المسرح الهادف

نشر توفيق الحكيم في كتاب «أدب الحياة» الصادر في مارس سنة ١٩٥٩ مقالًا عنوانه «التجربة الحية في الأدب»، يقول فيه:

من أبرز سمات الأدب الجديد التجربة الحية، معنى ذلك أن يكون الأدب ذاته عنصرًا فعَّالًا حيًّا في العصر الذي يعبِّر عنه أو في المجتمع الذي يصفه أو في البيئة التي يسجل أحداثها، ومن هنا كانت المشاركة الذاتية أهم أركان التجربة في الأدب الحديث وخصوصًا أدب القصة، ومن هنا أيضًا انخفض قليلًا شأن القصة التاريخية في الآداب الجديدة؛ لأنها تستمد مادتها من الكُتب والوثائق القديمة، ولا تنبع من الوثيقة الحية التي في الأديب نفسه، فالأديب اليوم في نظر الأدب الجديد هو شاهد عيان يقسم أن يقول الحق أمام محكمة الضمير الإنساني، ولكي يكون شاهدًا على عصره يجب أن يكون جزءًا حيًّا منه؛ ولذلك رأينا كثيرًا من أدباء العصر الحديث يشاركون بأنفسهم في المعارك والثورات، أو على الأقل يتابعون الأحداث متابعة شخصية دقيقة.

فلم يَعُد يُقبل من أديب جديد اليوم أن يحدثنا عن ثورة لم يدركها أو معركة لم تحدث في عصره، إن هذا ولا شك شأن المؤرخ والباحث والدارس، ولكن الأديب الحي الجديد يجب أن يستمد حياته من الأوراق الخضراء لا من الأوراق الصفراء، إن الأدب الجديد في مستقبل أيامنا سيكون — كما أتصوره — نابعًا من صميم التجربة الحية لعامل في مصنعه أو جندي في معركته أو فلاح في حقله أو كل شخص في مجاله، كل من اجتاز تجربة إنسانية أو فكرية واستطاعت ظروف مجتمعه أن توفر له الثقافة التي تؤهله لحمل أداة التعبير الأدبي والفني لن يكون الأدب مجرد رغبة في الكتابة ولا مجرد ترديد لألفاظ لغوية، إنما الأدب سيكون هو أداة التعبير الفنية في يد التجربة الحية.

هذا ما قاله توفيق الحكيم بعد ثورتنا الأخيرة، فأين هو مِمَّا كان يردد من قبل عن «المطلق من المعاني»؟ فوثبة التطور واسعة تكاد تنتقل بالحكيم من ظرف إلى آخر، فهو لم يَعُد يرى في الأساطير الإغريقية القديمة أو الفرعونية أو العربية الشعبية أو في القصص الدينية ما يصلح موضوعًا للأدب الجديد الذي أصبح الحكيم يرى وجوب صدوره عن واقع الحياة مباشرةً، أي عن الأوراق الخضراء لا الأوراق الصفراء، ولم يَعُد للأديب الحق في العزلة عن المجتمع ليكتب «من البرج العاجي» أو «تحت المصباح الأخضر»، بل أصبح واجبًا عليه أن ينزل إلى الحياة، وأن يشارك بنفسه في أحداثها ليخوض التجربة الحية التي تصلح موضوعًا لأدبه، بحيث يصبح هو نفسه عنصرًا فعَّالًا في الحياة وأداة توجيه ودفع نحو ما آمن به المجتمع من هدف.

ومن الغريب أن نلاحظ أن توفيق الحكيم صاحب نظرية «التعادلية» والتوازن والاتزان لا يخلو من إسراف في التعبير عن هذا الاتجاه الجديد، كما لم يخلُ من إسراف في الدفاع عن اتجاهه القديم؛ وذلك لأن أحدًا لا يستطيع أن ينكر صلاحية التاريخ أو الأساطير والقصص القديمة للتعبير عن حاضر الأديب الهادف وفلسفة مجتمعه أو فلسفته الخاصة في الحياة، على نحو ما رأينا برنارد شو مثلًا يتخذ من أسطورة «بجماليون» الإغريقية القديمة وسيلة لتجسيد فلسفته الاشتراكية وتأييد مبادئها، بل وعلى نحو ما رأينا شبابنا الأدباء يغترفون من يوميات «الجبرتي» أو من تاريخنا القريب مادة لإذكاء روح الوطنية والفداء والذود عن الوطن في معركة بورسعيد الخالدة، على نحو ما أحسسنا في مسرحيتي «كفاح الشعب» و«دنشواي» اللتين أقبل عليهما جمهورنا أثناء ذلك العدوان، وخرج منهما بشحنة حماسة وطنية رائعة، فكفاح شعبنا ضد الفرنسيين الغزاة في أوائل القرن الماضي هو نفس الكفاح الذي خاضه هذا الشعب ضد العدوان الثلاثي، وتحرش الإنجليز المحتلين المدججين بالسلاح بشعبنا في دنشواي في مطلع هذا القرن وبطشهم بالأبرياء، هو نفس التحرش والعدوان الذي دبَّره المستعمرون الفرنسيون والإنجليز بليل مع أذنابهم من الصهيونيين.

هذا ومن المعلوم أن عمل الأديب عندما يستقي موضوعاته من الماضي يختلف كل الاختلاف عن عمل المؤرخ والباحث والدارس، فالأديب لا يحاول معرفة الماضي أو تدوينه أو الكشف عنه لذاته، بل ليتخذ منه — كما قلنا — وعاء التعبير عن قضية تشغله أو تشغل عصره ومجتمعه دون أن يُفسد أو يزوِّر حقائق التاريخ الكبرى.

وعلى أية حال فنحن نسجل لتوفيق الحكيم هذا التطور الواسع بل نحمده له، وقد دل بذلك على حقيقة ما حدَّثنا هو نفسه عنه من قدرته على التكيف، فرأيناه يردد في أدبه مفاهيم حياتنا الثورية الجديدة، ويؤيد تلك المفاهيم بل ويوجه نحوها، وأثمر هذا الاتجاه ثمراته الناجحة في مسرحيات «الأيدي الناعمة» و«الصفقة» و«أشواك السلام»، التي نعتبرها من خير إن لم تكن خير ما كتب توفيق الحكيم من مسرحيات من ناحية مضمونها الإنساني الصاعد الذي يواكب ركب الإنسانية المتطور دائمًا إلى الأمام.

•••

وفي البيان الذي نشره توفيق الحكيم في آخر مسرحية «الصفقة»، يتحدث عن مشكلة الجمهور والفولكلور فيقول:

هذه المشكلة ليست مقصورة على بلادنا، ولكنها أخذت تظهر كذلك في البلاد الأخرى المتقدمة في الفن، على صورة قلق لها أهل الرأي الفني، ذلك أن جمهور المسرح بدأ منذ وقت ليس بالقريب يفقد وحدته التي كانت متماسكة على نحو ما في النوع القديم، فالمسرحية اليوم قد تخاطب فئة من الجمهور ولا تخاطب الفئة الأخرى؛ ولذلك كان من أهم المحاولات التي تغري بالإقدام العمل على إيجاد نوع من المسرحية يمكن أن يشاهدها الجمهور كله على اختلاف درجاته الثقافية، فلا يجد فيها المثقف إسفافًا، ولا يجد فيها الأمي تعاليًا! فإذا استطاع هذا النوع أيضًا أن يجمع بين المسرحية المكملة لعناصره المحتفظة بجدية تركيبها وهدفها، وبين الفن الشعبي «الفولكلور» على نحو يسوغه جو المسرحية وطبيعة بيئتها ويبدو كأنه جزء داخل في بناء المسرحية ذاتها، إذا نجحت هذه المحاولة فإننا نكون قد عرفنا الطريق إلى الحل المنشود.

وفي هذا النص أيضًا ما يُكمل الصورة التي تطور إليها الفن المسرحي عند توفيق الحكيم، ليصبح فنًّا هادفًا قريب الصلة بالجمهور وبعامة الشعب، مع المحافظة على أصول هذا الفن التي تضمن دولته وتستبقي له صفاته كفن أدبي لا ينبغي أن ينقلب إلى نوع من الصحافة أو الدعاية.

•••

وبعد إظهار هذا التطور في فن توفيق الحكيم منذ سنة ١٩٢٨ حتى سنة ١٩٦٠، هل يصح لنا أن نقول بأن توفيق الحكيم قد انتهى إلى العثور على نفسه والعثور على فنه؟ وأن اللهفة التي أبداها في مقدمة «المسرح المنوع» قد انتهت إلى استقرار نستطيع معه أن نختم هذا الحديث عن تطور فنه المسرحي بقوله هو نفسه: «إنها رحلة في جهات مختلفة خلال أكثر من ثلاثين سنة، وإن القارئ أو الناقد ليُعجب ولا شك بهذه الرحلة في كل جهة على مدى ثلاثين سنة.

وكأنها رحلة مسافر يبحث عن شيء!

أهي رحلة إنسان يبحث عن نفسه؟

أهي رحلة فنان يبحث عن فنه؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤