شوقي شاعر الأمراء١

ما عرفنا شاعرًا صيغ له من قلائد المدح، ونُظم فيه من عقود الثناء، ما صيغ ونُظِم في شوقي: فهو الملقَّب بأمير الشعراء، وكلُّ قصيدةٍ له تُنعت بالعصماء، وكلُّ منظومةٍ من منظوماته تُعَدُّ شوقيةً غراء، كلماتُه الدر النظيم، ومعانيه الجوهر اليتيم، هكذا تصفه سيارة الصحف، وهكذا يقول فيه رواة شعره.

ولقد استحقَّ الكثيرَ من هذا الوصف: فهو شاعرُ الغزل والنسيب، وناظمُ الحوادثِ والتاريخ، صاحبُ الحِكم الرائعة والأمثال الذائعة، ترجمانُ العاطفة الوطنية والذائدُ عن العقيدة الدينية، مُحيي دارس الآثار ومستنهضُ الهِمم إلى الأعمال الكبار، الداعي إلى الاتحاد والوئام والمستخلصُ خالد الحقائق من الأحلام.

ومَن كان هذا شأنه يصعبُ أن يتناولَه البحثُ في عُجالةٍ موجزة؛ لذلك قصرنا بحثنا اليوم هذا على مظهرٍ من مظاهر شاعريته الجمة، وهو نزعتهُ السياسية وما طرأ عليها من التقلبات.

ولمَّا كان الكاتبون قد أفاضوا في الكلام عن شوقي «أمير الشعراء»، فقد أردنا أن نقولَ كلمةً عن شوقي «شاعر الأمراء»، وما تخيَّرنا طرْقَ هذا الموضوع الوعِر المطلب، الشاقِّ المسلك يوم تحتفي البلادُ العربية قاطبةً بتكريم الشاعر الكبير، إلَّا لأن البعض ما زال يهمسُ به همسًا دون التعرُّض له بالبحث والتحليل، ويشير إليه من باب التلميح لا من باب التصريح، وإذا كان من مستلزمات التكريم إذاعةُ المناقب، فقد يكون من مستوجباته كذلك دفع بعض التهم؛ ليكون التكريم تامًّا كاملًا، لا تشوبه شائبة، وعلى كلٍّ فما خلا مخلوقٌ من تهمةٍ مهما علا قدره، بل قد تزيدُ التهمُ حولَه كلما علا قدره: كفى المرءَ نُبلًا أن تُعدَّ معايبُهْ.

•••

قالوا: إذا لُقِّب شوقي بأمير الشعراء؛ فلأنه كان شاعرَ الأمراء، على قاعدة القلب المعروفة عند العرب.

مدح أقيالَ مصر من إسماعيل إلى توفيق إلى عباس إلى حسين إلى فؤاد، وكثيرًا ما ذهبَ صعودًا من الأحفادِ إلى الأجداد، فتطرَّق إلى مدح سعيد وإبراهيم ومحمد علي، بل رجع إلى التاريخ القديم يُقلِّب صفحاتِه، فيمدح سلاطين مصر وخلفاءها وفراعينها، ويتغنَّى بمآثرهم ويشدو بآثارهم، مُجيدًا في مدحِهم جميعًا.

وكذلك كان شأنُهُ مع سلاطينِ بني عثمان الذين تعاقبوا على عهده: فكما مدح عبد الحميد أطرى رشادًا؛ وكما أطرى رشادًا أشاد بمحمد الخامس، وكما تغنى بعظمة السلاطين والخواقين، تغنى بأبطال الحرية والدستور العثماني، وكما أطنب بذكر سلاطين الأستانة أطنب بذكر رجال أنقرة.

فكان من وراء ذلك أن اتَّهمَهُ البعضُ في صحَّة عقيدته السياسية، وشكَّ في نزاهة مبدئه الاجتماعي، وقيلت عنه أحيانًا كلماتُ الزلفى والتملُّق، فزعموا أنَّه مدَّاح السلطة، أيةً كانت السلطة، ومطري القائمين بالأمر، أيًّا كان القائمون بالأمر.

تهمةٌ لا تقومُ على أساسٍ إذا حلَّلنا نفسية شوقي، وتشكُّكٌ يضمحِلُّ من نفسه إذا نظرنا إلى الحوادث والأحوال التي أحاطت بالشاعر، فحملته على تغيير اسم الممدوح دون أن يُغيِّرَ مطلبَهُ من المدح، وعلى تبديل العنوان دون أن يبدِّل ما تحت العنوان، فالنصائح هي هي مهما تغيرت المدائح، وهو القائل:

ولي غرَرُ الأخلاق في المدح والهوى

خَدَم الحريَّةَ؛ لأنَّه أحبَّها، ودعا إلى الإصلاح؛ لأنَّه لمسَ الحاجةَ إليه، وقال بوجوب نشر العلم ومكارم الأخلاق؛ لأنَّه عرف أنها أساسُ العمران، ومن أجلِ ذلك خدم السلطةَ؛ لأنه رآها واجبةً لازمة لتحقيق جميع تلك المطالب.

لا يصلحُ القوم فوضى لا سراةَ لهم
ولا سراةَ إذا جهَّالهم سادوا

مدح جميعَ من ذكرنا من الملوكِ والأمراء، ولكنَّه نصح لكلٍّ منهم بالإصلاح، واحترام الحرية والعمل على ترقية البلاد، وحسن سياسة العباد، ورفع منار العلم، وهو يرى أنَّ جميع هذه الأمور لا تتمُّ في الشرق إلَّا على أيدي القائمين بالأمر فيه؛ لأنَّ الإصلاحَ إذا كان محققًا ولا محالة، كما يقولون، إمَّا من الأعلى وهو التحوُّل، وإمَّا من الأدنى وهو الثورة، فهو يريدُه عن طريق التحوُّل، أي من الأعلى على يد صاحب السلطان، هذه هي نظريتهُ الاجتماعية، فهو يطلبُ الخيرَ لهذا المجتمع الشرقي عن هذه الطريق.

ولا جَالَ إلَّا الخيرُ بين سرائري
لدى شدَّةٍ خيريَّةِ الرغباتِ

يمدحُ الخديو عباسًا، ولكنه يقول له:

لا يُظهر الكبراءُ آيةَ عزِّهم
حتى يُعزُّوا آيةَ الأفكار

ويذكِّره وهو يفتتح الجامعة المصرية أنَّ:

ترك النفوس بلا علمٍ ولا أدبٍ
ترك المريض بلا طبٍّ ولا آسِ

وإذا قال لتوفيق:

لك مصرُ يجرِي تحت عرشِكَ نيلُها
ولك البلادُ عريضُها وطويلها

فقد قال له في القصيدة نفسها:

كانت خزائن مُلكها بيد البلى
نهبًا مباحًا للرقيب دخولُها
ألقت مفاتِحَها إليك فأصبحتْ
يزنُ الزمانُ كنوزَها ويكيلُها

وإذا مدح إسماعيل أنصفه في قوله:

لم يرَ الناسُ مثلَ أيام نعما
ك زمانًا ولا كبؤسك عهدا
كنتَ إن شئتَ بُدِّل السعدُ نحسًا
وإذا شئت بُدِّل النحس سعدا

وإذا مدح الملك فؤاد عقَّب على المدح بقوله:

إنْ سرَّك الملكُ تَبنيهِ على أُسُسٍ
فاستنهضِ البانيَين العلمَ والأدبا
وارفعْ له من حبالِ الحقِّ قاعدة
ومدَّ من سبب الشُّورى لها طُنُبا

يدعو الأزهريين إلى الالتفاف حول العرش:

كونوا سياج العرش والتمسوا له
نصرًا من الملك العزيز مؤزَّرا

ولكنه يعلق على ذلك بقوله:

وتفيئوا الدستور تحت ظلاله
كنفًا أهشَّ من الرياض وأنضرا

فماذا يهمنا اسم الممدوح؟ وماذا يهمُّ، بنوع خاص، الأجيالَ القادمة؟ إذا كان المدحُ ينطوي على مثلِ هذه العظاتِ والحِكم البالغة، فليمدحِ الشاعرُ من شاء من الملوك ما دام يقول له:

والعدل في الدولات أُسٌّ ثابتٌ
يُفْنِي الزمانَ ويُنفِدُ الأجيالا

أو ما دام يهيب به:

إن ملكتَ النفوسَ فابغِ رضاها
فلها ثورةٌ وفيها مضاءُ
يسكنُ الوحشُ للوثوب من الأسـْ
ـرِ فكيف الخلائقُ العقلاءُ

ألا يحتاج الشاعر — كما يحتاج الحكيم — إلى الحيلة ليحمل حملَتَهُ على روح الاستبداد كما يفعل شوقي مشيرًا إلى توت عنخ آمون:

المستبِدُّ يُطاقُ في ناووسهِ
لا تحت تاجيهِ وفوق وثابهِ٢
والفرد يؤمن شرُّهُ في قبره
كالسيف نام الشرُّ خلف قرابهِ

ألا يُعَدُّ الشاعرُ أبلغ مرشدٍ وأهدى هادٍ — في مدح الملوك — إذا عرف أن يقول كشوقي:

زمانُ الفردِ يا فرعونُ ولَّى
ودالت دولةُ المتجبرينا
وأصبحتِ الرعاة بكل أرضٍ
على حكم الرعية نازلينا
فؤاد أجلُّ بالدستور دنيا
وأشرفُ منك بالإسلام دينا
بنى «الدار»٣ التي لا عزَّ إلَّا
على جنباتها للمالكينا
ولا استقلال إلَّا في ذراها
لمتبوعٍ ولا للتابعينا

أليس من البراعة أن تمدح المرءَ بمَحْمَدَةٍ لتُحبِّبها إليها، وأن تذمَّ له منقصةً لتكرِّهه فيها؟ أليس ذلك ما فعله شوقي في قوله للسلطان محمد رشاد:

جدَّدتَ عهد «الراشدين» بسيرةٍ
نسجَ الرشادُ لها على منوالِه
بُنِيَت على الشورى كصالح حكمهم
وعلى حياةِ الرأي واستقلالِه

وفي قوله:

وإذا سبا الفردُ المسلَّطُ مجلسًا
ألفيتَ أحرارَ الرجال عبيدا

بمثل هذا مدح شوقي الملوكَ والأمراءَ، متخذًا المديح في أغلب الأحيان وسيلةً لطلب العدل والإنصاف في الرعية، ولتمجيد الشورى والحرية، كما رأيت في ما ذكرنا وما تجد منه الشيء الكثير في سواه.

وهكذا لم يغيِّر عقيدتَهُ السياسية ومبدأه الاجتماعي، فهما هما في جميع مدائحه، وإن تبدَّل اسمُ الممدوح، والشاعر شاعرٌ أيًّا كان الرويُّ الذي يختارُه لقصيدته، ما دامت نفسهُ حساسةً وقريحتهُ فيَّاضة، وهل اسم الممدوح في جميع ما ذكرنا سوى الرويِّ؟

وقد قال هو نفسه:

جلالُ الملكِ أيَّامٌ وتَمضِي
ولا يَمضِي جلالُ الخالدينا

ونعتقد أنه لا بُدَّ من شجاعةٍ في النفس للإقدام على ذلك، كما أنه لا بدَّ من كثير من البراعة والمرونة واللباقة لهذا التغيير في الشكل دون التغيير في الجوهر، حتى يتمَّ ذلك بلا تبجُّح ولا تعصُّبٍ للمبدأ الجديد، والتعصُّب كما هو معروف، ملازِمٌ عادةً لمن يذهبُ مذهبًا جديدًا في السياسة أو في الدين، وهذا ما عرف شوقي أن يتجنَّبَهُ، فإذا دعا إلى حكومةٍ جديدة، انقيادًا لصوت الشعب، فهو لا يُنكِرُ صداقاتِه القديمة، بل لا ينفضُ يَده من يد الذين لا يزالون على غير فكره، وإذا دالت دولةٌ من دول الشرق التي كان لها نصيبٌ من مدحه وتمجيده، فلا يرى وجوبَ النعي والنحيب والامتناع عن مجاراة الزمان، بل يبرزُ للدولة الجديدة مُطريًا مادحًا مع دعوةٍ إلى الإصلاح وإلى تحقيق ما لم يتحقَّق على عهد سالفتها، فخلاصة مبدئه: الترحيب بالحاضر مع احترام الماضي، وأتمُّ مثالٍ على ذلك قصائدُهُ في الأستانة وأنقرة، ورجالِ هذه ورجالِ تلك.

وهكذا يضربُ خيامَهُ في معسكرٍ غير الذي كان ضاربًا خيامَه فيه بالأمس، ولكن دون أن يحقَّ رميهُ بالجحودِ، أو اتهامهُ بالخيانة والمروق.

أأخونُ إسماعيلَ في أبنائه
ولقد وُلِدتُ ببابِ إسماعيلا
ولبستُ نعمتَهُ ونعمةَ بيتهِ
فلبستُ جَزْلًا وارتديتُ جميلا

ومَن نشأ كشوقي في عهدٍ كانت فيه مصرُ بين سلطان الفرد المتأصِّل في صدور الشرقيين وحكم الشورى النابت في عقولهم، ومَن رَبِيَ مثلهُ في قصورِ الأمراء وحلَّ ضيفًا على السلاطين، ثمَّ رأى كيف تنهار القصورُ وتثلُّ العروش، وكيف تُولَدُ الثورات فتهتزُّ لها الأعصابُ اهتزازًا، وكيف يقومُ الدستورُ فيسكب على القلوب سلامًا ويثير في النفوس اعتزازًا، ومَن عرف كشوقي نعيم الحياةِ وبسطة الجاه، ثمَّ ذاق ألمَ النفي والإبعاد، لا يُستكثَر عليه أن يعرِفَ كيف يرتفعُ فوق الأشخاص ويسمو عن العرَض الزائل إلى الجوهر الخالد، فيمدح المَلِك لخير المملكة، ويمجِّد السلطانَ لخير السلطنة؛ لأن تجاريبَ الزمان زادت في استقلال عقلِه ووسعت دائرته للإحاطة بكل فكرة سامية. فإذا رأى في تلك الفكرة فائدةً لذلك الشرقِ الذي تغنَّى به، فلا يتأخَّرُ عن الإِشادة بها، ولو كانت من الأفكار التي لم يقُلْ بها فيما مضى، وهو في ذلك ليس بالجاحد ماضيه، ولا بالمنكر عقيدته، بل هو من طائفةِ الرجال الذين هذَّبهم الدهرُ وثقَّفهم، فأصبحوا يحدبون على وطنهم، ويتألمون لآلامه، فيطلبون له النجدةَ من أي جانبٍ بدَتْ، ولو من جانب الأفكار التي كانت بالأمس مغايرةً لأفكارهم؛ فلا ينعزلون في بُرجِ حقدِهم وغضبهم بحُجَّةِ الاحتفاظ بالمبدأ، بل يواصلون الجهادَ في خدمةِ وطنهم ولو تحت رايةٍ جديدة.

وعلى ذلك يمكن القولُ إنَّ مدائح شوقي صوَرٌ واستعاراتٌ شعرية، لا عقيدة سياسية، فإذا مدح الملوكَ والأمراءَ لا يمدحُ سلطتَهم المطلقة، ولا يراهم كما رآهم بعضُ قدماء الكتاب في الشرق والغرب من طينةٍ غير طينة البشر.

لا يقولنَّ امرؤ أصلي فما
أصلُهُ مسكٌ وأصلُ الناسِ طينْ

وإذا غيِّر أسماءَ ممدوحيه، فإنه لا يغيِّر ما يقصدُ إليه من وراء المدح، فما ممدوحُه سوى الرويِّ في الشعر، لا يُنقِص من قيمةِ الشعر ولا من مبلغ مرماه الاجتماعي، وما كانت هذه التقلُّباتُ لتنتقص مجدَهُ في الزمن الآتي، وإن أراد البعضُ انتقاصَه في الزمن الحالي: فالأجيالُ الآتية لن تعرفَ شيئًا عن ضعفنا ويأسنا ووهن عزيمتنا، بل ستُدرِكُ كيف يستطيعُ المرءُ أن يُعدِّلَ رأيَه دون أَن يكون جاحدًا، ولا سيما في عهد الثورات الفكرية والانقلابات السياسية.

بل إنَّه لولا هذه التقلباتُ ما كان شوقي على ما هو الآن، فقد قال النقادة: «لا هارب La Harpe» ما معناه: «إنَّ في عصور الاضطرابات ما يُضعِفُ الحكوماتِ، وما يقوِّي الشعرَ والخطابة.»

فمن رأى كلَّ ما رآه شاعرُنا من الحوادثِ العظام يزدادُ احترامًا لكل ما من شأنه دعمُ السلطة والعقيدة، والقضاءُ على الفوضى في الأفكار، فلا يفهم المنازعات الحزبية، بل يدعو إلى الوئام والمسالمة، اسمعوه ينادي بأعلى صوته:

إلامَ الخلفُ بينكمُ إلاما
وهذي الضَّجةُ الكبرى علاما
وفيمَ يكيد بعضكم لبعض
وتبدون العداوة والخصاما

أو يقول:

وإذا دعوتُ إلى الوئام فشاعرٌ
أَقصى مناهُ محبةٌ وسلامُ

ودَعْوَتُهُ إلى الوئام جامعةٌ شاملة، فهي تتناول الأديانَ كما تتناولُ الأحزاب، فما قاله في «موسى والمسيح وأحمد» لم يقله شاعر قبله.

وإذا كنَّا لا نلومه لقوله الآن:

اهجروا الخمرَ تُطيعوا الله
أو تُرضوا الكتابا
إنها رجسٌ فطوبى
لامرئٍ كفَّ وتابا

بعد أن كان قد قال في صباه:

رمضانُ ولَّى هاتِها يا ساقي
مشتاقةً تسعَى إلى مشتاق

فعلامَ نلومه؛ لأنَّه قال في سوى ذلك غيرَ ما قاله بالأمس؟

وهذا الشاعر الأرستقراطي الذي يجوز بحقٍّ تلقيبه بشاعر الملوك والأمراء، كان أيضًا شاعرَ الشعب فتغنَّى بأبنائه العصاميين ودافع عن حقوقه فقال:

سُخِّر الناسُ وإن لم يشعروا
لقويٍّ أو غنيٍّ أو مبينْ
والجماعاتُ ثنايا المرتقى
في المعالي وجسورُ العابرين

وخاطب العمَّالَ بقوله:

قد دعاكم ذَنَبَ الهيئةِ داعٍ فأَصابا
هي طاووسٌ وهل أحسَنُهُ إلا الذنابا

ولا يتبادر إلى ذهننا أن هذا التغيير يتمُّ عنده بلا نزاعٍ ولا تردُّد بين الماضي الحاضر، فهو يقول تارة:

لا تحذُ حذوَ عصابةٍ مفتونةٍ
يجدون كلَّ قديمِ شيءٍ منْكرا

ويقول أخرى:

الهدم أجملُ من بنايةِ مصلح
يبني على الأُسُسِ العتاقِ جديدا

وصفوةُ القول: إنَّ شعرَهُ مرآةٌ للرأي العام، وتَبَعٌ لتقلُّباتِ الحوادث يُسجِّلُها فيه ويرويها في تلك القصائد التي يتغنى بها أبناءُ العربية في كل قُطر، فتتجلى فيها نزعات الرأي العام أكثر ممَّا تتجلى فيها مبادئُ الشاعر السياسية، فهو كالنحلة تأخذ عسلها من كل زهرة، أليس شوقي القائل في النحل:

فهلْ رأيتَ النحلَ عن
أمانةٍ مُقصِّرَهْ
ما اقترضتْ من بقلةٍ
أو استعارت زَهَرَهْ
أدَّت إلى الناسِ بهِ
سُكَّرة بسكَّرهْ

وما دمنا في ذكر تسجيل الحوادثِ وتدوين الوقائع في الشعر، فخليقٌ بنا أن نُشيرَ إلى ما كان لشعراء مصر من الفضل العميم على نهضتها من خليل وحافظ إلى العقاد والمازني، ومن الرافعي ومحرم إلى الكاشف ونسيم، فقد تابعوا النهضة في سيرها فسجلوا وقائعها في قصائدَ ملؤها الروحُ السامية، بل سيَّروا النهضةَ في منهجها القويم بسديد أقوالهم، فرفعوا منارَ مصرَ وأعلوا شأنها بين الأمم.

وإذا رجعنا إلى أمير الشعراءِ أو شاعر الأُمراء، ذكرنا أنه يُروَى عن الإيطاليين قولهم: لو كانت حكومتنا جمهوريةً ما انتخبنا رئيسًا لها غيرَ ملكنا …

ونعتقد أنه لو كانت دولة الأدب إمارة ما اختار أدباؤنا أميرًا لها غير شاعر الأمراء، فهو جديرٌ بأن يتسنَّم عرشَ الإمارة عن رضًى واختيار من أركان دولة الشعر في هذا العصر؛ لأنه قد اجتمع له من صفات الشاعرية ما يؤهله لذلك، ولعلَّ الاحتفاءَ به في هذا الأسبوع يتمُّ بمبايعته رسميًّا بالإمارة.٤ فقد صح فيه ما قاله عنه المرحوم إسماعيل صبري باشا منذ ثلث قرن:
مَرحَبًا بالقصيدِ يتلوهُ للشِعـ
ـر أميرٌ يُصغي لهُ أُمراءُ
١  نشر هذا البحث في «السياسة الأسبوعية» (٣٠ أبريل سنة ١٩٢٧) بالعدد الخاص بتكريم شوقي.
٢  الوثاب: السرير الذي لا يبرح الملك عليه.
٣  دار النيابة.
٤  وقد تمت هذه المبايعة في الحفلة التي أقيمت بعد أيام (٢٩ أبريل سنة ١٩٢٧) في دار الأوبرا الملكية لتكريم شوقي، فألقى فيها الشاعر الكبير «حافظ إبراهيم» قصيدة عامرة تقدم في أثناء إلقائها من المقصورة التي كان أحمد شوقي جالسًا فيها، وأخذ بيد زميله منشدًا بين التصفيق وهتاف الإعجاب بالشاعرين:
أميرَ القوافي قد أتيتُ مُبايعًا
وهذي جموعُ الشرقِ قد بايعَتْ معي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤