المسرح الذهني

ولا نقف أكثر من ذلك عند ما سمَّيناه ﺑ «مسرح الحياة» لتوفيق الحكيم، لكي نشرع في دراسة ما سمَّاه هو نفسه ﺑ «المسرح الذهني»، واعتز به، ورأى فيه أصالته وميدان ابتكاره، وبالرغم من أن توفيق الحكيم قد ابتدأ هذا النوع من المسرحيات بمسرحية «أهل الكهف» التي يقول في كتابه «زهرة العمر» إنه قد ابتدأ في كتابتها منذ إقامته في الإسكندرية وكيلًا للنائب العام في المحاكم المختلطة، أي قبل سنة ١٩٢٩، وإن لم تُنشر إلا في سنة ١٩٣٣؛ فإنه مع ذلك لم يبسط نظرته عن المسرح الذهني إلا في المقدمة التي كتبها سنة ١٩٤٢ لمسرحية بجماليون، وهي مقدمة لها أهميتها في تحديد مفهوم هذا النوع من المسرحيات عند الحكيم وتوضيح خصائصها الفنية، وفيها يقول:

منذ نحو عشرين عامًا كنت أكتب للمسرح بالمعنى الحقيقي، والمعنى الحقيقي للكتابة للمسرح هو الجهل بوجود «المطبعة»، لقد كان هدفي وقتئذٍ في رواياتي هو ما يسمُّونه المفاجأة المسرحية، ولكني أقيم اليوم مسرحي داخل الذهن، وأجعل الممثلين أفكارًا تتحرك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز. إني حقيقةً ما زلت محتفظًا بروح المفاجأة المسرحية، ولكن المفاجآت المسرحية لم تَعُد في الحادثة بقدر ما هي في الفكرة؛ لهذا اتسعت الهوة بيني وبين خشبة المسرح ولم أجد «قنطرة» تنقل هذه الأعمال إلى الناس غير «المطبعة»، لقد تساءل البعض: أوَلَا يمكن لهذه الأعمال أن تظهر على المسرح الحقيقي؟ أما أنا فأعترف بأني لم أفكر في ذلك عند كتابة روايات مثل «أهل الكهف» و«شهرزاد» ثم «بجماليون»، ولقد نشرتها جميعًا ولم أرضَ حتى أن أسميها مسرحيات بل جعلتها عن عمد في كُتب مستقلة عن مجموعة «لتمثيل المسرحيات» الأخرى المنشورة في مجلدين، حتى تظل بعيدة عن فكرة التمثيل.

ثم يروي الحكيم قصة تمثيل الفرقة القومية لرواية «أهل الكهف» وتخوفه من ذلك، ويروي بعد مشاهدته لها أن هذا العمل لا يصلح قط للتمثيل أو على الأقل لا يصلح للتمثيل على الوجه الذي ألِفه أغلب الناس، فالممثلون يعرضون مواقف وأزمات لا يرى الجمهور أن مثلها مما يُكتب للمسارح لإثارة العواطف؛ «لقد خرجت تلك الليلة، وأنا أشك في عملي وأومن بصواب رأي الناس، فلقد وُجِد المسرح ليشهد فيه النظَّارة صراعًا يستثير التفاتهم ويهز أفئدتهم، صراعًا هو في المسرح الدموي بين درع ودرع أو بين ثور ورجل، وهو في المسرح التمثيلي بين عاطفة وعاطفة. هكذا كان المسرح دائمًا ويكون، وإن الناس ليتأثرون دائمًا بالعواطف التي يحسونها في حياتهم الواقعة كالحب والغيرة والحقد والانتقام والعدالة والظلم والصفح والإثم، لكن ماذا يشعرون أمام صراع بين الإنسان والزمن، وبين الإنسان والمكان، وبين الإنسان وملَكاته؟ هذه الأشياء المبهمة والأفكار الغامضة أتصلح لهز المشاعر بقدر ما تصلح لفتق الأذهان؟ هكذا انتهى بي الأمر إلى السعي لدى القائمين بشأن الفرقة القومية حتى أوقفوا تمثيل أهل الكهف إلى اليوم.» ومع ذلك يعود الحكيم فيتساءل في نفس المقدمة عما إذا كانت مثل هذه المسرحيات تحتاج إلى إخراج خاص في مسرح خاص، إخراج يُلتجأ فيه إلى رسائل غامضة من موسيقى وتصوير وأضواء وحركة وسكون، وطريقة إيماء وإلقاء، وكل ما يُحدث جوًّا يهمس بما تهمس به تلك المعاني المطلقة. وكل الصعوبة في الحقيقة هي في إبقاء الشعر والفلسفة يشيعان في جو المسرح كما شاعا في جو الكتاب.

هذا مفهوم لا يزال الغموض يكتنفه من أطرافه، فمن المؤكد أن توفيق الحكيم لم يقصد إلى كتابة مجرد حوار فلسفي كمحاورات أفلاطون مثلًا، وإنما قصد إلى كتابة نوع خاص من المسرحيات، وليس بمعقول ألا تكون فكرة التمثيل حاضرة في ذهنه وقت كتابة هذه المسرحيات، وإلا لَمَا قسَّمها إلى فصول ومناظر، ولَمَا حدد لها مكانًا وزمانًا، ولا وصف الإطار الذي يجري فيه كل مشهد من مشاهدها، ولعله كان أقرب إلى الدقة عندما تحدَّث عن أهل الكهف في صورة خطاب أرسله إلى صديق فرنسي ونشره في كتابه «زهرة العمر»، وقال فيه:

أخفيت عنك يا أندريه أني كتبت منذ عام — وأنا في الإسكندرية — شيئًا كالقصة التمثيلية بنيتُه على سورة من القرآن، وجرفتني المشاغل فتركت هذا العمل في حقيبة لي، وكدت أنساه لو لم أفتح الحقيبة عفوًا منذ أسبوع.

وفي رسالة أخرى لنفس الصديق الفرنسي يقول:
تسألني عن الرواية التي حدثتك عنها في رسالتي السابقة، إنها ليست عصرية ولا تاريخية ولا حتى قصة تمثيلية حقيقية، بل … بل … لست أدري ربما كانت عملًا فنيًّا يقوم على الحوار لا أكثر ولا أقل، حوار أدبي للقراءة وحدها، فإن وضعها للتمثيل لم يخطر لي على بال، إن كلمة «التشخيص» التي عرَّضتني للإهانة في بدايتي الأدبية ما زالت ترن في أذني، كلا إن هدفي اليوم هو أن أجعل للحوار قيمة عن كونه «تحويرًا فنيًّا» Transposition artistique لسورة قرآنية ترتل في المسجد يوم الجمعة. على أني لا أكتمك أني ساعة كتبتها لم أكن تحت تأثير القرآن وحده بل أيضًا تحت تأثير مصر القديمة، لقد قرأت «كتاب الموتى» و«التوراة» والأناجيل الأربعة والقرآن.

إن مصر القديمة كانت واقعة تحت سلطان كلمة واحدة ملكت عليها فكرها وقلبها وعقائدها ومشاعرها: «البعث»، وهي كلمة ذات أربعة أوجه كالهرم؛ وجهها الأول الموت، ووجهها الثاني الزمن، ووجهها الثالث القلب، ووجهها الرابع الخلود، هل أنا على حق في تفسير الكتب السماوية تحت ضوء مصر القديمة ومن منهما أصل الأديان؟

فتوفيق الحكيم محق في أنه قد جعل للحوار قيمة أدبية بحتة ليُقرأ على أنه أدب وفكر، ولكنه في هذه الفقرات أيضًا يتجاهل الحقيقة عندما يعود فيزعم أن وضع «أهل الكهف» للتمثيل لم يخطر له على بال وأنه ينفر من كلمة «التشخيص».

ﻓ «التشخيص» في ذاته لا يمكن أن ينفر منه أديب مثقف كتوفيق الحكيم، وإنما ينفر أو يمكن أن ينفر من تشخيص التوافه، وأكبر الظن أن عدم استجابة الجمهور العام لهذا النوع الجديد من المسرحيات هو الذي ساق توفيق الحكيم إلى مثل هذه المغالطات، وجعله ينادي بأنه يكتب هذه المسرحيات الذهنية للقراءة لا للتمثيل. وهذه التجربة الخطيرة تتطلب منا كنقاد ودارسين أن نبحث عن أسباب ضعف استجابة الجمهور لهذه المسرحيات، وهل هو راجع إلى ضعف في المستوى الثقافي والفني للجمهور وحده، أم أن هناك اعتبارات تُضعف من القوة الدرامية المؤثرة لمسرحيات الحكيم الذهنية.

والواقع أن المسرح الذهني لتوفيق الحكيم ممتاز في اختيار القضايا الذهنية التي عالجها، وفي إدارة الحوار الذي يعرضها بواسطته، ولكن النقص الواضح في مسرحيات الحكيم الذهنية هو في خلق الشخصيات وتحديد أبعادها وتحميلها عبء الصراع الذي يجريه داخل الذهن البشري كما يقول، فالشخصيات في مسرحه الذهني لا تبدو حية نابضة منفعلة بالصراع متأثرة به ومؤثرة فيه، وهو نفسه يعترف بأنه قد جعل الممثلين أفكارًا تتحرك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز، وقد ساعده على ذلك أو ساقه إلى ذلك أن معظم شخصيات مسرحه الذهني شخصيات أسطورية أو شبه أسطورية، مثل شخصيات «أهل الكهف» و«شهرزاد» و«بجماليون» و«سليمان الحكيم» و«أوديب الملك»، ونحن قد نجد مبررًا لتوفيق الحكيم في هذه المسرحيات الأسطورية المصدر، وإن يكن برنارد شو قد نقل بجماليون من عالم الأساطير إلى عالم الواقع، وجعل منه شخصية حية نابضة مع احتفاظه بفحوى المعاني الرمزية والذهنية التي تحملها الأسطورة الإغريقية القديمة كما سنرى، ولكننا لا نعفي الحكيم من مسئولية الضعف في نفث القوة الدرامية الحية المؤثرة في شخصيات مسرحياته الذهنية الأخرى التي استمد موضوعاتها من واقع الحياة الإنسانية المعاصرة أو المستقبلة، مثل مسرحيات «لو عرف الشباب» التي مثلتها الفرقة القومية باسم «عودة الشباب»، و«رحلة إلى الغد»، فشخصيات هاتين المسرحيتين من البشر ولا علاقة لها بالشخصيات الأسطورية، ومع ذلك لا ننفعل بما نخوض من صراع، ومن الواضح أن الممثل لا يستطيع النهوض بدوره على خشبة المسرح ما لم يقدِّم له المؤلف شخصية حية، يستطيع أن يتقمصها فيحرك الجماهير مع ما يحوطه من صراع، وإلا أصبح الممثل كقطعة من قطع الشطرنج أو بوقًا للمؤلف، وهذا هو ما يغلب على شخصيات الحكيم في مسرحه الذهني حتى لتبدو لنا في معظم الوقت أبواقًا تردد جوانب الرأي المختلفة في القضية التي يعالجها المؤلف وهي كلها آراء المؤلف نفسه، ومن المعلوم أن الشخصية المسرحية لا تؤثر فينا ولا نقتنع بها إلا إذا نجح المؤلف نجاحًا تامًّا في أن يوهمنا بأنها هي التي تتحدث وتسعد وتشقى وتصارع وتفكر لا هو، وأن تفكيرها ومشاعرها نابعان من ذاتها وطبيعتها وظروف الحياة التي اشتبكت فيها. ومن كل هذا نرى الدارسين والنقاد يتحدثون عن هذه المشكلة التي عالجها توفيق الحكيم في مسرحه الذهني أو تلك، ولكننا لم نرَ أحدًا يردد اسم شخصية خلقها توفيق الحكيم مثلما خلق شكسبير مثلًا شخصيات هملت وعطيل وشيلوك والملك لير وغيرها، كما خلق موليير هارباجون وألسست ودون جوان.

والمسرح الذهني فن لم يبتكره توفيق الحكيم، بل هو اتجاه عام ظهر في القرن الماضي في الآداب العالمية فيما يسمَّى ﺑ «الدراما الحديثة» التي ابتدأها إبسن النرويجي.

ثم أمعن في هذا الاتجاه برنارد شو الأيرلندي. ويُعتبر مسرح سارتر هو الآخر من النوع الذهني، ولكن هؤلاء العمالقة يجمعون في مسرحهم بين الرمزية والواقعية، ويجعلون الشخصيات الحية طرفًا في الصراع حتى ولو كان هذا الصراع ذهنيًّا خالصًا، وهم بذلك يظلون داخل المفهوم الدرامي التقليدي للمسرح منذ أن وضع الإغريق القدماء أصوله الفنية، بل من الممكن أن نزعم أن المسرح الذهني بالمعنى الذي يفهمه توفيق الحكيم قد عرفه اليونان أنفسهم في الصراع بين الإنسان والقدر مثلًا على نحو ما نشاهد في مسرحية «أوديب ملكًا» لسوفوكليس، أو بمعنى أدق الصراع بين الإنسان والحقيقة في تلك المسرحية العاتية، وذلك بينما ينقل الحكيم نفس هذا الصراع إلى مجال ما يسمِّيه «المطلق من الأفكار»، فحدَّثنا في مقدمة مسرحية «أوديب الملك» عن أنه قصد فيها إلى أن يجري الصراع بين ما يسميه «الواقع والحقيقة»، أي بين المعاني المجردة، وما دام الإنسان لم يَعُد طرفًا في الصراع فإن المسرحية تفقد حرارتها وتأثيرها — أي قوتها الدرامية — وتفتر، بل تبرد أحيانًا ولا تعود تهز النفوس وتثير الشجون أو تولِّد ما سمَّاه أرسطو بالشفقة والرعب في نفوس النظَّارة وبهما تطهر نفوسهم، وكل ذلك فضلًا عما يمكن أن يسوق إليه الصراع بين المعاني المجردة من نتائج وتطورات يأباها الذوق الأخلاقي الاجتماعي للناس كما سوف نرى عند حديثنا عن مسرحية «أوديب الملك» لتوفيق الحكيم ومقارنتها بمسرحية سوفوكليس الخالدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤