناسًا لتقدير الخراج، وآخرين لإحصاء الناس، وقال لعاملين له تولَّيَا مساحة العراق ووضع الخراج على سوادها: أخاف أن تكونا حمَّلتما الأرض ما لا تُطيقه، لئن سلَّمني اللهُ لأدعنَّ أرامل العراق لا يحتجْنَ إلى رجل بعدي أبدًا، وقال اللهم إنِّي أُشهدك على أمراء الأمصار، فإني إنَّما بعثتُهم ليُعلِّموا الناس دينَهم وسنة نبيهم، ويعدلوا عليهم ويقسموا فيْئَهم بينهم، ويرفعوا إليَّ ما أُشكل عليهم من أمورهم، وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده.»٩٩

(د) تفسير ظهور الإجماع

ويُفسر ظهور الإجماع في هذا العصر، أنَّ الأئمة بعد النبي ، كانوا يستشيرون في الأحكام.

قال الشاطبي في «الاعتصام»:

«وكانت الأئمة بعد النبي يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المُباحة؛ ليأخذوا بأسهلها، فإذا وقع في الكتاب والسنة لم يتعدَّوْه إلى غيره، اقتداء بالنَّبي ، وكان القُرَّاء أصحاب مشورة عمر، كهولًا كانوا أو شبانًا، وكانَ وقَّافًا عند كتاب الله.»١٠٠

وفي كتاب «مُختصر جامع بيان العلم وفضله»:

«وعن يوسف بن يعقوب بن الماجشون قال: قال لنا ابن شهاب ونحن نسأله: لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإنَّ عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حِدَّة عقولهم.»١٠١
وعن المسيب بن رافع قال: كان إذا جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سُمِّي صوافي الأمراء فيرفع إليهم، فجُمع له أهل العلم، فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق.١٠٢

وكان أبو بكر وعمر إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألان الناس.

وفي كتاب «إعلام الموقعين»:

«… ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله — تعالى — فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سُنَّة رسولِ الله ، فإن وجد ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أنَّ رسول الله قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا وكذا، وإن لم يجد سنة سنَّها النبي ، جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه قضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.»١٠٣
وفي الكتاب نفسه: «عن عبد الله بن مسعود قال: مَن عرض له منكم قضاء فليقضِ بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله؛ فليقضِ بما قضى فيه نبيه ، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقضِ فيه نبيه ، فليقضِ بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقضِ به نبيه ولم يقضِ به الصالحون فليجتهد رأيه، فإن لم يُحسن فليَقُمْ ولا يستحي.»١٠٤
قال الأستاذ أحمد أمين بك في كتاب «فجر الإسلام»: «وقد وُجدت نزعة من العصر الأول لتنظيم هذا الرأي من طريق الاستشارة، فقد أخرج البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه خصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعَلِمَ من رسول الله ، في ذلك الأمر سُنَّة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أنا في كذا وكذا، فهل علمتم أنَّ رسول الله ، قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر فيه عن رسول الله قضاء، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله ، جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر — رضي الله عنه — يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رءوس الناس، فإذا اجتمعوا على أمر قضى به.»١٠٥

وكان العُلماء من الصحابة يومئذٍ، وهم المُعتَبَرون في الإجماع قِلَّة، كما بيَّنَّا آنفًا، لا يتعذر علاج التوفيق بين آرائهم، وتَعَرُّف الاتفاق بينهم على حكم من الأحكام.

(٥) الرأي في عهد بني أمية

وكان بعد ذلك عصر بني أُمية من سنة ٤٠ﻫ/٦٦٠م إلى سنة ١٣٢ﻫ/٧٤٩م.

في هذا العصر اتسعت مملكة الإسلام، ودخلت فيها أُمم من غير العرب، ونُقل مركز الخلافة إلى دمشق الشام، وتفرَّق القُرَّاء وعُلماء الصَّحابة في البلاد، وصار كل واحد مُقْتَدَى ناحيةٍ من النَّواحي، فكثرت الوقائع، ودارت المسائل فاستُفتُوا فيها، فأجاب كل واحد حسبما حفظه أو استنبطه، وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبطه ما يصلح للجواب، اجتهد برأيه … فعند ذلك وقع الاختلاف بينهم على ضروب.١٠٦
وانتهى عهد الصحابة في هذا العصر، قال ابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦ﻫ/٨٨٩م في كتاب «المعارف»: «قال أبو محمد: قال الواقدي: آخِر مَن مات بالكوفة من الصحابة عبد الله بن أبي أوْفَى في سنة ست وثمانين، وآخِر مَن مات بالمدينة من الصحابة سَهْلُ بن سَعْد الساعدي سنة إحدى وتسعين، ويُقال هو ابن مائة، وآخر مَن مات بالبصرة من الصحابة أنس بن مالك سنة إحدى وتسعين، ويُقال سنة ثلاث وتسعين، وآخِر مَن مات بالشام عبد الله بن بسر سنة ثمان وثمانين، وممَّن تأخَّر موته واثلة بن الأسقع هلك بالشام سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين، وهو من بني ليث بن كنانة. أبو الطفيل، رضي الله — تعالى — عنه هو أبو الطفيل بن عامر بن وائلة، رأى النبي ، وكان آخِر مَن رآه موتًا، ومات بعد سنة مائة.»١٠٧
وخَلَفَ بعد الصحابة التابعون، الذين ورِثُوا علمهم، وكل طبقة من التابعين إنما تفقَّهوا على مَن كان عندهم من الصحابَة، فكانوا لا يتعدَّوْن فتاويهم إلا اليسير مما بلغهم من غير مَن كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى عبد الله بن [عمر رضي الله عنهما، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوي عبد الله بن]١٠٨ مسعود، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عباس، واتباع أهل مصر في الأكثر فتاوى عبد الله بن عمرو بن العاص.١٠٩
وجاء في كتاب «إعلام الموقعين»: «وأكابر التابعين كانوا يُفتون في الدين ويستفتيهم الناس، وأكابر الصحابة حاضرون يجوِّزون لهم ذلك.»١١٠

ولما انقرض عهد الصحابة وجاء على أثرهم التابعون، انتقل أمر الفُتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا قليلًا.

قال ابن القيِّم في كتاب «إعلام الموقعين»: «وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لمَّا مات العبادلة؛ عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فكان فقيه أهل مكة عطاء بن رَباح، وفقيه أهل اليمن طاوس، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم، وفقيه أهل البصرة الحسن، وفقيه أهل الشام مكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني، إلا المدينة فإنَّ الله خصَّها بقُرَشي فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مُدافَع.»١١١

(٥-١) تشعُّب وجوه الاختلاف في هذا العصر وأسبابها

تشعَّبتْ في هذا العصر وجوهُ الاختلاف بين المُفتِين، وتعدَّدت مناحيها، وقد ألَّف أبو محمد عبد الله بن محمد بن السِّيد البَطَلْيَوْسي الأندلسي المتوفى سنة ٥٢١ﻫ/١١٢٧م كتابًا سَمَّاه: «الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم»،١١٢ نبَّه فيه على المواضع التي منها نشأ الخلاف بين العلماء حتى تبايَنوا في المذاهب والآراء، وذكر أنَّ الخلاف عرض لأهل المِلَّة من ثمانية أوجه:
  • (١)
    الخلاف العارض من جهة اشتراك الألفاظ واحتمالها التأويلات الكثيرة، وهذا الباب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
    • أحدها: اشتراك في موضوع اللفظة المفردة، بأن تكون اللفظة موضوعة لمعانٍ مختلفة متضادة أو غير متضادة، ومن هذا النوع قوله : «قصُّوا الشوارب واعفوا اللِّحى»، قال قوم معناه وفِّروا وأكثروا، وقال آخَرون قصِّروا وانقصوا، وكلا القولين له شاهد من اللغة. هذا من الاشتراك في المعاني المتضادة.
      أمَّا الاشتراك في المعاني المُختلفة غير المتضادة فهو كثير جدًّا، ومنه قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ منْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا من الْأَرْضِ. ذَهَبَ قومٌ إلى أن كلمة «أو» هنا للتخيير، فقالوا السلطان مخيَّر في هذه العقوبات، يفعل بقاطع السبيل أيَّها يشاء، وهو قول الحسن البصري وعطاء، وبه قال مالك، وذهب آخرون إلى أن كلمة «أو» هنا للتفصيل والتعيين: فمَن حارب وقتل وأخذ المال، صُلِب، ومَن قتل ولم يأخذ المال قُتل، ومَن أخذ المال ولم يقتل، قُطعت يده، وهو قول أبي مِجلَز لاحق بن حُمَيد التابعي، وحجاج بن أرطاة النخعي الكوفي، وبه قال أبو حنيفة والشافعي واختلفوا في النفي من الأرض ما هو؟ فقال الحجازيون يُنفى من موضع إلى موضع، وقال العراقيون يُسْجَن ويُحبس، والعرب تستعمل النفي بمعنى السِّجن.
    • وثانيها: الاشتراك العارض من قِبَل اختلاف أحوال الكلمة دون موضع لفظها، مثل قوله تعالى: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ. قال قوم: مضارة الكاتب أن يكتب ما لم يُمْلَ عليه، ومضارة الشهيد أن يشهد بخلاف الشهادة، وقال آخرون: مضارتهما أن يُمْنَعا من أشغالهما ويُكلَّفا الكتابة والشهادة في وقت يَشُقُّ ذلك فيه عليهما، وإنما أوجب هذا الخلاف أن قوله وَلَا يُضَارَّ يحتمل أن يكون تقديره ولا يضارَر بفتح الراء، ويحتمل أن يكون تقديره أيضًا بكسر الراء، وقد رُويت القراءتان بإظهار التضعيف مع الفتح ومع الكسر، قرأ بالأولى ابن مسعود، وبالثانية ابن عمر.
      ومثل هذا قوله تعالى: لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ.
    • وثالثها: الاشتراك العارض من قِبَل تركيب الكلام، وبناء بعض الألفاظ على بعض: ومنه ما يَدُلُّ على معانٍ مختلفة مُتَضَادَّة، ومنه ما يدلُّ على معانٍ مختلفة غير متضادة؛ فمن النوع الأول قوله تعالى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ. قال قوم: معناه وترغبون في نكاحهن لمَا لهن، وقال آخَرون: إنما أراد وترغبون عن نكاحهن لدمامتهن وقِلَّة ما لهن، ومنه قول علي رضي الله عنه: «أيها الناس، أتزعمون أني قتلتُ عثمان؟ ألَا وإن الله قتله وأنا معه.» أراد علي — رضي الله عنه — أنَّ الله قتله وسيقتلني معه، فعطف «أنا» على «الهاء» من «قتله»، وجعل «الهاء» في «معه» عائدة على عثمان، وتأوَّله الخوارج على أنه عطف «أنا» على الضمير الفاعل في قَتَلَه، أو على موضع المنصوب بأن، كما تقول: إن زيدًا قائم وعمرو، فترفع عمرًا عطفًا على موضع زيد وما عمل فيه، وجعلوا الضمير في قوله معه عائدًا على الله تعالى، فأوجبوا عليه من هذا اللفظ أنه شارك في قتل عثمان رضي الله عنه.
      ومن الدالِّ على معانٍ مختلفة غير مُتضادة قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، فإنَّ قومًا يرون الضمير من «قتلوه» عائدًا إلى المسيح ، وقومًا يرونه عائدًا إلى العلم المذكور في قوله: مَا لَهُمْ بِهِ منْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ فيَجْعَلونه من قول العرب: «قتلت الشيء علمًا»، ومنه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ منْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. اختلفوا في هذا التشبيه: من أين وقع؟ فذهب قوم إلى أنَّ التشبيه إنما وقع في عدد الأيام، واحتجوا بحديث روَوْه: أنَّ النَّصارى فُرِض عليهم في الإنجيل صوم ثلاثين يومًا، وأنَّ ملوكهم زادوا فيها تطوُّعًا حتى صيَّروها خمسين، وذهب آخرون إلى أنَّ التشبيه إنما وقع في الفرض لا في عدد الأيام.

      يقول البطليوسي: وهذا القول هو الصحيح، وإن كان القولان جائزين في كلام العرب، فإنك إذا قلت: أعطيت زيدًا كما أعطيت عمرًا، احتمل أن تريد تساوي العطيتين، واحتمل أن تُريد تساوي الإعطائين، وإن أعطيت أحدهما خلاف ما أعطيت الآخر.

  • (٢)

    الخلاف العارض من جهة الحقيقة والمجاز، وقد ذهب قوم إلى إثباته. يقول صاحب «الإنصاف»: «وإنما كلامنا فيه على مذهب مَن أثبته؛ لأنه الصحيح الذي لا يجوز غيره.» والمجاز ثلاثة أنواع: نوع يعرض في موضوع اللفظة، ونوع يعرض في أحوالها المختلفة عليها من إعراب وغيره، ونوع يعرض في التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض. فمثال النوع الأول: السلسلة، فإن العرب تستعملها حقيقة وتستعملها مجازًا بمعنى الإجبار والإكراه؛ كقوله : «عجبتُ لقوم يُقادون إلى الجنة بالسلاسل.» بمعنى المنع من الشيء والكف عنه، كقول أبي خراش الشاعر المخضرم التابعي:

    فليس كعهدِ الدارِ يا أمَّ مالكٍ
    ولكنْ أحاطَتْ بالرقاب السلاسلُ
    يُريد بالسلاسل حدود الإسلام وموانعه، التي كفَّت الأيدي الغاشمة، ومنعت من سفك الدماء إلا بحقها، وبمعنى ما تتابع بعضه في أثر بعض، واتصل كقولهم تسلسل الحديث، وقولهم سلاسل الرمل، ومن هذا النوع قول الله عز وجل: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ، ومعلوم أنَّ الله لم يُنزل من السماء ملابس تُلْبَس، وإنما تأويله — والله أعلم — أنَّه أنزل المطر فنبت عنه النبات، ثم رعتْه البهائم فصار صوفًا وشعرًا ووبرًا على أبدانها، ونبت عنه القطن والكتان، واتُّخذت من ذلك أصناف الملابس، فسمَّى المطر لباسًا إذ كان سبب ذلك، ومن هذا الباب أيضًا قوله : «يَنْزِلُ رَبُّنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ثلثَ الليل الأخير، فيقول: هل من سائل فأُعطِيَه؟ هل من مستغفر فأغفرَ له؟ هل من تائب فأتوبَ عليه؟» جعلته المجسِّمةُ نزولًا على الحقيقة، وقد أجمع العارفون على أنَّ الله لا ينتقل؛ لأنَّ الانتقال من صفة المُحْدثات؛ ولهذا الحديث تأويلان:
    • أحدهما: أنَّ معناه: يَنْزِلُ أمرُه في كل سَحَرٍ؛ أي إنَّ الله — تعالى — يأمر مَلَكًا بالنزول إلى سماء الدنيا، وقد تقول العرب: كتب الأمير إلى فلان كتابًا وقطع الأمير يد اللص، وضرب السلطان فلانًا؛ إذ هي تَنسِب الفعل إلى مَنْ أَمَرَ به، كما تنسبه لمَن فعله، ويقول العرب: جاء فلان إذا جاء كتابه، ويقولون للرجل: أنت ضربتَ زيدًا وهو لم يضربه، إذا كان قد رضي بذلك وشايع عليه.
    • وثانيهما: أنَّ من المعاني المجازية للنزول الإقبال على الشيء بعد الإعراض عنه، والمُقاربة بعد المباعدة، فيكون معنى الحديث على هذا أنَّ العبد في هذا الوقت أقرب إلى رحمة الله منه في غيره من الأوقات، وأنَّ الباري — سبحانه — يُقبِل على عباده بالتحنُّن والعطف في هذا الوقت بما يُلقيه في قلوبهم من التنبيه والتذكير الباعثين لهم على الطاعة والجد في العمل، ومن استعمال العرب النزول في هذا المعنى قول حِطان بن المُعَلَّى من شعراء «الحماسة»:
      أنزَلني الدهرُ على حُكمِه
      من شاهقٍ عالٍ إلى خَفْضِ
      أي: جعلني أُقارب مَن كنتُ أُباعده، وأُقْبِل على مَنْ كنت أُعرض عنه؛ ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، توهم المُجسمة أنَّ الله نور، وإنما المعنى هادي السموات والأرض، والعرب تسمِّي كل ما جلا الشبهات وأزال الالتباس وأوضح الحقَّ، نورًا. قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا يعني القرآن، ثم قال المؤلف: ولو مُنِحَتْ المجسمة طرفًا من التوفيق، وتأملت الآية بعين التحقيق، لوجدت فيها ما يُبطِل دعواهم بدون تكلف تأويل، ومن غير طلب دليل؛ لأن الله — تعالى — قال بعقب هذه الآية: وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
    أما النوع الثاني: نوع الحقيقة والمجاز العارضين في اللفظة من قِبَل أحوالها، فمثاله قوله تعالى: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْر، والأمر لا يَعزِم وإنما يُعزَم عليه، ونحو قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار، أي: مكركم في الليل والنهار، ويقول العرب: نهارك صائم، وليلك قائم.

    وأمَّا النوع الثالث: أي: المجاز والحقيقة العارضان من طريق التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض، فنحو الأمر يَرِد بصيغة الخبر، والخبر يرد بصيغة الأمر، والإيجاب يرد بصيغة النفي، والنفي يرد بصيغة الإيجاب، والواجب يرد بصيغة الممكن أو الممتنع، والممكن والممتنع يردان بصيغة الواجب، والمدح يرد بصيغة الذم، والذم يرد بصيغة المدح، والتقليل يرد بصيغة التكثير، والتكثير يرد بصيغة التقليل، ونحو ذلك من أساليب الكلام التي لا يقف عليها إلا مَن تحقق بعلم اللسان.

    فمن الأمر الوارد بصيغة الخبر قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، وإنَّما المعنى لترضع الوالدات أولادهن، والخبر الوارد بصيغة الأمر كقوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي: ما أسمعهم وأبصرهم! أمَّا الإيجاب الوارد بصيغة النفي، فكقولك: ما زال زيد عالمًا، فإنَّ صيغته كصيغة قولك: ما كان زيدٌ عالمًا، والأول إيجاب، والثاني نفي، وأمَّا النفي الوارد بصورة الإيجاب فنحو قولهم: لو جاءني زيدٌ لأكرمته، فصورته صورة كلام موجب لأنَّه ليس فيه أداة من أدوات النفي، وهو منفي في المعنى لأنه لم يقع المجيء ولا الإكرام، ومنه قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا.
    وورود الواجب بصورة الممكن كقوله تعالى: فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ: وقوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، وورود الممتنع بصورة الممكن كقول النابغة الذبياني يرثي النعمان بن الحارث الغساني:
    فإن تحْيَ لا أملَلْ حياتي وإن تمُتْ
    فما في حياتي بعد موتك طائل
    وأمَّا ورود المَدح في صورة الذَّم فمنه ما ذكره ابن جِنِّي أنَّ أعرابيًّا رأى ثوبًا فقال: ما له؟ محقه الله! قال فقلتُ له: لِمَ تقول هذا؟ فقال: إذا استحسنَّا شيئًا دعونا عليه، وأصل هذا أنَّهم يكرهون أن يمدحوا الشيء فيصيبونه١١٣ بالعين فيعدلون عن مدحه إلى ذَمِّه، وأمَّا ورود الذم في صورة المدح فكقوله تعالى: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ.
  • (٣)
    الخلافُ العارض من جهة الإفراد والتركيب: وذلك أنَّك تجد الآية الواحدة رُبَّما استوفت الغرض المقصود بها من التعبُّد، فلم تُحْوِجك إلى غيرها، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فإنَّ كل واحدة من هذه الآيات قائمة بنفسها مُستوفية للغرض المراد منها، وكذلك الأحاديث الواردة كقوله: «الزعيم غارم، والبَيِّنَة على المُدَّعي، واليَمينُ على المدَّعَى عليه.» وربما وردت الآية غير مستوفية للغرض المراد من التعبد، وورد تمام الغرض في آية أخرى وكذلك الحديث، ومثال ذلك قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، ثم قال آية أخرى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ، فدلَّ اشتراط المشيئة في هذه الآية الثانية على أنه مُراد في الآية الأولى، ورُبَّما وردت الآية مُجملة ثم يفسرها الحديث، كالآيات الواردة مجملة في الصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم شَرحت السنة والآثار جميع ذلك، ولأجل هذا صار الفقيه مضطرًّا في استعمال القياس إلى الجمع بين الآيات المفترقة وبين الأحاديث المُتغايرة وبناء بعضها على بعض، ووجه الخلاف العارض في هذا الموضع أنَّه رُبَّما أخذ بعض الفقهاء بمفرد الآية أو بمفرد الحديث، وبنى آخرُ قياسَه على جهة التركيب الذي ذكرنا، بأن يأخذ بمجموع آيتين أو بمجموع حديثين، أو بمجموع آيات أو بمجموع أحاديث، فيُفضي بهما الحال إلى الخلاف فيما يُنْتِجَانه، فعلى مثل هذا رُكِّبت القياسات وأنتِجت النتائج، ووقع الخلافُ بين أصحاب القياس. وخالفهم قومٌ آخَرون لم يَرَوا القياس، ورأَوا الأخذ بظاهر الألفاظ، فنشأ من ذلك نوع آخَر من الخلاف، ومما اختلفت فيه أقوال الفقهاء من هذا الباب ما يكون لأخذ كل واحد منهم بحديث مفرد اتصل به ولم يتصل به سواه.
  • (٤)
    الخلاف العارضُ من جهة العموم والخصوص، وهو نوعان؛ أحدهما: يعرض في موضوع اللفظة المفردة. والثاني: يعرض في التركيب. فالأول:«كالإنسان»، يستعمل عمومًا نحو قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، ويدلُّ على أنه لفظ عام لا يخص واحدًا دون آخر قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا فإنَّ الاستثناء لا يكون إلا من جملة، ويستعمل خصوصًا نحو ذلك: جاءني الإنسان، تُريد شخصًا معينًا.
    والثاني: نحو قوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. قال قوم: هذا خصوص في أهل الكتاب لا يُكرَهون على الإسلام إذا أدَّوا الجزية، وقال قوم: هي عموم ثم نُسخت بقوله: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ، وقد يأتي من هذا الباب ما موضوعه في اللغة على العموم ثم تُخَصِّصه الشريعة كالمُتعة، فإنَّها عند العرب اسم لكل شيء استُمتِعَ به لا يخص به شيء دون آخر، ثم نُقلت عن ذلك واستُعملت في الشريعة على ضربين؛ أحدهما: المُتعة التي كانت مُباحة في أوَّل الإسلام، ثم نُهي عنها ونُسِخَت بالنكاح والولي.
    والثاني: ما تُمتَّع به المرأة من مهرها، كقوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، وقد وقع الخلاف في قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ منْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، فكان ابن عباس يذهب بمعناه إلى المتعة الأولى، وذهب جماعة الفقهاء إلى أنَّ المُتعة الأولى منسوخة، وأنَّ هذه الآية كالتي في «البقرة»، وأنَّ معنى قوله: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إنما المراد المهر.١١٤
  • (٥)
    الخلاف العارض من جهة الرواية: والعلل التي تعرض للحديث فتُحِيل معناه، فرُبما أوهمت فيه مُعارضته بعضه لبعض، وربما ولَّدت فيه إشكالًا يحوج العلماء إلى طلب التأويل البعيد على أضْرُب:
    • العلة الأولى: فساد الإسناد، وهذه العلة أشهر العلل عند الناس، حتى إنَّ كثيرًا منهم يتوهم أنه إذا صح الإسناد صَحَّ الحديث، وليس كذلك، وفساد الإسناد يكون من الإرسال١١٥ وعدم الاتصال، ويكون من أنَّ بعضَ الرُّواة صاحب بدعة أو مُتَّهم بكذب وقلة ثقة، أو مشهورًا ببَلَه وغفلة، أو يكون مُتعصِّبًا لبعض الصحابة منحرِفًا عن بعضهم، فإنَّ مَن كان مشهورًا بالتعصُّب ثم رَوَى حديثًا في تفضيل مَن يتعصب له، ولم يَرِد من غير طريقه، لزم أن يُستراب به.

      ومِمَّا يبعث على الاسترابة بنقل الناقل أن يُعْلَم منه حرصٌ على الدنيا وتهافُت على الاتصال بالملوك، ونيل المكانة والحظوة عندهم، فإنَّ من كان بهذه الصفة لم يؤمن عليه التغيير والتبديل والافتعال للحديث والكذب، حرصًا على مكسب يحصل عليه، وقد روي أنَّ قومًا من الفرس واليهود وغيرهم لمَّا رَأَوا الإسلام قد ظهر وعمَّ ودوَّخ وأذلَّ جميع الأمم، ورأَوا أنه لا سبيل إلى مناصبته، رجعوا إلى الحيلة والمكيدة، فأظهروا الإسلام من غير رغبة فيه، وأخذوا أنفسهم بالتعبُّد والتقشف، فلمَّا حمد الناس طريقتهم ولَّدوا الأحاديث والمقالات، وفرَّقوا الناس فرقًا، وأكثر ذلك في الشيعة، كما يُحكى عن عبد الله بن سبأ اليهودي أنَّه أسلم واتصل بعلي — رضي الله عنه — وصار من شيعته، فلمَّا أُخبِر بقتْله وموته قال: كذبتم والله! لو جئتمونا بدماغه مصرورًا في سبعين صُرَّة ما صدَّقنا بموته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا، نجد ذلك في كتاب الله، فصارت مقالة يُعرَف أهلها بالسبئية، ويُقال: إنه قال: علي هو إله، وإنه يُحيي الموتى، وإنما غاب ولم يَمُت، وإذا كان عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — يتشدَّدُ في الحديث ويتوعد عليه، والزَّمان زمان والصحابة متوافرون، والبِدَع لم تَظهَر، فما ظَنُّك بالحال في الأزمنة التي ذمَّها الرَّسُول، وقد كثرت البدع وقلَّت الأمانة؟

    • العلة الثانية: نقل الحديث على المعنى دون اللفظ بعينه، فرُبَّما اتفق أن يسمع الراوي الحديث فيتصوَّر معناه في نفسه على غير الجهة التي أرادها، وإذا عبر عن ذلك المعنى بألفاظ أُخَر، كان قد حدَّث بخلاف ما سمع منْ غير قصد منه، وذلك أنَّ الكلام الواحد قد يحتمل معنيين وثلاثة، وقد يكون فيه اللفظة المشتركة، ومن ظريف الغلط الواقع في اشتراك الألفاظ ما روي أنَّ النبي وهب عليًّا — رضي الله عنه — عمامة تُسمَّى «السحاب»، فاجتاز علي — رضي الله عنه — مُتعمِّمًا بها، فقال النبي ، لمَن كان معه: «أما رأيتم عليًّا في السحاب؟» أو نحو ذلك من اللفظ. فسمعه بعض المُتشيِّعين لعلي — رضي الله عنه — فظنَّ أنه يريد السحاب المعروف، فكان ذلك سببًا لاعتقاد الشيعة أنَّ عليًّا في السحاب إلى يومنا هذا.
    • العلة الثالثة: الجهل بالإعراب ومباني كلام العرب ومجازاتها.
    • العلة الرابعة: وهي التصحيف، وذلك أنَّ كثيرًا من المُحدِّثين لا يضبطون الحروف، ولكنَّهم يُرسلونها إرسالًا غير مُقيَّدة ولا مُثقَّفة اتِّكالًا على الحفظ، فإذا غفل المُحدِّث عمَّا كتب مُدَّة من زمانه، ثم احتاج إلى قراءة ما كتب أو قرأه غيره، فربما رَفَعَ المنصوبَ ونصَبَ المرفوع، فانقلبت المعاني إلى أضدادها، ورُبَّما تصحَّف له الحرف بحرف آخر لعدم الضبط فيه؛ فانعكس المعنى إلى نقيض المراد، كما يحرِّف «أفْرَع» بمعنى تام الشعر إلى «أقرع» بالقاف بمعنى لا شعر برأسه، وذلك أن هذا الخط العربي شديد الاشتباه.

      ومن ظريف ما وقع من التصحيف في كتاب مسلم ومسنده الصحيح: «نحن يوم القيامة على كذا انظر» وهذا شيء لا يتحصَّل له معنًى، وهكذا نجده في كثير من النُّسخ، وإنما هو: «نحنُ يوم القيامة على كوم»، والكوم جمع كومة وهو المكان المُشرِف، فصحَّفه بعض النَّقَلة فكتب: «نحن يوم القيامة على كذا»، فقرأ مَن قرأ فلم يَفهَم ما هو فكتب على طرَّة الكتاب: «انظر»، يأمر قارئ الكتاب بالنظر فيه وينبِّهه عليه، فوجده ثالث فظنه من الكتاب وألحقه بمتْنه.

    • العلة الخامسة: هي إسقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى إلا به.
    • العلة السادسة: هي أن ينقل المحدِّثُ الحديث ويغفل عن نقل السبب الموجِب له فيعرض من ذلك إشكال في الحديث أو معارضة لحديث آخَر.
    • العلة السابعة: هي أن يسمع المحدِّث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه، كنحو ما رُوي من أنَّ عائشة — رضي الله عنها — أُخبرتْ أنَّ أبا هريرة حَدَّث أنَّ رسول الله قال: «إن يكن الشؤم ففي ثَلاث: الدار والمرأة والفَرس»، وهذا الحديث معارض للأحاديث الكثيرة الناهية عن التطير، فغضبت عائشة وقالت: والله ما قال هذا رسول الله قط. إنَّما قال: «أهل الجاهلية يقولون: إن يكن الشؤم ففي ثلاث: الدار والمرأة والفرس.» فدخل أبو هريرة فسمع الحديث ولم يسمع أوله، وهذا غير منكَر أن يعرض؛ لأنَّ النبي كان يذكر في مجلسه الأخبار حكاية ويتكلم بما لا يريد به أمرًا ولا نهيًا، ولا أن يجعله أصلًا في دينه ولا شيئًا يستسنُّ به، وذلك معلوم من فعله ومشهور من قوله.
    • العلة الثامنة: نقل الحديث المصحَّف دون لقاء الشيوخ والسماع من الأئمة والاكتفاء بالأخذ من الصحف المسوَّدة والكتب التي لا يُعلَم صحَّتها من سقمها، وربما كانت مخالفة لرواية شيخه، فيصحِّف الحروف ويبدِّل الألفاظ، وينسب جميع ذلك إلى شيخه ظالمًا.
  • (٦)

    الخلاف العارض من قِبَل الاجتهاد والقياس، وهو نوعان؛ أحدهما: الخلاف الواقع بين المنكِرين للاجتهاد والقياس والمثبِتين لهما، والثاني: خلاف يعرض بين أصحاب القياس في قياسهم.

  • (٧)

    الخلاف العارض من قِبَل النَّسْخ وهو يعرض بين مَن أنكر النسخ ومن أثبته، ويعرض بين القائلين بالنَّسخ من جهة اختلافهم في الأخبار: هل يجوز فيها النسخ كما يجوز في الأمر والنهي أم لا؟ واختلافهم في نسخ السنة للقرآن، واختلافهم في أشياء من القرآن والحديث، ذهب بعضهم إلى أنها نُسِخَتْ وبعضهم إلى أنها لم تُنسخ.

  • (٨)
    الخلاف العارض من قِبَل الإباحة؛ أي من قِبَل أشياء أوْسَع الله — تعالى — فيها على عباده، وأباحها لهم على لسان نبيه، كاختلاف الناس في الأذان ووجوه القراءات السبع، ونحو ذلك.١١٦

وُجدت في العصر الذي نحن بصدده كلُّ هذه الخلافات أو أكثرها تبعًا لاستقرار المُلْك واتساعه، وتشعُّب حاجاته التشريعية، وخروج العرب من طور البداوة والأمية واتصالهم بأمم أعجمية لها حظ من العلم والمدنية، وكانت هذه الخلافات من بواعث النهضة الأولى لإنشاء العلوم العربية، وتدوين الحديث والتفسير على أنها أدوات لاستنباط الأحكام الشرعية من دلائلها، وللاجتهاد بالرأي الذي هو أصل من أصول الشرع.

(٦) نظرة إجمالية

وجملة القول أنَّ التشريع في عهد النبي ، كان يقوم كما بيَّنَّا آنفًا على الوحي من الكتاب والسُّنة، وعلى الرأي من النَّبي ومن أهل النظر، والاجتهاد من أصحابه بدون تدقيق في تحديد معنى الرأي وتفصيل وجوهه، وبدون تنازع ولا شقاق بينهم.

ومضى عهد النبي ، وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين من سنة ١١ﻫ/٦٣٢م إلى ٤٠ﻫ/٦٦٠م، وقد اتفق الصحابة في هذا العهد على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم.

وفي هذا العهد أخذت تبدو الصورة الأولى للإجماع، بما كان يركن إليه الأئمة من مُشاورة أهل الفتوى من الصحابة — وهم المُعتَبَرون في انعقاد الإجماع، وكانوا قلة لا يتعذَّر تعرُّف الاتفاق بينهم.١١٧

ولم يكن يُفْتى من الصحابة إلا حَمَلة القرآن الذين قرءوه وكتبوا وفهموا وجوه دلالته وعرفوا ناسخه ومنسوخه، وكانوا يُسمَّوْن «القُرَّاء» لذلك، وتمييزًا لهم عن سائر الصحابة بهذا الوصف الغريب في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب.

ولم يكن الرأي في هذا الدور قد تعَيَّن معناه ولا تخصص، قال المرحوم الشيخ محمد الخضري بك في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي»:

«بيَّنَّا أنهم كانوا (أي الصحابة) يعمدون إلى الفتوى بالرأي، إن لم يكن هناك عندهم في الحادثة نص من القرآن والسنة، والرأي عندهم إنَّما كان للعمل بما يَرَوْنه مصلحة وأقرب إلى روح التشريع الإسلامي من غير نظر إلى أن يكون هناك أصل معيَّن للحادثة أو لا يكون.

ألا ترى أنَّ عمر حتَّم على محمد بن مسلمة أن يمرَّ خليجُ جاره في أرضه لأنه ينفع الطرفين ولا يضر محمدًا في شيء، وأفتى بوقوع الطلاق الثلاث مرة واحدة؛ لأن الناس قد استعجلوا أمرًا كانت لهم فيه أناة، وحرَّم على مَن تزَّوج امرأة في عِدَّتها أن يتزوج بها مرة أُخرى بعد التفريق بينهما، زجرًا له، والنَّظر في المصالح يختلف باختلاف الناظرين؛ لذلك نجد بعض المُفتين في عصر عمر خالفوه فيما رأى، وهناك مسائل خالف فيها عمر أبا بكر وقضى بغير ما كان يقضي به، كما ذكرنا في ميراث الجد مع الأخوة. وفي التفضيل في العطاء، وكذلك هناك مسائل أفتى فيها عليٌّ بغير ما أفتى به غيره من إخوانه، فقد كان يُخرج الزَّكاة عن أموال اليتامى الذين في حجره، وكان غيره يقول ليس على مال اليتيم زكاة.

وقد بَيَّنا أنَّ الخلاف لم يكن في هذا العصر بالشيء الكثير؛ لأنَّ أقضيتهم كانت بقدْر ما ينزل من الحوادث، ولم تدوَّن هذه الأقضية في عصرهم، فقد انتهى ذلك الدور والفقه هو نصوص القرآن الكريم والسنة الطاهرة المُتَّبعة وما ارتضاه كبارُ الصحابة، مما رواه لهم غيرهم من الصحابة أو ما سمعوه هم، وقليل من الفتاوى صادرة عن آرائهم بعد الاجتهاد والبحث.

وأشهر المُتصدِّرين للفتوى في هذا العصر الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري ومُعاذ بن جبل، وأُبَيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، والمكثِرون منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وهذا في الفرائض خاصة.»١١٨

وفي كتاب «إعلام الموقعين» لابن قيِّم الجوزية: «وقال محمد بن جرير: لم يكن أحد له أصحاب معروفون حرَّروا فتياه ومذاهبه في الفقه غير ابن مسعود، وكان يَترك مذهبَه وقولَه لقول عمر، وكان لا يكاد يُخالفه في شيء من مذاهبه، ويرجع من قوله إلى قوله، وقال الشعبي كان عبد الله لا يقنُت، وقال لو قنت عمر لقنت عبد الله.

فصل: وكان من المُفتين عثمان بن عفان، غير أنه لم يكن له أصحاب معروفون، والمبلِّغون عن عمر فتياه ومذاهبه وأحكامه في الدين بعده أكثر من المبلغين عن عثمان والمؤدِّين عنه، وأمَّا علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — فانتشرت أحكامه وفتاويه، ولكن قاتَلَ اللهُ الشيعة! فإنهم أفسدوا كثيرًا من علمه بالكذب عليه؛ ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان عن طريق أهل بيته وأصحاب عبد الله بن مسعود كعَبِيدة السلماني، وشريح وأبي وائل ونحوهم.»١١٩

(٦-١) علم وفقه

ثم كان عصر بني أُمية من سنة ٤٠ﻫ/٦٦٠م إلى سنة ١٣٢ﻫ/٧٤٩م، وتكاثر الممارسون للقراءة والكتابة من العرب، ودخلت في دين الله أُمم ليست أُمِّية، فلم يعد لفظ القُرَّاء نعتًا غريبًا يصلح لتمييز أهل الفتوى ومَن يُؤخَذ عنهم الدين، هنالك استعمل لفظ «العلم» للدلالة على حفظ القرآن ورواية السنن والآثار، وسُمي أهل هذا الشأن «العلماء»، واستعمل لفظ الفقه للدلالة على استنباط الأحكام الشرعية بالنظر العقلي فيما لم يَرِد فيه نصُّ كتاب ولا سنة، وسُمي أهل هذا الشأن «الفقهاء»، فإذا جمع امرؤ بين الصفتين جمع له اللفظان أو ما يُرادفهما.

وفي «طبقات» ابن سعد: كان ابن عمر جيد الحديث غير جيد الفقه، وكان زيد بن ثابت فقيهًا في الدين وعالمًا بالسُّنَن.

وروى ابن القيِّم في «إعلام الموقعين» عن بعض التابعين، قال: دفعت١٢٠١٢١ إلى عمر فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان، قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه. وفي «إعلام الموقعين» أيضًا عن ميمون بن مهران: «ما رأيتُ أفقه من ابن عمر ولا أعلم من ابن عباس.»

(٦-٢) الخلاف في كتابه العلم وتخليده في الصحف

وقد كان كثير من الصَّحابة والتَّابعين يكره كتابة العلم، وتخليده في الصحف كعمر وابن عباس والشَّعبي والنَّخَعي وقتادة ومَن ذهب مذهبهم.

قال ابن عبد البر في «مختصر جامع بيان العلم»:

«من كَرِه كتاب العلم إنما كرهه لوجهين؛ أحدهما: ألَّا يُتَّخَذ مع القرآن كتاب يُضاهَى به، ولئلا يتَّكل الكاتب على ما يُكتب فلا يَحفَظ فيقلَّ الحفظ.»

وقال ابن عبد البر أيضًا في الكتاب نفسه:

«قال أبو عمر: مَن ذكرنا قوله في هذا الباب فإنما ذهب في ذلك مذهب العرب؛ لأنهم كانوا مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك، والذين كرهوا الكتابة كابن عباس والشعبي وابن شهاب والنخعي وقتادة ومَن ذهب مذهبهم وجُبِل جِبِلَّتَهم، كانوا قد طُبعوا على الحفظ، فكان أحدهم يجتزي بالسَّمْعة، ألَا ترى ما جاء عن ابن شهاب أنَّه كان يقول: إني لأمرُّ بالبقيع فأسدُّ آذاني مخافة أن يدخل فيها شيء من الخَنَا، فوالله، ما دخل أُذني شيء قط فنسيتُه، وجاء عن الشعبي نحوه وهؤلاء كلهم عرب.»١٢٢
وفي «تاريخ التشريع الإسلامي»١٢٣ للشيخ محمد الخضري بك:
«وقال السيوطي في «تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك»: أخرج الهروي في ذم الكلام من طريق الزُّهري، قال أخبرني عروة بن الزبير، أنَّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتُبَ السُّنَن واستشار فيه أصحاب رسول الله، فأشار عليه عامَّتهم بذلك، فلبث شهرًا يستخير الله في ذلك شاكًّا فيه، ثم أصبح يومًا، وقد عزم الله له فقال: إنِّي كنتُ ذكرتُ لكم من كتابة السُّنَن ما قد علمتم، ثم تذكَّرتُ، فإذا أُناسٌ من أهل الكتاب من قبلِكم قد كتبوا مع كتاب الله كُتُبًا، فأكبُّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أُلبس كتاب الله بشيء، فترك كتابة السنن، وقال ابن سعد في «الطبقات»: أخبرنا قُبَيْصَةُ بن عقبة، أنبأنا سفيان عن مَعْمر عن الزُّهري قال: أراد عُمر أن يكتب السُّنَن فاستخار الله شهرًا، ثم أصبح وقد عزم له، فقال ذكرتُ قومًا كتبوا كتابًا فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله. ا.ﻫ.»١٢٤

ولمَّا مَضَى عهد الصحابة ما بين تسعين ومائة من الهجرة، وجاء عهد التابعين انتقل أمر الفتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا قليلًا.

جاء في كتاب «مناقب الإمام الأعظم» للبزَّار:

«عن عطاء قال: دخلتُ على هشام بن عبد الملك فقال: هل لك علم بعلماء الأمصار؟ قلت: بلى، قال: فمَن فقيه المدينة؟ قلتُ: نافعٌ مولى ابن عمر المتوفى سنة ١١٧ﻫ/٧٣٥م، وفقيه مكة عطاء بن رباح المولى المتوفى سنة ١١٤ﻫ/٧٣٢م، وفقيه اليمن طاوس بن كيسان المولى، وهو فارسي تُوفي سنة ١٠٦ﻫ/٧٢٤-٧٢٥م، وفقيه الشام مكحول (مات سنة بضع ومائة)، وفقيه الجزيرة ميمون بن مهران المولى (مات سنة ١١٧ﻫ/٧٤٥م) وفقيها البصرة الحسن وابن سيرين (محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرة مات سنة ١١٠ﻫ/٧٢٨-٧٢٩م) المَولَيَان، وفقيه الكوفة إبراهيم النَّخعي العربي (أبو عمران إبراهيم بن يزيد مات سنة ٩٥ﻫ/٧١٣-٧١٤). قال هشام: لولا قولك عربي لكادت نفسي تخرج.»١٢٥

وجاء في كتاب «الخطط» للمقريزي:

«وعن عون بن سليمان الحضرمي قال: كان عمر بن عبد العزيز قد جعل الفتيا بمصر إلى ثلاثة رجال: رجلان من الموالي، ورجل من العرب، فأمَّا العربي فجعفر بن ربيعة، وأما المَوْلَيَان فيزيد بن أبي حبيب، وعبد الله بن أبي جعفر، فكأن العرب أنكروا ذلك، فقال عمر بن عبد العزيز: ما ذنبي إذا كانت الموالي تسمو.»١٢٦ بأنفسها صُعُدًا وأنتم لا تسمون؟١٢٧

(٦-٣) تدوين العلم

عندئذٍ تضاءلت النزعة العربية إلى حظر التدوين، وصارت كتابة العلم أمرًا لازمًا، ومِمَّا أكَّد الحاجة لتدوين السنن شيوع رواية الحديث، وقلة الثقة ببعض الرواة، وظهور الكَذب في الحديث عن رسول الله ، لأسباب سياسية أو مذهبية «عن سعد بن إبراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز — المتوفى سنة ١٠١ﻫ/٧٢٠م — بجمع السنن فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل بلد له عليها سلطان دفترًا.»١٢٨

وفي شرح الزرقاني على «موطأ مالك»:

«وأفاد في الفتح أنَّ أوَّل مَن دوَّن الحديث ابن شهاب بأمر عمر بن عبد العزيز، يعني كما رواه أبو نُعَيم من طريق محمد بن الحسن بن زَباله، عن مالك قال: أول مَن دوَّن العلم ابن شهاب، وأخرج الهروي في «ذم الكلام» من طريق يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار، قال: لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث، إنما كانوا يؤدُّونها لفظًا، ويأخذونها حفظًا، إلا كتاب الصدقات والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتى خِيف عليه الدروس وأسرع في العُلماء الموت أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزمي فيما كتب إليه أن انظر ما كان من سنَّة أو حديث عمر فاكتبه، وقال مالك في «الموطأ» (رواية محمد بن الحسن): أخبرنا يحيى بن سعيد أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر١٢٩ محمد بن عمرو بن حزم، أنِ انظر ما كان من حديث رسول الله ، أو سنة أو حديث أو نحو هذا، فاكتبه لي؛ فإني خفتُ دروس العلم وذهاب العلماء (علقه١٣٠ البخاري في صحيحه)، وأخرجه أبو نُعَيم في تاريخ أصبهان بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله ، فأجمعوه، وروى ابن عبد الرزاق عن ابن وهب، سمعتُ مالكًا يقول: كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عمَّا مضى وأن يعملوا بما عندهم، ويكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع السنن ويكتب بها إليه، فتُوفي عمر وقد كتب ابن حزم كتبًا قبل أن يبعث بها إليه.»١٣١

ويقول المرحوم محمد بن الخضري في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي»:

«أمَّا السنة فمع كثرة روايتها في هذا الدور — يُريد عهد صغار الصحابة ومَن تلقَّى عنهم من التابعين من سنة ٤١ﻫ/٦٦١-٦٦٢م إلى أوائل القرن الثاني من الهجرة — وانقطاع فريق من علماء التابعين لروايتها، لم يكن لها حظ من التدوين، إلا أنَّه لم يكن من المعقول أن يستمر هذا الأمر طويلًا مع اعتبار الجمهور للسُّنة أنها مكمِّلة للتشريع ببيانها للكتاب، ولم يكن ظهر بين الجمهور مَن يُخالف هذا الرأي، وأول من تنبَّه لهذا النقص الإمام عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الثانية من الهجرة، فقد كتب إلى عامله بالمدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما كان من حديث رسول الله، ، أو سنته فاكتبه فإني خفتُ دروس العلم وذهاب العلماء (رواه مالك في «الموطأ» رواية محمد بن الحسن). وأخرج أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق: انظروا إلى حديث رسول الله ، فأجمعوه.»١٣٢

وجاء في كتاب «الإحكام» لابن حزم:

«… ولئن كان جمع حديث النبي ، مذمومًا، فإن مالكًا لَمن أول مَن فعل ذلك؛ فإنه أول مَن ألَّف في جمع الأحاديث فحمَّاد بن سلمة، ومعمر ثم مالك ثم تلاهم الناس.»١٣٣

وقد بدت مخايل نهضة في التشريع الإسلامي منذ ذلك العهد، فحصل تدوين بعض السنن وبعض المسائل، ولم يصل إلينا من تلك المدوَّنات إلا صدًى.

(أ) أول تدوين السنن بالمعنى الحقيقي

أمَّا أول تدوين للسنن بالمعنى الحقيقي فيقع ما بين سنة ١٢٠ﻫ/٧٣٨م، سنة ١٥٠ﻫ/٧٦٧م.

ويقول ابن قتيبة إنَّ ابن شهاب الزهري المُتوفى سنة ١٢٤ﻫ/سنة ٧٤١-٧٤٢م هو أول مَن كتب الحديث.

وفي «إعلام الموقعين»:

«وجمع محمد بن نوح فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه.»١٣٤

وفي كتاب «كشف الظنون»:

«الإشارة الثالثة في أوَّل مَن صنف في الإسلام: واعلم أنه اختُلف في أول مَن صنف، فقيل الإمام عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج البصري المتوفى سنة خمس وخمسين ومائة، وقيل: أبو النصر سعيد بن أبي عروبة المُتوفى سنة ست وخمسين ومائة، ذكرهما الخطيب البغدادي، وقيل ربيع بن صبيح المتوفى سنة ستين ومائة، قاله أبو محمد الرامهرمزي، ثم صنف سفيان بن عيينة (المتوفى سنة ١٩٨ﻫ/٨١٣-٨١٤م)، ومالك بن أنس بالمدينة، وعبد الله بن وهب (المتوفى سنة ١٩٧ﻫ/٨١٢-٨١٣م بمصر)، وعبد الرزاق باليمن، وسفيان الثوري ومحمد بن فضيل بن عزوان بالكوفة، وحماد بن سلمة ورَوْح بن عبادة بالبصرة، وهشيم (المتوفى سنة ١٨٣ﻫ/٧٩٩م) بواسط، وعبد الله بن المبارك (المتوفى سنة ١٨٢ﻫ/٧٩٨م) بخراسان، وكان مطمح نظرهم في التدوين ضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما، ثم دوَّنوا فيما هو كالوسيلة وإليهما.»١٣٥

وجاء في «خطط المقريزي»:

«فكان أوَّل مَن دوَّن العلم محمد بن شهاب الزهري، وكان أول مَن صنف وبوَّب سعيد بن عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة، والوليد بن مسلم بالشام، وجرير بن عبد الحميد بالرَّي، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان، وهشيم بن بشير بواسط، وتَفَرَّد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحُسن التأليف.»١٣٦

وقال الغزالي في «الإحياء»:

«بل الكتب والتصانيف مُحْدَثة، لم يكن شيء منها في زمن الصحابة وصدر التابعين، وإنما حدثت بعد سنة مائة وعشرين من الهجرة، وبعد وفاة جميع الصحابة وجِلَّة التابعين — رضي الله عنهم — وبعد وفاة سعيد بن المسيِّب والحسن وخيار التابعين، بل كان الأولون يكرهون كتب الأحاديث وتصنيف الكتب، لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ وعن القرآن وعن التدبُّر والتذكُّر، وقالوا: احفظوا كما كنَّا نحفظ، وكان أحمد بن حنبل يُنكر على مالك تصنيف «الموطأ»، ويقول: ابتدَع ما لم تفعله الصحابة رضي الله عنهم، وقيل أول كتاب صُنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف التفاسير عن مُجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس، — رضي الله عنهم — بمكة، ثُمَّ كتاب معمر بن راشد الصنعاني (المتوفى سنة ١٥٤ﻫ/٧٧١م) باليَمن جمع فيه سننًا مأثورة نبوية، ثم كتاب «الموطأ» بالمدينة لمالك بن أنس، ثم «جامع» سفيان الثوري، ثم في القرن الرَّابع حدثت مصنفات الكلام وكثر الخوض في الجدال والغوص في إبطال المقالات.»١٣٧

وفي كتاب «مُختصر جامع بيان العلم»:

«وعن عبد العزيز بن محمد الداروردي قال: أول مَن دوَّن العلم وكتبه ابن شهاب، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: كُنَّا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمتُ أنَّه أعلم الناس، وعن الحسن أنه كان لا يرى بكتاب العلم بأسًا، وقد كان أمْلَى التفسير فكتب، وعن الأعمش قال: قال الحسن: إنَّ لنا كتبًا نتعاهدها، وعن هشام بن عروة، عن أبيه أنه قد احترقت كتبه يوم الحَرَّة وكان يقول: وددتُ لو أنَّ عندي كتبي بأهلي ومالي.»١٣٨

ويقول جولدزيهر في مقاله عن كلمة «فقه» في دائرة المعارف الإسلامية:

«وينبغي ألَّا يُعطى كبير ثقة لما نُسب لهشام بن عروة، من أنه في يوم الحرة حُرِّقت لأبيه كتب فقه، ولا يمكن أن يُتصوَّر بحال أنه في ذلك العهد البعيد كانت توجد كتب بالمعنى الصحيح، وإنَّما هي صحائف مُتفرقة، وتُوفي عروة سنة ٩٤ﻫ/٧١٢م، وتلك السنة هي التي كانت تُسَمَّى سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها من الفقهاء …»

لكن جولدزيهر يذكر في المقال الذي أشرنا إليه آنفًا ما يأتي:

«وقد اكتشف جِرِفيني بين المخطوطات القديمة في المكتبة الأمبروزية بميلانو الخاصة ببلاد العرب الجنوبية مختصرًا في الفقه اسمه «مجموعة زيد بن علي» المتوفى سنة ١٢٢ﻫ/٧٤٠م، وهو منسوب إلى مؤسس فرقة الزيدية من الشيعة، وعلى ذلك تكون هذه المجموعة أقدم مجموعة في الفقه الإسلامي.

وعلى كل حال ينبغي أن يوضع هذا الكتاب موضع الاعتبار فيما يتعلق بتاريخ التأليف في الفقه الإسلامي، وإذا صح أنَّه وصل إلينا من بطانة زيد بن علي، وَجَبَ أن نعترف بأنَّ أقدم ما وصل إلينا من المصنفات الفقهية هو من مؤلفات الشيعة الزيدية، على أنَّ البحث الذي أُثير لتعيين مركز هذا الباب بين المؤلفات الفقهية لم يكمل.»

وعلى الجملة فإنه إذا كان دُوِّن شيء لضَبْط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما في عهد بني أمية، أو دُوِّن شيء مما يتصل بالقضاء في هذا العهد أيضًا كما يقول السكتواري في كتاب «محاضرة الأوائل ومُسَامرة الأواخر»: «أوَّل القضاة بمصر سجَّل سجلًّا بقضائه، سليم بن عز؛ قضى في ميراث وأَشهَدَ فيه، وكتب كتابًا بالقضاء به وأشهد فيه شيوخ الجند؛ فكان أول القضاة تسجيلًا، وكانت ولايته من سنة أربعين إلى موت معاوية — رضي الله عنه — سنة ستين» (أوائل السيوطي).١٣٩ فإن التدوين في الفقه بالمعنى المُحدَث لم يكن إلا في عهد العباسيين. هذا هو الرأي الذي يكاد يكون مقرَّرًا ومُجمَعًا عليه بين الباحثين.

وقد ذكر صاحب «الفهرست» عند الكلام على الزيدية ما نصه:

«الزيدية الذين قالوا بإمامة زيد بن علي — رضي الله عنه، ثم قالوا بعده بالإمامة في ولد فاطمة، كائنًا مَن كان، بعد أن يكون استوفى شروط الإمامة، وأكثر المحدثين على هذا المذهب مثل سفيان بن عُيَيْنة، وسُفيان الثوري، وصالح بن حيٍّ وولده١٤٠ وغيرهم.»١٤١

وعلاقة ابن عيينة والثوري بنهضة الفقه عند أهل السنة تجعل للبحث الذي يشير إليه جولدزيهر شأنًا خطيرًا.

وفي «رسائل الجاحظ» (كتاب فضل بني هاشم):

«فأمَّا الفقه والعلم والتفسير والتأويل فإن ذكرتموه لم يكن فيه أحد، وكان لنا فيه مثل علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وزَيد ومحمد ابني علي بن الحسين بن علي، وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفضله، ويُقال إنَّ أبا حنيفة من تلامذته، وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب؛ ولذلك نُسِبَ إلى سفيان أنه زيدي المذهب، وكذلك أبو حنيفة، ومَنْ مِثْل علي بن الحسين زين العابدين؟ وقال الشافعي في «الرسالة» في إثبات خبر الواحد: وجدتُ علي بن الحسين وهو أفقه أهل المدينة، يقول على أخبار الآحاد، ومَن مِثْل ابن الحنفية، وابنه أبي هاشم الذي قرَّر علوم التوحيد والعدل حتى قالت المعتزلة: غُلب الناس كلهم بأبي هاشم الأول!١٤٢ على أنَّ الشيعة كان بأيديهم بعد عليٍّ كتاب يقولون إنَّ فيه قضاياه، وقد عرض هذا الكتاب على ابن عباس فأنكر أكثره.»

قال المرحوم الشيخ الخضري في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي»:

«وروي عن ابن أبي مُليكة قال: كتبتُ إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابًا ويخفي عني، فقال: ولدٌ ناصحٌ، أنا أختار له الأمور اختيارًا وأخفي عنه، قال: فدعا بقضاء عليٍّ فجعل يكتب منه أشياء، ويمُرُّ بالشيء فيقول: والله، ما قضى عليَّ بهذا إلا أن يكون ضلَّ، ورُوي عن طاوس قال: أُتِي ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي فمحاه إلا قدْر (وأشار سفيان بن عيينة بذراعه). ورُوي عن ابن إسحاق قال: لمَّا أحدثوا تلك الأشياء بعد عليٍّ — رضي الله عنه — قال رجل من أصحاب عليٍّ: قاتلهم الله، أي علم أفسدوا!١٤٣
ثم قال: ويَظهَر من حديث ابن عباس السابق أنه كان عند شيعة علي كتاب فيه أقضيته، وذلك ما لم يَثِق ابن عباس بصحته، وقال: والله، ما قضى علي بهذا إلا أن يكون ضلَّ، ومَحَا منه كثيرًا ولم يُبقِ إلا أقلَّه.»١٤٤

(ب) سبق الشيعة إلى تدوين الفقه

وعلى كل حال؛ فإنَّ ذلك لا يخلو من دلالة على أنَّ النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة من سائر المُسلمين، ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الأحكام الشرعية أسرع إلى الشيعة؛ لأنَّ اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يُشبه العصمة كان حريًّا أن يسوقهم إلى الحرص على تدوين أقضيتهم وفتاواهم؛ ذلك إلى أن التشيُّع تأثَّر منذ بداية أمره بعناصر من غير العرب الأُمِّيين الذين كانوا مجبولين على الحفظ نافرين من الكتابة والتدوين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

وفي هذا العهد لم يكن عُرف بين الناس الانتساب إلى فقيه مُعَيَّن يُعمَل بما ذهب إليه من رواية أو رأي، وإِنَّما كان هؤلاء المُفتون بالأمصار المُختلفة معروفين بالفقه ورواية الحديث، فكان المُستفتي يذهب إلى مَن شاء منهم فيسأله عَمَّا نزل به فيفتيه، ورُبَّما ذهب مرة أُخرى إلى مفتٍ آخَر، وكان القُضاة في الأمصار يقضون بين الناس بما يفهمونه من كتاب الله أو سُنَّة رسوله أو أيِّ رأيٍ، إنْ ظَهَر لهم، ورُبَّما استفتَوْا مَن ببلدهم من الفُقهاء المعروفين، ورُبَّما أرسلوا إلى الخليفة يسألونه، كما حصل في عهد عمر بن عبد العزيز.١٤٥

(٧) الرأي في العصر العباسي الأول من ١٣٢ﻫ/٧٤٩-٧٥٠م إلى ٢٣٢ﻫ/٨٤٦-٨٤٧م

جاء عهد العباسيين منذ ١٣٢ﻫ/٧٤٩-٧٥٠م، وشجَّع الخلفاء الحركة العلمية وأمدُّوها بسُلْطَانهم، فكان طبيعيًّا أنْ تنتعش العلوم الدينية في ظلهم، بل كانت حركة النهوض أسرع إلى العلوم الشرعية؛ لأنَّها كانت في دَوْر نمو طبيعي وتكامل.

وهناك سبب يذكره «جولدزيهر» في كتابه «عقيدة الإسلام وشرعه» «وهو أن حكومة الأُمويين كانت مُتهمة بأنها دنيوية، فحلَّت محلَّها دولة دينية سياستها سياسة ملية.

كان العباسيون يجعلون حقهم في الإمامة قائمًا على أنَّهم سلالة البيت النبوي، وكانوا يقولون إنهم سيشيدون على أطلال الحكومة الموسومة بالزَّندقة عند أهل التقى نظامًا منطقيًّا على سُنة النبي وأحكام الدين الإلهي، ويُلاحظ أنَّ المثل الأعلى للسياسة الفارسية وهو الاتصال الوثيق بين الدين والحكومة كان برنامج الحكم العباسي، وقد اقتضى ضبط أمور الدولة على منهاج شرعي جمع الأحكام الشرعية وتدوينها وترتيبها.»١٤٦

(٧-١) تطوُّر معنى كلمة الفقه في هذا العهد

وفي صدر العهد العباسي تمكَّن الاستنباط واستقرت أصوله، وجعل لفظ الفقه ينتهي بالتدريج إلى أن يكون غير مقصور على المعنى الأصلي؛ أي الاستنباط من الأدلة التي ليست نصوصًا، وأصبح المعنى الأول للفقه هو، كما يقول الآمدي في كتاب «الإحكام»:

«وفي عرف المتشرعين الفقه١٤٧ مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال.»١٤٨

أو هو العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية كما اختاره الشوكاني في كتاب «إرشاد الفحول» والمُراد من الأدلة التفصيلية ما كان نصًّا أو رأيًا، وسُمِّي أهل هذا الشأن بالفقهاء.

(٧-٢) أهل الرأي وأهل الحديث

ونشأ التأليف على هذا المعنى، وانقسم الفُقهاء انقسامًا ظاهرًا إلى فريقين؛ أصحاب الرأي والقياس وهم أهل العراق، وأهل الحديث وهم أهل الحجاز.

ومقدَّم جماعة أهل الرأي الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت المُتوفى سنة ١٥٠ﻫ/٧٦٧م المُعتبر أبًا لمذهب أهل العراق. أسَّسه وأعانَه على تأسيسه تلميذاه الجليلان أبو يوسف القاضي المتوفى سنة ١٨٢ﻫ/٧٩٨م ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة ١٨٩ﻫ/٨٠٤م.

وبدأ النزاع بين الرأي والحديث، وظهور أنصار لكلٍّ منهما يسبق عهد أبي حنيفة، فقد كان في كبار التابعين أهل رأي وأهل حديث.

قال الدهلوي في كتابه «حجة الله البالغة»:

«اعلم أنَّه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب المتوفى سنة ٩١ﻫ/٧٠٩-٧١٠م، وإبراهيم،١٤٩ والزهري المتوفى ١٢٤ﻫ/٧٤١-٧٤٢م. وفي عصر مالك وسفيان وبعد ذلك، قوم يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بدًّا، وكان أكبر هَمِّهم رواية حديث رسول الله ١٥٠

وقال المرحوم الخضري في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي» عند الكلام على الدور الثالث — التشريع في عهد صغار الصحابة، ومَن تلقَّى عنهم من التابعين — في مميزات هذا الدور: بدء النزاع بين الرأي والحديث، وظهور أنصار لكل من المبدأين:

قدمنا أن كبار الصحابة كانوا في العصر الأول يستندون في فتواهم أولًا إلى الكتاب ثم إلى السنة، فإن أعجزهم ذلك أفتَوْا بالرأي وهو القياس بأوسع معانيه، ولم يكونوا يميلون إلى التوسع في الأخذ بالرأي، ولمَّا جاء هذا الخلف — يريد صغار الصحابة ومَن تلقَّى عنهم من التابعين — وجد منهم مَن يقف عند الفتوى على الحديث ولا يتعدَّاه، يفتي في كل مسألة بما يجده من ذلك، وليست هناك روابط تربط المسائل بعضها ببعض، ووجد فريق آخر يرى أن الشريعة معقولة المعنى، ولها أصول يرجع إليها، فكانوا لا يخالفون الأولين في العمل بالكتاب والسنة ما وجدوا إليها سبيلًا، ولكنهم لاقتناعهم بمعقولية الشريعة وابتنائها على أصول محكمة فهمت من الكتاب والسنة، كانوا لا يحجمون عن الفتوى برأيهم فيما لم يجدوا فيه نصًّا.

وجد بذلك أهلُ حديث، وأهل رأي، الأوَّلون يقفون عند ظواهر النصوص بدون بحث في عِلَلها وقَلَّمَا يُفتون برأي، والآخرون يبحثون عن علل الأحكام وربط المسائل بعضها ببعض، ولا يُحجِمون عن الرَّأي إذا لم يكن عندهم أثر، وكان أكثر أهل الحجاز أهل حديث، وأكثرُ أهل العراق أهل رأي؛ ولذلك قال سعيد بن المسيب لربيعة (ابن أبي عبد الرحمن المتوفى سنة ١٣٦ﻫ/٧٥٣-٧٥٤م) لمَّا سأله عن علة الحكم: أعراقي أنت؟

(٧-٣) أهل الرأي من فقهاء العراق

وممَّن اشتُهر بالرأي والقياس من فُقهاء العراق إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي فقيه العراق، وهو شيخ حمَّاد بن أبي سُليمان المُتوفى سنة ١٢٠ﻫ/٧٣٧-٧٣٨ شيخ أبي حنيفة المُقدَّم من أهل العراق، وقد أَخَذَ إبراهيم الفقه عن خاله علقمة المتوفى سنة ٦٠ﻫ/٦٧٩-٦٨٠م أو ٧٠ﻫ/٦٨٩-٦٩٠م، وهو علقمة بن قيس النخعي الكوفي، وهو من متقدمي فقهاء التابعين من الطبقة الأولى منهم، وكان أنبل أصحاب ابن مسعود.

وكان إبراهيم يُعاصر عامر بن شُرَحْبِيل الشَّعْبي المتوفى سنة ١٠٤ﻫ/٧٣٢-٧٣٣م محدِّث الكوفة وعالمها، وكان الأمر بعيدًا بينهما، فإنَّ الشَّعبي كان صاحب حديث وأثر، إذا عرضت له الفتيا ولم يجد فيها نصًّا انقبض عن الفتوى، وكان يكره الرأي وأرأيت، وقال مرة: أرأيتم لو قُتل الأحنف وقُتل معه صغير، أكانت ديتهما سواء، أم يفضل الأحنف لعقله وحكمه؟ قالوا: بل سواء، قال: فليس القياس بشيء. فالفرق بين الرجلين أنَّ الشعبي ومَن على طريقته من رجال الحديث والأثر يقفون عند السنة لا يتعدَّوْنها، وينقبضون أن يقولوا بآرائهم فيما فيه سنة وما ليس فيه سنة، ولا يحكم العقل في شيء من ذلك، وليس هناك مصالح مُنضبطة اعتبرها الشارع في تشريعه يرجعون إليها عند الفُتيا، كأنَّه لا رابطة بين الأحكام الشرعية.

وقد تألم سعيد بن المسيِّب شيخ فقهاء أهل الحديث من ربيعة لمَّا سأله عن المعقول في دية الأصابع، وكان أهل المدينة يسمون ربيعة هذا بربيعة الرأي، لمَا يبحث في علل الشريعة، حتى قال ربيعة بن سوار القاضي: ما رأيتُ أحدًا أعلم من ربيعة بالرأي. فقيل له: ولا الحسن وابن سيرين؟ فقال: ولا الحسن وابن سيرين.

أمَّا إبراهيم النخعي ومَن على طريقته من فقهاء العراق وبعض فقهاء المدينة؛ فإنهم كانوا يستندون أيضًا في فتاويهم إلى الكتاب والسُّنة، إلَّا أنهم فهموا أن هذه الشريعة لا بد أن تكون لها مصالح مقصودة التحصيل من أجلها شُرِعَت، وصَحَّ لهم اعتبار هذه المصالح فجعلوها أساسًا للاستنباط فيما لم يَرَوْا فيه كِتَابًا ولا سنة، ولهم في ذلك سلف صالح؛ فإنَّ الصحابة قاسوا في كثير من المسائل التي عرضت لهم، ولم يكن عندهم فيها كتاب ولا سنة، ولم تكن آراؤهم إلا نتيجة اعتبار تلك المصالح.١٥١

(أ) أبو حنيفة

ولئن كان حمَّاد بن أبي سُليمان الكوفي المُتوفى سنة ١٢٠ﻫ/٧٣٨م هو أوَّل مَن جمع حولَه طائفة من التلاميذ يعلِّمهم الفقه مع ميلٍ غالبٍ للرأي، وكان أبو حنيفة من هؤلاء التلاميذ — كما في مقال جولدزيهر — فإنَّ حمادًا لم يترك أثرًا علميًّا مكتوبًا.

أمَّا أبو حنيفة فيقول صاحب «الفهرست»: «وله من الكُتُب كتاب «الفقه الأكبر»، وكتاب «رسالة إلى البستي» (أبو سُليمان أحمد بن محمد الخطابي)، وكتاب «العالم والمتعلِّم» رواه عنه مقاتل، وكتاب «الرد على القدرية»، والعلم، برًّا وبحرًا وشرقًا وغربًا بُعْدًا وقُربًا، تدوينه، رضي الله عنه.»١٥٢
وفي كتاب «أصول» فخر الإسلام البزدوي:«وقد صنَّف أبو حنيفة — رضي الله عنه — في ذلك — أي في علم التوحيد والصفات — كتاب «الفقه الأكبر»، وذكر فيه إثبات الصفات، وإثبات تقدير الخير والشر من الله، وأنَّ ذلك كله بمشيئته، وأثبت الاستطاعة مع الفعل، وأنَّ أفعال العباد مَخْلُوقة بخلق الله — تعالى — إياها كلها، وردَّ القول بالأصلح، وصنَّف كتاب «العالم والمتعلم» وكتاب «الرِّسالة»، وقال فيه لا يكفر أحد بذنب ولا يخرج به من الإيمان ويُترحَّم عليه.»١٥٣
ويذكر الموفَّق بن أحمد المكي الحنفي في كتابه «مناقب الإمام الأعظم» أثر أبي حنيفة في الفقه بقوله: «وأبو حنيفة أول مَنْ دَوَّن علم هذه الشريعة، لم يسبقه أحدٌ مِمَّن قبله؛ لأنَّ الصحابة والتابعين لم يَضَعوا في الشريعة أبوابًا مبوبة ولا كتبًا مرتبة، إنما كانوا يعتمدون على قوة فهمهم، وجعلوا قلوبهم صناديق علمهم، فنشأ أبو حنيفة بعدَهم، فرأى العلم مُنتشرًا فخاف عليه الخلف السوء أن يُضيِّعوه؛ ولهذا قال النبي : «إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، وإنما ينتزعه بموت العلماء، فيبقى رؤساء جُهَّال، فيُفتون بغير علم، فيضلون ويضلون».»١٥٤ فلذلك دوَّنه أبو حنيفة، فجعله أبوابًا مبوبة، وكتبًا مرتبة، فبدأ بالطهارة، ثم بالصَّلاة، ثم بسائر العبادات على الولاء، ثم بالمُعاملات، ثم ختم بكتاب المواريث، وإنما ابتدأ بالطهارة ثم بالصلاة؛ لأنَّ المُكلَّف بعد صحة الاعتقاد أوَّل ما يُخاطَب بالصلوات؛ لأنَّها أخصُّ العبادات وأعمُّ وجوبًا، وأَخَّر المُعاملات لأنَّ الأصل عدمها وبراءة الذمة منها، وختم بالوصايا والمواريث؛ لأنها آخِر أحوال الإنسان، فما أحسن ما ابتدأ به وختم! وما أحذق وأفهم وأفقه وأمهر وأعلم وأبصر!

ثم جاء الأئمة من بعده فاقتبسوا من علمه واقتدَوْا به، وقرنوا كتبهم على كتبه؛ ولهذا رُوينا بإسناد حسن عن الشافعي — رحمه الله — أنه قال في حديث طويل: العلماء عيال على أبي حنيفة في الفقه، ورُوي عن ابن سُريح أنَّه سمع رجلًا يتكلم في أبي حنيفة فقال له: يا هذا، مَهْ، فإن ثلاثة أرباع العلم مسلَّمة له بالإجماع، والرَّابع لا يُسلِّمه لهم. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن العلم سؤال وجواب، وهو أول مَن وضع الأسئلة، فهذا نصف العلم، ثم أَجَابَ عنها، فقال بعض: أصاب، وبعض: أخطأ، فإذا جعلنا صوابه بِخَطائه صار له نصف النصف الثاني، والربع الرابع ينازعهم فيه ولا يُسلِّمه لهم …

ولأنَّه أول مَن وضع كتابًا في الفرائض، وأوَّل مَن وضع كتابًا في الشروط١٥٥ والشروط لا يستطيع أن يضعها إلا مَن تَنَاهَى في العلم، وعرف مذاهب العلماء ومقالاتهم؛ لأنَّ الشروط تتفرَّع على جميع كتب الفقه، ويتحرَّز بها من كل المذاهب لئلا يتعقَّبها حاكم بنقض أو فسخ، وقد قيل بلغت مسائل أبي حنيفة خمسمائة ألف مسألة، وكتبه وكتب أصحابه تدل على ذلك.

ويقول صاحب كتاب «المبسوط»: «وأوَّل من فرَّع فيه (يُريد الفقه) وألَّف وصنَّف سراج الأُمَّة أبو حنيفة، رحمة الله عليه، بتوفيق من الله — عزَّ وجلَّ — خصَّه به، واتفاق من أصحاب اجتمعوا له كأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم بن خنيس الأنصاري، — رحمه الله تعالى — المقدَّم في علم الأخبار، والحسن بن زياد اللؤلئي المقدَّم في السؤال والتفريع، وزُفَر بن الهُذيل — رحمه الله — ابن قيس بن سليم بن قيس بن مكمل بن ذهل بن ذؤيب بن جذيمة بن عمرو المقدم في القياس، ومحمد بن الحسن الشيباني — رحمه الله تعالى — المُقدم في الفِطْنة وعلم الإعراب والنحو والحساب.

ومَن فرغ نفسه لتصنيف ما فرعه أبو حنيفة، رحمه الله، محمد بن الحسن الشيباني، رحمه الله، فإنَّه جمع المبسوط لترغيب المُتعلمين والتيسير عليهم ببسط الألفاظ، وتكرار المسائل في الكتب ليحفظوها، شاءوا أو أبَوْا.»١٥٦
ويقول الفخر الرازي: «قولهم: إنَّ أبا حنيفة أول مَن صنَّف في الفقه؛ فكان قوله أولى من غيره. الجواب أنَّ هذه الحجة بالعكس أولى؛ وذلك لأنَّ الواضع الأول ينقل كلامه عن مساهلات ومسامحات، وأمَّا المتأخِّر فيكون كلامه أقرب إلى التنقيح والتهذيب، وأيضًا إنْ أرادوا به أنَّ أبا حنيفة صنَّف كتابًا في الفقه فهذا ممنوع؛ لأنه لم يبقَ منه كتاب مصنف، بل أصحابه هم الذين صنفوا الكتب، وإنْ أرادوا به أنه تكلم في المسائل واشتغل بالتفاريع، فلا نسلِّم أنه أول مَن فعل ذلك، بل الصحابة والتابعون كلهم كانوا مشتغلين به.»١٥٧

(ب) أثر أهل الرأي في الفقه الإسلامي

وجُملة القول أنَّ مذهب أهل الرأي هو الذي رَتَّب أبواب الفقه، وأكثر من جمع مسائله في الأبواب المُختلفة، وكان الحديث قليلًا في العراق فاستكثروا من القياس ومهروا فيه، فلذلك قيل أهل الرأي. وفي شرح أصول البزدوي المُسَمَّى «كشف الأسرار» لعبد العزيز البُخاري: «سمَّوْهم أصحاب الرأي تعييرًا لهم بذلك، وإنما سمَّوْهم بذلك لإتقان معرفتهم بالحلال والحرام، واستخراجهم المعاني من النصوص لبناء الأحكام، ودقة نظرهم فيها، وكثرة تفريعهم عليها، وقد عجز عن ذلك عامة أهل زمانهم، فنسَبوا أنفسهم إلى الحديث، وأبا حنيفة وأصحابه إلى الرأي …

عن مالك بن أنس أنه كان يقول: اجتمعتُ مع أبي حنيفة وجلسنا أوقاتًا، وكلَّمتُه في مسائل كثيرة فما رأيتُ رجلًا أفقه منه، ولا أغوَصَ منه في معنًى وحجة، وروي أنه كان ينظر في كتب أبي حنيفة — رحمهما الله — وكان يتفقَّه بها.

وإنما كان أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق؛ لأنَّ المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة، ومَن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد وغيره من شئون الدولة أكثر، ومذهب أهل العراق كان يقصد إلى جعل الفقه وافيًا بحاجة الدولة التشريعية، فكان همُّه أن يجعل الفقه فصولًا مرتبة، يسهل الرجوع إليها عند القضاء والاستفتاء، وكان همُّه أن يُكثِر التفاريع حتى تقوم بما يعرض ويتجدَّد من الحوادث.

أبو حنيفة: وذكر الإمام المرغيناني أنَّ رجلًا جاء إليه وقال: حلفتُ ألَّا أغتسل من هذه الجنابة، فأخذ الإمام بيده وانطلق به، حتى إذا مرَّ على قنطرة نهر فدفعه في الماء فانغمس في الماء ثم خرج، فقال قد طهرتَ وبررتَ؛ لأنَّ اليمين كان على منع نفسه عن فعل الغسل ولم يحصل منه فعل، وسأله رجل عمَّن حلف بطلاق امرأته إن اغتسل من جنابة اليوم، ثم حلف كذلك إنْ ترك صلاة من هذا اليوم، ثم حلف كذلك إنْ لم يطأها اليوم. قال: يُصلي العصر ثم يطؤها، ثم يؤخر الاغتسال إلى الغروب، فإذا غربت الشمس اغتسل وصلى المغرب ولا يحنث؛ لأنه لم يغتسل في اليوم ولم يترك الصلاة ولا الجماع، وبه قال: سُئل عن امرأة صعدت السلم، فقال زوجها: إن صَعِدْتِ فأنتِ طالق، وإن نزلتِ فكذلك، قال: يُرفع السلم وهي قائمة عليه ثم يوضع على الأرض، أو تُرفع المرأة وتوضع على الأرض، ولا يحنث لأنها ما نزلت ولا طلعت.

وسُئل أيضًا عن رجل قال لامرأته: إن لبستِ هذا الثوب فأنت كذا، وإن لم أجامعك فيه فأنت كذا، فتحيَّر علماء الكوفة، فقال يَلبسه الزوج ويُجامِعها فيه، وسئل أيضًا عمَّن حلف بالطلاق ألَّا يأكل البيض، فجاءتِ امرأته وفي كمِّها بيض ولم يعلم به؛ فقال: إن لم آكل ما في كمِّك فأنت كذا، قال: تحضن البيض تحت الدجاجة، فإذا خرج منه فرخ شواه إذا كبر وأكله، ولا يعتبر القشر والدم لأنهما لا يؤكلان، أو يطبخ الفرخ في قدر ويأكله ويأكل المرقة فلا يحنث في اليمين.

وبه عن أبي بكر محمد بن عبد الله أنَّ الموالي قدموا الكوفة وكان لواحد منهم امرأة فائقة الجمال، فتعلق بها رجل كوفي، وادَّعى أنَّها زوجته، واعترفتِ المرأة أيضًا بذلك، وادَّعى المولى المرأة وعجز عن البينة، فعُرضت القضية على الإمام فذهب إلى رَحْلِهم مع ابن أبي ليلى وجماعة، وأمر جماعة من النساء أن يَدخُلْنَ رَحْل المَوْلى، فلمَّا قرُبْنَ عوَتْ عليهِنَّ كلابه، فأمر المرأة أن تَدخُلَ وحدَها، فلما قرُبتْ بصبص الكلاب حولها، فقال الإمام: ظهر الحق، فانقادت المرأة للحق واعترفت.

وسُئل أيضًا عن رجل قال لامرأته وفى يدها قدح من ماء فقال: إن شربتِه أو صببتِه أو وضعتِه أو ناولتِه إنسانًا فأنت كذا، قال تُرسل فيه ثوبًا فتنشفه.»١٥٨

(ﺟ) بين أهل الرأي وأهل الحديث

لا جرم كان مذهب أهل الرأي مذهب القضاء، وكان أئمته قضاة؛ كأبي يوسف ومحمد.

وقد ورد في «أصول» البزدوي: «وقال مُحَمَّد — رحمه الله تعالى — في كتاب «أدب القاضي»: «لا يستقيم الحديث إلا بالرَّأي، ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث، حتى إنَّ مَنْ لا يُحسن الحديث أو علم الحديث ولا يُحسن الرأي، فلا يصلح للقضاء والفتوى.»١٥٩
وقد يُشْعِر هذا بما في مذهب أهل الرأي من الاهتمام بشئون القضاء والفتوى، وفي شرح «تنوير الأبصار» الذي كتب عليه ابن عابدين «حاشيته» المشهورة المسمَّاة «رد المحتار إلى الدر المختار»: «وقد جعل الله الحكم لأصحابه وأتباعه — أي أبي حنيفة — من زمنه إلى هذه الأيام، إلى أن يحكم بمذهبه عيسى عليه السلام.»١٦٠

وكان أهل الحديث يَعِيبون أهل الرأي بكثرة مسائلهم وقِلَّة روايتهم.

وسُئل رقبة بن مصقلة عن أبي حنيفة، فقال:

«هو أعلم النَّاس بما لم يكن، وأجهلهم بما قد كان، وقد رُوِيَ هذا القول عن حفص بن غياث في أبي حنيفة، يُريد أنه لم يكن له علم بآثار مَن مضى.»١٦١

ويَرْوِي ابن عبد البر في كتاب «الانتقاء»:

«عن الحكم بن واقد، قال: رأيتُ أبا حنيفة يُفْتِي من أول النهار إلى أن يعلو النهار، فلمَّا خفَّ عنه الناس دنوتُ منه فقلتُ: يا أبا حنيفة، لو أنَّ أبا بكر وعمر في مجلسنا هذا ثم ورد عليهما ما ورد عليك من هذه المسائل المشكِلة لكفَّا عن بعض الجواب ووقفا عنه، فنظر إليه، وقال: أمحموم أنت؟ يعني مُبَرْسَمًا.»١٦٢

(٧-٤) أهل الحديث

أَمَّا أهل الحديث — أهل الحجاز — فإمَامُهم مالك بن أنس المتوفى سنة ١٧٩ﻫ/٧٩٥م، وكانت طريقة أهل الحجاز في الأسانيد أعلى من سواهم وأمْتَن في الصحة لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط، وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك.

(أ) مالك بن أنس وكتاب «المُوَطَّأ»

وكتب مالك كتاب «الموطَّأ»، أودعه أُصول الأحكام من الصحيح المُتَّفق عليه، ورتَّبه على أبواب الفقه.

في «حاشية» الزُّرقاني على «الموطأ»: وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني الأصفهاني، قلتُ لأبي حاتم الرازي: موطأ مالك، لِمَ سُمِّي الموطأ؟ فقال: شيء صنعه ووطَّأه للناس، حتى قيل موطأ مالك، كما قيل جامع سفيان، وروى أبو الحسن بن فهر عن علي بن أحمد الخلنجي، سمعتُ بعض المشايخ يقول: قال مالك: عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكُلُّهم واطَأَني عليه فسمَّيتُه المُوَطَّأ.

قال ابن فِهْر: لم يَسبِق مالكًا أحدٌ إلى هذه التسمية، فإن مَن ألَّف في زمانه بعضهم سَمَّى بالجامع، وبعضهم سَمَّى بالمصنف، وبعضهم بالمؤلَّف، ولفظة «الموطأ» بمعنى المُمَهَّد المُنَقَّح، وأخرج ابن عبد البر عن الفضل بن محمد بن حرب المدني، قال: أوَّل مَن عمل كتابًا بالمدينة على معنى الموطأ من ذِكْر ما اجتمع عليه أهل المدينة عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشُون، وعمل ذلك كلامًا بغير حديث، فأتى به مالكًا فنظر فيه، فقال: ما أحسن ما عمل! ولو كنتُ أنا الذي عملتُه ابتدأتُ بالآثار، ثم سددتُ ذلك بالكلام.

قال: ثم إن مالكًا عزم على تصنيف «الموطأ»، فصنَّفه فعمل مَن كان يومئذٍ بالمدينة من العلماء الموطَّآت، فقيل لمالك: شغلتَ نفسَك بعمل هذا الكتاب، وقد شَرَكَك فيه الناسُ وعَمِلوا أمثاله، فقال: ائتوني بِمَا فعلوا، فأُتي بذلك فنظر فيه، وقال: لتعلمُنَّ أنه لا يَرتَفِع إلَّا ما أُريد به وجه الله، قال: فكأنما أُلقِيَتْ تلك الكتب في الآبار، وما سمعتُ لشيء منها بعد ذلك بذكر، وروى أبو مصعب أنَّ أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضَع للناس كتابًا أحملهم عليه، فكلَّمه مالك في ذلك فقال: ضَعْه؛ فما أحدٌ اليوم أعلم منك، فوضع «الموطأ»، فما فرغ منه حتى مات أبو جعفر. وفي رواية أنَّ المنصور قال: ضع هذا العلم ودوِّن كتابًا وجنِّب فيه شدائد ابن عمر، ورُخَص ابن عباس، وشواذَّ ابن مسعود، واقصد أوْسَطَ الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمة. وفي رواية قال له: اجعل هذا العلم علمًا واحدًا فقال له: إنَّ أصحاب رسول الله — رضي الله عنهم — تفرَّقوا في البلاد، فأفتى كلٌّ في مصره بما رأى، فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول تعدَّوْا فيه طَوْرَهم، فقال: أمَّا أهل العراق فلا أقبَل منهم صرفًا ولا عَدْلًا، وإنما العِلْم علم أهل المدينة، فضعْ للناس العلم. وفي رواية عن مالك: فقلتُ له: إنَّ أهل العراق لا يَرضَوْن علمنا، فقال أبو جعفر: يُضرَب عليه عامَّتهم بالسيف وتُقطع عليه ظهورهم بالسياط.

وإذا لم يكن مالك قد وضع «موطأه» تلبية لدعوة المنصور ليجعل هذا العلم علمًا واحدًا، وليحمل الناس عليه، فإنَّ مالكًا قد وضع «موطأه» تلبية لحاجة المسلمين الذين اشتدت حاجتهم يَومئذٍ لجمع الأحكام وترتيبها وتنقيحها وتمهيدها، وشَعَر بهذه الحاجة المنصور، يدل على ذلك ما جاء في «رسالة الصحابة» لابن المُقَفَّع. وفي كتاب «ضحى الإسلام»: «ولابن المُقَفَّع رسالة سُمِّيت بالصحابة — وليس يعني صحابة رسول الله — كما هو المشهور في استعمال الكلمة، وإنما عَنَى صحابة الوُلاة والخلفاء … وللرِّسالة قِيمة كبرى؛ فإنها تقرير في نقْد نظام الحكم إذ ذاك، ووجوه إصلاحه، رفعه إلى أمير المُؤمنين ولم يُسمِّه، والظَّاهِرُ أنَّه أبو جعفر المنصور.»١٦٣
وبعد أن لَخَّصَ المؤلف الرسالة قال: «فمُجمَل رأي ابن المقفع في إصلاح القضاء وضْع قانون رسمي تجري عليه المملكة الإسلامية في جميع أنحائها.»١٦٤

وقد يكون المنصور أراد أن يُحقِّق مشورة ابن المقفع بما كان يُحاول أن يحمل الناس على «الموطأ» لولا أن أدركه الأجل.

وفي كتاب «تبييض الصحيفة» أنَّ مالكًا في ترتيبه «للموطأ» مُتابِع لأبي حنيفة، ومن العسير إثبات ذلك، فإنَّ أبا حنيفة ومالكًا كانا مُتعاصرَيْن، وإن تأخَّر الأجَل بمالك، وأقدم ما حُفظ من المجاميع الفقهية المُؤلَّفة في عصور الفقه الأولى بين السُّنِّيِّين هو «موطأ» مالك.

في حاشية مُحَمَّد الزرقاني على «موطأ» مالك: «و«الموطأ» من أوائل ما صُنِّف، قال في مُقَدِّمة فتح الباري: اعلم أنَّ آثار النبي ، لم تكن في عصر أصحابه، وكبار تَبَعِهم مدوَّنة في الجوامع ولا مرتَّبة لأمرين؛ حدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نُهوا عن ذلك كما في «مسلم»، خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن. والثاني: سعة حفْظِهم وسيلان أذهانهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لَمَّا انتشر العُلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار.

فأول مَن جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عَرُوبة، وغيرهما، فصنفوا كل باب على حِدَة، إلى أنْ قَامَ كبار أهل الطبقة الثالثة في منتصف القرن الثاني فدوَّنوا الأحكام؛ فصنف الإمام مالك «الموطأ» وتوخَّى فيه القويَّ من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وصنف ابن جريج بمكة، والأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحمَّاد بن سلمة بالبصرة، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وابن المبارك بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالري، وكان هؤلاء في عصر واحد؛ فلا يُدرَى أيُّهم أسبق.

ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة أن يُفرِد حديث رسول الله ، خاصة وذلك على رأس المائتين، فصنفوا المسانيد. انتهى.»١٦٥

وقال أبو طالب المكي في «القوت»: «هذه الكتب حادثة بعد سنة عشرين أو ثلاثين ومائة، ويُقال إنَّ أول ما صُنِّف كتاب ابن جريج بمكة في الآثار وحروف من التفاسير، ثم كتاب مَعْمَر باليمن جمع فيه سُنَنًا مَنْثُورة مبوَّبة، ثم «الموطأ» بالمدينة، ثم ابن عُيَيْنة الجامع والتفسير في أحرف عن علم القرآن وفي الأحاديث المُتفرِّقة، وجامع سفيان الثوري صنَّفه أيضًا في هذه المدة، وقيل إنها صُنِّفت سنة ستين ومائة. انتهى.»

ويقول صاحب «الفهرست» في سرد كتاب مالك: «وله من الكتب كتاب «الموطأ»، وكتاب «رسالة إلى الرشيد».»١٦٦

وكانت وجهة أهل الحجاز كوجهة أهل العراق تدوين الأحكام الشرعية مبوبة مُرَتَّبة، إلا أنَّ اعتماد أهل الحديث على السُّنة أكثر من اعتمادهم على الرأي، بل هم كانوا يعتبرون الرأي ضرورة لا يلجئون إليها إلا على كُرْه، وعلى غير اطمئنان.

وقد رُوي عن مالك أنَّه قال في بعض ما كان ينزل فيُسأل عنه فيَجتَهِد فيه برأيه: «إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ.»١٦٧

وكان أهل الحديث يكرهون أن يتكاثر الناس بالمسائل كما يتكاثر أهل الدرهم بالدراهم، وكانوا يكرهون السؤال عمَّا لم يكن قالوا، ألَا ترى أنهم كانوا يَكرَهون في الجواب في مسائل الأحكام ما لم تنزل، فكيف بوضع الاستحسان والظن والتكلُّف ونظير ذلك واتخاذه دينًا؟

وفي «الانتقاء» قال الهيثم بن جميل: «شهدتُ مالك بن أنس سُئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: «لا أدري.»

ولم يكن أهل الحديث مع ذلك يُنكِرون اجتهاد الرأي والقياس على الأصول في النازلة تنزل عند عدم النصوص.»

(ب) الشافعي وأمر الفقه عند ظهوره

ظهر الشافعي والأمر على ما وصفناه من نهضة الدراسة الفقهية في بلاد الإسلام، نهضة ترمي إلى الوفاء بالحاجة العملية في دولة تُريد أن تجعل أحكام الشرع دستورًا لها.

ومن انقسام الفقهاء إلى أهل رأي يعتمدون في نهضتهم على سعة أفهامهم ونفاذ عقولهم وقوتهم في الجدل، وأهل حديث يعتمدون على السُّنَن والآثار ولا يأخذون من الرأي إلا بما تدعو إليه الضرورة.

كان أهلُ الرَّأي يَعِيبون أهل الحديث بالإكثار من الرِّوايات الذي هو مَظِنة لقلة التَّدَبر والتفهُّم؛ حُكي عن أبي يوسف قال: سألني الأعمش (المتوفى سنة ١٤٧ﻫ/٧٦٤م) عن مسألة وأنا وهو لا غير، فأجبتُه، فقال لي: من أين قلتَ هذا يا يعقوب؟ فقلتُ: بالحديث الذي حدثتَنِي أنت، فقال: يا يعقوب، إني لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يجتمع أبواك ما عرفتُ تأويله إلا الآن.»١٦٨

وفي شرح عبد العزيز البُخاري على أصول البزدوي: أنَّه سأل واحدًا من أهل الحديث عن صبيَّيْن ارتضعا لبن شاة، هل تثبُت بينهما حُرْمة الرَّضاع؟ فأجاب بأنها ثبتت عملًا بقوله : «كلُّ صبيين اجتمعا على ثديٍ واحد حرم أحدهما على الآخر.» فأخطأ لفوات الرأي، وهو أنه لم يتأمَّل أنَّ الحكم متعلِّق بالجزئية والبعضية، وذلك إنَّما يثبت بين الآدميين لا بين الشاة والآدمي.

وسمعتُ عن شيخي — رحمه الله — أنَّه قال: كان واحد من أصحاب الحديث يوتر بعد الاستنجاء عملًا بقوله : «مَن استنجى فليوتر.»١٦٩
فأصحاب الحديث كانوا حافظين لأخبار رسول الله، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكُلَّما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالًا أو إشكالًا بقوا في أيديهم مُتَحيِّرين.»١٧٠

هم ضعاف في الاستنباط وفي القدرة على دفع المطاعن والشبهات عن الحديث، وكان أهلُ الحديث يَعِيبون أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن، وأنهم ليسوا للسنة أنصارًا، ولا هم فيها بمتثبِّتين، فإنَّ أصحاب أبي حنيفة يقدِّمون القياس الجلي على خَبَر الواحد، وهم يَقبَلون المراسيل والمجاهيل.

وفي كتاب «الانتقاء»: «سمعتُ عبد الله بن المبارك — المتوفى سنة ١٨١ﻫ/٧٩٧م — يقول: كان أبو حنيفة قديمًا أدرك الشعبي والنخعي وغيرهما من الأكابر، وكان بصير الرأي يُسلَّم له فيه، ولكنه كان تَهِيمًا في الحديث.»١٧١
ثم لا يقبلون الحديث الصحيح إذا كان مُخالفًا للقياس، ولا يقبلونه في الواقعة التي تعمُّ فيها البلوى.»١٧٢
وفي كتاب «أصول» البزدوي: «وهم — أي أبو حنيفة وأصحابه — أصحاب الحديث والمعاني، أمَّا المعاني فقد سلَّم لهم العلماء حتى سمَّوْهم أصحاب الرأي — والرأي اسم للفقه الذي ذكرنا — وهم أَوْلَى بالحديث أيضًا، ألَا ترى أنهم جوَّزوا نَسْخ الكتاب بالسنة لقوة منزلة السنة عندهم، وعملوا بالمراسيل تمسُّكًا بالسنة والحديث، ورأَوا العمل به مع الإرسال أولى من الرأي ومن ردِّ المراسيل،١٧٣ فقد ردَّ كثيرًا من السنة وعمل بالفرع بتعطيل الأصل، وقدَّموا رواية المجهول على القياس، وقدَّموا قول الصحابي على القياس.»١٧٤

نشأة الشافعي

كانت الحال على ما ذكرنا حين جاء الشافعي، وقد تفقَّه الشافعي أوَّل ما تفقَّه على أهل الحديث من علماء مَكَّة: كمُسلم بن خالد الزِّنجي المُتوفى سنة ١٧٩ﻫ/٧٩٥م، وسُفيان بن عُيَيْنة المتوفى سنة ١٩٨ﻫ/٨١٣م، ثم ذهب إلى إمام أهل الحديث «مالك» بن أنس في المدينة؛ فلزمه ولقِيَ من عطفه وفضله ما جعله يُحِبُّه ويُجِلُّه.

عن أَنَس بن عبد الأعلى أنه سمع الشافعي يقول: إذا ذُكر العلماء فمالكٌ النَّجْم، وما أحدٌ أمنَّ عليَّ من مالك بن أنس.١٧٥

على أنَّ نشأة الشافعي لم تكن من كل وجه نشأة أهل الحديث، ولا استعداده استعدادهم.

لقد توجَّه في أول أمره إلى درس اللغة والشعر والأدب وأخبار الناس، ولم يقطع صلته بهذه العلوم حين وصل حبْلَه بأهل الحديث الذين كانوا لا يَرَوْنها من العلم النافع.

حُكي عن مُصْعَب الزبيري قال: «كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هُذَيْل حفظًا، وقال: لا تُعلِم بهذا أحدًا من أهل الحديث، فإنهم لا يحتملون هذا.»١٧٦

وفي كتاب «طبقات الشافعية» للنووي من نسخة خطية في ترجمة محمد بن علي البجلي القيرواني: «قال البجلي: وقال لي الربيع: كان الشافعي إذا خلا في بيته كالسيل يهدر بأيام العرب.»

وكان الشافعي بطبعه نَهِمًا في العلم، يلتمس كل ما يجده من فنونه، وقد ذكر مَن ترجموا له أنه اشتغل بالفِرَاسة حين ذهب إلى اليمن١٧٧ وعالج التنجيم والطب، ورُبَّما كان درسهما في إحدى رحلاته إلى العراق، حيثُ كان التنجيم يُعتَبَر فرعًا من فروع العلوم الرِّياضية، وكان الطب فرعًا من العلم الطبيعي، والعلم الرياضي والعلم الطبيعي قسمان من أقسام الفلسفة التي كان مسلمو العراق أخذوا يتنسَّمون رِيحَها، وكان الشافعي مُغْرًى بالرَّمْي والفروسية في شبابه، ولم يكن في كهولته يأنف من الوقوف عند مَهَرَة الرُّماة يدعو لهم ويمدُّهم بالمال، وكان يُحب اقتناء الخيل الجيدة والبغال الفارهة.

وفي كتاب «طبقات الشافعية» للقاضي شمس الدين الصَّفَدي في صفة الشافعي:

«وكان مُقتصدًا في لباسه، يتختَّم في يساره، وكان ذا معرفة تامَّة في الطب والرمي، وكان أشجع الناس وأفرسهم، يأخذ بأذنه وأذن الفرس والفرس يعدو.»

وفي كتاب «مفتاح السعادة» لطاش كبرى زاده:

«رُوي عن الشافعي أنه رأى على باب مالك كُراعًا١٧٨ من أفراس خراسان وبغال مصر، ما رأيتُ أحسن منه، فقلتُ له: ما أحسنَه! فقال: هو هدية منِّي إليك يا أبا عبد الله. قلتُ: دَعْ لنفسك منها دابة تركبها. فقال: أنا أستحي من الله — تعالى — أنْ أطأ تُربة فيه رسول الله، ، بحافر دابة.»١٧٩

ويَظهَر أنه لم يكن شديدًا في جرح الرجال كعادة أهل الحديث، وقد نقل صاحب «طبقات الشافعية الكبرى» حكاية تدلُّ على سخرية الشافعي من تزمُّت المُزَكِّين.

قال الشافعي — رضي الله عنه: «حضرتُ بمصر رجلًا مُزَكِّيًا يَجرَح رجلًا فسُئل عن سببه، وأُلِحَّ عليه فقال: رأيتُه يبول قائمًا. قيل: وما في ذلك؟ قال يرد الريح من رشاشه على بدنه وثيابه فيُصلِّي فيه. قيل: هل رأيتَه أصابه الرشاش وصلَّى قبل أن يَغسِل ما أصابه؟ قال: لا، ولكن أراه سيفعل.»١٨٠
وكان في العلماء المعاصرين للشافعي مَن لا يراه مُمْعِنًا في الحديث. عن أبي عبد الله الصاغاني يُحدِّث عن يحيى بن أكثم قال: «كنَّا عند محمد بن الحسن في المناظرة، وكان الشافعي رَجلًا قرشي العقل والفهم، صافي الذهن سريع الإصابة، ولو كان أكثرَ سماعَ الحديث لاستغنَتْ أُمَّة محمد به عن غيره من العلماء.»١٨١

ولما ذهب الشافعي إلى العراق استرعى نظرَه تحامُلُ أهل الرَّأي على أستاذه مالك وعلى مذهبه، وكان أهل الرأي أقوى سندًا وأعظم جاهًا بما لهم من المكانة عند الخلفاء وبتولِّيهم شئون القضاء، ذلك إلى أنَّهم أوسع حيلة في الجدل من أهل الحديث وأنفذ بيانًا، ويُمثل حال الفريقين من هذه الناحية ما رُوِي عن إمامَيْ أهل الرأي وأهل الحديث: أبي حنيفة ومالك.

روى ابن عبد البر المالكي عن الطبري قال: «وكان مالك قد ضُرب بالسياط، واختُلف فيمَن ضَرَبَه وفي السبب الذي ضُرِب فيه قال: حدثني العباس بن الوليد قال: خبرنا ذكوان عن مروان الطَّاطَري أنَّ أبا جعفر نَهَى مالكًا عن الحديث: «ليس على مُستكرَهٍ طلاق»، ثم دسَّ إليه مَن يسأله عنه، فحدَّث به على رءوس الناس.»١٨٢

أمَّا أبو حنيفة فيَنقِل في شأنه الموفَّق المكي في كتاب «المناقب» عن معمر بن الحسن الهروي يقول: اجتمع أبو حنيفة ومحمد بن إسحاق المُتوفى سنة ١٥٠ﻫ/٧٦٧م عند أبي جعفر المنصور، وكان جَمَعَ العُلماء والفقهاء من أهل الكوفة والمدينة وسائر الأمصار لأمرٍ حزبه، وبعثَ إلى أبي حنيفة فنقله على البريد إلى بغداد، فلم يُخرِجْه من ذلك الأمر الذي وقع له إلا أبو حنيفة، فلمَّا قُضيت الحاجة على يدَيْه حبسه عند نفسه ليرفع القضاةُ والحكام الأمور إليه، فيكون هو الذي ينفِّذ الأمور ويفصِّل الأحكام، وحبس محمد بن إسحاق ليجمع لابنه المهدي حروب النبي وغزواته، قال: فاجتمعا يومًا عنده وكان محمد بن إسحاق يحسده، لِمَا كان يرى من المنصور من تفضيله وتقديمه واستشارته فيما يَنُوبه وينوب رعيته وقضاته وحُكَّامه، وسأل أبا حنيفة عن مسألة أراد بها أن يُغِير المنصور عليه، فقال له: ما تقول يا أبا حنيفة في رجل حَلَف ألَّا يفعل كذا وكذا، أو أن يفعل كذا وكذا، ولم يَقُلْ: «إن شاء الله» موصولًا باليمين، وقال ذلك بعدما فرغ من يمينه وسكت. فقال أبو حنيفة: لا ينفعه الاستثناء إذا كان مقطوعًا من اليمين، وإنما ينفعه إذا كان موصولًا به.

فقال: وكيف لا ينفعه وقد قال جدُّ أمير المؤمنين الأكبر أبو العباس عبد الله بن عباس — رضي الله عنهما — إن استثناءه جائز ولو كان بعد سنة، واحتجَّ بقوله عزَّ وجلَّ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ. فقال المنصور لمحمد بن إسحاق: أهكذا قال أبو العباس، صلوات الله عليه؟ قال: نعم، فالتفتَ إلي أبي حنيفة — رحمه الله — وقد علاه الغضب، فقال: تُخالِف أبا العباس؟ فقال أبو حنيفة: لم أُخالِف أبا العباس، ولقول أبي العباس عندي تأويل يخرج على الصحة، ولكنْ بَلَغَنِي أن النبي قال: «مَن حلف على يمين واستثنى فلا حنث عليه.» وإنما وضعْناه إذا كان موصولًا باليمين، وهؤلاء لا يَرَوْن خلافتك؛ لهذا يحتجُّون بخَبَر أبي العباس.

فقال له المنصور: كيف ذلك؟ قال: لأنهم يقولون إنهم بايعوك حيث بايعوك تَقِيَّة، وإن لهم الثُّنْيا مَتَى شاءوا يَخرُجون من بيعتك، ولا يَبقَى في أعناقهم من ذلك شيء. قال: هكذا؟ قال: نعم. فقال المنصور: خُذُوا هذا — يعني محمد بن إسحاق — فأُخِذ وجُعِل رداؤه في عنقه وحبسوه.»١٨٣
وفي نُسخة خطية من كتاب «طبقات الفُقهاء» للقاضي شمس الدين العُثماني الصَّفدي: «وكان الطوسي يكره أبا حنيفة، وهو يعرف ذلك؛ فدخل أبو حنيفة على المنصور وكثر الناس، فقال الطوسي: اليومَ أَقتُل أبا حنيفة، فقال لأبي حنيفة: إنَّ أمير المؤمنين يأمرنا بضرْب عُنُق الرجل لا نَدْري ما هو، فهل لنا قتْلُه؟ فقال: يا أبا العباس، أميرُ المؤمنين يأمر بالحق أو الباطل؟ فقال: بالحق، قال: اتَّبِعِ الحق حيثُ كان ولا تسأل عنه، ثم قال لمَن قرب منه: إنَّ هذا أراد أن يُوثِقني فربطتُه.»١٨٤
كان طبيعيًّا أن يُجادل الشافعي عن أستاذه، وعن مذهب أستاذه، وقد نهض الشافعي لذلك قويًّا بعقله، قويًّا بعلمه، قويًّا بفصاحته، قويًّا بشباب في عنفوانه وحميَّة عربية، وقد رُويت لنا نماذج من دفاع الشافعي عن مالك ومذهبه: «عن مُحَمَّد بن الحكم قال: سمعتُ الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم من صاحبكم، يعني أبا حنيفة ومالكًا، وما كان على صاحبكم أن يتكلم، وما كان لصاحبنا أن يسكت، قال: فغضبتُ وقلتُ: نشدتُك الله، مَن كان أعلمَ بسُنَّة رسول الله ، مالك أم أبو حنيفة؟ قال: مالك، لكن صاحبنا أقيس. فقلتُ: نعم، ومالك أعلم بكتاب الله — تعالى — وناسخه ومنسوخه، وسنة رسول الله من أبي حنيفة، فمَن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام.»١٨٥

كان هذا الحِجاج عن مذهب مالك في قدوم الشافعي إلى العِرَاق أوَّل أمره، وأقام الشافعي في العِرَاق زمنًا غير قصير، درس فيه كتب محمد بن الحسن وغيره من أهل الرَّأي فيما درس في العراق، ولازم محمد بن الحسن، وردَّ على بعض أقواله وآرائه مناصرة لأهل الحديث.

ولا شك أنَّ الشافعي في ذلك العهد كان متأثرًا بمذهب أهل الحديث، ومتأثرًا بملازمة عالِم دار الهجرة؛ فهو كان يُدافع عن مذهبه هو، مع دافع من حَمِيَّته لأستاذه وأنصار أستاذه من المستضعفين.

أمَّا البزار الكردري فهو يروي في سبب اختلاف الشافعي على محمد بن الحسن وصحبه روايات يَلمِز بها قُدْرة الشافعي على الدخول في مداخل أهل الرأي تارة، ويَطعَن بها في وفاء الشافعي لمَن أحسن إليه أحيانًا؛ فهو يقول: «عن علي بن الحسين الرازي قال: اجتمع في عُرْس هو وسفيان بن سحبان، وفرقد، وعيسى بن أبان، وأخذوا في مسألة في الوصايا غامضة وفيهم الشافعي، فدخل في نكتة من المسألة غامضة، فظنَّ الإمام الشافعي أنَّه فطن للمسألة ولم يكن كذلك، فجرَّه سُفيان إلى أغمض منها حتى تحيَّر، ولم يتهيَّأ له الكلام، فحُكِي ذلك لمحمد فقال: ارفُقوا به؛ فإنه جالَسَنا وصَحِبنا، ولا تفعلوا به هذا.»١٨٦
ويقول أيضًا: «عن عبد الرحمن الشافعي: لم يَعرِف الشافعي لمحمدٍ حَقَّه، وأحسن إليه فلم يفِ له، وعن إسماعيل المُزَني قال الإمام الشافعي: حُبِسْتُ بالعراق لدَين، فسَمِع محمد بي فخلَّصني، فأنا له شاكر من بين الجميع، وعن ابن سماعة قال: أفلس الشافعي غير مرَّة، فجاء إلى محمد فحدَّث أصحابه فجمع له مائة ألف، فكان فيه قضاء حاجته، ثم أفلس مَرَّة أُخرى فجمع له سبعين ألف درهم، ثم أتَاه الثالثة فقال لا أُذهِب مروءتي من بين أصحابي، ولو كان فيك خيرٌ لكَفَاكَ ما جمعتُه لك ولعقبك، وكان قبل هذا مولعًا بكتبه يناظر أوساط أصحابه ويعدُّ نفسَه منهم، فلمَّا أتى محمدًا الثالثة أظهر الخلاف.»١٨٧
والشافعي نفسه يردُّ على ذلك، فقد أخرج الحاكمُ من طريق محفوظ بن أبي توبة قال: سمعتُ الشافعي يقول: «يقولون إني إنما أُخالِفهم للدنيا، وكيف ذلك والدنيا معهم؟ وإنما يُرِيد الإنسان لبطنه وفرجه، وقد مُنِعتُ ما ألذُّ من المطاعم، ولا سبيل إلى النكاح — يعني لِمَا كان به من البواسير — ولكن لستُ أُخالِف إلا مَن خالف سنة رسول الله.»١٨٨
ولما عاد الشافعي إلى بغداد في سنة ١٩٥ﻫ/٨١٠-٨١١م ليُقيم فيها سنتين اشتغل بالتدريس والتأليف، وروى البغدادي في كتاب «تاريخ بغداد»: «عن أبي الفضل الزَّجاج يقولُ: لمَّا قَدِمَ الشافعي إلى بغداد، وكان في الجامع إمَّا نيِّف وأربعون حلقة أو خمسون حلقة، فلمَّا دخل بغداد ما زال يقعد في حلقة حلقة ويقول لهم: قال الله وقال الرسول، وهم يقولون: قال أصحابنا، حتى ما بَقِي في المسجد حلقة غيره.»١٨٩

واختلف إلى دروس الشافعي جماعة من كبار أهل الرَّأي كأحمد بن حنبل وأبي ثور، فانتقلوا عن مذهب أهل الرأي إلى مذهبه.

ويُروَى عن أحمد بن حنبل أنه قال: ما أحدٌ من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه منَّة، فقُلنا: يا أبا محمد، كيف ذلك؟ قال: «إنَّ أصحاب الرَّأي كانوا يهزءون بأصحاب الحديث حتى علَّمهم الشافعي وأقام الحجة عليهم.»١٩٠

مذهب الشافعي القديم ومذهبه الجديد

ووضَعَ الشَّافعي في بغداد كتاب «الحجة»، روى ابن حجر عن البُوَيْطي أن الشافعي قال: اجتمع عليَّ أصحابُ الحديث فسألوني أن أضع على كتاب أبي حنيفة، فقلت: لا أعرف قولهم حتى أنظر في كتبهم، فكُتِبتْ لي كتبُ محمد بن الحسن، فنظرت فيها سنة حتى حفظتُها، ثم وضعتُ الكتاب البغدادي، يعني الحجة.»١٩١

ويَظهَر من ذلك أنَّ مذهب الشافعي القديم الذي وضعه في بغداد كان في جُلِّ أمره ردًّا على مذهب أهل الرأي، وكان قريبًا إلى مذهب أهل الحديث.

وروى البغدادي عن حرملة أنَّه سَمِعَ الشافعي يقول: «سُمِّيتُ ببغداد ناصر الحديث.»١٩٢

ونقل ابن حجر عن البيهقي أنَّ كتاب «الحجة» الذي صنَّفه الشافعي ببغداد حمله عنه الزَّعفراني، وله كتب أخرى حملها غير الزَّعفراني، منها كتاب «السِّيَر» رواية أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي. وفي كتاب «كشف الظنون»: ««الحجة» للإمام الشافعي، وهو مجلَّد ضخم ألَّفه بالعِراق، إذا أُطلِق القديم من مذهبه يُراد به هذا التصنيف، قاله الإسْنَوي في «المُبهمات»، ويُطلق على ما أفتى به هناك أيضًا.»

ثم انتهى الشافعي إلى مصر، ويأبى البزار الكردري في كتابه «مناقب الإمام الأعظم» إلا أن يجعل رحيل الشافعي من بغداد إلى مصر هزيمة وفرارًا؛ فهو يقول: «عن الجارود بن مُعاوية قال: كان الشافعي — رضي الله عنه — بالعراق يصنف الكتب وأصحاب محمد يَكْسِرُون عليه أقاويله بالحُجَج ويضعِّفون أقواله، وضَيَّقُوا عليه، وأصحاب الحديث أيضًا لا يلتفتون إلى قوله، ويرمونه بالاعتزال، فلمَّا لم يَقُمْ له بالعراق سوق خرج إلى مصر، ولم يكن بها فقيهٌ معلوم، فقام بها سوقُه.»١٩٣

وفي مصر آزره تلاميذ مالك، حتى إذا وضع مذهبه الجديد وأخذ يُؤلف الكتب ردًّا على مالك تنكَّروا له وأصابتْه منهم مِحَن.

وفي كتاب طبقات الشافعية للنووي من نسخة خطية بدار الكتب المصرية في ترجمة يوسف بن يحيى أبي يعقوب البويطي:

«قال أبو بكر الصيرفي في كتابه «شرح اختلاف الشافعي ومالك، رضي الله عنهما»: عن البويطي: قَدِم علينا الشافعي مصر فأكثر الردَّ على مالك، فاتهمتُه وبقيتُ مُتحيِّرًا، فكنتُ أُكثِر الصلاة والدعاء رجاءَ أن يُرِيَني الله مع أيِّهما الحق، فأُريتُ في منامي أنَّ الحق مع الشافعي، فذهب ما كنتُ أجده.

فالبويطي مشهور أنه كان يرى مذهب مالك قبل أن يقول بقول الشافعي، وذكر فيه أيضًا أنَّ المُزَني كان يرى أهل العراق.»

قال الرَّبيعُ: «سمعتُ الشَّافعي يقول: قدمتُ مصر لا أعرف أنَّ مالكًا يُخالِف من أحاديثه إلا ستة عشر حديثًا، فنظرتُ فإذا هو يقول بالأصل ويَدَع الفرع، ويقول بالفرع ويَدَع الأصل.

ثم ذكر الشافعي في ردِّه على مالك المسائل التي ترك الأخبار الصحيحة فيها بقول واحد من الصحابة أو بقول واحد من التابعين أو لرأي نفسه.

ثم ذكر ما ترك فيه أقاويل الصحابة لرأي بعض التابعين أو لرأي نفسه، وذلك أنه يدَّعي الإجماع، وهو مختلف فيه.

ثم بيَّن الشافعي أنَّ ادِّعاء أنَّ إجماع أهل المدينة حُجَّة قول ضعيف.»١٩٤
ويروي بعض الرواة: «أنَّ الشافعي إنما وضع الكتب على مالك؛ لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يُستَسقَى بها، وكان يُقال لهم قال رسول الله ، فيقولون قال مالك، فقال الشافعي: إنَّ مالكًا بَشَرٌ يُخطِئ؛ فدَعَاه ذلك إلى تصنيف الكتب في اختلافه معه، وكان يقول: استخرتُ الله — تعالى — في ذلك.»١٩٥

وفي كتاب «مغيث الخلق في اختيار الأحق» تصنيف إِمَام الحرمين الجويني من نُسْخَة خَطِّية بدار الكتب المصرية:

«فمالك أَفْرَطَ في مراعاة المصالح المُطلَقة المُرسَلة غير المُستَنِدة إلى شواهد الشرع، وأبو حنيفة قصر نظره على الجزئيات والفروع والتفاصيل من غير مُراعاة القواعد والأصول، والشافعي — رضي الله عنه — جمع بين القواعد والفروع، فكان مذهبه أقصدَ المذاهب، ومطلبه أسدَّ المطالب.»

مذهب الشافعي الجديد

ومَذهب الشَّافعي الجديد الذي وضعه في مصر هو الذي يَدُلُّ على شخصيته وينم على عبقريته، ويُبرِز استقلاله.

«سُئِلَ أحمد ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين، أهي أحب إليك أم التي بمصر؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يُحكِمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذلك، كما يرويه الذهبي في تاريخه الكبير.»١٩٦

وفي كتاب «مغيث الخلق»: «للشافعي مذهبان: مذهبٌ قديم ومذهب جديد ناسخ للقديم، فلا يجوز أن يُفتَى ويُؤخَذ بالقديم مع إمكان الأخذ بالجديد؛ لأنَّ القديم صار منسوخًا، ولأنَّ المُتأخِّر يرفع المُتقدِّم لا محالة كالمنسوخ لا يَبقَى مع الناسخ، فعلى هذا لا تردُّد، فلم يبقَ للشافعي تردُّد إلا في ثماني عشر مسألة، إذ لم يفرغ للتخريج على أصله ويُحكِمه ويُتمُّه؛ لأنه اخترمتْه المَنِيَّة في ريعان شبابه.»

ومذهب الشافعي الجديد وصل إلينا فيما ألَّفه بمصر من الكتب، وقد سرد البيهقي المتوفى سنة ٤٥٨ﻫ/١٠٦٥-١٠٦٦م، كُتب الشافعي ولخَّصها عنه ابن حجر: «الرسالة القديمة»، ثم «الرِّسالة الجديدة»، «اختلاف الحديث»، «جماع العلم»، «إبطال الاستحسان»، «أحكام القرآن»، «بياض الغرض»، «صفة الأمر والنهي»، «اختلاف مالك والشافعي»، «اختلاف العراقيين»، «اختلافه مع محمد بن الحسن»، «كتاب علي وعبد الله»، «فضائل قريش»، كتاب «الأم».١٩٧
وعِدَّة كتاب «الأم»١٩٨ مائة ونيِّف وأربعون كتابًا، وحمل عنه حرملة كتابًا كبيرًا يُسمى كتاب «السنن»، وحمل عنه المزني في كتابه «المبسوط»، وهو المختصر الكبير والمنثورات، وكذا المُختصر المشهور.

قال البيهقي: وبعض كتبه الجديدة لم يُعِدْ تصنيفها وهي: الصيام، والحدود، والرهن الصغير، والإجارة، والجنائز. فإنه أَمَر بقراءة هذه الكتب عليه في الجديد وأمر بتحريق ما يُغاير اجتهاده، قال: ورُبَّما تركتُه اكتفاءً بما نبَّه عليه من رجوعه عنه في مواضع أُخرى. قلتُ: وهذه الحكاية مُفيدة ترفع كثيرًا من الإشكال الواقع بسبب مسائل اشتُهر عن الشافعي الرُّجوع عنها، وهي موجودة في بعض هذه الكتب.

ثم نَقَل ابن حجر أنَّ لأصحاب الشافعي من أهل الحجاز والعراق عنه مسائل وزيادات، قال: وهذا يَدُلُّ على أنَّ كتبًا أخرى حملها عنه هؤلاء؛ لأن هذه المسائل ليست في الكتب المقدَّم ذكرها.

وقد ترك ابن حجر في تلخيصه كتاب «مسند الشافعي»، ولا ندري إن كان البيهقي قد تركه أيضًا أم لا، ويقول الرازي: «إنَّ كتابه المُسَمَّى بمسند الشافعي كتاب مشهور في الدنيا.»١٩٩

على أني رأيتُ في كتاب «طبقات الشافعية» للنَّووي، من نُسخة خطية بدار الكتب المصرية، عند ترجمة محمد بن يعقوب بن يوسف أبي العباس السناني النيسابوري المعروف بالأصم المولود سنة ٢٤٩ﻫ/٨٦٣م: «و«مسند الشافعي» المعروف ليس من جَمْع الشافعي وتأليفه، وإنما جمعه من سماعات الأصم بعض أصحابه؛ ولذلك لا يَستوعِب حديث الشافعي؛ فإنه مقصور على ما كان عند الأصم من حديثه.»

توجيه الشافعي للدراسات الفقهية توجيهًا جديدًا

كان اتجاه المَذاهب الفِقْهية قبل الشافعي إلى جمع المسائل وترتيبها ورَدِّها إلى أدلتها التفصيلية، خصوصًا عندما تكون دلائلها نصوصًا.

وأهل الحديث لكثرة اعتمادهم على النص كانوا أكثر تعرُّضًا لذكر الدلائل من أهل الرأي.

فلما جاء الشافعي بمذهبه الجديد كان قد درس المذهبين ولاحظ ما فيهما من نقص بدا له أن يُكمله، وأخذ ينقض بعض التعريفات من ناحية خروجها عن متابعة نظام مُتَّحد في طريقة الاستنباط.

وذلك يُشعِر باتجاهه في الفقه اتجاهًا جديدًا هو اتجاه العقل العلمي الذي لا يَكَادُ يُعنَى بالجزئيات والفروع.

ويدلُّ على أنَّ اتجاه الشافعي لم يكن إلى تمحيص الفروع ما نقله ابن عبد البر في «الانتقاء» من أنَّ أحمد بن حنبل قال: «قال الشافعي لنا: أمَّا أنتم فأعلم بالحديث والرِّجال منِّي، فإذا كان الحديث صحيحًا فأعْلِموني، إن يكن كوفيًّا أو بصريًّا أو شاميًّا أذهبْ إليه إذا كان صحيحًا.»٢٠٠
وطريقة علاجه للعلم تدل على منهجه، قال محمد ابن أخت الشافعي عن أُمِّه قالت: «ربما قدَّمنا في ليلة واحدة ثلاثين مرة أو أقل أو أكثر المصباح بين يدَيِ الشافعي، وكان يستلقي ويتذكَّر ثم يُنادي: يا جارية، هلمِّي مصباحًا، فتقدِّمه، ويكتب ما يكتب، ثم يقول: ارفعيه، فقيل لأحمد: ما أراد بردِّ المصباح؟ قال: الظلمة أجلى للقلب.»٢٠١

وليس هذا النَّوع من التفكير الهادئ في ظلمة الليل كتفكير مَن يهتم بالمسائل الجزئية والتفاريع، بل يُعنَى بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها، وذلك هو النَّظر الفلسفي.

قال ابن سينا في منطق الشفاء: «إنَّا لا نشتغل بالنَّظر في الألفاظ الجزئية ومعانيها، فإنها غير مُتناهية فتُحصَر، ولا، لو كانت مُتناهية، كان علمنا بها من حيث هي جزئية يُفيدنا كمالًا حكميًّا أو يبلغنا غاية حكمية.»

وكان أحمد يقول: «الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه.»٢٠٢

وقد حاول الشافعي أن يجمع أصول الاستنباط الفقهي وقواعدها علمًا ممتازًا، وأن يجعل الفقه تطبيقًا لقواعد هذا العلم، وبهذا يمتاز مذهب الشافعي من مذهب أهل العراق وأهل الحجاز.

قال الغزالي في «المستصفى»: «بيانُ حَدِّ أصول الفقه: اعلم أنك لا تفهم حدَّ أصول الفقه ما لم تعرف أولًا معنى الفقه، والفقه عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع، يُقال: فلانٌ فقيه الخير والشر؛ أي يعلمه ويفهمه، ولكن صار بعُرْف العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة، حتى لا يُطلق بحكم العادة اسم الفقيه على متكلم، وفلسفي، ونحوي، ومحدِّث، ومفسِّر.

بل يختص بالعُلماء بالأحكام الشرعية الثابتة للأفعال الإنسانية كالوجود والحظر والإباحة والنَّدب والكراهة، وكون العقد صحيحًا وفاسدًا وباطلًا، وكون العبادة قضاء وأداء وأمثاله، ولا يَخفَى عليك أنَّ للأفعال أحكامًا عقلية؛ أي مُدرَكة بالعقل، ككونها أعراضًا وقائمة بالمحل ومخالِفة للجوهر، وكونها أكوانًا حركة وسكونًا وأمثالها، والعارف بذلك يُسَمَّى مُتكلمًا لا فقيهًا، وأمَّا أحكامها من حيث إنها واجبة ومحظورة ومُباحة ومكروهة ومندوب إليها، فإنما يتولَّى الفقيه بيانها، فإذا فهمتَ هذا فافهم أنَّ أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة، لا من حيث التفصيل.

فإن علم الخلاف من الفقه أيضًا مُشتمل على أدلة الأحكام ووجوه دلالتها، ولكن من حيث التفصيل، كدلالة حديث خاص في مسألة النكاح بلا وليٍّ على الخصوص، ودلالة آية خاصة في مسألة متروك التسمية على الخصوص، وأمَّا الأصول فلا يتعرَّض فيها لإحدى المسائل ولا على طريق ضرب المثال، بل يتعرض فيها لأصل الكتاب والسنة والإجماع، ولشرائط صحتها، وثبوتها ثم لوجوه دلالتها الجميلة، إمَّا من حيث صيغتها أو مفهوم لفظها أو معقول لفظها وهو القياس من غير أن يتعرض فيها لمسألة خاصة، فبهذا تُقارَن أصول الفقه فروعه، وقد عرفتَ من هذا أنَّ أدلة الأحكام: الكتاب والسنة والإجماع؛ فالعلمُ بطرق ثبوت هذه الأصول الثلاثة وشروط صحتها ووجوه دلالتها على الأحكام هو: العلم الذي يُعبَّر عنه بأصول الفقه.»٢٠٣

الشافعي أول مَن وَضَع مصنَّفًا في العلوم الدينية على منهج علمي

إذا كان الشافعي هو أول مَن وجَّه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية؛ فهو أيضًا مَن وضع مصنَّفًا في العلوم الدينية الإسلامية على منهج علمي بتصنيفه في أصول الفقه.

قال الرازي: «اتفق الناس على أنَّ أوَّل٢٠٤ مَن صنَّف في هذا العلم — أي أصول الفقه — الشافعي، وهو الذي رتَّبَ أبوابه، ومَيَّز بعض أقسامه من بعض، وشرح مراتبها في القوة والضعف.
وروي أنَّ عبد الرحمن بن مهدي الْتَمس من الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابًا يذكر فيه شرائط الاستدلال بالقرآن والسنة والإجماع والقياس، وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص فوضع الشافعي — رضي الله عنه — الرِّسالة وبعثها إليه؛ فَلمَّا قرأها عبد الرحمن بن مهدي قال: ما أظنُّ أنَّ الله — عزَّ وجلَّ — خلق مثل هذا الرجل.٢٠٥

الشافعي واضع علم الأصول

ثم قال الرازي: «واعلم أنَّ نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسططاليس إلى علم المنطق، وكنِسْبَة الخليل بن أحمد إلى علم العروض، وذلك أنَّ الناس كانوا قبل أرسططاليس يَسْتَدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة، لكن ما كان عندهم قانون مخلص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مشوَّشة ومضطربة، فإنَّ مُجَرَّد الطبع إذا لم يستَعِن بالقانون الكلي قلَّما أفلح، فَلمَّا رأى أرسططاليس ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة، واستخرج لهم علم المنطق، ووضع للخلق بسببه قانونًا كليًّا يُرجَع إليه في معرفة الحدود والبراهين.

وكذلك الشعراء كانوا قبل الخليل بن أحمد ينظمون أشعارًا، وكان اعتمادهم على مجرد الطَّبْع، فاستخرج الخليل علم العروض، وكان ذلك قانونًا كليًّا في مصالح الشعر ومفاسده، فكذلك هنا؛ الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، وكذلك ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة وفي كيفية معارضتها وترجيحها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كليًّا يُرجَع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع.» ثم يقول الرازي: «واعلم أنَّ الشافعي صنَّف كتاب «الرسالة» ببغداد، ولمَّا رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب «الرِّسالة». وفي كلِّ واحد منهما علم كثير.»٢٠٦

وفي كتاب «مغيث الخلق في اختيار الأحق» لإمام الحرمين الجويني: «ولا يَخفَى على المسترشِد المستبصِر، وعلى الشادي والمبتدي، وعلى الطغام والعوام رجحان نظر الشافعي في فن الأصول، فإنَّه أول مَن ابتدع ترتيب الأصول ومهَّد الأدلة ورتَّبها وبيَّنها وصنَّف فيها رسالته.»

ويقول بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة ٧٩٤ﻫ/١٢٩١-١٢٩٢م في كتابه «أصول الفقه»، المُسَمَّى بالبحر المحيط: «فصل: الشافعي أول مَن صنف في أصول الفقه، صنَّف فيه كتاب «الرِّسالة» وكتاب أحكام القرآن واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس الذي ذكر فيه تضليل المُعتزِلة ورجوعه عن قبول شهادتهم.

ثم تبعه المُصنِّفون في علم الأصول، قال أحمد بن حنبل: «لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى وَرَد الشافعي.» وقال الجويني في شرح «الرِّسالة»: «لم يَسبِق الشافعيَّ أحدٌ في تصانيف الأصول ومعرفتها، وقد حُكي عن ابن عباس تخصيص عموم، وعن بعضهم القول بالمفهوم، ومن بعدهم لم يُقل في الأصول شيءٌ، ولم يكن لهم فيه قَدَمٌ، فإنَّا رأينا كُتُب السلف من التابعين وتابعي التابعين وغيرهم، وما رأيناهم صنفوا فيه».»٢٠٧

وفي موضع آخر من هذه النسخة عند الكلام على منْع الشافعي نَسْخَ السنة للكتاب: «كيف وهو الذي مهَّد هذا الفن ورتَّبه وأول مَن أخرجه؟»

ويقول ابن خلدون في المُقَدِّمة: «وكان أول مَن كتب فيه — أي في علم أصول الفقه — الشافعي، أملَى فيه رسالته المشهورة، تكلَّم فيها في الأوامر والنواهي، والبيان والخبر، والنَّسْخ وحكم العِلَّة المنصوصة من القياس.

ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها، وكتب المُتكلِّمون أيضًا.»٢٠٨

وفي كتاب «طبقات الفقهاء» للقاضي شمس الدين العُثماني الصفدي: «ثم خرج الشافعي إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة، وصنف بها كتبه الجديدة، وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من الشام واليمن والعراق وغيرها من النواحي للأخذ عنه وسماع كتبه، وابتكر الشافعي ما لم يُسبَق إليه من ذلك أصول الفقه، فإنه أول مَن صنَّف أصول الفقه بلا خلاف.

ومن ذلك كتاب القَسَامَة وكتاب الجزية وكتاب قتال أهل البغي.»٢٠٩
ويقول صاحب كتاب «كشف الظنون»: «وأول مَن صنَّف فيه الإمام الشافعي، ذكره الإسنوي في «التمهيد»، وحكى الإجماع فيه.»٢١٠

الباحثون في هذا الشأن من الغربيين يَرَوْن الشافعي واضعًا لأصول الفقه، يقول جولدزيهر في مقالته في كلمة «فقه» في دائرة المعارف الإسلامية: «وأظهر مزايا محمد بن إدريس الشَّافعي أنه وضع نظام الاستنباط الشرعي في أصول الفقه، وحَدَّد مجال كل أصل من هذه الأصول، وقد ابتدع في «رسالته» نظامًا للقياس العقلي الذي ينبغي الرجوع إليه في التشريع من غير إخلال بما للكتاب والسنة من الشأن المُقدَّم، رَتَّب الاستنباط من هذه الأصول، ووضع القواعد لاستعمالها بعد ما كان جزافًا.»

على أنَّا نجد في كتاب «الفهرست» في ترجمة محمد بن الحسن ذكر كتاب له يُسمَّى كتاب أصول الفقه، ويقول الموفَّق المكي في كتاب «مناقب الإمام الأعظم» نقلًا عن طلحة بن محمد بن جعفر: «إنَّ أبا يوسف أول مَن وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة.»٢١١
ونقل ذلك طاش كبرى زاده في كتابه «مفتاح السعادة»،٢١٢ ولم يرد في هذا العلم فيما أورده صاحب «الفهرست» لأبي يوسف من الكتب، وإذا صَحَّ أنَّ لأبي يوسف أو لمُحَمَّد كتابًا في أصول الفقه؛ فهو فيما يَظهَر كتاب لنُصْرة ما كان يأخذ به أبو حنيفة، ويَعِيبه أهل الحديث — ومعهم الشافعي — من الاستحسان، وقد يؤيد ذلك أنَّ صاحب «الفهرست» ذكر في أسماء كتب أبي يوسف كتاب «الجوامع»، ألَّفه ليَحيَى بن خالد، يحتوي على أربعين كتابًا ذكر فيه اختلاف الناس والرأي المأخوذ به، ولم يكن في طبيعة مذهب أهل الرأي الذين كان من هَمِّهم أن يَجمَعوا المسائل ويستكثروا منها النزوع إلى تقييد الاستنباط بقواعد لا تتركه متسعًا رحبًا.

على أنَّ القول بأنَّ أبا يوسف هو أوَّل مَن تكلم في أصول الفقه علمًا ذا قواعد عامة يرجع إليها كل مستنبِط لحكم شرعي، هذا وقد نقلنا آنفًا عن ابن عابدين أنَّ أبا حنيفة كان إذا وقعت واقعة شاور أصحابه شهورًا أو أكثر حتى يستقرَّ آخِر الأقوال فيُثبِته أبو يوسف حتى أثبت الأصول على هذا المنهاج.

وفي رسالة ابن عابدين: «ثم هذه المسائل التي تُسمَّى بظاهر الرواية والأصول هي ما وُجد في كتب محمد التي هي المبسوط والزِّيادات والجامع الصغير والسير الصغير والجامع الكبير، وإنما سُمِّيت بظاهر الرواية لأنها رُويت عن محمد برواية الثقات، فهي ثابتة عنه، إمَّا متواترة أو مشهورة عنه.»٢١٣

وكل ذلك يدلُّ على أن أبا يوسف هو أول مَن أثبت الأصول التي هي فتاوى اتفق عليها الإمام وأصحابه، وأنَّ مُحمدًا جمع من كتب السنة مسائل الأصول، وتُسمَّى ظاهر الرواية أيضًا، وهي — كما يقول ابن عابدين في الرِّسالة المذكورة — مسائل رُويت عن أصحاب المذهب، وهم: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، رحمهم الله تعالى، ويُقال لهم العلماء الثلاثة.»

فليس بمُستَبعَد أن يكون ما نُسب لأبي يوسف من أنه أوَّل مَن وضع الكتب في أصول الفقه، وما نُسب لمحمد من أنه ألَّف كتاب أصول الفقه، إنما أُريد به أصول فقه أبي حنيفة؛ أي المسائل التي أشار الإمام بثباتها بعد مشاورة أصحابه، وقد يعضد هذا الفهم تعبير صاحب «الفهرست» عند تعديد كتب أبي يوسف بقوله: «ولأبي يوسف من الكتب في الأصول والأمالي٢١٤ كتاب الصلاة وكتاب الزكاة، … إلخ.»٢١٥
وعند ذكر الكُتب التي ألَّفها محمد بقوله: «ولمُحمد من الكتب في الأصول كتاب الصلاة، وكتاب الزكاة … إلخ.»٢١٦

وقد لا يكون بعيدًا عن غرض الشافعي في وضع أُصول الفقه أن يُقرِّب الشُّقَّة بين أهل الرأي وأهل الحديث، ويمهِّد الوحدة التي دعا إليها الإسلام.

وفي كتاب «تقويم النظر» لمحمد بن علي المعروف بابن الدَّهَّان، من نسخة خطية بدار الكتب الأهلية بباريس:

«وقيل لبعض القُصَّاص: ما السر في قِصَر عُمْر الشافعي؟ فقال حتى لا يزالوا مختلفين، ولو طال عمره رفع الخلاف.»

تحليل الرسالة

وصف الشافعي في خطبة «الرسالة» حال الناس عند بعثة النبي من الجهة الدينية، فبيَّن أنهم كانوا صنفين: «أهل الكتاب بدَّلوا أحكامه وكفروا بالله وافتعلوا كذبًا صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم.

وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وخشبًا وصورًا استحسنوها، ونبزوا أسماء افتعلوها ودَعَوْها آلهة عبدوها، أو عبدوا ما استحسنوا من حوت ودابة ونجم وغار وغيره.»

ثم ذكر الشافعي أنَّ الله أنقذ الناس بمحمد من هذا الضلال، وأنزل عليه كتابه فقال: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ منْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا منْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ منْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فنقلهم به من الكفر والعمى إلى الضياء والهدى.

وتكَلَّم على منزلة القرآن من الدين واشتماله على ما قد أحلَّ الله وما حرَّم، وما تَعَبَّد الناس به، وما أعدَّ لأهل طاعته من الثواب، وما أوجبَ لأهل معصيته من العقاب، ووَعَظَهم بالإخبار عمَّن كان قبلهم.

ورتَّب الشافعي على ذلك ما يحق على طلبة العلم بالدين من بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علم القرآن وإخلاص النية لله، لاستدراك علمه نصًّا واستنباطًا، فإن مَن أدرك علم أحكام الله — عزَّ وجلَّ — في كتابه نصًّا واستدلالًا ووفَّقه الله — تعالى — للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريبة، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة.

ثم ختم الشافعي خطبة «الرسالة» بقوله: «فليست بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله — جلَّ ثناؤه — الدليل على سبيل الهدى فيها، قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ من الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد، وقال: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، وقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، وقال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا منْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ منْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ … الآية.»

ولما كان قد وضح من هذه المُقَدِّمة أنَّ القرآن هو تبيان لكل شئون الدين قال تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ، وأراد به القرآن، وإنه الدليل على سبيل الهدى في كل نازلة تنزل بأي أحد من أهل دين الله، فإنَّ الشافعي عقد بعد هذه المُقدمة بابًا عنوانه: «باب كيف البيان»، بدأه بتعريف البيان بأنه اسم جامع لمعانٍ مجتمعة الأصول متشعِّبة الفروع، فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المُتشعِّبة أنَّها بيان لمَن خُوطب بها ممَّن نزل القرآن بلسانه، مُتقارِبة الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشدَّ تأكيد بيان من بعض، ومختلفة عند مَن يَجهَل لسان العرب.

عَرَض مَن جاء بعد الشافعي لتحديد معنى البيان على وجه أوضح، قال الغزالي في «المُستصفى»: «مسألة في حد البيان: اعلم أنَّ البيان عبارة عن أمر يتعلق بالتعريف والإعلام، وإنما يحصل الإعلام بدليل، والدليل محصل للعلم، فها هنا ثلاثة أمور: إعلام، ودليل به الإعلام، وعلم يحصل من الدليل. من الناس مَن جعله عبارة عن التعريف فقال في حدِّه: إنه إخراج الشيء من حيِّز الإشكال إلى حيِّز التجلِّي، ومنهم مَن جعله عبارة عمَّا تحصل به المعرفة فيما يحتاج إلى المعرفة، أعني الأمور التي ليست ضرورية، وهو الدليل، فقال في حدِّه: إنه الدليل الموصِّل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه، وهو اختيار القاضي، ومنهم مَن جعله عبارة عن نفس العلم وهو تبيين الشيء، فكأن البيان عنده والتبيين واحد، ولا حَجْر في إطلاق اسم البيان على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة، إلا أنَّ الأقرب إلى اللغة وإلى التداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي، إذ يُقال لمَن دلَّ غيره على الشيء: بيَّنه له — وهذا بيان منك، لكنه لم يتبين، وقال تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وأراد به القرآن.

وعلى هذا فبيان الشيء قد يكون بعبارة وُضعت بالاصطلاح، فهي بيان في حق مَن تقدمت معرفته بوجه المواضعة، وقد يكون بالفعل والإشارة والرَّمز إذ الكل دليل ومُبين، ولكن صار في عرف المُتكلمين مخصوصًا بالدلالة بالقول؛ فيُقال: له بيان حسن؛ أي كلام حسن رشيق الدلالة على المقاصد، واعلم أنْ ليس من شرط البيان أن يحصل التبيين به لكل أحد، بل يكون بحيث إذا سُمع وتؤمل وعُرفت المواضعة صح أن يُعلم به، ويجوز أن يختلف الناس في تبيين ذلك.»٢١٧

ويوشك أن يكون مذهب القاضي الباقلاني هو أقرب المذاهب إلى رأي الشافعي.

ثم جعل الشافعي ما أبان الله لخلقه في كتابه ممَّا تعبَّدهم به من وجوه خمسة، وقد سمَّاها المتأخِّرون مراتب البيان للأحكام؛ أولها: ما أبان الله في كتابه نصًّا جليًّا لا يتطرق إليه التأويل فلم يَحتَجْ مع التنزيل فيه إلى غيره، وسمَّاه المتأخِّرون بيان التأكيد. ثانيها: ما أبانه القرآن بنص يحتمل أوجُهًا، فدلَّتِ السنة على تعيين المراد به من هذه الأوجه، كما يؤخذ من كلام الشافعي، وقد أسقط الشافعي هذا الثاني في مواضع من «الرسالة» حصل فيها جملة وجوه البيان، كما في الفصل الذي عقده للبيان الرابع.

وذكر الشوكاني وغيره من الأصوليين معنًى آخَر لهذا البيان. قال الشوكاني: «الثاني النص الذي ينفرد بإدراكه العلماء، كالواو وإلى في آية الوضوء، وأنَّ هذين الحرفين مقتضيان لمعانٍ معلومة عند أهل اللسان.»

وحمْل كلام الشافعي على هذا بعيد.

ثالثها: ما أتى الكتاب على غاية البيان في فرضه، وبيَّن رسول الله كيف فَرَضَه وعلى مَن فرضه، ومتى يزول فرضه ويثبت.

رابعًا: ما بيَّن الرسول ممَّا ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله والانتهاء إلى حكمه، فمَن قَبِل عن رسول الله فبفرض الله قَبِل.

خامسها: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه وهو القياس، «والقياس ما طُلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدِّم من الكتاب أو السنة»، وقد سمَّى المتأخِّرون هذا البيان ببيان الإشارة. قال الشوكاني: «الخامس بيان الإشارة وهو القياس المستنبَط من الكتاب والسنة، مثل الألفاظ التي استُنبِطت منها المعاني وقِيس عليها غيرها؛ لأنَّ الأصل إذا استُنبط منه معنًى وأُلحق به غيره لم يُقَل: لم يتناوله النص، بل تناوله؛ لأن النبي ، أشار إليه بالتنبيه كإلحاق المطعومات في باب الربويات بالأربعة المنصوص عليها؛ لأنَّ حقيقة القياس بيان المراد بالنص، وقد أمر الله — سبحانه وتعالى — أهل التكليف بالاعتبار والاستنباط والاجتهاد.»

وبعد أن أجمل الشافعي مراتب البيان الخمس أخذ يوضحها ويُبيِّن لها الأمثلة والشواهد في أبواب خمسة.

وبعد أن أتم الكلام على البيان الخامس قال: «وهذا الصنف من العلم (يعني الاجتهاد) دليل على ما وصفتُ قبلَ هذا، على أن ليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء حلَّ ولا حرُم إلا من جهة العلم، وجهةُ العلم الخبرُ في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.»

وهذا يُفِيد أن الشافعي يرى الإجماع من مراتب البيان، وإن لم يذكره مستقلًّا، قال الشوكاني: «ذكر هذه المراتب الخمس للبيان الشافعي في أول «الرسالة»، وقد اعترض عليه قوم وقالوا: قد أهمل قسمين، وهما: الإجماع، وقول المُجتهد إذا انقرض عصره وانتشر من غير نكير، قال الزركشي في «البحر»: إنما أهملهما الشافعي لأنَّ كل واحد منهما إنما يُتوَصَّل إليه بأحد الأقسام الخمسة التي ذكرها الشافعي؛ لأنَّ الإجماع لا يصدر إلا عن دليل، فإن كان نصًّا فهو من الأقسام الأُوَل، وإن كان استنباطًا فهو الخامس.»

وما قاله الزركشي في «البَحر» مُتعلِّقًا بالإجماع بَيِّنٌ من كلام الشافعي نفسه في «الرسالة» في باب الإجماع.

وذكر الشافعي في الباب الخامس أنَّ القُرآن الذي هو الأصل لكل أقسام البيان عربي، وأنه يُخاطِب العرب بلسانها «على ما تَعرِف من معانيها، وكان ممَّا تَعرِف من معانيها اتساع لسانها، وأنَّ فِطْرَته أن يُخاطب بالشيء منه عامًّا ظاهرًا يُراد به العام الظاهر، ويُستغنى بأول هذا منه عن آخره، وعامًّا ظاهرًا يُراد به العام ويدخله الخاص؛ فيُستَدَل على هذا ببعض ما خُوطب به فيه، وعامًّا ظاهرًا يُراد به الخاص، وظاهرًا يُعرَف في سياقه أنه يُراد به غير ظاهره، وكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أوَّل لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين آخر لفظها فيه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة، وكانت هذه الوجوه التي وصفتُ اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به، وإن اختلفت أسباب معرفتها، معرفة واضحة عندها ومُستنكرًا عند غيرها ممَّن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة.»

وأخذ الشافعي يشرح وجود هذه الوجوه في القرآن في أبواب مرتَّبة كما يأتي: باب ما نزل من الكتاب عامًّا يُراد به العامُّ ويدخله الخصوص. باب بيان ما نزل من القرآن عام الظاهر، وهو يجمع العام والخصوص. باب ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاصٌ. باب الصنف الذي يُبَيِّن سياقه معناه. باب الصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره. باب ما نزل عامًّا فدلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص.

ولما كان في هذا الباب الأخير ما يدلُّ على أن السنة تُخصِّص الكتاب؛ فقد عرض الشافعي للسنة وحجِّيَّتها ومنزلتها من الدين، فوضع لذلك الأبواب الآتية: باب بيان فرض الله — تعالى — في كتابه اتباع سنة نبيه، . باب فرض الله طاعة رسوله ، مقرونة بطاعة الله — جلَّ ذكرُه — ومذكورة وحدها. باب ما أمر الله به من طاعة رسوله . باب ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه، وما شهد له به من اتباع ما أمر به ومن هُداه، وأنه هادٍ لمَن اتبعه.

وفي هذا الباب كَرَّر الشَّافعي القول بأنَّ رَسول الله سنَّ مع كتاب الله، وبيَّن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وأخذ يستدلُّ على ذلك ويحاجُّ المُخالفين في أنَّ النبي يسنُّ فيما ليس فيه نص كتاب، ثم قال: «وسأذكر ممَّا وصفنا من السنة مع كتاب الله، والسنة فيما ليس فيه نص كتاب، بعض ما يدل على جملة ما وصفنا منه، إن شاء الله تعالى، فأوَّل ما نبدأ به من ذكر سنة رسول الله ، مع كتاب الله ذكر الاستدلال بسُنَّته على النَّاسخ والمَنسوخ من كتاب الله، عزَّ وجلَّ، ثم ذكر الفرائض الجمل التي أبان رسولُ الله عن الله كيف هي ومواقيتها، ثم ذَكر العام من أمر الله — تعالى — الذي أراد به العامَّ، والعامَّ الذي أراد به الخاص، ثم ذكر سنته فيما ليس فيه نصُّ كتاب.»

وبعدُ وَضَع فصلًا عنوانه: «ابتداء الناسخ والمَنسوخ» ذكر فيه حكمة النسخ التي هي التخفيف والتوسعة.

وذكر أنَّ الكتاب إنما يُنسَخ بالكتاب، والسنة إنما تُنسَخ بالسنة، ويلي ذلك الفصول الآتية: الناسخ والمنسوخ الذي يدلُّ الكتاب على بعضه والسنة على بعضه. باب فرض الصلاة الذي دلَّ الكتاب، ثم السنة على مَن تزول عنه بالعذر وعلى مَن لا تكتب صلاته بالمعصية. باب الناسخ والمنسوخ الذي تدلُّ عليه السنة والإجماع. باب الفرائض التي أنزلها الله — تعالى — نصًّا. باب الفرائض المنصوصة التي سَنَّ رسول الله معها. باب ما جاء في الفرض المنصوص الذي دلت السنة على أنه إنَّما أُريدَ به الخاص. جُمَل الفرائض التي أحكم الله — تعالى — فرضها بكتابه وبيَّن كيف فرضها على لسان نبيه . باب في الزكاة.

ثم ذكر الشافعي بابًا عنوانه: «باب العِلَل في الأحاديث» ذكر فيه ما يكون بين الأحاديث من اختلاف بسبب أنَّ بعضها نَاسِخٌ وبَعْضَها مَنسوخ، ومَا يكون من الاختلاف بسبب الغلط في الأحاديث وذكر بعض مناشئ الغلط.

ثم عقد أبوابًا للناسخ والمنسوخ من الأحاديث، وأبوابًا للاختلاف بسبب غير النسخ، وتكلم في بعض هذه الأبواب على الاختلاف في القراءات في القرآن وسببه.

ووضع بعد ذلك أبوابًا في النَّهي الوارد في الأحاديث، يوضِّح بعضها معاني بعض، وتكلم على النهي وأقسامه.

ثم وضع بابًا للعلم فقال: إنَّ العلم علمان: علمُ عامَّةٍ لا يَسَع بالغًا غيرَ مغلوب على عقله جهلُه، وهذا الصنف كله من العلم موجود نصًّا في كتاب الله — تعالى — وموجود عامًّا عند أهل الإسلام ينقله كله عوامُّهم عمَّن مَضَى من عوامِّهم، يحكونه عن رسولِ اللهِ لا يتنازعون في حكايته، ولا في وجوبه عليهم، وهذا العلم العامُّ الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل.

أما الثاني فهو ما ينوب العباد من فروع الفرائض، وما يخصُّ به من الأحكام وغيرها ممَّا ليس فيه نص كتاب ولا في أكثره نص سنة، وإن كانت في شيء منه سنة فإنَّما هي من أخبار الخاصَّة لا أخبار العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُستدرَك قياسًا، والفرضُ في هذا مقصودٌ به قصد الكفاية، فإذا قام به من المسلمين مَنْ فيه الكفاية خرج مَن تخلَّف عنه من المأثم، ولو ضيَّعوه لم يخرج واحد منهم مُطِيق فيه من المأثم.

ثم عقد بابين؛ أولهما: باب خبر الواحد، والثاني: الحجة في تثبيت خبر الواحد، ويتجلَّى في هذين البابين أسلوب الشافعي في الجدل ومنهجه في الترجيح.

أمَّا أبواب الرسالة بعد ذلك فهي: باب الإجماع، باب إثبات القياس والاجتهاد، وحيث يجب القياس ولا يجب، ومَن له أن يقيس، باب الاجتهاد، باب الاستحسان، وهو يُبَيِّن فيه أنَّ حرامًا على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر، وقد أفاض في هذا الباب في الكلام على القياس وأنواعه، ورد القول بالاستحسان.

وختم الشافعي رسالة الأصول بالكلام على الاختلاف، فبيَّن أنَّ الاختلاف من وجهين: أحدهما: مُحَرَّمٌ. والآخر: غير مُحَرَّم.

أما الاختلاف المُحرَّم فهو: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه، أو على لسان نبيه منصوصًا بيِّنًا، فمَن عَلِمه لم يحلَّ له الاختلاف فيه. والثاني: الاختلاف فيما يحتمل التأويل أو يُدرَك قياسًا؛ فيذهب المتأوِّل أو القائِس إلى معنًى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره.

وعقَّب الشافعي على باب الاختلاف بباب في المواريث يذكر فيه أوجهًا من الاختلاف في المواريث، ويَلي ذلك باب الاختلاف في الجَدِّ، وبه تكمل الرسالة، وقد ذكر في هذا الباب الأخير رأيه في أقاويل الصحابة إذا تفرقوا فيها، وصرَّح بأنه هو يَصِير إلى اتِّباع قول واحدهم إذا لم يجد كتابًا ولا سُنَّة ولا إجماعًا، ولا شيئًا في معنى هذا أو وجد معه القياس.

ورتَّبَ الشافعي بعد ذلك مراتب الأصول وأنزلها منازلها بما نصه: «نحكم بالكتاب والسنة المُجْتَمَع عليها التي لا اختلاف فيها، فنقولُ لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ونحكم بسنة رُوِيت من طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها، فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر؛ لأنَّه قد يُمكن الغلط فيمَن روى الحديث، ونحكم بالإجماع، ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنَّها منزلة ضرورةٍ؛ لأنَّه لا يحل القياس والخبر موجود.»

مظاهر التفكير الفلسفي في الرسالة

ورسالة الشافعي كما رأينا تسلك في سرد مباحثها وترتيب أبوابها نسقًا مُقرَّرًا في ذهن مؤلِّفها، قد يختلُّ اطِّراده أحيانًا، ويَخفَى وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض، ولكنه على ذلك كله بداية قوية للتأليف العلمي المُنظَّم في فن يجمع الشافعي لأوَّل مرة عناصره الأولى.

وإذا كنَّا نَلمَح في «الرِّسالة» نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية؛ للعناية بضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية، وإن لم تغفل جانب الفقه؛ أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلَّتها التفصيلية؛ فإنَّا نَلمَح للتفكير الفلسفي في الرسالة مظاهر أخرى.

منها هذا الاتجاه المنطقي إلى وضع الحدود والتَّعاريف أولًا، ثم الأخذ في التقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم، وقد يَعْرِضُ الشافعي لسرد التعاريف المُختلفة ليُقارن بينها، وينتهي به التمحيص إلى تخيُّر ما يرتضيه منها.

ومنها أسلوبه في الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه، حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دِقَّة البحث ولُطف الفهم، وحُسن التصرف في الاستدلال، والنقض ومُرَاعاة النظام المنطقي، حوارًا فلسفيًّا على رغم اعتماده على النقل أولًا وبالذات واتصاله بأمور شرعية خالصة.

ومنها الإيماء إلى مباحث من عِلم الأُصول تكاد تهجم على الإلهيات أو علم الكلام؛ كالبحث في العلم، وأنَّ هناك حقًّا في الظاهر والباطن وحقًّا في الظاهر دون الباطن، وأنَّ المُجتهد مُصيبٌ أو مُخطئٌ معذور، والفرق بين القرآن والسنَّة، وعِلَل الأحكام، وترتيب الأصول بحسب قوتها وضعفها، وقد استدل الشافعي على حجِّيَّة السنة وما دُونَها من الأصول؛ فلَفَتَ الأذهان إلى حُجِّية القُرآن نفسه، وهي مسألة وثيقة الاتصال بأبحاث المُتكلمين.

شُرَّاح الرسالة متكلمون وفقهاء

وقد أثارت رِسَالة الشَّافعي اهتمام العُلماء يَروُونها، ويتناولونها بالشرح وبالنقد، فمَن شرحها: محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي المُتوفى سنة ٣٣٠ﻫ/٩٣٢م. وفي ترجمته في «طبقات الشافعية الكبرى» لابن السبكي: «الإمام الجليل الأُصولي، أحد أصحاب الوجوه المُسفِرة عن فضله، والمقالات الدالة على جلالة قدْره، وكان يُقال إنه أعلم خلق الله — تعالى — بالأصول بعد الشافعي، ومن تصانيفه شرح الرسالة.» وذكر له صاحب «الفهرست» من الكتب في الأصول كتاب «البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام»، وكتاب «شرح رسالة الشافعي»، وقال صاحب «كشف الظنون»: «ومن شروحها — أي «الرِّسالة» — «دلائل الأعلام للصيرفي».» فجعل الكتاب الأوَّل شرحًا للرسالة، وذكر صاحب «الفهرست» من كُتُب الصيرفي: «كتاب نقض كتاب عبيد الله بن طالب الكاتب لرسالة الشافعي».

ومنهم حسان بن محمد القرشي الأُموي أبو الوليد النيسابوري المُتوفى سنة ٣٤٩ﻫ/٩٦٠م. روى صاحب «الطبقات الشافعية الكُبرى» عن الحاكم أنه قال: «كان إمامَ أهل الحديث بخراسان، وأزهد مَن رأيتُ من العُلماء وأعبدهم، وأكثرهم تقشُّفًا ولزومًا لمدرسته وبيته.» ولم يُشِرْ صاحب الطبقات إلى شَرْحِهِ لرسالة الشافعي، لكنَّ صاحب «كشف الظنون» ذكره فيمَن شرح الرِّسالة، وذكر الزركشي في «البحر المُحيط» شرحه للرسالة فيما عنده من كتب الفن؛ أي فن الأصول.

ومنهم محمد بن علي بن إسماعيل القفَّال الكبير الشاشي المتوفى سنة ٣٦٥ﻫ/٩٧٥-٩٧٦م. قال صاحب «طبقات الشافعية الكبرى»: «كان إمامًا في التفسير، إمامًا في الحديث، إمامًا في الكلام، إمامًا في الأصول، إمامًا في الفروع.» وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: «كان إمامًا، وله مصنفات كثيرة ليس لأحد مثلها، وهو أول مَن صنف الجدل الحسن من الفقهاء؛ فإنه كتاب في أصول الفقه، وله شرح الرسالة، وعنه انتشر فقه الشافعي فيما وراء النهر.» وذُكر في «البحر المحيط» للزركشي وفي «كشف الظنون» وفي «الطبقات»: «وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: بلغني أنه كان مائلًا عن الاعتدال، قائلًا بالاعتزال في أوَّل أمره، ثم رجع إلى مذهب الأشعري.»

ومنهم الحافظ أبو بكر الجوزقي،٢١٨ ومُحمد بن عبد الله بن مُحمد النيسابوري الشيباني تُوفي سنة ٣٧٨ﻫ/٩٩٨-٩٩٩م: وفي «طبقات الشافعية»: «كان أبو بكر أحد أئمة المُسلمين علمًا ودينًا، وكان مُحَدِّث نيسابور.» ولم يذكر شرحه للرِّسالة في «الطبقات»، لكن الزَّركشي وصاحب «كشف الظنون» ذكراه، قال الزركشي في «البحر المحيط» في الكلام على ما عنده من كتب الفن: «فمن كُتب الإمام الشافعي — رضي الله عنه — «الرِّسالة» و«اختلاف الحديث»، و«أحكام القرآن»، ومواضع مُتفرقة من «الأم» و«شرح الرِّسالة» للصيرفي، وللقفال الشاشي، وللجويني،٢١٩ ولأبي الوليد النِّيسابوري، وكتاب «القياس» للمزني».
أمَّا صاحب «كشف الظنون» فيقول: «رسالة الشافعي في الفقه على مذهبه، وهي مشهورة بينهم، ورواها عنه جماعة وتنافسوا في شرحها، فشرحها أبو بكر محمد بن عبد الله الشيباني الجوزقي النيسابوري المتوفى سنة ٣٨٨ﻫ/٩٩٨م، والإمام محمد بن علي القفَّال الكبير الشاشي المتوفى سنة ٣٦٥ﻫ/٩٧٥-٩٧٦م، وأبو الوليد حسان بن محمد النيسابوري القُرشي الأُموي المتوفى سنة ٣٤٩ﻫ/٩٦٠م، وأبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي سنة ٣٣٠ﻫ/٩٤١-٩٤٢م واسمه: «دلائل الأعلام»، ذكره في شرح الألفية، وشرحها أبو زيد عبد الرحمن الجزولي، ويُوسف بن عمر، وجمال الدين … الأقفهسي، وابن الفاكهاني أبو القاسم بن عيسى بن ناجي.»٢٢٠

ولم أعثر على تراجم للشُّرَّاح الخمسة الأخيرين.

والشراح الذين تناولوا رِسَالة الشافعي كانوا ما بين مُتكلمين وفقهاء، فنزع كل فريق منهم المنزع المُناسب لفنه، فعُنِي الفقهاء بجانب الاستنباط والتفريع في «الرسالة»، وعُنِي المتكلمون بما تُوحي به مباحث الكلام.

وتوجَّه التأليف في علم الأصول هذا الاتجاه؛ قال ابن خلدون٢٢١ في المُقدمة في باب «أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات»: وكان أول مَن كتب فيه — أي في علم أصول الفقه — الشافعي — رضي الله تعالى عنه — أمْلَى به رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر والنَّواهي والبيان والخبر والنَّسخ وحُكْم العِلَّة المنصوصة من القياس، ثم كَتَب فقهاء الحنفية فيه وحقَّقوا تلك القواعد وأوْسَعوا القول فيها، وكتب المُتكلمون أيضًا كذلك، إلَّا أنَّ كتابة الفقهاء فيها أمَسُّ بالفقه، وألْيَق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشواهد، وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية، والمُتكلمون يُجَرِّدون صور تلك المسائل عن الفقه، ويَمِيلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن؛ لأنَّه غالب فنونهم ومُقتضى طريقتهم، وكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية، والْتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن، وجاء أبو زيد الدبوسي٢٢٢ من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمَّم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده، وعُنِي الناس بطريقة المتكلمين، وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب «البرهان» لإمام الحرمين،٢٢٣ و«المُستصفى» للغزالي،٢٢٤ وهما من الأشعرية، وكتاب «العَهْد» لعبد الجبار٢٢٥ وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري٢٢٦ وهما من المعتزلة، وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه.»
ويقول الزركشي في البحر المُحيط: «وجاء مَن بَعده — أي الشافعي — فبيَّنوا وأوْضحوا وبَسَطوا وشرحوا، حتى جَاءَ القاضيان قاضي السنة أبو بكر بن الطيب،٢٢٧ وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسَّعا العبارات، وفكَّا الإشارات، وبيَّنا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتَفَى الناس بآثارهم وساروا على لاحِب نارِهِم.»

وجملة القول أنَّ المتكلمين منذ القرن الرابع الهجري وضعوا أيديهم على علم أصول الفقه، وغلبت طريقتهم فيه طريقة الفقهاء؛ فنفذت إليه آثار الفلسفة والمنطق، واتصل بهما اتصالًا وثيقًا.

هوامش

(١) طبعة الشيخ فرج الله زكي الكردي بمطبعة النيل بمصر.
(٢) ج١، ص٧٥-٧٦.
(٣) محمد بن علي بن مُحمد بن عبد الله الشوكاني اليمني الصنعاني المتوفى سنة ١٢٥٠ﻫ/١٨٣٤-١٨٣٥م.
(٤) ص١٨٨.
(٥) ص١٨٤-١٨٥.
(٦) ص٦٦.
(٧) ج٤، ٢١٨.
(٨) ج٦، ١٦.
(٩) آية: ١٥٩، سورة: ٣ آل عمران، مدنية.
(١٠) تابعي تُوفي سنة ١٠٥ﻫ/٧٢٣-٧٢٤م، ويُقال ١٠٤ﻫ/٧٢٢-٧٢٣م.
(١١) كون الحكم من النبي بغير القرآن لا يكون إلا عن اجتهاد ليس مسلَّمًا، فإن من السنن ما كان وحيًا لا اجتهادًا.
(١٢) الخَلا بالقصر: الرطب، وهو ما كان غضًّا من الكلأ، وأمَّا الحشيش فهو اليابس، واختَلَيْتُ الخلا: قطعتُه، ولا يُعضَد شجرها، لا يُقطَع، والإذخر بكسر الهمزة والخاء، نبات ذكي الريح إذا جفَّ أبيض (المصباح).
(١٣) «الإحكام» ج٤، ص٢٢٣-٢٢٤.
(١٤) في حديث الأضحية: «نهيتكم عنها من أجْل الدافة» هم القوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد، من: يَدفُّون دَفِيفًا، أو الدَّافَّة قوم من الأعراب يريدون المصر، يريد أنهم قَدِموا المدينة عند الأضحى، فنَهَاهم عن ادِّخار لحومها ليتصدَّقوا بها «مجمع بحار الأنوار».
(١٥) وقد وقصتِ الناقة براكبها وقصًا من باب وعد، رَمَت به فدقَّت عنقَه (المصباح).
(١٦) زمَّلتُه بثوبه تزميلًا فتزمَّل، مثل لفَفْتُه به فتلفَّف (المصباح).
(١٧) الوَدَج بفتح الدال، والكسر لغة، عِرْق الأخدع (العنق) الذي يقطعه الذابح فلا تبقَى معه حياة (المصباح).
(١٨) شخبت أوداج القتيل دمًا شخبًا، من بابَيْ قتل ونفع: جرت (المصباح).
(١٩) «الإحكام» للآمدي، ج٤، ص٤٢–٤٥.
(٢٠) في «المصباح المنير»: نزع إلى أبيه ونحوه: أشبهه، ولعلَّ عرقًا نزع أي مال بالشبه.
(٢١) «إرشاد الفحول» للشوكاني، ص١٨٩.
(٢٢) ص١٥٨.
(٢٣) ج١، ص١٨٢-١٨٣ من طبعة دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد الدكن بالهند سنة ١٣٣٧.
(٢٤) آية: ٤٣، سورة: ٩ التوبة، مدنية.
(٢٥) انظر أيضًا ص١٣٣، وما نُقل فيها عن كشف البزدوي.
(٢٦) «الإحكام» للآمدي، ج٤، ص٢٩٠–٢٩٢.
(٢٧) ص١٤-١٥ من طبع مطبعة الآداب والمؤيد بالقاهرة سنة ١٣١٧.
(٢٨) وكل شيء على الإنسان من لباس فهو سلب (المصباح).
(٢٩) في «مفردات غريب القرآن» للأصفهاني: «وعلى ذلك قوله تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، أي: حقق ما أورده قولًا بما تحرَّاه فعلًا.» ولعل ما هنا قريب من ذلك المعنى.
(٣٠) والرقيع: السماء، والجمع أرقعة، مثل رغيف وأرغفة (المصباح).
(٣١) «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي ج٤، ص٢٣٦-٢٣٧.
(٣٢) «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي ج٤، ص٤٢–٤٥.
(٣٣) ج٦، ص٢٥–٢٧.
(٣٤) ج٦، ص٣٠.
(٣٥) «مختصر جامع بيان العلم»، ص١٣٣.
(٣٦) ص٢٤٦-٢٤٧.
(٣٧) آية: ٢١٧، سورة: ٢ البقرة، مدنية.
(٣٨) آية: ٢٢٢، سورة: ٢ البقرة، مدنية.
(٣٩) «حجة الله البالغة»، للشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله المحدث الدهلوي، ج١، ص١١٢، طبع الخشاب بمصر.
(٤٠) «حجة الله البالغة»، للشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله المحدث الدهلوي، ج١، ص١١٢، طبع الخشاب بمصر.
(٤١) «الإحكام»، ج٦، ص٨٤.
(٤٢) آية: ٨٢، سورة: ٤ النساء، مدنية.
(٤٣) آية: ١٣، سورة: ٤٢، الشورى، مكية.
(٤٤) آية: ٤٦، سورة: ٨ الأنفال، مدنية.
(٤٥) آية: ١٥٩، سورة: ٦ الأنعام، مكية.
(٤٦) آية: ١٠٥، سورة: ٣ آل عمران، مدنية.
(٤٧) «الإحكام» للآمدي، ج٤، ص٣٠٢.
(٤٨) «إعلام الموقعين» لابن قيم الجوزية: ج١، ص٣١٥.
(٤٩) آية: ١٧٦، سورة: ٢ البقرة، مدنية.
(٥٠) آية: ٢١٣، سورة: ٢ البقرة، مدنية.
(٥١) آية: ١٠٢، ١٠٣، سورة ٣ آل عمران، مدنية.
(٥٢) آية: ١٠٥، سورة: ٣ آل عمران، مدنية.
(٥٣) آية: ٤٦، سورة: ٨ الأنفال، مدنية.
(٥٤) آية: ١٣، سورة: ٤٢ الشورى، مكية.
(٥٥) آية: ١٥٣، سورة: ٦ الأنعام، مدنية.
(٥٦) آية: ١٥٩، سورة: ٦ الأنعام، مكية.
(٥٧) آية: ٨٢، سورة: ٤ النساء، مدنية.
(٥٨) «الإحكام في أصول الأحكام»، ج٥، ص٦٥–٦٧.
(٥٩) ثلجت النفس ثلوجًا وثلجًا من بابَيْ قعد، وتعب: اطمأنَّتْ «المصباح المنير».
(٦٠) «حجة الله البالغة»، ج١، ص١١٢-١١٣.
(٦١) «الخطط المقريزية»، ج، ص١٤٢، طبعة المليجي.
(٦٢) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي محمد علي بن حزم، ج٥، ص٩٢-٩٣.
(٦٣) «حجة الله البالغة»، ج١، ص٩٧، طبعة الخشاب.
(٦٤) «إرشاد الفحول»، ص٢٢٣.
(٦٥) ج٥، ص١٦١.
(٦٦) «إرشاد الفحول»، ص٢٢٢-٢٢٣.
(٦٧) كتاب «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول» للإمام محمد بن علي الشوكاني، ص٢٢٠–٢٢٢.
(٦٨) «الإحكام في أصول الأحكام»، ج٦، ص٥٤.
(٦٩) ج٧، ص١١٨-١١٩.
(٧٠) والبُلْغة: ما يُتبلَّغ به من العيش ولا يفضل، يُقال: تبلَّغ به إذا اكتفى به وتجزأ. وفي هذا بلاغ وبُلْغة وتبلُّغ: كفاية «المصباح المنير».
(٧١) «الإحكام» للآمدي.
(٧٢) «إعلام الموقعين»، ج١، ص٢٥٣.
(٧٣) ص١٥.
(٧٤) «إعلام الموقعين»، ج١، ص٧٠.
(٧٥) جمل الشحم: أذابه جَمْلًا، من باب طلب.
(٧٦) النَّبَط: جيل من الناس كانوا ينزلون سواد العراق، ثم استُعمل في أخلاط الناس وعوامِّهم، والجمع أنباط مثل سَبَب وأسباب، والواحد نَبَاطي بزيادة ألِف، والنون تُضم وتُفتح. قال الليث: ورجل نبطي، ومنَعَه ابن الأعرابي (المصباح).
(٧٧) روى الداروردي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وقلت له: أكنتَ تُحدِّث في زمان عمر هكذا؟ فقال: لو كنتُ أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخففته. رُوي عن معن بن عيسى، قال: أنبأنا مالك عن عبد الله بن إدريس عن شعبة عن سعيد بن إبراهيم، عن أبيه، أنَّ عمر حبس ثلاثة؛ ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: أكثرتم الحديث عن رسول الله .
رُوي عن ابن عُلَيَّة عن رجاء بن أبي سلمة قال: بلغني أنَّ مُعاوية كان يقول: عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر، فإنه كان قد أخاف الناس في الحديث عن رسول الله («تاريخ التشريع الإسلامي» لمحمد الخضري، ص٩٩-١٠٠).
(٧٨) «الطرق الحكمية»، ص١٥–١٨.
(٧٩) «الطرق الحكمية»، ص١٨-١٩.
(٨٠) «الطرق الحكمية»، ١٩.
(٨١) «مختصر جامع بيان العلم»، ص١٤٦-١٤٧.
(٨٢) «الظهار لغة: مصدر ظاهر الرجل، أي: قال لزوجته: أنت عليَّ كظَهْر أمي، أي: أنت عليَّ حرام كظهر أمي، فكنَّى عن البطن بالظهر الذي هو عمود البطن، والظهار هو طلاق في الجاهلية، أمَّا في الشرع؛ فهو: تشبيه مسلم عاقل بالغ زوجته أو جزءًا منها شائعًا كالثلث والربع أو ما يعبَّر به عن الكل بما لا يحل النظر إليه من المحرَّمة على التأبيد ولو برضاع أو صهر. ثم حكم الظهار حرمة الوطء ودواعيه إلى وجوب الكفارة «كشاف اصطلاحات الفنون».
«الإحكام»، ج٤، ص٥٢–٥٦.
(٨٣) ج٣، ص١٢-١٣.
(٨٤) طبع أستنبول ١٢٨٦، ص٢١٩-٢٢٠.
(٨٥) «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم، ج٧، ص١٢٢–١٢٤.
(٨٦) «الإحكام»، ج٢، ص١٢٥.
(٨٧) «الإحكام»، ج٧، ص١٢٦-١٢٧.
(٨٨) ج٣، ص٨، ١٠-١١.
(٨٩) وفي «مختصر جامع بيان العلم»: «عن عمر أنه لقى رجلًا فقال: ما صنعتَ؟ فقال قضى عليٌّ وزيدٌ بكذا: فقال: لو كنتُ أنا لقضيتُ بكذا، قال: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال: لو كنتُ أردك إلى كتاب الله أو سنة رسول الله ، لفعلتُ، ولكني أردك إلى رأي والرأي مشترك، فلم ينقض ما قال عليٌّ وزيد، وهذا كثير لا يُحْصَى (ص١٢٨). وقال عمر: «لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان مَن بعدَكم أشدَّ اختلافًا.» ولما سمع ابن مسعود وأُبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين، صعد المنبر وقال: رجلان من أصحاب رسول الله ، اختلفا، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت». («الإحكام»، ج٤، ص١٠-١١).
(٩٠) ج١، ص١٥.
(٩١) في «كشاف اصطلاحات الفنون»: نكاح المتعة عندهم أن يقول الرجل لامرأة متِّعِيني بكذا دراهم مدة عشرة أيام أو أيامًا أو بلا ذكر المدة، وهذا قد كان مباحًا مرتين أيام خيبر، وأيام فتح مكة، ثم صارت منسوخة بإجماع الصحابة وعناه حديث علي رضي الله عنه.
وفي كتاب «نيل الأوطار»: «والإفراد هو الإهلال بالحج وعدُّه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمَن شاء، ولا خلاف في جوازه، والقِرَان هو الإهلال بالحج والعمرة معًا، وهو أيضًا متفق على جوازه، أو الإهلال، بالعُمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه، وهذا مُختلف فيه، والتمتُّع هو الاعتمار في أشهر الحج ثم التحلُّل من تلك العمرة، والإهلال بالحج في تلك السنة ويطلق التمتُّع في عرف السلف على القِرَان. قال ابن عبد البر: «ومن التمتع أيضًا القران، ومن التمتع أيضًا فسخ الحج إلى العمرة» (وحكى النووي في شرح مسلم الإجماع على جواز الأنواع الثلاثة وتأول ما ورد من النهي عن التمتع من بعض الصحابة، ج٤، ص١٩٠).»
وفي «منتقى الأخبار»: «ولأحمد ومسلم: نزلت آية المتعة في كتاب الله — تعالى — يعني متعة الحج، وأمرنا بها رسول الله ، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينهَ عنها حتى مات، وعن عبد الله بن شقيق أنَّ عليًّا كان يأمر بالمُتعة وعثمان ينهى عنها، فقال عثمان: كلمة فقال علي: لقد علمتَ أنَّا تمتَّعنا مع رسول الله . فقال عثمان: أجَلْ، ولكنَّا كنَّا خائفين (رواه أحمد ومسلم، ج٤، ص١٩٠).»
(٩٢) «حجة الله البالغة»، ج١، ص١٠٥.
(٩٣) على أنَّ رواية السنن في هذا الدور كانت قليلة؛ لمَا كان يُراعيه الخلفاء من التشدد والتثبت، قال الشيخ الخضري: «فهذه الأحاديث تدلُّ على أنَّ أئمة المسلمين وقادتهم في ذلك الدور إنما كانوا يُشيرون بتقليل الرواية خشية أن ينتشر الكذب والخطأ على رسول الله ، ولذلك كانوا يتثبَّتون فيما يُروَى لهم، فلم يكن أبو بكر ولا عمر يَقبَلان من الأحاديث إلا ما شهد اثنان سمعاه من رسول الله ، حتى طلب أبو بكر مَن يُقوِّي المغيرة بن شعبة في روايته، وطلب عمر مَن يُقوِّي المغيرة، وأبا موسى وأبيا، وهم ما هم في الثقة بهم لعلو مُقامهم وعلو كعبهم، وكان عليٌّ يستحلف الراوي، وإذا تثبتوا واطمأنوا عملوا بمقتضى ما يُروى لهم عن رسول الله ولم يُخالفوه، وكان عملهم هذا داعيًا إلى التقليل من رواية السنة في هذا الدور والاقتصار منها على ما ثبت روايته بشاهدين عند وجود الحادثة الداعية إلى ذكر الحديث» («تاريخ التشريع الإسلامي»، ص١٠٣).
(٩٤) «رسالة الشافعي في أصول الفقه»، طبع الحسيني، ص٦٥.
(٩٥) «الإحكام في أصول الأحكام»، ج٢، ص١٢٨-١٢٩.
(٩٦) «الإحكام في أصول الأحكام»، ج٤، ص١٤٤-١٤٥.
(٩٧) ج٢، ص٢٤٠، تأليف الشيخ حسين بن محمد بن الحسن الدياربكري.
(٩٨) ج٢، ص٢٤١.
(٩٩) ص٤٤–٤٧.
(١٠٠) ج٣، ص٢٧٧-٢٧٨.
(١٠١) ص٤٢.
(١٠٢) ص١٩٠.
(١٠٣) ج١، ص٧٠-٧١.
(١٠٤) ص٧٢.
(١٠٥) ص٢٨٧-٢٨٨ من الطبعة الأولى.
(١٠٦) «حجة الله البالغة»، ص١١٣.
(١٠٧) ص١١٦.
(١٠٨) صَحَّحَ الناشر الاقتباس بعد الرجوع إلى النسخة الأصلية من كتاب خُطط المقريزي.
(١٠٩) «الخطط المقريزية»، ج٤، ص١٤٢-١٤٣.
(١١٠) ج١، ص٢٨.
(١١١) ج١، ص٢٥.
(١١٢) طبع مطبعة الموسوعات بمصر، سنة ١٣١٩ﻫ.
(١١٣) هكذا في الأصل، والصواب فيصيبوه.
(١١٤) ونكاح المتعة هو المؤقت في العقد، وقال في «العباب»: كان الرجل يُشارِط المرأة شرطًا على شيء إلى أجَل معلوم ويُعطيها ذلك، فيستحلُّ فرجها ثم يخلِّي سبيلها من غير تزويج ولا طلاق، وقيل في قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ منْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، والمُراد نكاح المُتعة، والآية مُحكمة، والجمهور على تحريم نكاح المتعة، وقالوا معنى قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ فما نكحتم على الشريطة التي في قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ؛ أي عاقدين النكاح «المصباح المنير».
(١١٥) المُرسَل من الحديث ما أسنده التابعي أو تبع التابعي إلى النبي ، من غير أن يذكر الصحابي الذي روى الحديث عن النبي كما يقول: «قال رسول الله » («التعريفات» للجرجاني).
(١١٦) انتهى ملخصًا.
(١١٧) في «إعلام الموقعين»: «والذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله ، مائة ونيف وثلاثون نفسًا ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر. قال أبو محمد بن حزم: ويمكن أن يُجمع من فتوى كل واحد منهم سِفْر ضخم، قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس — رضي الله عنهما — في عشرين كتابًا، وأبو محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث» (ج١، ص١٣).
(١١٨) ص١١٨–١٢٠.
(١١٩) ج١، ص٢٢-٢٣.
(١٢٠) في لسان العرب: «ودفع فلان إلى فلان إذا انتهى إليه.»
(١٢١) ص٣٤.
(١٢٢) ص٣٥.
(١٢٣) ص١٠٠.
(١٢٤) من «التعليق الممجد على موطأ الإمام محمد».
(١٢٥) ج١، ص٥٧.
(١٢٦) سما بصير صُعُدًا بضم صاد وعين: أي صاعدًا (مجمع بحار الأنوار).
(١٢٧) ج٤، ص١٤٣، طبع المليجي بمصر.
(١٢٨) «مختصر جامع بيان العلم»، ص٣٣.
(١٢٩) أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي البُخاري المدني القاضي، يُقال اسمه أبو بكر وكُنيته أبو محمد، وقيل اسمه كنيته، وقال أبو ثابت عن ابن وهب عن مالك: لم يكن عندنا أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم، وكان ولَّاه عمر بن عبد العزيز، وكتب إليه أن يكتب له من العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد، ولم يكن بالمدينة أنصاري أمير غير أبي بكر بن حزم وكان قاضيًا. زاد غيره فسألتُ ابنَه عبد الله بن أبي بكر عن تلك الكتب فقال ضاعت، واختُلف في موته فقيل مات سنة ١٠٠ﻫ/٧١٨-٧١٩م، وقيل: سنة ١١٠ﻫ/٧٢٨-٧٢٩م، وقيل: ١١٧ﻫ/٧٣٥م، وقيل: ١٢٠ﻫ/٧٣٧-٧٣٨م («تهذيب التهذيب» لابن حجر).
(١٣٠) التعليق هو عند المُحدثين: حذف راوٍ واحد أو أكثر من أوائل إسناد الحديث، فالحديث الذي حُذف من أوائل إسناده راوٍ واحد فأكثر يُسَمَّى معلَّقًا، كقول الشافعي — رحمه الله — مثلًا: قال نافع أو قال ابن عمر، أو قال النبي ، لا ما حُذف من أواسط إسناده فقط فإنه منقطع، ولا ما حُذف من أواخره فقط فإنه مُرسَل. كذا في «خلاصة الخلاصة»، وقد يُحذف تمام الإسناد، كما هو عادة المصنفين؛ حيثُ يقول: قال النبي ، وقد يُحذف تمام الإسناد إلا الصحابي أو إلا التابعي والصحابي معًا، وقد يَحذف مَن حدَّثه ويُضيفه إلى مَن فوقَه، فإن كان مَن فوقه شيخًا لذلك المصنف فاختُلف فيه هل يُسمَّى تعليقًا أم لا، والصحيح التفصيل، فإن عُرف بالنص أو الاستقراء أن فاعل ذلك مدلِّس فتدليس وإلا فتعليق «كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي».
(١٣١) «حاشية الزرقاني على موطأ مالك»، ج١، ص١٠.
(١٣٢) ص١٤٠-١٤١.
(١٣٣) ج٢، ص١٣٧.
(١٣٤) ج١، ص٢٦.
(١٣٥) ج١، ص٨٠ الطبعة الأوروبية.
(١٣٦) ج٤، ص١٤٣-١٤٤.
(١٣٧) ج١، ص٧٩ من طبعة بولاق سنة ١٢٩٦.
(١٣٨) ص٣٧.
(١٣٩) ص٦٥.
(١٤٠) الحسن بن صالح بن حي يُكنَى أبا عبد الله، وكان يتشيَّع، وزوَّج عيسى بن زيد بن علي ابنته، واستخفى معه في مكان واحد حتى مات عيسى بن زيد، وكان المهديُّ يطلبهما فلم يَقدِر عليهما، ومات الحسن بعد عيسى بستة أشهر («المعارف لابن قتيبة»: ص١٧١).
(١٤١) ص١٧٨.
(١٤٢) «رسائل الجاحظ»، جمع السندوبي، ص١٠٦.
(١٤٣) ص١٣٠.
(١٤٤) ص١٤١.
(١٤٥) «تاريخ التشريع الإسلامي»، ص١٥٩.
(١٤٦) وفي كتاب «ضحى الإسلام» للأستاذ أحمد أمين بك: «فالحق أنَّ الحكم الأُموي لم يكن حكمًا إسلاميًّا يُسوَّى فيه بين الناس، ويُكافأ فيه المحسن عربيًّا كان أو مولًى، ويُعاقب فيه مَن أجرم عربيًّا كان أو مولًى، ولم يكن الحكام خَدَمة للرعية على السواء، إنما كان الحكم عربيًّا والحكام فيه خَدَمة للعرب على حساب غيرهم، وكانت تَسود العربَ فيه النزعةُ الجاهلية لا النزعة الإسلامية» (ج١، ص٢٧).
قال الجاحظ في كتاب «فضل هاشم على عبد شمس»: «والذي حسَّن أمره — يريد عمر بن عبد العزيز — وشبَّه على الأغبياء حاله أنَّه قام بعقب قوم بدَّلوا عامة شرائع الدين وسُنَن النبي ، وكان الناس قبلَه من الظلم والجور والتهاون بالإسلام في أمر صغُر في جنبه ما عايَنوا منه وألْفَوْه عليه؛ فجعلوه لمَا نقص من تلك الأمور اللفظية في عداد الأئمة الرَّاشدين» («رسائل الجاحظ»، جمع السندوبي، ص٩١).
(١٤٧) جاء في كتاب «أبجد العلوم»: «علم الفقه: قال في «كشاف اصطلاحات الفنون»: علم الفقه، ويُسمَّى هو وعلم أصول الفقه بعلم الدراية أيضًا على ما في «مجمع السلوك»، وهو معرفة النفس ما لها وما عليها. هكذا نُقل عن أبي حنيفة، وقوله: «ما لها وما عليها» يُمكن أن يُراد به ما تنتفع به النفس وما تتضرَّر به في الآخرة، والمشعِر بهذا شهرة أنَّ علم الفقه من العلوم الدينية، ويُمكن أن يُراد به ما يجوز لها وما يجب عليها، أو ما يجوز لها وما يحرم عليها، ثم ما لها وما عليها يتناول الاعتقاديات كوجوب الإيمان ونحوه، والوجدانيات؛ أي الأخلاق الباطنة والملكات النفسانية، والعمليات كالصوم والصلاة والبيع ونحوها؛ فالأول علم الكلام، والثاني علم الأخلاق والتصوف، والثالث هو الفقه المصطلح.
وذكر الغزالي أنَّ الناس تصرَّفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على دلائلها وعللها، واسم الفقه في العصر الأول كان مطلقًا على علم الآخرة ومعرفة دقائق النفوس والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا. قال أصحاب الشافعي: الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، والمراد بالحكم النِّسبة التامة الخبرية التي العلم بها تصديق وبغيرها تصوُّر، فالفقه عبارة عن التصديق بالقضايا الشرعية المتعلقة بكيفية العمل تصديقًا حاصلًا من الأدلة التفصيلية التي نصَّت في الشرع على تلك القضايا، وهي الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس» (ج٢، ص٥٥٩-٥٦٠).
(١٤٨) ج١، ص٧.
(١٤٩) هو إبراهيم النخعي المتوفى سنة ٩٦ﻫ/٧١٤-٧١٥م.
(١٥٠) ج١، ص١١٨.
(١٥١) ص١٣٤–١٣٨.
(١٥٢) ص٢٠٢.
(١٥٣) ج١، ص٧–٩٠.
(١٥٤) ج١، ص١٣٦-١٣٧.
(١٥٥) الشرط في اصطلاح الفقهاء والأُصوليين: هو الخارج عن الشيء الموقوف عليه ذلك الشيء الغير المؤثر في وجوده، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة («كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي).
(١٥٦) «المبسوط» للسرخسي: ج١، ص٣.
(١٥٧) «مناقب الشافعي» للرازي: ص٤٤٠.
(١٥٨) «المناقب» للكردري: ج١، ص٢٠٧–٢١١.
(١٥٩) ج١، ص١٧-١٨.
(١٦٠) ج١، ص٤٠.
(١٦١) عن كتاب «مختصر جامع بيان العلم».
(١٦٢) ص١٤٧.
(١٦٣) ص٢٠٥.
(١٦٤) ص٢١٠.
(١٦٥) ج١، ص٩-١٠.
(١٦٦) ص١٩٩.
(١٦٧) «مختصر جامع بيان العلم»، ص١٩٢.
(١٦٨) «مختصر جامع بيان العلم»، ص١٨٢.
(١٦٩) ج١، ص١٧-١٨.
(١٧٠) ص٣٨ الرازي.
(١٧١) ص١٣٢.
(١٧٢) ص٢٥٠-٢٥١، الرازي.
(١٧٣) المراسيل: اسمُ جَمْعٍ للمُرسَل، وهو في اصطلاح المُحدِّثين ما يَروِيه التابع عن رسول الله ولم يذكر مَن بينه وبين الرسول، والمجهول هو الذي لم يُشتَهر برواية الحديث ولم يُعرَف إلا برواية حديث أو حديثين «شرح البرذوي».
(١٧٤) ج١، ص١٦-١٧.
(١٧٥) «الانتقاء»، ص٢٣.
(١٧٦) «معجم الأدباء»، ج٦، ص٣٨٠ من الطبعة الأوروبية.
(١٧٧) وقد عزا إليه صاحب «كشف الظنون» كتابًا في القِيَافة فقال: ««تنقيح في علم القيافة» رسالة للإمام الشافعي.»
(١٧٨) الكُرَاع بالضم: اسم يَجمَع الخيل.
(١٧٩) ج٢، ص٨٧.
(١٨٠) ج١، ص١٩٤-١٩٥.
(١٨١) «ابن حجر» ص٥٩.
(١٨٢) «الانتقاء» ص٤٣-٤٤.
(١٨٣) ج١، ص١٤٢–١٤٤.
(١٨٤) نسخة خطية بمكتبة باريس، رقم ٢٠٩٣، ص٣٩.
(١٨٥) «الانتقاء»، ص٢٤.
(١٨٦) ج٢، ص١٥٠.
(١٨٧) «المناقب»، ج٢، ص١٥٠-١٥١.
(١٨٨) «ابن حجر»، ص٧٦.
(١٨٩) ج٢، ص٦٨-٦٩.
(١٩٠) «الانتقاء»، ص٨٦.
(١٩١) ص٧٦.
(١٩٢) ج٢، ص٦٨.
(١٩٣) ج٢، ص١٥٣.
(١٩٤) الرازي، ص٢٦.
(١٩٥) ابن حجر: ٧٦.
(١٩٦) هامش «الانتقاء» ص٧٧.
(١٩٧) ص٧٨.
(١٩٨) في كتاب «طبقات الشافعية» للنووي في ترجمة أحمد بن المؤدِّب أبي عبد الله الهروي: «كان يقرأ لعاصم رواية بكر، فإذا أمسى صلى المغرب، ونظر في كتاب الربيع والفقه إلى بعد العشاء. قلتُ: «الأم» تسمى كتاب الربيع.»
(١٩٩) ص١٤٦.
(٢٠٠) ص٧٥.
(٢٠١) «مفتاح السعادة» ج٢، ص٩١.
(٢٠٢) الرازي، ص٣٥.
(٢٠٣) ج١، ص٤-٥.
(٢٠٤) «وأوَّل مَن ابتكر هذا العلم الإمام الشافعي — رضي الله عنه — بالإجماع، وألَّف فيه كتاب «الرسالة» الذي أرسل به إلى ابن مهدي وهو مقدمة «الأم».»
«كتاب إتمام الدراية لقراء النقابة» لجلال الدين السيوطي المطبوع بهامش «مفتاح العلوم»، ص٧٩.
(٢٠٥) في كتاب «طبقات الفقهاء» للقاضي شمس الدين العُثماني الأصفهاني في ترجمة الشافعي: «وسأله عبد الرحمن بن مهدي إمَام أهل الحديث في عصره أن يُصنِّف كتابًا في أصول الفقه، فصنَّف «الرِّسالة»؛ فأُعجِب بها أهل العصر، وأجمع الناس على استحسانها وأكبُّوا على حفظها. قال المُزني: قرأتُ «الرِّسالة» خمسمائة مرة ما من مرة إلا استفدتُ منها شيئًا لم أكن عرفتُه.»
(٢٠٦) ج٩٨، ١٠٢.
(٢٠٧) من نسخة خطية في المكتبة الأهلية بباريس.
(٢٠٨) ص٣٩٧.
(٢٠٩) من نسخة خطية بدار الكتب الأهلية بباريس.
(٢١٠) ص٣٣٤.
(٢١١) ج٢، ص٢٤٥.
(٢١٢) ج٢، ص١٠٢.
(٢١٣) ج١، ص١٦.
(٢١٤) والأمالي: جمع إملاء وهو أن يَقعُد العالِم حوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم العالم بما فتح الله — تعالى — عليه من ظَهْر قلبه بالعلم، وتكتبه التلامذة، ثم يجمعون ما يكتبونه فيصير كتابًا فيُسمُّونه الإملاء والأمالي. («مجموعة رسائل ابن عابدين»: ج١، ص١٧).
(٢١٥) ص٢٠٣.
(٢١٦) ص٢٠٤.
(٢١٧) ج١، ص٣٦٤–٣٦٦.
(٢١٨) جوزق: قرية من قرى نيسابور.
(٢١٩) الشيخ أبو محمد الجويني عبد الله بن يوسف والد إمام الحرمين، كان يُلَقَّب بركن الإسلام، له المعرفة التامة بالفقه والأصول والنحو والتفسير والأدب — توفي سنة ٤٣٨ﻫ/١٠٤٦م.
(٢٢٠) «كشف الظنون»، طبعة تركيا، ج١، ص٨٧٣.
(٢٢١) وقول ابن خلدون إن فقهاء الحنفية هم الذين أخذوا بعد الشافعي يُكملون أصول الفقه لا يؤيده ما ذكرنا من أسماء الشافعيين الذين شرحوا الرسالة وكتبوا في الأصول، وقد نقل في «كشف الظنون» عن الإمام علاء الدين الحنفي في ميزان الأصول ما يأتي: «اعلم أنَّ أصول الفقه فرع لأصول الدين؛ فكان من الضرورة أن يقع التصنيف فيه على اعتقاد مصنِّف الكتاب، وأكثر التصانيف في أصول الفقه لأهل الاعتزال المُخالِفين لنا في الأصول ولأهل الحديث المُخالفين لنا في الفروع، ولا اعتماد على تصانيفهم، وتصانيف أصحابنا قسمان: قسم وقع في غاية الإحكام والإتقان لصدوره ممَّن جمع الأصول والفروع، مثل: «مآخذ الشرع»، وكتاب «الجدل» للماتريدي (أبي منصور المتوفى سنة ٣٣٣ﻫ/٩٤٤-٩٤٥م) ونحوهما، وقسم وقع في نهاية التحقيق في المعاني وحسن الترتيب لصدوره ممَّن تصدَّى لاستخراج الفروع من ظواهر المسموع، غير أنَّهم لمَّا لم يتمهَّروا في دقائق الأصول وقضايا العقول أفضى رأيهم إلى رأي المخالِفين في بعض الفصول، ثم هجر القسم الأول، إما لتوحُّش الألفاظ والمعاني وإما لقصور الهِمَم والتواني، واشتُهر القسم الأخير. انتهى.»
(٢٢٢) الإمام أبو زيد عبيد الله بن عمر بن عيسى القاضي الدبوسي الحنفي المتوفى سنة ٤٣٠ﻫ/١٠٣٨-١٠٣٩م وهو أول مَن وضع علم الخلاف.
(٢٢٣) أبو المعالي عبد الملك بن أبي عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الشافعي، المُلقَّب ضياء الدين المعروف بإمام الحرمين المتوفى سنة ٤٧٨ﻫ/١٠٨٥م.
(٢٢٤) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الملقَّب حجة الإسلام زين الدين الطوسي تلميذ إمام الحرمين توفي سنة ٥٠٥ﻫ/١١١١م.
(٢٢٥) القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي، شيخ المعتزلة في عصره، توفي سنة ٤١٥ﻫ/١٢٤٠م.
(٢٢٦) محمد بن علي بن الطيب أبو الحسين المُتكلم البصري، كان إمامًا عالمًا بعلم كلام الأوائل، وكان يتقي أهل زمانه في التظاهر به، فأخرج ما عنده في صورة متكلمي المِلَّة الإسلامية، ولم يَزَل على التصدُّر والتصنيف والإملاء والإفادة لمذهب الاعتزال والتحقيق لما انفرد به من الأقوال حتى أتاه أجله سنة ٤٣٦ﻫ/١٠٤٤م «أخبار الحكماء».
(٢٢٧) القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن القاسم المعروف بالباقلاني البصري الأشعري المتوفى سنة ٤٥٣ﻫ/١٠١٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤