الحكيم بين «لويس» و«مندور»

(٢) المؤلف المسرحي والأساطير والتاريخ

يعود صديقنا الدكتور لويس عوض فيؤكد في جريدة «الشعب» رأيه في الحظر على الأديب والفنان أن يغيِّر كلًّا من الوقائع الجوهرية أو من المضمون الحيوي في الأساطير التي يتخذها مادة لأدبه أو فنه، وذلك في مقال نشره بالجريدة تعليقًا أو ردًّا على مقالي الذي نشرته في الجريدة نفسها بعنوان «توفيق الحكيم في مهب الرياح»، ودافعت فيه عن حق الحكيم وغيره من الأدباء والفنانين في التصرف في الأساطير بل وفي التاريخ، في الوقائع والمضمون وفقًا لما يريدون التعبير عنه من مشاكل حياتهم أو حياة عصرهم؛ لأنهم ليسوا مؤرخين حتى يلتزموا بوقائع الماضي والآراء والمعتقدات التي تحملها تلك الوقائع أو تصدر عنها.

ولسنا نشك في أن صديقنا الدكتور لويس عوض قد قرأ مقالًا لسينجارن عن النقد الجديد، وفي هذا المقال يوضح الأستاذ سينجارن إحدى البديهيات التي يراها كسبًا جديدًا من مكاسب النقد، وهي أن الأديب أو الفنان لا يعود إلى التاريخ أو الأساطير ليبعث الماضي، بل ليتخذ منها وسيلة لمعالجة مشاكل حياته أو حياة عصره أو وعاء يسكب فيه أفكاره وأحاسيسه، وما الأساطير أو التاريخ عندئذٍ إلا كالمسمار الذي يشجب فيه الفنان لوحاته كما قال «ديماس» الكبير.

فيقول سينجارن كما ترجم الدكتور رشاد رشدي: «وقد تخلصنا أيضًا من تاريخ ونقد الموضوعات الشعرية، فلا نستطيع أن نقول إن أسكيلوس قد عالج نفس قصة بروميثيوس التي عالجها شيلي، ولا أن نقارن بين قصة فرانسيسكا دارتيمي كما عالجها كل من دانتي ودانينزيو، فبروميثيوس لا يعدو أن يكون عنوانًا لا يعبِّر عن قصة إغريقية بل عن إدراك شيلي الفني للحياة، وهو الشيء الذي يجب أن يهم ناقد الشعر دون غيره من الأشياء، وهنا يجدر بنا أن نرد على هؤلاء النقاد الذي يتطلبون من مادة الشعر أن تكون مأخوذة من العصر الذي يعيش فيه الشاعر، فلو أننا خولناهم حق تقرير مادة الشعر قبل أن يُكتب أو فرض مواضيع دون أخرى على الشعراء، لسألناهم كيف يستطيع الشاعر مهما حاول أن يصوغ شعره من مادة لا يكون مصدرها عصره، فشاعر القرن العشرين وهو يعالج موضوعات يتخيل أن بينها وبين حياة قدماء الإغريق أو المصريين علاقة، إنما يعالج في الحقيقة عصره فيما عدا التفاصيل السطحية الخارجية. وقد ظل المتشائمون منذ أن بدأ الإنسان حياته الفنية إلى يومنا هذا يقولون بأن لا جديد في الفن لأن موضوعات الفن قديمة لا تتغير، على أن عكس هذا صحيح لأنه لا وجود للموضوعات القديمة؛ إذ إن خيال الشاعر يجعل من كل موضوع يعالجه موضوعًا جديدًا يختلف كل الاختلاف عن غيره من الموضوعات.»

ويحاول صديقنا الدكتور لويس أن يضع للأديب والفنان حدودًا يبيح له في داخلها التصرف في الأساطير القديمة، ولكنه فيما يبدو لم يستطع أن يرسم هذه الحدود في دقة، فهو حينًا يحظر عليه تغيير الوقائع الجوهرية أو تغيير المضمون الحيوي، وأحيانًا يبيح له حق التفسير الجديد وتحميل الرموز معاني جديدة دون أن يبين الحد الفاصل بين التفسير والمضمون الحيوي، مع أن الرموز في مجموعها هي التي تكوِّن المضمون الحيوي، وها هو جان بول سارتر مثلًا يتناول أسطورة أوريست الذي قتل أمه انتقامًا لأبيه فطارده الندم الإلهي، بمعالجة وجودية يرمز فيها لهذا الندم بالذباب الذي لا يعبأ به أورست بل ويتحداه.

ومع ذلك لم نسمع أن أحدًا قد انتقد سارتر من حيث مبدأ احترام الأساطير وعدم التغيير في وقائعها الجوهرية أو مضمونها الحيوي، وكل هذا مع العلم بأن سارتر لم يقف عند حد التفسير الذي يبيحه صديقنا الدكتور لويس، بل تعداه إلى المضمون الحيوي نفسه. وإن كنا نخشى أن يزعم الدكتور لويس في حالة سارتر ما زعمه في حالة «شو» عندما قال: إن شو لم يعالج أسطورة بجماليون الإغريقية بل خلق قصة جديدة، وذلك بالرغم من أن قصة أو مسرحية شو إنما تقوم على المضمون الحيوي للأسطورة القديمة، وهو حب الإنسان لما ينتج من ولد أو عمل فني.

وإذا كان صديقنا العنيد الدكتور لويس يريد أن يحظر على الأديب أن يغيِّر من الوقائع الجوهرية للأساطير أو من مضمونها الحيوي، فماذا عساه يفعل بالأديب أو الفنان الذي يغيِّر في وقائع التاريخ نفسه أو مضمونه الحيوي؟! وإننا لنحمد الله لأن برنارد شو قد أفلت من رقابة الدكتور لويس القاسية عندما كتب مسرحيته الشهيرة «قيصر وكليوباترة»، وصوَّر فيها قيصر رجلًا عظيمًا مترفعًا وتستهويه «كليوباترة»، بل ينظر إليها من عَلُ ويعاملها كالقطة الصغيرة! وذلك مع أن وقائع التاريخ الجوهرية تقول إن عظمة قيصر لم تمنعه من أن يقع في حبائل كيلوباترة، بل أن ينجب منها طفلًا هو «قيصرون»، وأن تكون هذه المغامرة من الأسباب التي دعت إلى اغتيال قيصر وضياع المُلك من بين يديه، ثم ما رأي صديقنا في ذلك التفاوت العجيب الذي نراه عند من كتبوا قصة جان دارك، فجعل بعضهم مثل ميشيليه منها قديسة، بينما جعل منها آخرون مثل فولتير فتاة مسكينة مريضة بالهستيريا؟ وهل هذا التفاوت يمس المضمون الحيوي، أم هو داخل في حدود التفسير الذي يبيحه الدكتور لويس؟

وعندنا أن التحكم الذي يريد صديقنا العنيد أن يفرضه لا يقوم على أساس من تقليد أدبي أو رأي نقدي سليم، فضلًا عن استحالة تحديد الحظر والإباحة، وإنما الرأي السليم هو أن للأديب أو الفنان الحق من حيث المبدأ في أن يغيِّر من الوقائع ومن المضمون كيفما يختار لفنه، وللناقد بعد ذلك أن يناقشه فيما اختار من تغيير وفي حكمته وهدفه واستقامته مع بقية الوقائع ومع أصول فنه.

ونحن لم نكتب ما كتبنا للدفاع عن توفيق الحكيم وحده، بل للدفاع عن قضية أدبية عامة، وهي حق الأديب أو الفنان في التصرف في الأساطير.

وأما مدى نجاح توفيق الحكيم أو غيره في هذا التغيير فنقده ليس مباحًا فحسب، بل واجبًا لنحكم له أو عليه.

وتوفيق الحكيم نفسه قد سبق له أن غيَّر في بعض الأساطير التي عالجها، وقد عبناه بشدة أمام الطلبة وفي الصحف، وذلك على نحو ما فعل مثلًا في أسطورة «أوديب» حيث نراه يجعل «أوديب» يحاول أن يواصل معاشرة أمه معاشرة الأزواج بعد اكتشافه الحقيقة وتأكده من أنه قد قتل أباه وتزوج من أمه، وكل ذلك بحجة استمرار الصراع بين ما يسمِّيه الحكيم نفسه «الواقع» و«الحقيقة»، فالواقع أن أوديب يعاشر أمه معاشرة الأزواج بل ويعشقها، والحقيقة أن زوجته المعشوقة هي أمه، ونحن لا نعيب هذا التغيير الخطير في الأسطورة القديمة لأنه يصدم مشاعرنا الإنسانية والأخلاقية فحسب، بل نعيبه أيضًا لأنه يخالف أصول التفكير والفن، فهذا الصراع المزعوم بين الواقع والحقيقة إنما كان موجودًا في مرحلة البحث عن الحقيقة الضالَّة، وأما بعد التأكد من هذه الحقيقة والكشف عنها كشفًا تامًّا فإن هذا الصراع يُعتبر منتهيًا، ويجب أن ينتهي على النحو الفاجع الذي اختاره عملاق التراجيديا سوفوكليس عندما جعل جوكاستا تنتحر بمجرد اكتشاف هذه الحقيقة، وأوديب يفقأ عينيه ويهيم على وجهه في الأرض تكفيرًا عن جرمه، ومع ذلك يستحوذ على عطفنا لأنه كان ضحية للقدر الغاشم، وأما ما فعله الحكيم من جعله أوديب يحاول الاستمرار في معاشرة أمه ويغريها بالهرب معه، فهذا ما يتجافى لا مع الأخلاق والديانات والمشاعر الإنسانية فحسب بل ويتنافى كذلك مع أصول فنه ذاتها.

ونحن على العكس من ذلك لا نرى شيئًا من الوجاهة فيما يماحك فيه صديقنا الدكتور لويس عوض وبعض النقاد الشبان، من تصرُّف الحكيم في بعض وقائع أسطورة «إيزيس» للتخلص من بعض رموزها وأسرارها الدينية القديمة، مثل جعله إيزيس تحمل من أوزوريس فعلًا بدلًا من روحه التي تحوم فوقها في صورة نسر، أو مثل جعله النقاب الذي ترتديه إيزيس حجابًا عاديًّا لا رمزًا للأسرار كما كانت تقول الأسطورة القديمة، التي تُعتبر جزءًا من دين أصبح بالنسبة إلينا وإلى العالم أجمع صفحة منطوية من صفحات التاريخ القديم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤